تفسير الشريف المرتضى - ج ٢

تفسير الشريف المرتضى - ج ٢

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٠

[كيف يجوز أن يخبرنا بأنّه] جعلهم ؛ كفّارا وخلق كفرهم! والكلام خرج مخرج الذّم لهم ؛ والتوبيخ على كفرهم ، والمبالغة في الإزراء عليهم! وأيّ مدخل لكونه خالقا لكفرهم في باب ذمّهم! وأيّ نسبة بينه وبين ذلك! بل لا شيء أبلغ في عذرهم وبراءتهم من أن يكون خالقا لما ذمّهم من أجله. وهذا يقتضي أن يكون الكلام متناقضا مستحيل المعنى ؛ ونحن نعلم أنّ أحدا إذا أراد ذمّ غيره ، وتوبيخه وتهجينه بمثل هذا الضرب من الكلام إنّما يقول : ألا أخبركم بشرّ الناس وأحقّهم بالذم واللوم! من فعل كذا ، وصنع كذا ؛ وكان على كذا وكذا ؛ فيعدّد من الأحوال والأفعال قبائحها ، ولا يجوز أن يدخل في جملتها ما ليس بقبيح ؛ ولا ما هو من فعل الذامّ ومن جهته ؛ حتى يقول في جملة ذلك : ومن شاغل بالصّنعة الفلانية التي أسلمها إليه وحمله عليها ؛ وإن عقلا يقبل هذه الشبهة لعقل ضعيف سخيف.

فإن قيل : أليس قد ذمّهم في الكلام بأن جعل منهم القردة والخنازير ؛ ولا صنع لهم في ذلك! فكذلك يجوز أن يذمّهم ويجعلهم عابدين للطاغوت ؛ وإن كان من فعله!.

قيل : إنّما جعلهم قردة وخنازير عقوبة لهم على أفعالهم وباستحقاقهم ، فجرى ذلك مجرى أفعالهم ، كما ذمّهم بأن لعنهم وغضب عليهم ؛ من حيث استحقّوا ذلك منه تعالى بأفعالهم وعبادتهم للطاغوت ؛ فإن كان هو خلقها فلا وجه لذمّهم بها ؛ لأنّ ذلك ممّا لا يستحقّونه بفعل متقدّم كاللّعن والمسخ.

ثم نعود إلى تأويل الآية فنقول : لا ظاهر للآية يقتضي ما ظنّوه ، وأكثر ما تضمّنته الأخبار بأنّه جعل وخلق من يعبد الطاغوت كما جعل منهم القردة والخنازير ؛ ولا شبهة في أنّه تعالى هو خالق الكافر ، وأنّه لا خالق له سواه ؛ غير أن ذلك لا يوجب أنّه خلق كفره وجعله كافرا.

وليس لهم أن يقولوا : كما نستفيد من قوله : (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ) أنّه جعل ما به كانوا كذلك ؛ هكذا نستفيد من قوله : جعل منهم من عبد الطاغوت

١٨١

أنّه خلق ما به كان عابدا للطاغوت ؛ وذلك إنّما استفدنا ما ذكروه من الأوّل ؛ لأنّ الدليل قد دلّ على أنّ به يكون القرد قردا والخنزير خنزيرا ؛ لا يكون إلّا من فعله.

وليس ما به يكون الكافر كافرا مقصورا على فعله تعالى ