تفسير الشريف المرتضى - ج ٢

تفسير الشريف المرتضى - ج ٢

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٠

فإن قيل : كيف يقول : (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَ) وعندكم أنّ امتناع القبيح منه عليه‌السلام ليس مشروطا بارتفاع الكيد عنه بل هو ممتنع منه وإن وقع الكيد؟

قلنا : إنّما أراد يوسف عليه‌السلام انّك متى لم تلطف بي لما تدعوني إلى مجانبة الفاحشة وتثّبتني على تركها صبوت ، وهذا منه انقطاع إلى الله تعالى وتسليم لأمره ، وانّه لو لا معونته ولطفه ما نجّي من الكيد [ولا شبهة في أن النبيّ عليه‌السلام انّما يكون معصوما عن القبائح بعصمة الله تعالى ولطفه وتوفيقه.

فان قيل : الظاهر خلاف ذلك لأنّه قال : (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَ) فيجب أن يكون المراد ما يمنعه من الكيد ويدفعه ، والذي ذكرتموه من انصرافه عن المعصية لا يقتضي ارتفاع الكيد والانصراف عنه؟ قلنا :] (١) والكلام وإن تعلّق في الظاهر بالكيد نفسه فالمراد به : إلّا تصرف عني ضرر كيدهن ؛ لأنّهن إنّما أجرين بالكيد إلى مساعدته لهنّ على المعصية ، فإذا عصم منها ولطف له في الانصراف عنها كان الكيد مصروفا عنه من حيث لم يقع ضرره وما أجري به إليه ، ولهذا يقال لمن أجرى بكلامه إلى غرض لم يقع : ما قلت شيئا ؛ ولمن فعل ما لا تأثير له : ما فعلت شيئا. وهذا بيّن والحمد لله تعالى (٢).

ـ (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) [يوسف : ٣٥]

أنظر المائدة : ٦ ، الأمر الثاني من الرسائل ، ٣ : ١٦١.

ـ (وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) [يوسف : ٤٢].

فإن قيل : كيف يجوز على يوسف عليه‌السلام وهو نبيّ مرسل ان يعوّل في إخراجه من السجن على غير الله تعالى ويتّخذ سواه وكيلا في ذلك ، في قوله للذي كان معه : (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) حتّى وردت الروايات أنّ سبب طول حبسه عليه‌السلام إنّما كان لأنّه عوّل على غير الله تعالى؟.

__________________

(١) ما بين المعقوفتين من الأمالي ، ١ : ٤٦٤.

(٢) تنزيه الأنبياء والأئمّة : ٨٢ وراجع أيضا الأمالي ، ١ : ٤٦٢.

٤٨١

الجواب : قلنا : إنّ سجنه عليه‌السلام إذا كان قبيحا ومنكرا فعليه أن يتوصّل إلى إزالته بكلّ وجه وسبب ، ويتشبث إليه بكلّ ما يظنّ أنّه يزيله عنه ، ويجمع فيه بين الأسباب المختلفة ، فلا يمتنع على هذا أن يضمّ إلى دعائه الله تعالى ورغبته إليه في خلاصه من السجن ، أن يقول لبعض من يظنّ أنّه سيؤدّي قوله : «اذكرني ونبّه على خلاصي» وإنّما القبيح أن يدع التوكّل ويقتصر على غيره فأمّا أن يجمع بين التوكّل والأخذ بالحزم فهو الصواب الّذي يقتضيه الدين والعقل.

ويمكن أيضا أن يكون الله تعالى أوحى إليه بذلك وأمره بأن يقول للرجل ما قاله (١).

ـ (وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) [يوسف : ٤٥ ـ ٤٦].

أنظر البقرة : ٣١ من الأمالي ، ٢ : ٦٢.

ـ (قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) [يوسف : ٥٥].

الحمد لله وسلامه على عباده الذين اصطفى محمّد نبيّه والطيبين من عترته.

جرى في مجلس الوزير السيّد الاجلّ أبي القاسم الحسين بن علي المعري (٢) «أدام الله سلطانه» في جمادى الاخرة سنة خمس عشرة وأربعمائة كلام في الولاية من قبل الظلمة ، وكيفية القول في حسنها وقبحها ، فاقتضى ذلك إملاء مسألة وجيزة يطلع بها على ما يحتاج إليه في هذا الباب ، والله الموفّق للصواب والرشاد.

إعلم أنّ السلطان على ضربين : محقّ عادل ، ومبطل ظالم متغلّب. فالولاية من قبل السلطان المحقّ العادل لا مسألة عنها ، لأنّها جائزة ، بل ربّما كانت واجبة إذا حتمها السلطان وأوجب الإجابة إليها.

وإنّما الكلام في الولاية من قبل المتغلّب ، وهي على ضروب : واجب وربّما تجاوز الوجوب إلى الإلجاء ، ومباح ، وقبيح ، ومحظور.

__________________

(١) تنزيه الأنبياء والأئمّة : ٨٤.

(٢) في المطبوع : المغربي.

٤٨٢

فأمّا الواجب : فهو أن يعلم المتولّي ، أو يغلب على ظنّه بأمارات لائحة ، أنّه يتمكّن بالولاية من إقامة حقّ ، ودفع باطل ، وأمر بمعروف ، ونهي عن منكر.

ولولا هذه الولاية لم يتمّ شيء من ذلك ، فيجب عليه الولاية بوجوب (١) ما هي سبب إليه ، وذريعة إلى الظفر به.

وأمّا ما يخرج إلى الالجاء ، فهو أن يحمل على الولاية بالسيف ، ويغلب في ظنّه أنّه متى لم يجب إليها سفك دمه ، فيكون بذلك ملجأ إليها.

فأمّا المباح منها : فهو أن يخاف على مال له ، أو من مكروه يقع [به] يتحمّل مثله ، فتكون الولاية مباحة بذلك ويسقط عنه قبح الدخول فيها. ولا يلحق بالواجب ؛ لأنّه إن آثر تحمّل الضرر في ماله والصبر على المكروه النازل به ولم يتوّل ، كان ذلك أيضا له.

فإن قيل : كيف تكون الولاية من قبل الظالم حسنة؟ فضلا عن واجبة ، وفيها وجه القبح ثابت ، وهو كونها ولاية من قبل الظالم ، ووجه القبح إذا ثبت في فعل كان الفعل قبيحا وإن حصلت فيه وجوه حسن. ألا ترى أنّ الكذب لا يحسن وإن اتفقت فيه منافع دينية كالألطاف (٢) تقع عندها الإيمان وكثيرا من الطاعات؟

قلنا : غير مسلّم أنّ وجه القبح في الولاية للظالم هو كونها ولاية من قبلها ، وكيف يكون ذلك؟! وهو لو أكره بالسيف على الولاية لم تكن منه قبيحة ، فكذلك إذا كان فيها توصّل إلى إقامة حقّ ودفع باطل يخرج عن وجه القبح.

ولا يشبه ذلك ما يعترض في الكذب ممّا لا يخرجه عن كونه قبيحا ؛ لأنّا قد علمنا بالعقل وجه قبح الكذب ، وأنّه مجرّد كونه كذبا ؛ لأنّ هذه جهة عقلية يمكن أن يكون العقل طريقا إليها.

وليس كذلك الولاية من قبل الظالم ؛ لأنّ وجه قبح ذلك في الموضع الذي يقبح فيه شرعي ، فيجب أن نثبته قبيحا في الموضع الذي جعله الشرع كذلك.

__________________

(١) في المطبوع : لوجوب.

(٢) في المطبوع : بألطاف.

٤٨٣

وإذا كان الشرع قد أباح التولّي من قبل الظالم مع الاكراه ، وفي الموضع الذي فرضنا أنّه متوصّل به إلى إقامة الحقوق والواجبات ، علمنا أنّه لم يكن وجه القبح في هذه الولاية مجرّد كونها ولاية من جهة ظالم ، وقد علمنا أنّ إظهار كلمة الكفر لمّا كانت تحسن مع الاكراه ، فليس وجه قبحها مجرّد النطق بها وإظهارها بل بشرط الإيثار.

وقد نطق القرآن بأنّ يوسف عليه‌السلام تولّى من قبل العزيز وهو ظالم ، ورغب إليه في هذه الولاية ، حتى زكى نفسه فقال : (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) ، ولا وجه لحسن ذلك إلّا ما ذكرناه من تمكّنه بالولاية من إقامة الحقوق التي كانت يجب عليه إقامتها (١).

وبعد : فليس التولّي من جهة الفاسق أكثر من اظهار طلب الشيء من جهة لا يستحقّ منها وبسبب لا يوجبه.

وقد فعل ماله هذا المعنى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ؛ لأنّه دخل في الشورى تعرّضا للوصول إلى الإمامة ، وقد علم أنّ تلك الجهة لا يستحقّ من مثلها التصرّف في الإمامة ، ثم قبل اختيار المختارين له عند افضاء الأمر إليه وأظهر أنّه صار إماما باختيارهم وعقدهم. وهذا له معنى التولّي من قبل الظالم بعينه للإشتراك في اظهار التوصّل إلى الأمر بما لا يستحقّ به ولا هو موجب لمثله.

لكنّا نقول : إنّ التصرف في الامامة كان إليه بحكم النصّ من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أمته ، فإذا دفع عن مقامه وظنّ أنّه ربّما توصل إلى الإمامة بأسباب وضعها الواضعون لا تكون الإمامة مستحقّة بمثلها ، جاز بل وجب أن يدخل فيها ويتوصّل بها (٢) حتى إذا وصل إلى الامامة ، كان تصرّفه فيها بحكم النصّ لا

__________________

(١) [قال في تنزيه الأنبياء : ٨٩ في جواب من قال :] وكيف يجوز أن يطلب الولاية من قبل الظالمين؟ الجواب : قلنا : إنّما التمس تمكينه من خزائن الأرض ليحكم فيها بالعدل وليصرفها إلى مستحقّها. وكان ذلك له من غير ولاية ، وإنّما سأل الولاية للتمكّن من الحقّ الّذي له أن يفعله. ولمن لا يتمكّن من إقامة الحقّ أو الأمر بالمعروف أن يتسبّب إليه ويتّصل إلى فعله ، فلا لوم في ذلك على يوسف عليه‌السلام ولا حرج.

(٢) في المطبوع : إليه.

٤٨٤

بحكم هذه الأسباب العارضة. ويجري ذلك مجرى من غصب على وديعة وحيل بينه وبينها وأظهر غاصبها أنّه يهبها لصاحبها ، فانّه يجوز لصاحب الوديعة أن يتقبّل في الظاهر هذه الوديعة ويظهر أنّه قبضها على جهة الهبة ، ويكون تصرّفه حينئذ فيها بحكم الملك الأوّل لا عن جهة الهبة.

وعلى هذا الوجه يحمل تولي أمير المؤمنين لجلد الوليد بن عقبة.

ولم يزل الصالحون والعلماء يتولّون في أزمان مختلفة من قبل الظلمة لبعض الأسباب التي ذكرناها ، والتولّي من قبل الظلمة إذا كان فيه ما يحسنه ممّا تقدّم ذكره ، فهو على الظاهر من قبل الظالم ، وفي الباطن من قبل أئمة الحقّ ؛ لأنّهم إذا أذنوا في هذه الولاية عند الشروط التي ذكرناها فتولّاها بأمرهم فهو على الحقيقة وال من قبلهم ومتصرّف بأمرهم.

ولهذا جاءت الرواية الصحيحة بأنّه يجوز لمن هذه حاله أن يقيم الحدود ويقطع السرّاق ، ويفعل كل ما اقتضت الشريعة فعله من هذه الأمور.

فإن قيل : أليس هو بهذه الولاية معظما (١) للظالم ومظهرا فرض طاعته ، وهذا وجه قبيح لا محالة ، كان غنيا عنه لو لا الولاية.

قلنا : الظالم إذا كان متغلّبا على الدين ، فلا بدّ لمن هو في بلاده وعلى الظاهر من جملة رعيته ، من إظهار تعظيمه وتبجيله والانقياد له على وجه فرض الطاعة ، فهذا المتولّي من قبله لو لم يكن متولّيا لشيء ، لكان لا بدّ له من التغلّب معه ، مع إظهار جميع ما ذكرناه من فنون التعظيم للتقيّة والخوف ، فليس يدخله الولاية في شيء من ذلك لم يكن يلزمه لو لم يكن واليا ، وبالولاية يتمكّن من أمر بمعروف ونهي عن منكر ، فيجب أن يتوصّل بها إلى ذلك.

فإن قيل : أرأيتم لو غلب على ظنّه أنّه كما يتمكّن بالولاية من أمر ببعض المعروف ونهي عن بعض المنكر ؛ فانّه يلزم لأجل هذه الولاية أفعالا وأمورا منكرة قبيحة ـ لو لا هذه الولاية لم تلزمه ـ لا يتمكّن من الكفّ عنها؟

__________________

(١) في المطبوع : مقويا.

٤٨٥

قلنا : إذا كان لا يجد عن هذه الأفعال محيصا ولا بدّ من أن يكون الولاية سببا لذلك ، ولو لم يتوصّل لم يلزمه أن يفعل هذه الأفعال القبيحة ؛ فانّ الولاية حينئذ تكون قبيحة ، ولا يجوز أن يدخل فيها مختارا.

فإن قيل : أرأيتم إن أكره على قتل النفوس المحرّمة ، كما أكره على الولاية ، أيجوز له قتل النفوس المحرمة؟

قلنا : لا يجوز ذلك ؛ لأنّ الإكراه لا حكم له في الدماء ، ولا يجوز أن يدفع عن نفسه المكروه بإيصال ألم إلى غيره على وجه لا يحسن ولا يحلّ.

وقد تظاهرت الروايات عن أئمتنا عليهم‌السلام بأنّه لا تقية في الدماء (١). وإن كانت مبيحة لما عداها عند الخوف على النفس.

فإن قيل : فما عندكم في هذا المتولّي للظالم ـ ونيّته معقودة على أنّه إنّما دخل في هذه الولاية لإقامة الحدود والحقوق ـ إن منعه من هذه الولاية ، أو ممّا يتصرّف فيه فيها مانع من الناس ورام الحيلولة بينه وبين أغراضه ، كيف قولكم في دفعة عن ذلك وقتاله؟

قلنا : هذه الولاية إذا كانت حسنة أو واجبة عند ثبوت شرط وجوبها ، وبيّنا أنّها في المعنى من قبل إمام الحقّ وصاحب الامر ، وإن كانت على الظاهر الذي لا معتبر به كأنّها من قبل غيره ، فحكم من منع منها وعارض فيها حكم من منع من ولاية من ينصبه الإمام العادل في دفعه بالقتل والقتال ، وغير ذلك من أسباب الدفع.

فإن قيل : كيف السبيل إلى العلم بأنّ هذا المتولّي في الظاهر من قبل السلطان الجائر بحقّ لا تحل معارضته ومخالفته ، وهو على الظاهر متولّ من قبل الظالم الطاغي الذي يجب جهاده ولا يحسن إقرار أحكامه.

فإن قلتم : الطريق إلى ذلك أن نجد من يعتقد المذهب الحقّ المتولي (٢) من قبل الظلمة والمتغلّبين مختارا فنعلم أنّه ما اعتمد ذلك إلّا لوجه صحيح اقتضاه.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١١ / ٤٨٣ ب ٣١.

(٢) في المطبوع : يلى.

٤٨٦

قيل لكم : وهذا كيف يكون طريقا صحيحا ، وقد يجوز لمعتمد الحقّ أن يعصي ، بأن يلي ولاية من قبل ظالم لبعض أغراض الدنيا ومنافعها ، فلا يكون دفعه ومنعه قبيحين.

قلنا : المعوّل في هذا الموضع على غلبة الظنون وقوّة الأمارات ، فإن كان هذا المتولّي خليعا فاسقا قد جرت عادته بتورّط القبائح وركوب المحارم ورأيناه يتولّى للظلمة ، فلا بدّ من غلبة الظنّ بأنّه لم يتولّ ذلك مع عادته الجارية بالجرم والفجور إلّا لأغراض الدنيا ، فيجب منعه ومنازعته والكفّ عن تمكينه. وإن كانت عادته جارية بالتديّن والتصوب (١) والكفّ عن المحارم ، ورأيناه قد تولّى مختارا غير مكره لظالم ، فالظنّ يقوى أنّه لم يفعل ذلك مع الايثار إلّا لداع من دواع الدين التي تقدّم ذكرها ، فحينئذ لا يحلّ منعه ويجب تمكينه.

فان اشتبه في بعض الأحوال الأمر ، وتقابلت الأمارات وتعادلت الظنون ، وجب الكفّ من منعه ومنازعته على كلّ حالة ؛ لأنّا لا نأمن في هذه المنازعة أن تقع على وجه قبيح ، وكلّ ما لا يؤمن فيه وجه القبح يجب الكفّ عنه.

ونظائر هذه الحال في فنون التصرّف وضروب الأفعال أكثر من أن تحصى.

فانّا لو عهدنا من بعض الناس الخلاعة والفسق وشرب الخمور والتردّد إلى مواطن القبيحة ، ورأيناه في بعض الأوقات يدخل إلى بيت خمّار ، ونحن لا ندري أيدخل للقبيح أم للإنكار على من يشرب الخمر ، فانّا لقوّة ظنّنا بالقبيح منه على عادته المستمرّة ، يجب أن نمنعه من الدخول ونحول بينه وبينه إذا تمكّنا من ذلك ، وإن جاز على أضعف الوجوه وأبعدها من الظنّ أن يكون دخل للإنكار لا لشرب الخمر.

ولو رأينا من جرت عادته بالصيانة والديانة وإنكار المنكر يدخل بيت خمّار فإنّه لا يحسن منعه من الدخول ؛ لأنّ الظنّ يسبق ويغلب أنّه لم يدخل إلّا لوجه يقتضيه الدين ، إما لإنكار أو غيره.

__________________

(١) في المطبوع : التصون.

٤٨٧

فإن رأينا داخلا لا يعرف له عادة حسنى ولا سوأى توقّفنا أيضا عن منعه ؛ لأنّه لا يجوز أن يكون الدخول لوجه جميل ولا أمارة للقبيح ظاهرة.

فإن قيل : فكيف القول فيمن يتولّى للظالم ، وغرضه أن يتمّ له بهذه الولاية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وجمع بين هذا الغرض وبين الوصول إلى بعض منافع الدنيا ، إما على وجه القبح أو وجه الإباحة.

قلنا : المعتبر في خلوص الفعل لبعض الأغراض أن يكون لو لا ذلك الغرض لما فعله وأقدم عليه ، وإن جاز أن يكون فيه أغراض أخر ليس هذا حكمها.

فإن كان هذا المتولي لو انفردت الولاية بالاغراض الدينية وزالت عنها الأغراض الدنيوية ، لكان يتولّاها ويدخل فيها.

ولو انفردت عن أغراض الدين بأغراض الدنيا لم يقدم عليها ، فهذا دليل على أنّ غرضه فيها هو ما يرجع إلى الدين ، وإن جاز أن يجتمع إليه غيره ممّا لا يكون هو المقصود ، وإن كان الأمر بالعكس من هذا ، فالغرض الخالص هو الراجع إلى الدنيا ، فحينئذ يقبح الولاية.

فإن قيل : ما الوجه في ما روي عن الصادق عليه‌السلام من قوله : كفّارة العمل مع السلطان قضاء حاجات الاخوان؟ (١) أو ليس هذا يوجب أنّ العمل من قبله معصية وذنب حتى يحتاج إلى الكفارة عنها؟ وقد قلتم : إنّها تكون في بعض الأحوال حسنة وراجحة.

قلنا : يجوز أن يكون عليه‌السلام أراد بذلك أن قضاء حاجات الاخوان يخرج الولاية من القبح إلى الحسن ، ويقتضي تقرّبها من جهة اللوم ، كما أنّ الكفّارة تسقط اللوم عن مرتكب ما يقتضيها ، فأراد أن يقول : إنّ قضاء حاجات الاخوان يدخلها في الحسن ، فقال : يكون كفّارة لها ، تشبيها.

ويمكن أيضا أن يريد بذلك من تولّى للسلطان الظالم ، وهو لا يقصد بهذه

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٢ : ١٣٩ ح ٣.

٤٨٨

الولاية التمكين من إقامة الحقّ ودفع الباطل ، ثم قضى بعد ذلك حاجات الاخوان على وجه يحسن ويستحقّ الثواب والشكر ، فهذه الولاية وقعت في الاصل ، ويجوز أن يسقط عقابها ويتمحّص عن فاعلها ، بأن يفعل طاعة قصدها ويكون تلك الطاعة هي قضاء حاجات إخوان المؤمنين ، وهذا واضح.

والحمد لله ربّ العالمين والصلاة على محمّد وآله الطاهرين (١).

ـ (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ) [يوسف : ٥٦].

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

ـ (وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) [يوسف : ٥٩].

فإن قيل : فما الوجه في طلب يوسف عليه‌السلام أخاه من إخوته ثم حبسه له عن الرجوع إلى أبيه مع علمه بما يلحقه عليه من الحزن ، وهل هذا إلّا إضرارا به وبأبيه؟

الجواب : قلنا : الوجه في ذلك ظاهر ؛ لأنّ يوسف عليه‌السلام لم يفعل ذلك إلّا بوحي من الله إليه ، وذلك امتحان منه ، لنبيّه يعقوب عليه‌السلام وابتلاء لصبره ، وتعريض للعالي من منزلة الثواب ، ونظير لك امتحانه له عليه‌السلام بأن صرف عنه خبر يوسف عليه‌السلام طول تلك المدّة حتّى ذهب بالبكاء عليه [بصره] ، وإنما أمرهم يوسف عليه‌السلام بأن يلطفوا بأبيهم في إرساله من غير أن يكذّبوه ويخدعوه.

فإن قيل : أليس قد قالوا : (سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) (٢) ، والمراودة هي الخداع والمكر.

قلنا : ليس المراودة ما ظننتم ، بل هي التلطّف والتسبّب والاحتيال ، وقد يكون ذلك من جهة الصدق والكذب جميعا ، فإنّما أمرهم بفعله على أحسن الوجوه فإن خالفوه فلا لوم إلّا عليهم (٣).

__________________

(١) الرسائل ، ٢ : ٨٩.

(٢) سورة يوسف ، الآية : ٦١.

(٣) تنزيه الأنبياء والأئمّة : ٨٥.

٤٨٩

ـ (قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) [يوسف : ٦١].

أنظر يوسف : ٥٩ من التنزيه : ٨٥.

ـ (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) [يوسف : ٧٠].

مسألة : فان قيل : فما معنى جعل السقاية في رحل أخيه وذلك تعريض منه لأخيه بالتهمة ، ثمّ أذّن مؤذّنه ونادى بأنّهم سارقون ولم يسرقوا على الحقيقة؟

الجواب : قلنا : أمّا جعله السقاية في رحل أخيه ، فالغرض فيه التسبّب إلى احتباس أخيه عنده ، ويجوز أن يكون ذلك بأمر الله تعالى ، وقد روي أنّه عليه‌السلام أعلم أخاه بذلك ليجعله طريقا إلى التمسك به ، فقد خرج على هذا القول من أن يكون مدخلا على أخيه غمّا وترويعا بما جعله من السقاية في رحله ، وليس بمعرض له للتهمة بالسرقة ؛ لأنّ وجود السقاية في رحله يحتمل وجوها كثيرة غير السرقة ، وليس يجب صرفه إليها إلّا بدليل. وعلى من صرف ذلك إلى السرقة من غير طريق ، اللوم في تقصيره وتسرّعه ، ولا ظاهر أيضا لوجود السقاية في الرحل يقتضي السرقة ؛ لأنّ الاشتراك في ذلك قائم ، وقرب هذا الفعل من سائر الوجوه الّتي يحتملها على حدّ واحد.

فأمّا نداء المنادي بأنّهم سارقون فلم يكن بأمره عليه‌السلام ، وكيف يأمر بالكذب وإنّما نادى بذلك أحد القوم لمّا فقدوا الصواع ، وسبق إلى قلوبهم انّهم سرقوه ، وقد قيل : إنّ المراد بأنّهم سارقون انّهم سرقوا يوسف عليه‌السلام من ابيه وأوهموه أنّهم يحفظونه فضيّعوه ، فالمنادي صادق على هذا الوجه ، ولا يمتنع أن يكون النداء بإذنه عليه‌السلام ؛ غير انّ ظاهر القصّة واتّصال الكلام بعضه ببعض يقتضي أن يكون المراد بالسرقة سرقة الصواع الّذي تقدّم ذكره وأحسّوا فقده ، وقد قيل : إنّ الكلام خارج مخرج الاستفهام ، وإن كان ظاهره الخبر ، كأنّه قال : (إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) فأسقط ألف الإستفهام كما سقطت في مواضع قد تقدّم ذكرها في قصة إبراهيم عليه‌السلام (١). وهذا الوجه فيه بعض الضعف ؛ لأنّ ألف الاستفهام لا تكاد

__________________

(١) تقدّم تخريجه في سورة الأنعام ، الآيات : ٧٦ ـ ٧٨.

٤٩٠

تسقط إلّا في موضع يكون على سقوطها دلالة في الكلام ، مثل قول الشاعر :

كذبتك عينك أم رأيت بواسط

غلس الظّلام من الرّباب خيالا (١) (٢)

(قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) [يوسف : ٧٢].

والزعيم : الكفيل ، ويقال له أيضا : القبيل والصّبير والجميل ، ومنه قوله تعالى : (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) ، قال الشاعر :

فلست بآمر فيها بسلم

ولكنّي علي نفسي زعيم (٣)

وقال آخر :

قلت كفّى لك رهن بالرّضا

فازعمي يا هند قالت قد وجب (٤)

معناه اكفلي ، ويروي : «فأقبلي» ، من القبيل الذي هو الكفيل أيضا (٥).

ـ (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ) [يوسف : ٧٦].

أنظر الأحزاب : ١٠ من الأمالي ، ١ : ٣٢١.

ـ (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) [يوسف : ٧٦].

ولا يوصف تعالى بأنه «فوق» مطلقا ؛ لأنه يقتضي العلو في المسافة ، ويصحّ على سبيل التقييد ، وقال تعالى : (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (٦).

ـ (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ...) [يوسف : ٨٢].

أنظر البقرة : ٥٣ من الأمالي ، ٢ : ٢٢٣ والدخان : ٢٨ ، ٢٩ من الأمالي ، ١ : ٧٥ والقيامة : ٢٢ ، ٢٣ من الملخص ، ٢ : ٢٥٧.

__________________

(١) البيت للأخطل ، تقدّم في سورة الأنعام ، الآيات : ٧٦ ـ ٧٨.

(٢) تنزيه الأنبياء والأئمّة : ٨٦.

(٣) حاشية بعض النسخ : «معناه لا أملك إلّا نفسي».

(٤) البيت لعمر بن أبي ربيعة ؛ وهو في ديوانه ٣٧٨ ، وفي حاشية بعض النسخ : «أي ضمنت وحلفت على نفسي ألا أجاوز رضاك ، فافعلي مثله».

(٥) الأمالي ، ١ : ١٢٨.

(٦) الذخيرة : ٥٨٩.

٤٩١

ـ (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) [يوسف : ٨٤].

فإن قيل : فلم أسرف يعقوب عليه‌السلام في الحزن والتهالك وترك التماسك حتّى ابيضّت عيناه من البكاء والحزن ، ومن شأن الأنبياء عليهم‌السلام التجلّد والتصبّر وتحمّل الأثقال ، ولو لا هذه الحال ما عظمت منازلهم وارتفعت درجاتهم؟

الجواب : قيل له : إنّ يعقوب عليه‌السلام بلي وامتحن في ابنه بما لم يمتحن به أحد قبله ؛ لأنّ الله تعالى رزقه مثل يوسف عليه‌السلام أحسن الناس وأجملهم وأكملهم عقلا وفضلا وأدبا وعفافا ثمّ أصيب به أعجب مصيبة وأطرفها ؛ لأنّه لم يمرض بين يديه مرضا يؤول إلى الموت فيسلّيه عنه تمريضه له ثمّ يأسه منه بالموت ، بل فقده فقدا لا يقطع معه على الهلاك فييأس منه ، ولا يجد أمارة على حياته وسلامته ، فيرجو ويطمع. وكان متردّد الفكر بين يأس وطمع ، وهذا أغلظ ما يكون على الانسان وأنكأ لقلبه ، وقد يرد على الانسان من الحزن ما لا يملك ردّه ولا يقوى على دفعه. ولهذا لا يكون أحدنا منهيا عن مجرّد الحزن والبكاء ، وإنّما نهي عن اللطم والنوح ، وأن يطلق لسانه فيما يسخط ربّه وقد بكى نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ابنه إبراهيم عند وفاته. وقال : «العين تدمع والقلب يخشع ولا نقول ما يسخط الرب» ، وهو القدوة في جميع الآداب والفضائل ، على أنّ يعقوب عليه‌السلام إنّما أبدى من حزنه يسيرا من كثير ، وكان ما يخفيه ويتصبّر عليه ويغالبه أكثر وأوسع ممّا أظهره.

وبعد ، فإنّ التجلّد على المصائب وكظم الغيظ والحزن من المندوب إليه ، وليس بواجب ولا لازم ، وقد يعدل الأنبياء عن كثير من المندوبات الشاقّة ، وإن كانوا يفعلون من ذلك الكثير.

فإن قيل : كيف لم يتسلّ يعقوب عليه‌السلام ويخفّف عنه الحزن ما يحقّقه من رؤيا ابنه يوسف عليه‌السلام ، ورؤيا الأنبياء عليه‌السلام لا تكون إلّا صادقة؟.

الجواب : قيل له في ذلك جوابان : أحدهما : انّ يوسف عليه‌السلام رأى تلك

٤٩٢

الرؤيا وهو صبيّ غير نبيّ ولا موحى إليه ، فلا وجه في تلك الحال للقطع على صدقها وصحّتها.

والآخر : انّ أكثر ما في هذا الباب أن يكون يعقوب عليه‌السلام قاطعا على بقاء ابنه ، وانّ الأمر سيؤول فيه إلى ما تضمّنته الرؤيا ، وهذا لا يوجب نفي الحزن والجزع ؛ لأنّا نعلم أنّ طول المفارقة واستمرار الغيبة يقتضيان الحزن ، مع القطع على أنّ المفارق باق يجوز أن يؤول حاله إلى القدوم؟ وقد جزع الأنبياء عليهم‌السلام ومن جرى مجراهم من المؤمنين المطهّرين من مفارقة أولادهم وأحبائهم ، مع يقينهم بالالتقاء بهم في الآخرة والحصول معهم في الجنّة. والوجه في ذلك ما ذكرناه (١).

فإن قيل : فما بال يوسف عليه‌السلام لم يعلم أباه بخبره لتسكن نفسه ويزول وجده وهمّه مع علمه بشدّة تحرّقه وعظم قلقه؟

الجواب : قلنا في ذلك وجهان :

أحدهما : إنّ ذلك كان له ممكنا وكان عليه قادرا ، فأوحى الله تعالى إليه بأن يعدل عن اطّلاعه على خبره تشديدا للمحنة عليه وتعريضا للمنزلة الرفيعة في البلوى وله تعالى أن يصعب التكليف وأن يسهّله.

والوجه الآخر : إنّه جائز أن يكون عليه‌السلام لم يتمكّن من ذلك ولا قدر عليه فلذلك عدل عنه (٢).

ـ (وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ ...) [يوسف : ٨٨].

أنظر النور : ٤٣ ، ٤٤ من الأمالي ، ٢ : ٢٦٠.

ـ (قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [يوسف : ٩٢].

[إن سأل سائل عن هذه الآية] حاكيا عن يوسف عليه‌السلام. فقال : لم خصّ «اليوم» بالقول ، وإنّما أراد العفو عنهم في جميع مستقبل أوقاتهم؟

__________________

(١) تنزيه الأنبياء والأئمّة : ٧٠.

(٢) تنزيه الأنبياء والأئمّة : ٨٧.

٤٩٣

الجواب : قلنا : في هذه الآية وجوه أربعة :

أوّلها : أنّه لمّا كان هذا الوقت الذي أشار إليه هو أوّل أوقاته التي كشف فيها نفسه ، وأطلعهم على ما كان يستره عنهم من أمره ؛ أشار إلى الوقت الذي لو أراد الانتقام لأبتدأ به فيه ؛ والذي عفا فيه عنهم لم يراجع الانتقام.

وثانيها : أنّ يوسف عليه‌السلام لمّا قدّم توبيخهم ، وعدّد عليهم قبيح ما فعلوه ، وعظيم ما ارتكبوه ـ وهو مع ذلك يستر عنهم نفسه ، ولا يفصح لهم بحاله ـ قال لهم عند تبين أمرهم : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) [يوسف : ٩٢] ؛ أي قد انقطع عنكم توبيخي ، ومضى عذلي ولائمتي عند اعترافكم بالذنب ، وكان ذكر «اليوم» دلالة على انقطاع المعاقبة والتوبيخ ؛ وعلى أنّ الأوقات المتصلة باليوم تجري مجراه في زوال الغضب ، وتمام العفو ، وسقوط المواقفة لهم على ما سلف منهم.

وثالثها : أنّ ذكر «اليوم» المراد به الزمان والحين ، فوضع «اليوم» موضع الزّمان كلّه ، المشتمل على الليالي والأيام والشهور والسنين ؛ كما يقول العربي لغيره : «قد كنت تستحسن شرب الخمر فاليوم وفّقت لتركها ومقتها» ؛ يريد في هذا الزمان ، ولا يريد يوما واحدا بعينه ؛ ومثله : «قد كنت تقصّر في الجواب عن فنون العلم فاليوم ما تعجزك مسألة ، ولا تتوقّف عن مشكلة» ؛ يريد باليوم باقي الزمان كلّه ، وقال امرؤ القيس :

حلّت لي الخمر وكنت امرا

عن شربها في شغل شاغل (١)

فاليوم فاشرب غير مستحقب

إثما من الله ولا واغل (٢)

لم يقصد يوما بعينه ؛ ومثله :

__________________

(١) ديوانه : ١٥٠. وفي شرح الديوان : «كان حلف ألا يشرب خمرا ، ولا يأكل لحما ، ولا يغسل رأسا ؛ حتى يدرك بثأر أبيه ؛ وكذلك كانت العرب تفعل ؛ فلما أخذ بثأر أبيه شربها فبرت يمينه».

(٢) حاشية بعض النسخ (من نسخة) : «أشرب» بسكون الباء ؛ ورواية الديوان :

(فاليوم أسقى غير مستحقب)

المستحقب ؛ المكتسب للأثم الحامل له. والواغل : الذي يدخل على القوم وهم يشربون فيشرب معهم من غير دعوة.

٤٩٤

اليوم يرحمنا من كان يغبطنا

واليوم نتبع من كانوا لنا تبعا

وقال لبيد :

وما النّاس إلّا كالدّيار وأهلها

بها يوم حلّوها ، وغدوا بلاقع (١)

كل ذلك لا يراد بذكر اليوم والغد فيه إلّا جميع الأوقات المستقبلة.

ورابعها : أن يكون المراد : لا تثريب عليكم البتّة ، ثمّ قال : (الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) ؛ فتعلّق «اليوم» بالغفران ، وكان المعنى غفر الله لكم اليوم.

وقد ضعّف قوم هذا الجواب من جهة أنّ الدعاء لا ينصب ما قبله.

فأمّا التثريب فإنّ أبا عبيدة قال : معناه لا شغب ولا معاقبة ولا إفساد.

وقال الشاعر :

فعفوت عنهم عفو غير مثرّب

وتركتهم لعقاب يوم سرمد

وقال أبو العباس ثعلب : يقال : «ثرّب فلان على فلان» إذا عدّد عليه ذنوبه. وقال بعضهم : التثريب مأخوذ من لفظ الثّرب ، وهو شحم الجوف ، فكأنّه موضوع للمبالغة في اللوم والتعنيف والتقصّي إلى أبعد غايتهما (٢).

ـ (قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ) [يوسف : ٩٧].

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

ـ (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [يوسف : ١٠٠].

مسألة : فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) وكيف يرضى بأن يسجدوا له والسجود لا يكون إلّا لله تعالى؟.

__________________

(١) ديوانه : ٢ / ٢٢.

(٢) الأمالي ، ١ : ٤٢٩.

٤٩٥

الجواب : قلنا في ذلك وجوه :

منها : أن يكون تعالى لم يرد بقوله إنّهم سجدوا له تعالى إلى جهته ، بل سجدوا لله تعالى من أجله ؛ لأنّه تعالى جمع بينهم وبينه ، كما يقول القائل : إنّما صليت لوصولي إلى اهلي ، وصمت لشفائي من مرضي. وإنّما يريد من أجل ذلك.

فإن قيل : هذا التأويل يفسده قوله تعالى : (يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) (١).

قلنا : ليس هذا التأويل بمانع من مطابقة الرؤيا المتقدمة في المعنى دون الصورة ؛ لأنّه عليه‌السلام لمّا رأى سجود الكواكب والقمرين له كان تأويل ذلك بلوغه أرفع المنازل وأعلى الدرجات ونيله أمانيه وأغراضه ، فلمّا اجتمع مع أبويه ورأياه في الحال الرفيعة العالية ونال ما كان يتمنّاه من اجتماع الشمل ، كان ذلك مصدّقا لرؤياه المتقدّمة ، فلذلك قال : (هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ) [يوسف : ١٠٠]. فلا بدّ لمن ذهب إلى أنّهم سجدوا له على الحقيقة من أن يجعل ذلك مطابقا للرؤيا المتقدمة في المعنى دون الصورة ؛ لأنّه ما كان رأى في منامه أنّ إخوته وأبويه سجدوا له ، ولا رأى في يقظته الكواكب تسجد له ، فقد صحّ أنّ التطابق في المعنى دون الصورة.

ومنها : أن يكون السجود لله تعالى ، غير أنّه كان إلى جهة يوسف عليه‌السلام ونحوه ، كما يقال : «صلّى فلان إلى القبلة وللقبلة». وهذا لا يخرج يوسف عليه‌السلام من التعظيم ، ألا ترى أنّ القبلة معظّمة وإن كان السجود لله تعالى نحوها؟

ومنها : أن السجود ليس يكون بمجرّد عبادة حتّى يضاف إليه من الأفعال ما يكون عبادة ، فلا يمتنع أن يكون سجدوا له على سبيل التحيّة والإعظام والإكرام ، ولا يكون ذلك منكرا ؛ لأنّه لم يقع على وجه العبادة التي يختصّ بها القديم تعالى وكلّ هذا واضح.

__________________

(١) سورة يوسف ، الآية : ١٠٠.

٤٩٦

مسألة : فان قيل : فما معنى قوله تعالى حكاية عنه عليه‌السلام (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) ، وهذا يقتضي أن يكون قد أطاع الشيطان ونفذ فيه كيده ونزغه؟.

الجواب : قلنا هذه الاضافة لا يقتضي ما تضمّنه السؤال ، بل النزغ والقبيح كان منهم إليه لا منه إليهم. ويجري ذلك مجرى قول القائل : «جرى بيني وبين فلان شرّ» ، وإن كان من أحدهما ولم يشتركا فيه (١).

[انظر أيضا البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧ ، رسالة انقاذ البشر من الجبر والقدر].

