تفسير الشريف المرتضى - ج ٢

تفسير الشريف المرتضى - ج ٢

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٠

والامراء يمتنعون من التصرف في بعض الأحوال لعارض ، ويكون ما يستحقونه من الولاية بحاله والذي حكاه عن شيخه أبي علي من الإلزام قد سقط بجملة كلامنا.

وقوله : «إذا لم يصحّ كونه إماما في الوقت فكيف يكون إماما بعده» فعجب في غير موضعه ؛ لأنّ ما ذكرناه من الفرق بين الحالين وإن ما منع من إثبات الإمامة في أحدهما لا يمنع من إثباتها في الأخرى يزيل التعجّب.

فأما قوله : «إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما خلفه بالمدينة لم يكن له ان يقيم الحدود في غيرها وإن مثل ذلك لا يعدّ إمامة» فهو كلام على من تعلّق بالاستخلاف لا في تأويل الخبر وقد بيّنا ما هو جواب عنه فيما تقدّم وقلنا : انه إذا ثبت له عليه‌السلام بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرض الطاعة ، واستحقاق التصرّف بالأمر والنهي في بعض الامة ، وجب أن يكون إماما على الكلّ ؛ لأنّه لا أحد من الأمة ذهب إلى اختصاص ما يجب له في هذه الحال ، بل كلّ من أثبت له هذه المنزلة أثبتها عامة على وجه الإمامة لا الإمارة ، فكان الإجماع مانعا من قوله : «فيجب أن يكون بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أميرا لا إماما» ولم يقل ما ذكرناه من جهة أن نفي الإمارة يقتضي إثبات الإمامة كما ظنّ ، بل لما بيّناه من أنّ وجوب فرض الطاعة إذا ثبت وبطل أن يكون أميرا مختص الولاية بالاجماع ، فلا بدّ من أن يكون إماما ؛ لأن الإمارة أو ما جرى مجراها من الولايات المختصّة إذا انتفت مع ثبوت وجوب الطاعة فلا بدّ من ثبوت الإمامة.

فأما قوله : «إنّ التعلق بالاستخلاف على المدينة خارج عن الاستدلال بالخبر» فصحيح وقد ذكرنا فيما مضى أنه لا نسبة بين الأمرين ، وعجبنا من إيراده ذلك في جملة ما حكاه عن أصحابنا من الطرق في الاستدلال بالخبر.

فإن قيل : فقد ذكرتم أن التعلق بالاستخلاف على المدينة طريقة معتمدة لأصحابكم فبيّنوا وجه الاستدلال بها.

قلنا : الوجه في دلالتها أنه قد ثبت استخلاف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمير

٣٤١

المؤمنين عليه‌السلام لما توجه إلى غزوة تبوك ولم يثبت عزله عن هذه الولاية بقول من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا دليل ، فوجب أن يكون الإمام بعد وفاته ؛ لأن حاله لم يتغيّر.

فإن قيل : ما أنكرتم من أن يكون رجوع النبيّ إلى المدينة يقتضي عزله وإن لم يقع العزل بالقول.

قلنا : إن الرجوع ليس بعزل عن الولاية في عادة ولا عرف ، وكيف يكون العود من الغيبة عزلا أو مقتضيا للعزل؟ وقد يجتمع الخليفة والمستخلف في البلد الواحد ولا ينفي حضوره الخلافة له ، وإنما يثبت في بعض الأحوال العزل بعود المستخلف إذا كان قد علمنا أن الاستخلاف تعلّق بحال الغيبة دون غيرها فيكون الغيبة كالشرط فيه ولم يعلم مثل ذلك في استخلاف أمير المؤمنين.

فإن عارض معارض بمن روى أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استخلفه كمعاذ وابن ام مكتوم وغيرهما ، فالجواب عنه قد تقدّم ، وهو أن الإجماع على أنه لاحظّ لهؤلاء بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إمامة ، ولا فرض طاعة يدلّ على ثبوت عزلهم ، فإن تعلّق باختصاص هذه الولاية وأنّها لا يجوز أن تقتضي الإمامة التي تعمّ ، فقد مضى الكلام على الاختصاص في هذا الفصل مستقصى ، وقد مضى أيضا فيه الكلام على من قال : لو كانت هذه الولاية مستمرة لوجب أن يقيم الحدود في حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتصرّف في حقوق الخلافة بغير إذن ، ولو فعل لنقل وعلمناه ، فليس لأحد أن يتعلّق بذلك.

قال صاحب الكتاب : «وبعد ، فإنه يقال لهم : لو لم يستخلف موسى هارون وعاش بعده أكان يجب له الإمامة والقيام بالامور التي يقوم بها الأئمة أو لا يجب ذلك؟ فإن قالوا : كان لا يجب له ذلك قلنا لهم : إن جاز مع كونه شريكا له في النبوّة التي هي من قبل الله سبحانه وتعالى أن يبقى بعده ولا يكون له ذلك ليجوزن أنّ لا يكون له ذلك وإن استخلفه ؛ لأن استخلاف موسى له لا يكون أوكد من إرسال الله تعالى إيّاه معه رسولا ، ...» (١) وهذا ممّا قد مضى الكلام

__________________

(١) المغني ، ٢٠ : ١٦٩.

٣٤٢

عليه وقد بيّنا أنّ الذي يقوم به الأئمّة ولاية منفصلة من النبوّة ، وأنه غير ممتنع أن تثبت النبوّة لمن لا تثبت له هذه الولاية ، ومع ذلك فهو تصريح أيضا منه بالمناقضة ؛ لأنه قال فيما تقدّم : «إنّه غير واجب فيمن يكون شريكا لموسى في النبوّة أن يكون هو القيّم بعد وفاته بما يقوم به الإمام» وقال هاهنا كما ترى : «أنّ الشركة في النبوّة تقتضي القيام بذلك» وتجاوز هذا إلى أن جعل اقتضاء النبوّة لهذه المنزلة كاقتضاء الاستخلاف لها ، والفرق بين الاستخلاف في اقتضائه هذه الولاية وبين النبوّة واضح ؛ لأنّه إذا بان بما قدّمنا ذكره أنّ الذي يقوم به الأئمّة ليس من مقتضى النبوّة لم يجب بثبوتها ثبوته ، والاستخلاف لا شكّ في أنه سبب القيام بما يسنده المستخلف إلى خليفته من جملة ما يتولاه ويكون إليه التصرف ، فكيف يصحّ أن يدخل لفظه أوكد بين هذين وأحدهما لا تأثير له جملة ، والآخر معلوم تأثيره وكونه سببا.

ثمّ ذكر صاحب الكتاب : بعد ما حكيناه كلاما تركنا حكايته ؛ لأن جملة ما تقدّم من كلامنا قد أتت عليه ، فقد بيّنا أنه لا معتبر في تشبيه إحدى المنزلتين بالأخرى بأسبابهما وبما هو كالمقتضي لهما ، وقلنا : إن هارون عليه‌السلام لو ثبت أن ولايته على قوم أخيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان بغير استخلاف بل لأجل نبوّته لم يلزم فيمن جعل له مثل منزلته أن يكون مشاركا له في سبب المنزلة وكيفية حصولها ، ودلّلنا على أن هارون لو بقي بعد وفاة أخيه لوجب أن يكون حاله في الإمامة باقية غير متغيّرة ، وفرّقنا بين أن لا يكون إليه ذلك في الابتداء وبين أن يتولاه ثمّ يعزل عنه بأنّ الأول لا تنفير فيه ، والثاني موجب للتنفير الذي لا بد أن يجتنبه عليه‌السلام ، وليس يخرج عمّا أشرنا إليه شيء من كلامه الذي تجاوزناه.

وقال صاحب الكتاب : «فإن قيل : فما المراد عندكم بهذا الخبر قيل له : إنه عليه‌السلام لما استخلفه على المدينة وتكلّم المنافقون فيه ، قال هذا القول دالّا به على لطف محلّه منه ، وقوّة سكونه إليه ، واستناد ظهره به ، ليزيل ما خامر القلوب من الشبهة في أمره ، وليعلم أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انما استخلفه لهذه الأحوال التي تقتضي نهاية الاختصاص ، والأغلب في العرف والعادة أن الإنسان إنما يستعمل ذكر

٣٤٣

المنزلة بمعنى المحل والموقع ؛ لأنه لا فرق بين قول القائل : فلان منّي بمحلّ فلان من فلان ، وبين قوله بمنزلة فلان من فلان ، وقد علمنا أن الظاهر من ذلك الموقع من القلب في الاختصاص والسكون والاعتماد دون ما يرجع إلى الولايات ، فيجب أن يكون الخبر محمولا عليه لشهادة التعارف أو لشهادة السبب له» ثمّ قال : «فإن قال : إن كان المراد ما ذكرتم فما الوجه في استثناء النبوّة من هذا القول ، وليس لها به تعلّق قيل له : إن المتعالم من حال هارون أنه كان موقعه من قلب موسى لمكان النبوة أعظم ، وأن النبوة أوجبت مزية في هذا الباب فقد كان يجوز لو لم يستثن صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النبوة أن يفهم إن منزلة أمير المؤمنين صلوات الله عليه تماثل هذه المنزلة ، فأراد أن يبيّن باستثناء النبوّة أنها مقصّرة عن هذه المنزلة القدر الذي يقتضيه نفي نبوته ، وهذا كما يقول أحدنا لرفيع المحل في قلبه : إنّ محلّك ومنزلتك منّي محل ولدي وإن لم تكن لي بولد ، وإنما يستعمل ما يجري مجرى الاستثناء في هذا الباب في الوجه الذي من حقه أن يؤكد تلك المنزلة ويعظم أمرها ويفخم شأنها ، ...» (١). ثمّ قال بعد كلام تركناه : «ولو لا أنّ ذلك كذلك لم يكن في هذا القول إزالة عن القلوب ما تحدث به المنافقون من شكّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أمره ، وأنه إنما خلفه تحرزا ؛ لأن كلّ ذلك لا يزول بالاستخلاف الذي هو الولاية في الحال ومن بعد ، وإنما يزول ذلك بما وصفناه من الأخبار بنهاية السكون إليه والاستقامة منه ، ...» (٢).

يقال له : قد بيّنا فيما سلف من كلامنا انّ الذي يدّعي من السبب في أنه كان إرجاف المنافقين ، غير معلوم ، وذكرنا ورود الروايات بأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى» في مواطن مختلفة (٣) ، وذكرنا أيضا أنّ أكثر الأخبار

__________________

(١) المغني ، ٢٠ : ١٧٢.

(٢) المغني ، ٢٠ : ١٧٣.

(٣) من المواطن التي قال فيها : علي منّي بمنزلة هارون من موسى» منها لما خلفه على المدينة يوم غزوة تبوك كما في صحيح البخاري وغيره ، ومنها عند التخاصم في ابنة حمزة كما في الخصائص للنسائي ص ١٩ ، ومنها لما آخى بين أصحابه كما في كنز العمال ج ٥ ص ٤٠ وقال : أخرجه أحمد في المناقب وابن عساكر ، في كلام للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع عقيل وجعفر وعليّ عليهم‌السلام أخرجه المتقي في الكنز ٦ / ١٨٨ ، ومنها في كلام له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع عليّ عليه‌السلام وهو متكئ عليه ، أخرجه ـ

٣٤٤

واردة في السبب بخلاف ما ادّعاه الخصوم ، وأنه عليه‌السلام خرج إليه لما خلفه باكيا مخبرا بما هو عليه من الوحشة له ، والكراهة لمفارقته ، فقال له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا القول وليس بنكر وورد بعض الأخبار بما ذكروه ، غير أن ورودها بخلافه أظهر وأشهر ، وكيف لا يكون ما حكي من السبب الذي هو إرجاف المنافقين مستبعدا ، بل مقطوعا على بطلانه ، ونحن نعلم أنّه لا يصحّ أن تدخل شبهة على عاقل توهّمه تهمة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمير المؤمنين عليه‌السلام وخوفه منه ، وتحرزه من ضرره ، هذا مع ما كان ظاهرا منه عليه‌السلام من الأقوال والأفعال الدالّة على عظم محلّه وشدّة اختصاصه ، وانه قد بلغ النهاية في النصيحة والمحبّة ، ولم يكن ما ظهر مما ذكرناه أمرا يشكل مثله فيحتاج فيه إلى الاستدلال والنظر ، بل كان ممّا يضطرّ العقلاء وغير العقلاء إن كانوا ممّن يجوّز أن يضطر إلى ما لا يتطرّق معه تهمة ولا تتوجّه ظنّه ، فليس يخلو المنافقون الّذين ادعى عليهم الإرجاف من أن يكونوا عقلاء مميّزين أو نقصاء مجانين ، فإن كانوا عقلاء فالعاقل لا يصحّ دخول الشبهة عليه في الضروريات ، وإن كانوا من أهل الجنون والنقص فإرجافهم غير مؤثر ، ولا معتد به ، وقد كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير محتاج إلى الردّ عليهم ، والإبطال لقولهم ، وهذه الجملة تكشف عن بطلان قول من ادّعى أنّ السبب كان إرجاف المنافقين ، ويقتضي القطع على كذب الرواية الواردة بذلك.

ثمّ يقال له : اعمل على أن السبب ما ذكرته واقترحته ، وأن المراد ما وصفته من إفادة لطف المحل ، وقوّة السّكون ، وشدّة الاختصاص ، فما المانع ممّا قلناه وتأولنا الخبر عليه؟ وأي تناف بين تأويلك وتأويلنا؟ وإنّما يكون كلامك مشتبها ولك فيه أدنى تعلّق لو كان ما وصفته من المراد مانعا مما ذهبنا إلى أنّه المراد حتّى لا يصحّ أن يراد جميعا ، فأمّا والأمر بخلاف ذلك فلا شبهة في كلامك ؛ فأما تعلّقه بالعادة في استعمال لفظ المنزلة وانها لا تكون إلّا بمعنى المحلّ

__________________

المتقي أيضا في الكنز ٦ / ٣٩٥ ، ومنها في حديث له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع عليّ عليه‌السلام يوم ولد الحسن سلام الله عليه كما في ذخائر العقبى ص ١٢٠ ، وغير ذلك.

٣٤٥

والموقع من القلب دون ما يرجع إلى الولايات ، فباطل. وما وجدناه زاد في ادعاء ذلك على مجرّد الدّعوى ، وقد كان يجب أن يذكر ما يجري مجرى الدلالة على صحّة قوله ، ولا فرق في عادة ولا عرف بين استعمال لفظة المنزلة في الموقع من القلب ، وبين استعمالها في الولايات وما أشبهها ، ألا ترى أنه كما لا يصحّ أن يقول أحدنا : فلان منّي بمنزلة فلان ويريد في المحبة والاستقامة ، والسكون إليه ، كذلك يصحّ أن يقول مثل هذا القول وهو يريد أنه بمنزلة فلان في الوكالة أو الوصيّة أو الخلافة له ، ولو كان الأمر على ما ظنّه صاحب الكتاب لكان قول أحدنا : فلان منّي بمنزلة فلان في وكالته أو وصيّته مجازا من حيث وضع اللفظ خلاف موضعه ، ولا فرق بين من ادّعى أنّ اللفظ في هذا الموضع مجاز وبين من قال : إنه في المحبّة وما أشبهها أيضا مجاز ؛ لأن الاستعمال لا يفرق بين الأمرين.

فأما قوله : «إن المنزلة تستعمل بمعنى المحلّ والموقع» فقد أصاب فيه إلّا أنه ظنّ أنا لا نقول في المحل والموقع بمثل ما يقوله في المنزلة ، وتوهّم أنّه لا يستفاد من لفظ المحلّ والموقع ما يرجع إلى الولاية ، وقد ظنّ ظنّا بعيدا ؛ لأنه لا فرق بين سائر هذه الألفاظ في صحّة استعمالها في الولاية وغير الولاية ؛ لأنه غير ممتنع عند أحد أن يقول الأمير في بعض أصحابه عند موت وزيره أو عزله : فلان منّي بمحل فلان ، يعني من كانت إليه وزارته أو قد أحللت فلانا محلّ فلان وأنزلته منزلته ، فكيف يدّعي مع ما ذكرناه اختصاص فائدة هذه الألفاظ بشيء دون شيء؟

وأما ما اعتذر به في الاستثناء فإنه لا يخرج الاستثناء من أن يكون جاريا على غير وجه الحقيقة ، ولهذا قال في كلامه : «إنه استعمل ما يجري مجرى الاستثناء» ؛ لأن من حق الاستثناء عنده إذا كان حقيقة أن يخرج من الكلام ما يجب دخوله فيه بمقتضى اللّفظ ، وعندنا انه يخرج من الكلام ما يقتضيه اللفظ احتمالا لا إيجابا ، وعلى المذهبين لا بدّ أن يكون الاستثناء في الخبر إذا كان

٣٤٦

المراد ما ادّعاه مجازا موضوعا في غير موضعه ؛ لأن اللفظ الأوّل لا يتناول النبوّة لا إيجابا ولا احتمالا فكيف يجوز استثناؤها حقيقة؟ ونحن نعلم أن القائل إذا قال : ضربت غلماني إلّا زيدا دلّ ظاهر استثنائه على أنّ زيدا من جملة غلمانه ، ولو لم يكن من جملتهم لما جاز استثناؤه ، فلو أنه استثنى زيدا ولم يكن من غلمانه إلّا أنه اعتقد أن في الناس من يتوهّم أنه غلامه ، وقصد إزالة الشبهة لم يخرجه ذلك من أن يكون متجوّزا في الاستثناء موقعا له في غير موقعه.

فأمّا قوله : «إنّ الذي تأولنا الخبر عليه لا يزيل شكّ المنافقين ولا يبطل إرجافهم» فعجيب ؛ لأنا لا ننكر دخول المنزلة التي ذكرها صاحب الكتاب في جملة المنازل ، وإنّما أضفنا إليها غيرها ، وقد ذكرنا في صدر الاستدلال بالخبر أنه يتناول كلّ منازل هارون من موسى من فضل ومحبّة واختصاص ، وتقدّم إلى غير ذلك سوى ما أخرجه الاستثناء من النبوّة ، وأخرجه العرف من إخوة النسب ، على أنه يكفي في زوال إرجاف المنافقين حصول منزلة الخلافة في الحياة وبعد الممات ؛ لأنّ هذه المنزلة لا تسند إلى مستثقل مبغّض مخوف الناحية ، بل إلى من له نهاية الاختصاص ، وقد بلغ الغاية في الثقة والأمانة ، وهذا واضح لمن تأمّله.

قال صاحب الكتاب بعد كلام لا طائل في حكايته : «وقال ملزما لهم ـ يعني أبا علي ـ : إن كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما أراد بهذا الخبر إثبات الإمامة لأمير المؤمنين عليه‌السلام فيجب لو مات في حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يكون منه بمنزلة هارون من موسى ، ولو كان كذلك لوجب عند سماع هذا الخبر أن يقطع على أنّه يبقى بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولوجب أنّ لا يستفاد في الحال فضيلة لأمير المؤمنين عليه‌السلام ، وألزمهم أن لا يجوز منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وقد قال هذا القول ـ أن يولي [أحدا على علي في حال حياته كما لا يجوز أن يولّي] (١) عليه أحدا بعد وفاته ؛ لأن الخبر فيما يفيده لفظا أو معنى لا يفصل بين الحالين ، وذلك يبطل لما قد ثبت من أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولّى أبا بكر على عليّ

__________________

(١) التكملة من المغني.

٣٤٧

أمير المؤمنين عليه‌السلام في الحجّة التي حجّها المؤمنون قبل حجّة الوداع ، وولاه الصّلاة في مرضه إلى غير ذلك ، وإن كان الخبر يدلّ على الإمامة التي لا يجوز معها أن يتقدّمه أحد في الصلاة ، فكيف جاز منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقدّمه عليه في الصلاة» (١) وقال حاكيا عنه : «إن كان استخلافه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليا عليه‌السلام في المدينة يقتضي استمرار الخلافة إلى بعد الموت فيكون إماما ، فتقديمه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا بكر في الصلاة في أيام مرضه يقتضي كونه إماما بعد وفاته» (٢) ثمّ قال بعد كلام ذكره لم نحكه ؛ لأن نقضه قد تقدّم : «وقال ـ يعني أبا علي ـ : إنّه قد ثبت أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ما استخلف عليّا عليه‌السلام على المدينة بعثه إلى اليمن واستخلف على المدينة غيره عند خروجه في حجّة الوداع ، وهذا يبطل قولهم أن ذلك الاستخلاف قائم إلى بعد موته ...» (٣).

يقال له : ليس يجب ما ظننته من أن أمير المؤمنين عليه‌السلام لو مات في حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لوجب أن لا يكون منه بمنزلة هارون من موسى ، بل لو مات عليه‌السلام لم يخرج من أن يكون بمنزلته في الخلافة له عليه‌السلام في الحياة ، واستحقاق الخلافة بعد الوفاة إلى سائر ما ذكرناه من المنازل ، غير أنّا نقطع على بقائه إلى بعد وفاة الرسول ونمنع من وفاته قبل وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ فإنه ليس لهذا الوجه لكن لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا كان بهذا الخبر قد نصّ على إمامته بعده ، وأشار لنا به إلى من يكون فزعنا إليه عند فقده عليه‌السلام ولم يقل في غيره ما يقتضي النصّ عليه وحصول الإمامة له من بعده ، فلا بدّ من أن يستدلّ بهذا الخبر من هذه الجهة على أن أمير المؤمنين هو الإمام من بعده ، وإلّا لم يكن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد خرج ممّا قد وجب عليه من النص على خليفته بعده ، ولسنا نعلم من أي وجه استبعد صاحب الكتاب القطع على بقائه حتّى أرسله إرسال من ينص بأنه منكر مستبعد لا خلاف عليه فيه ، ونحن نعلم أنه ليس في القطع على بقائه بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يقتضي فسادا أو خروجا عن أصل أو مفارقة لحقّ ، وقد روي من أقواله عليه‌السلام فيه

__________________

(١ و ٢ و ٣) المغني ، ٢٠ : ١٧٧.

٣٤٨

ما يدلّ على بقائه بعده ، وقد تظاهرت الرواية بذلك فمن جملته قوله : «تقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين» إلى غير هذا مما لو ذكرناه لطال.

فأمّا قوله : «إنّه يجب أن لا يستفاد به فضيلة في الحال» فقد تقدّم كلامنا عليه ، وبيّنا ترتيب القول فيه على طريقة الاستثناء التي يتعلّق فيها بلفظة بعدي ، فأمّا الطريقة الأولى فلا شبهة في أنها تقتضي حصول جميع المنازل الموجبة للفضيلة في الحال.

فأمّا قوله : «إن تأوّلنا يقتضي أن لا يولّي أحدا على أمير المؤمنين عليه‌السلام في حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» وادعاؤه إنّه ولّى عليه أبا بكر في الحجّة التي حجّها المسلمون قبل حجّة الوداع ، فأول ما فيه إنه لا يلزم إذا صحّت دعواه من ذهب منا في تأويل الخبر إلى إيجابه في حال الحياة الخلافة على المدينة من غير استمرار واستحقاق الخلافة من بعد الوفاة ، وإنما يلزم أن يجيب عنه من ذهب إلى أن الخلافة في الحياة استمرّت إلى بعد الوفاة ، ولمن ذهب إلى ذلك أن يقول : إنني لا أعلم صحّة ما ادّعى من ولاية أبي بكر عليه في الوقت المذكور ؛ لأنه كما روي من بعض الطرق أن أبا بكر بعد أخذ السورة منه كان واليا على الموسم ، فقد روي أنه رجع لما أخذ أمير المؤمنين عليه‌السلام السورة منه إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان الوالي على الحجيج والموسم والمؤدّي للسورة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وليس هذا ممّا ينفرد الشيعة بنقله ؛ لأن كثيرا من أصحاب الحديث قد رووه ، ومن تأمّل كتبهم وجده فيها ، وإذا تقابلت الروايتان وجب الشكّ في موجبهما ، بل يجب القطع على بطلان ما ينافي منهما مقتضى الخبر المعلوم الذي لا شكّ فيه ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى» ؛ لأنّه إذا دلّ الدليل على اقتضاء هذا الخبر الخلافة في الغيبة على سبيل الاستمرار وجب القطع على بطلان الرواية المنافية لما يقتضيه ، على انه لم يرو أحد أن أبا بكر كان واليا على أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وإنما روي أنه كان أميرا على الحجيج ، وقد يجوز أن تكون ولايته على من عدا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فلو صحّت الرواية التي يرجعون إليها لما صحّ قول صاحب الكتاب «إنّه ولى أبا بكر على أمير المؤمنين عليه‌السلام».

٣٤٩

فأما حديث الصلاة فقد بيّنا فيما تقدّم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يولها أبا بكر ، وشرحنا الحال التي جرت عليها وبيّنا أن ولاية الصلاة لو ثبتت لم تدلّ على الإمامة ، وذلك يسقط التعلق بالصلاة في الموضعين.

فأما قوله : «إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما بعث أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى اليمن استخلف على المدينة غيره عند خروجه في حجّة الوداع» فإنه غير مناف للطريقين معا في تأويل الخبر ؛ لأنّ من ذهب إلى أن الخلافة في الحياة لم تستمر إلى بعد الوفاة لا شبهة في سقوط هذا الكلام عنه ، ومن ذهب إلى استمرارها إلى بعد الوفاة يقول : ليس يقتضي استخلافه عليه‌السلام في المدينة أكثر من أن يكون له عليه‌السلام أن يتصرف في أهلها بالأمر والنهي وما جرى مجراهما على الحدّ الذي كان يتصرف عليه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وليس يقتضي هذا المعنى المنع من تصرّف غيره على وجه من الوجوه ؛ لأنّه إذا جاز للمستخلف غيره في موضع من المواضع أن يتصرّف فيه مع استخلافه عليه ، ولا يمنع استخلافه من تصرّفه في أهله بالأمر والنبي جاز للمستخلف في موضع من المواضع لزيد أن يستخلف عمرا على ذلك الموضع ، أما في حال غيبته زيدا (١) ومع حضوره ، ولا يكون استخلافه للثاني عزلا للأوّل ، كما لا يكون تصرّفه نفسه عزلا له عن الموضع الذي جعل إليه التصرّف فيه ، ويكون فائدة استخلافه لكلّ واحد من هذين أن يكون له التصرّف فيما استخلف فيه ، وكيف يكون إيجاب تصرّف أحدهما بعد الآخر عزلا للأوّل ومانعا من جواز تصرّفه ، ونحن نعلم أنّه قد يجوز أن يستخلف على الموضع الواحد الاثنان والجماعة؟ وهذه الجملة تأتي على جميع ما حكيناه في الفضل من كلامه.

قال صاحب الكتاب : بعد كلام لم نورده ؛ لأن نقضه قد مضى في كلامنا : «واعلم أنه لا يمتنع أن يكون استخلاف موسى لهارون محمولا على وجه يصحّ ؛ لأنّه سبب للقيام بالأمر كما أن النبوّة سبب لذلك ، وليس يمتنع في كثير من الأحكام أن يحصل فيها سببان وعلّتان ، وإذا علمنا أنه لو لا النبوة لكان له أن

__________________

(١) «زيدا» منصوبة بيستخلف مقدّرة.

٣٥٠

يقوم بالأمر لمكان الاستخلاف ، ولو لا الاستخلاف لكان له أن يقوم بالأمر لمكان النبوّة ، فقد أفاد الاستخلاف ضربا من الفائدة ، فإن أضاف إلى ذلك أن يدخل في الاستخلاف ما لا يكون له أن يقوم به لمكان النبوّة فهو أقوى في باب الفائدة ، ولسنا نعلم كيف كان حال موسى وهارون فيما يتعلّق بالإمامة ، وكيف كانت الشريعة في ذلك الوقت ، ولا نعلم أيضا أن حالهما في النبوّة إذا كانت متفقة ، أن حالهما فيما يقوم به الأئمة أيضا متفقة ، بل لا يمتنع أن يكون لأحدهما من الاختصاص ما ليس للآخر ، كما لا يمتنع أن لا يدخل في شريعتهما ما تقتضيه الإمامة ، وإذا كانت الحال في هذا الباب مما يختلف بالشرائع فإنّما نقطع على وجه دون وجه بدلالة سمعيّة ، ثم يصحّ الاعتماد على ذلك ، والذي يجب أن يقطع به لا محالة أنه كان نبيّا مع موسى فلا بدّ من أن يتحمل شريعة مجدّدة ، أو يتحمّلا شريعة بعد ظهور المعجز عليهما مجددة ، ولا يجب من حيث أشركا في النبوة أن تكون شريعة أحدهما شريعة للآخر ، وإذا جاز ذلك فما الذي يمنع أن يدخل في جملة شرائعهما ما يتّصل بالحدود والأحكام أن يختصّ بذلك أحدهما دون الآخر ، وكما يجوز ذلك فقد يجوز أن يكون من تعبّد الله تعالى في ذلك الوقت أن لا يجوز للرسول أن يستخلف فيما هذا حاله في حال حياته ولا بعد وفاته ، أو يجوز له أن يستخلف في حال دون حال ، أو من يشركه في النبوّة دون من لا يشركه ، فعلى هذا الوجه يجب أن يجري القول في هذا الباب ، ولا يجعل لعليّ عليه‌السلام من المنازل إلّا ما ثبت معلوما لهارون من موسى دون ما لم يثبت ، وإذا لم يعلم كيف كانت شريعة موسى في الاستخلاف ، وهل كان يجب أن يستخلف [في حال حياته أو] (١) بعد موته أو في حال غيبته في كلّ شيء ، أو في بعض الأشياء ، وأنه لو مات قبل هارون هل كان يجب أن يكون خليفته ، أو يبعث الله تعالى نبيّا يقوم مقامه مع هارون ، أو يصير القيّم بأمر الحدود غير هارون ممن ينصّ عليه ، إلى غير ذلك

__________________

(١) ما بين المعقوفتين من «المغني».

٣٥١

من الوجوه المختلفة ، فكيف يصحّ للقوم أن يعتمدوا على ذلك في الإمامة ، ...» (١)

يقال له : ما أشدّ اختلاف كلامك في هذا الباب ، وأظهر رجوعك فيه من قول إلى ضدّه وخلافه ؛ لأنّك قلت أولا فيما حكيناه عنك : «إنّ هارون من حيث كان شريكا لموسى في النبوّة يلزمه القيام فيهم بما لا يقوم به الأئمّة وإن لم يستخلفه» ثم عقبت ذلك بأن قلت : «غير واجب فيمن كان شريكا لموسى في النبوّة أن يكون إليه ما إلى الأئمة» ثمّ رجعت عن ذلك في فصل آخر فقلت : «إنّ هارون لو عاش بعد موسى لكان الذي ثبت له أن يكون كما كان من قبل وقد كان من قبل له أن يقوم بهذه الأمور لنبوّته» فجعلت القيام بهذه الأمور من مقتضى النبوّة كما ترى ، ثمّ أكّدت ذلك في فصل آخر حكيناه أيضا بأن قلت لمن خالفك : «في أن موسى لو لم يستخلف هارون بعده ما كان يجب له القيام بعده بما يقوم به الأئمّة ، إن جاز مع كونه شريكا له في النبوّة أن يبقى بعده ، ولا يكون له ذلك ليجوزنّ وإن استخلفه أن لا يكون له ذلك» ثمّ ختمت جميع ما تقدّم هذا الكلام الذي هو رجوع عن أكثر ما تقدّم ، وتصريح بأنّ النبوّة لا تقتضي القيام بهذه الأمور ، وإن الفرض على المتأمّل في هذا هو الشكّ وترك القطع على أحد الأمرين ، فعلى أيّ شيء يحصل من كلامك المختلف؟ وعلى أيّ الأقوال نعوّل؟ وما نظنّ أن الاعتماد والاستقرار إلّا على هذا الفصل المتأخّر ؛ فإنه بتأخّره كالناسخ والماحي لما قبله ، والذي تضمنه من أن النبوّة لا توجب بمجردها القيام بالامور التي ذكرتها ، وإنّما يحتاج في ثبوت هذه الأمور مضافة إلى النبوّة إلى دليل صحيح ، وقد بيّناه فيما تقدّم من كلامنا.

فأمّا شكّه في حال موسى وهارون عليهما‌السلام ، وقوله : «ما نعلم كيف كانت الحال فيما إليهما» فقد بيّنا أنّه لا يجب الشك في ذلك ، لا من حيث كانت نبوّة هارون تقتضي قيامه بما يقوم به الأئمّة ، بل من حيث ثبت بدليل الآية التي تلوناها ،

__________________

(١) المغني ، ٢٠ : ١٨٠.

٣٥٢

والإجماع الذي ذكرناه من كون هارون خليفة لأخيه موسى ، ونائبا عنه في سياسة قومه ، والقيام بامورهم ، وليس يجوز أن يكون خليفة له إلّا ما يثبت له بالاستخلاف ، وكان له التصرّف فيه من أجله ، وهذا هو العرف المعقول في الاستخلاف ، وفي ثبوت هذه الجملة ما يقتضي كون هارون خليفة لأخيه في هذه الأمور ، وأن يده إنّما تثبت عليها في حال حياته لمكان استخلافه ، وإذا كنّا قد بيّنا لو بقي بعده لوجب أن يستمر حاله في هذه الولاية ، وأن تغيّرها وانتقالها عنه يقتضي ما يمنع ثبوته منه ، فقد تمّ ما قصدناه ، ولم نجعل لأمير المؤمنين عليه‌السلام منزلة لم يعلم ثبوتها لهارون من موسى عليه‌السلام على ما ظن ، ولم يبق في كلامه شبهة تتعلّق بها نفس أحد على أنه ابتدأ كلامه في الفصل بما ليس بصحيح ؛ وذلك أنه جعل الاستخلاف مؤثرا وإن انضم إلى النبوّة المقتضية لما تضمنه ، وقال : «ليس يمتنع أن يكون للحكم الواحد سببان وعلّتان» وهذا ظاهر الفساد ؛ لأنّ الاستخلاف وإن كان متى لم يكن نبوّة مؤثّرا ؛ فإنه لا تأثير له مع النبوّة على وجه من الوجوه ، ووجوده كعدمه ؛ لأن فائدة الاستخلاف هي حصول ولاية للمستخلف يجب به ويصحّ فيها تصرّف المستخلف بالعزل والتبديل ورفع اليد ، فكيف يكون على هذا من له ـ لمكان النبوّة ـ القيام بأمر من الأمور ، سواء كان ما يقوم به الأئمّة أو غيره من حقوق النبوّة خليفة (١) لغيره في ذلك الأمر ومتصرّفا فيه لمكان استخلافه ، وكما إن الاستخلاف لا تأثير له إذا طرأ على أمر توجبه النبوّة ، كذلك لو تقدم فأثر ، ثم طرأت عليه النبوّة ، واقتضت التصرّف في موجبه لمكانها لزال تأثيره ، وارتفع حكمه ، وكما ان في الأحكام ما له سببان وعلّتان كما ذكر ، كذلك في الأسباب والعلل ما يكون مؤثرا إذا انفرد وإذا انضمّ إلى ما هو أقوى منه بطل تأثيره ، وهذه الجملة تبيّن أن استخلاف موسى لأخيه لا بدّ أن يكون محمولا على أمر وجب له التصرّف فيه باستخلافه ، ويثبت يده عليه من قبله.

__________________

(١) «خليفة» اسم كان في قوله : «فكيف يكون».

٣٥٣

قال صاحب الكتاب : «وبعد ، فإن وجود الشيء لا يقتضي وجوبه [فلو ثبت أن موسى عليه‌السلام لو مات لكان الذي يخلفه هارون لم يدل ذلك على وجوبه] (١) ، بل كان لا يمتنع أن يكون مخيرا إن شاء استخلفه ، وإن شاء استخلف غيره ، أو جمع بين الكلّ وإن شاء ترك الأمر شورى (٢) ليختار صالحوا أصحابه من يقوم بالحدود والأحكام ، وإذا كان كلّ ذلك مجوّزا عندنا فكيف يصحّ الاعتماد عليه في وجوب النصّ على الوجه الذي تذهبون إليه؟ وإنّما يوصف الاستخلاف بأنّه منزلة متى وجبت لسبب ، فأمّا إذا وقع بالاختيار على وجه كان يجوز أن لا يحصل ويحصل خلافه فلا يكاد يقال إنه منزلة فكيف يدخل ما جرى هذا المجرى تحت الخبر وكلّ ذلك يقوي أن المراد بالخبر ما ذكرناه ، ...» (٣).

يقال له : هذا كلام من هو ساه عمّا نحن معه فيه ؛ لأنّ كلامنا إنّما هو في أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصّ على أمير المؤمنين عليه‌السلام بالخلافة بعده ، وجعل الإمامة فيه ، وله دون غيره ، وأن هذه منزلة له منه كما أن هارون لو بقي بعد أخيه موسى لكان خليفته بعده ، فأما الكلام في أن النص بالإمامة حصل على جهة الوجوب ، وأنه ممّا كان يجوز أن يحصل خلافه ، وهل كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك مخيّرا أو غير مخيّر ، فهو غير ما نحن فيه الآن ، وغير ما شرعت في حكاية أدلة أصحابنا عليه ، والكلام فيه كلام في مسألة أخرى كالمنفصلة عن النصّ وإثباته ، ويكفي أصحابنا فيما قصدوه بأدلتهم التي حكيتها أن يثبت لأمير المؤمنين عليه‌السلام بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإمامة والتصرّف في تدبير الأمة [و] بذلك يتمّ غرضهم المقصود ، وما سواه من وجوب ذلك أو جوازه لا شاغل لهم به في هذا الموضع.

على أنا نقول له : نحن ننزل خلافة أمير المؤمنين عليه‌السلام للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أمته بعده منزلة نبوّة موسى من هارون عندك ، ونقول فيها ما تقوله أنت في نبوّتهما ونبوّة غيرهما من الأنبياء عليهم‌السلام ؛ لأنك لا تقطع في النبوّة على أن زيدا بعينه كلّفها على سبيل الوجوب ، بل تجوّز أن يتساوى اثنان أو جماعة في حسن

__________________

(١) ما بين المعقوفتين ساقط من «المغني».

(٢) في المغني «أو جعل الأمر شورى».

(٣) المغني ، ٢٠ : ١٨٠.

٣٥٤

القيام بأداء الشرائع ، وفيما يتعلّق بهم من مصلحة المكلفين ، فتكلّف النبوّة أحدهم ولا يكون ذلك إلّا واجبا ؛ لأن تكليف غيره ممن ساواه كتكليفه ، وهذا هو قولنا في الإمامة بعينه ؛ لأنا لا نرى أن الإمامة مستحقّة بعمل ولا النبوّة ، كما يرى ذلك بعض من تقدم من أصحابنا رحمهم‌الله ، فإن قال : إنّما أردت بما ذكرته أن الخبر لو سلم لخصومي أنه دالّ على النصّ بالإمامة لكان غير دالّ من الوجه الذي تذهبون إليه في وجوب الإمامة لمن يحصل له على وجه لا يجوز سواه ، قلنا : قد بيّنا أن مذهبنا بخلاف ذلك ، وهو مذهب أكثر الطائفة من المحقّقين منها ، ولنا فيه تفصيل سنذكره ، وهب أن الكلام توجّه إلى من ذهب إلى ذلك ، أو أن الجماعة تذهب إليه كيف يكون واقعا موقعه ، ومن هذا الذي ضمن لك وتكفل بأنه يدلّ بهذا الخبر المخصوص على جميع مذاهبه في الإمامة حتّى يلزمه من حيث ذهب في الإمامة إلى ما ذكرت أن يستفيد ذلك بالخبر ، ويكون الخبر دالا عليه؟ ولمن ذهب إلى المذهب الذي ذكرته أن يقول : أنا وإن اعتقدت في وجوب الإمامة ما حكيته فلي عليه دلالة غير هذا الخبر ، وإنّما استدلّ بالخبر على النصّ بالإمامة على أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وإنه الإمام بعد الرسول ، وما سوى ذلك من وجوب هذه المنزلة أو جوازها الطريق إليه غير الخبر ، ولو لزمني هذا للزمك مثله ، إذا قيل لك : إنك إذا كنت تعتقد أن القديم تعالى قادر لنفسه فصحّة الفعل منه ليس تدلّ على كونه على هذه الصفة على ما ذهبتم إليه ، وأكثر ما يدلّ صحّة الفعل على كونه قادرا ، فأما الوجه الذي كان قادرا منه ، وأنه النفس دون المعنى فغير مستفاد من صحّة الفعل ، وجعل ذلك قدحا في مذهبك وطريقتك ، ما كان يمكنك أن تعتمد إلّا على ما اعتمدناه بعينه ، وتبيّن أن صحّة الفعل دلالة إثباته قادرا والطريق إلى استناد هذه الصفة إلى النفس أو المعنى غير هذا ، وأنه ليس يجب من حيث كان المذهب يشتمل الأمرين أعني كونه قادرا ، وأنه كذلك للنفس أن يعلما بدليل واحد من طريق واحد.