__________________

(١) تنزيه الأنبياء والأئمّة : ٨٧.

٤٩٧

سورة الرّعد

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ...) [الرعد : ٢].

أنظر آل عمران : ٢١ من الأمالي ، ١ : ٢٢٣.

ـ (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) [الرعد : ٦].

أنظر غافر : ١٨ من الذخيرة : ٥٠٤.

ـ (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤)) [الرعد : ٢٣ ـ ٢٤].

أنظر الحج : ٢٦ من الرسائل ، ٣ : ١١٧ والفاتحة : ١ من الرسائل ، ٣ : ٢٨٧ : ٢٩٦.

ـ (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) [الرعد : ٢٦].

أنظر الأنبياء : ٧ ، ٨ من التنزيه : ١٤١.

ـ (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) [الرعد : ٢٧].

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

ـ (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً ...) [الرعد : ٣١].

اعلم أنّ من عادة العرب الإيجاز والاختصار والحذف طلبا لتقصير الكلام واطّراح فضوله ، والاستغناء بقليله عن كثيره ؛ ويعدّون ذلك فصاحة وبلاغة.

وفي القرآن ؛ من هذه الحذوف ، والاستغناء بالقليل من الكلام عن الكثير

٤٩٨

مواضع كثيرة نزلت من الحسن في أعلى منازله ؛ ولو أفردنا لما في القرآن من الحذوف الغريبة ؛ والاختصارات العجيبة كتابا لكان واجبا.

فمن ظاهر ذلك قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) (١) ولم يأت ل «ولو» جواب في صرح الكتاب ؛ وإنّما أراد : لو أنّ قرآنا سيّرت به الجبال لكان هذا. ومثل هذا الحذف ما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله : «لو كتب هذا القرآن في إهاب وطرح في النار ما أحرقته النار» ؛ والمراد : وكانت النار ممّا لا يحرق جسما لجلالة قدره ما أحرقته ؛ فحذف ذلك اختصارا لدلالة الكلام عليه ، ومثل هذا قوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (٢) وتقديره : إنّ السموات والأرض والجبال لو كنّ ممّا يأبي ويشفق ، وعرضنا عليهنّ الأمانة لأبين وأشفقن. وجعل المعلوم بمنزلة الواقع فقال : (عَرَضْنَا) من حيث علم أنّ ذلك المشروط لو وقع شرطه لحصل هو.

وهذا التأويل الذي استخرجناه أولى ممّا ذكره المفسّرون من أنّه تعالى أراد : عرضنا الأمانة على أهل السموات والأرض ؛ لأنّ أهل السموات والأرض هم الناس والملائكة ، فأيّ معنى لقوله : (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) وهو يريد الجنس! ومثله قول الشاعر :

امتلأ الحوض وقال قطني (٣)

والمعنى امتلأ حتى لو كان ممّن يقول لقال ذلك ، وهذا أولى في نفسي من تفسيرهم هذا البيت بأنّه ظهرت منه أمارات القول والنطق.

__________________

(١) سورة الرعد ، الآية : ٣١.

(٢) سورة الأحزاب ، الآية : ٧٢.

(٣) بعده :

حسبي رويدا قد ملأتبطني

والبيت في مقاييس اللغة ٥ : ١٤.

٤٩٩

وهذا الذي أشرنا إليه هو معنى كلّ ما جرى مجرى هذا البيت ؛ من قول الشاعر (١) :

وأجهشت للتّوباذ حين رأيته

وكبّر للرّحمن حين رآني (٢)

فقلت له : أين الذين عهدتهم

بجنبك في خفض وطيب زمان!

فقال : مضوا ، واستودعوني بلادهم

ومن ذا الذي يبقى على الحدثان!

ومن المحذوف أيضا قوله تعالى : (إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) (٣) ؛ ولم يأت لإذا جواب في طول الكلام ، وإنّما حسن حذف الجواب الذي هو : «فدخلوها» لو ورد ما يقوم مقامه ؛ ويدلّ عليه من قوله تعالى : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) (٤) وذلك لا يكون إلّا بعد الدخول ؛ ومثل ذلك قول امرئ القيس :

فلو أنّها نفس تموت سويّة

ولكنّا نفس تساقط أنفسا (٥)

فحذف جواب «لو» والجواب هو : «لكان ذلك أروح لها وأخفّ عليها» ؛ ومثله قول الهذليّ (٦) :

حتى إذا أسلكوهم في قتائدة

شلا كما تطرد الجمّالة الشّردا (٧)

ومثل هذا كلّه في الحذف : إنّما أتمنّى كذا لو أعطيته ؛ وظاهر هذا الكلام كأنّه مشروط وكأنّه قال : إنّني أتمنّاه إذا أعطيته ؛ والأمر بالضدّ من ذلك ؛ والمعنى : لو أعطيته لبلغت مناي ، ولنفعني ؛ وما أشبه ذلك المعنى (٨).

ـ (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) [الرعد : ٣٩].

أنظر المقدّمة الرابعة ، الأمر التاسع.

__________________

(١) هو المجنون. الأغاني ١ / ١٧٩.

(٢) التوباذ : جبل في نجد ؛ والأبيات أيضا في معجم البلدان (٢ / ٤٢٤) من غير عزو.

(٣) سورة الزمر ، الآية : ٧٣.

(٤) سورة الزمر ، الآية : ٧٤.

(٥) ديوانه : ١٤٢ ؛ وقوله : «تساقط ، أي يموت بموتها بشر كثير».

(٦) هو عبد مناف بن ربع الهذلي ؛ ديوان الهذليين ٢ / ٤٢.

(٧) قتائدة : موضع ، والجمالة : أصحاب الجمال. مرت سابقا في الجزء الأول.

(٨) الأمالي ، ٢ : ٢٦٥.

٥٠٠