فإن قيل : إذا كان مذهبكم في النبوّة والإمامة ما شرحتموه ورغبتم عن قول من ذهب فيهما إلى الاستحقاق أفتجوزون أن يكون في زمان النبي وزمان أمير

٣٥٥

المؤمنين عليه‌السلام من يساوي كلّ واحد منهما في القيام بما أسند إليه ، حتّى لو عدل بالأمر إليه لقام به هذا المقام بعينه.

قلنا : قد كان ذلك جائزا ، وإنما علمنا أنه لم يقع لدليل منع منه ، لا من حيث الاستحقاق ، ولا تساوي صفة من يصلح لهذه الأمور ، فيكون تكليف هذا كتكليف ذلك لا يصحّ ، والذي نقوله : إنّه لم يكن في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من يساويه في شرائط النبوّة ، ولا كان في زمان إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام من يساويه في جميع شرائط الإمامة ، وإن جاز أن يكون قبل إمامته من يساويه في ذلك في أيّام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والوجه في المنع ممّا ذكرناه ، أنه لو جاز ما منعنا منه من الأمرين لوجب في ذلك المساوي للرسول أو الإمام أحد الأمرين ، اما أن يكون رعيّة لمن هو مساو له أو خارجا عن رعيّته ، ومستثنى به عليه ، وليس يجوز أن يكون رعية لمن يساويه كما لا يجوز أن يكون رعية لمن يفضله وقبح أحد الأمرين كقبح الآخر ، وهذا قد مضى فيما تقدّم من الكلام عند دلالتنا على أن إمامة المفضول لا تجوز ، وليس يجوز أن يكون خارجا عن رعيّته ؛ لأنّا قد علمنا أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث إلى سائر المكلّفين ، وأنه لا أحد منهم إلّا وتجب طاعته عليه ، والتصرّف على أمره ونهيه ، وكذلك نعلم أن إمامة أمير المؤمنين عامّة لسائر المكلّفين ، وأن أحدا منهم لا يخرج عنها ؛ لأن كلّ من أوجبها بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوجبها على هذه الصفة ، والإجماع يمنع من تخصيصها بعد ثبوتها ، فبهذا علمنا أنه لم يكن في أزمانهما عليهما‌السلام من يساويهما ، لا من الوجوه الفاسدة التي اعتمدها غيرنا.

فإن قيل : فإذا كانت خلافة هارون لموسى عليه‌السلام في حياته إنّما ثبتت باختياره ؛ لأنكم لا توجبون فيما جرى هذا المجرى من الاستخلاف لمن يكون بأمر الله تعالى ؛ لأنّ ذلك يوجب عليكم أن يكون الله تعالى هو الذي ينصّ على أمراء الإمام وحكّامه وقضاته وجميع خلفائه ، وكان استمرارها إلى بعد الوفاة إنّما وجب أيضا من حيث ثبتت له في الحياة ، ولم يجز له صرفه عنها ، فهو عائد في المعنى إلى أمر غير واجب ، بل تابع للاختيار ، فيجب أن تقولوا في إمامة

٣٥٦

أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثل ذلك وتجعلوها راجعة إلى اختيار الرسول ؛ لأنها مشبّهة بها ومحمولة عليها ، ومذهبكم يخالف ذلك.

قلنا : أليس قد بيّنا فيما تقدم أنّه لا معتبر في باب حمل منازله عليه‌السلام على منازل هارون من موسى بالأسباب والعلل والجهات ، وأن التشبيه وقع بين المنازل أو ثبوتها لا بين جهاتها وأشبعنا القول في ذلك فكيف يلزمنا ما ظننته؟ وإنّما جاز أن يكون استخلاف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حياته موقوفا على اختياره واستخلافه بعد وفاته بنصّ من الله تعالى ؛ لأنّ خليفته في حياته لا يجب أن يكون معصوما ولا حجّة ، وخليفته بعد موته لا بدّ من كونه كذلك ، فالنص عليه من الله تعالى واجب.

فأمّا قول صاحب الكتاب : «إن الاستخلاف إنّما يوصف بأنّه منزلة متى وجبت لسبب ، فأمّا إذا وقع بالاختيار على وجه كان يجوز أن لا يحصل فلا يكاد يقال : «إنه منزلة» فإنه كثيرا ما يدّعي في هذه الطريقة بما لا يزيد فيه على الدّعوى ، ويتحجّر في قصرها على أمر واحد من غير دليل ولا شبهة ، وهذا يشبه ما ذكره متقدّما من أن المنزلة لا تستعمل إلّا بمعنى المحلّ والموقع من القلب دون ما يرجع إلى الولايات ، وقد بيّنا بطلان ما ظنّه بما يبيّن أيضا بطلان دعواه هذه ؛ لأنّه قد يقال : فلان بمنزلة فلان ، وقد أنزلت زيدا منزلة عمرو في الأمور ، والولايات التي ليست بواجبة كنحو الوكالة والوصيّة ، والتفضل بالعطية ، وغير ذلك ممّا لا سبب يوجبه فكيف يدّعي أن اللفظ يختصّ بما له سبب وجوب ، والعرف يشهد باستعمالها في الكلّ ، وفيما قد أوردناه كفاية في فساد جميع ما تعلّق به في هذا الباب (١).

ـ (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) [الأعراف : ١٤٣].

__________________

(١) الشافي في الإمامة وإبطال حجج العامّة ، ٣ : ٥ إلى ٧١.

٣٥٧

[إن سأل سائل] وقال : ما تنكرون أن تكون هذه الآية دالة على جواز الرؤية عليه عزوجل! لأنّها لو لم تجز لم يسألها موسى عليه‌السلام ، كما لا يجوز أن يسأل اتّخاذ الصاحبة والولد ؛ ولو كانت أيضا الرؤية مستحيلة لم يعلّقها بأمر يصحّ أن يقع وهو استقرار الجبل. فإذا علمنا صحّة استقرار الجبل في موضعه فيجب أن تكون الرؤية أيضا صحيحة في حكم ما علّقت به. وقوله تعالى : (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) يقتضي جواز الحجاب عليه تعالى ؛ لأنّ التجلّي والظهور لا يكونان إلّا بعد احتجاب واستتار.

الجواب : قلنا : أوّل ما نقوله إنّه ليس في مسألة الشيء دلالة على صحّة وقوعه ولا جوازه ؛ لأنّ السائل يسأل عن الصحيح والمحال ، مع العلم وفقد العلم ؛ لأغراض مختلفة ؛ فلا دلالة في ظاهر مسألة الرؤية على جوازها.

ولأصحابنا عن هذه المسألة أجوبة :

أوّلها : ـ وهو الأولى والأقوى ـ أن يكون موسى عليه‌السلام لم يسأل الرؤية لنفسه ؛ وإنّما سألها لقومه ، فقد روي أنّهم طلبوا ذلك منه والتمسوه ، فأجابهم بأنّها لا تجوز عليه تعالى ؛ فلم يقنعوا بجوابه ، وآثروا أن يرد الجواب من قبل ربّه تعالى ، فوعدهم ذلك ، وغلب في ظنّه أنّ الجواب إذ ورد من جهته «جلّ وعزّ» كان أحسم للشبهة ؛ وأبلغ في دفعها عنهم ، فاختار السبعين الذين حضروا الميقات ؛ ليكون سؤاله بمحضر منهم ، فيعرفوا ما يرد من الجواب ، فسأل وأجيب بما يدلّ على أنّ الرؤية لا تجوز عليه تعالى.

ويقوّي هذا الجواب أشياء :

منها : قوله تعالى : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً) (١).

ومنها : قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (٢).

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ١٥٣.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ٥٥.

٣٥٨

ومنها : قوله تعالى : (فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) (١) لأنّ إضافة ذلك إلى السفهاء تدلّ على أنّه كان بسببهم ومن أجلهم ؛ وإنّما سألوا ما لا يجوز عليه.

ومنها : ذكر الجهرة في الرؤية ، وهي لا تليق إلّا برؤية البصر دون العلم ؛ وهذا يقوّي أنّ الطلب لم يكن للعلم الضروريّ ، على ما سنذكره في الجواب الثاني.

ومنها : قوله : (أَنْظُرْ إِلَيْكَ) ؛ لأنّا إذا حملنا الآية على طلب الرؤية لقومه أمكن إن يحمل قوله : (أَنْظُرْ إِلَيْكَ) على حقيقته : فإذا حملت الآية على طلب العلم الضروريّ احتيج إلى حذف في الكلام ، ويصير تقديره : أرني أنظر إلى الآيات التي عندها أعرفك ضرورة.

ويمكن في هذا الوجه الأخير خاصة أن يقال : إذا كان المذهب الصحيح عندكم هو أنّ النظر في الحقيقة غير الرؤية ، فكيف يكون قوله : (أَنْظُرْ إِلَيْكَ) حقيقة في جواب من حمل الآية على طلب الرؤية لقومه؟.

فإن قلتم : لا يمتنع أن يكونوا التمسوا الرؤية التي يكون معها النظر والتحديق إلى الجهة ، فسأل على حسب ما التمسوا.

قيل لكم : هذا ينقض فرقكم في هذا الجواب بين سؤال الرؤية ، وبين سؤال جميع ما يستحيل عليه من الصاحبة والولد ؛ وما يقتضي الجسمية بأن تقولوا : الشكّ في الرؤية لا يمنع من صحّة معرفة السمع ، والشكّ في جميع ما ذكر يمنع من ذلك ؛ لأنّ الشكّ الذي لا يمنع من معرفة صحّة السمع إنّما هو في الرؤية التي لا يكون معها نظر ، ولا تقتضي التشبيه.

فإن قلتم : يحمل ذكر النّظر على أنّ المراد به نفس الرؤية على سبيل المجاز ؛ لأنّ من عادة العرب أن يسمّوا الشيء باسم الطريق إليه ، وما قاربه وداناه.

قلنا : فكأنّكم عدلتم من مجاز إلى مجاز ؛ فلا قوّة في هذا الوجه ؛ والوجوه التي ذكرناها في تقوية هذا الجواب المتقدّمة أولى.

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ١٥٥.

٣٥٩

وليس لأحد أن يقول : لو كان عليه‌السلام إنّما سأل الرؤية لقومه لم يضف السؤال إلى نفسه فيقول : (أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) ولا كان الجواب مختصّا به ؛ وهو قوله تعالى : (لَنْ تَرانِي) ، وذلك لأنّه غير ممتنع وقوع الإضافة على هذا الوجه ؛ مع أنّ المسألة كانت من أجل الغير ؛ إذ كانت هناك دلالة تؤمن من اللبس وتزيل الشبهة. فلهذا يقول أحدنا إذا شفع في حاجة غيره للمشفوع له : أسألك أن تفعل بي كذا ، وتجيبني إلى كذا. ويحسن أن يقول المشفوع إليه : قد أجبتك وشفّعتك ، وما جرى مجرى ذلك ؛ وإنّما حسن هذا لأنّ للسائل في المسألة غرضا ، وإن رجعت إلى الغير فتحقّقه بها وتكلّفه كتكلّفه إذا اختصّه ولم يتعدّه.

فإن قيل ؛ كيف يجوز منه عليه‌السلام مع علمه باستحالة الرؤية عليه تعالى أن يسأل فيها لقومه! ولئن جاز ذلك ليجوزنّ أن يسأل لقومه سائر ما يستحيل عليه تعالى من كونه جسما ، وما أشبهه متى شكّوا فيه.

قلنا : إنّما صحّ ما ذكرناه في الرؤية ولم يصحّ فيما سألت عنه ؛ لأنّ مع الشك في جواز الرؤية التي لا تقتضي كونه جسما يمكن معرفة السمع ، وأنّه تعالى صادق في أخباره ، فيصحّ أن يعرفوا بالجواب الوارد من جهته تعالى استحالة ما شكّوا في صحّته وجوازه ؛ ومع الشكّ في كونه جسما لا يصحّ معرفة السمع ، فلا يقع بجوابه انتفاع ولا علم.

وقد قال بعض من تكلّم في هذه الآية : قد كان جائزا أن يسأل موسى عليه‌السلام لقومه ما يعلم استحالته ؛ وإن كانت دلالة السمع لا تثبت قبل معرفته متى كان المعلوم أنّ في ذلك صلاحا للمكلّفين في الدين ، وإنّ ورود الجواب يكون لطفا لهم في النظر في الأدلة ، وإصابة الحقّ منها ؛ غير أنّ من أجاب بذلك شرط أن يبيّن النبيّ عليه‌السلام في مسألته علمه باستحالة ما سأله ، وأنّ غرضه في السؤال ورود الجواب ليكون لطفا.

والجواب الثاني في الآية : أن يكون موسى عليه‌السلام إنّما سأل ربّه أن يعلمه نفسه ضرورة بإظهار بعض أعلام الآخرة ، التي [يضطر عندها] (١) إلى المعرفة ،

__________________

(١) ما بين المعقوفتين من تنزيه الأنبياء والأئمّه : ١١٤.

٣٦٠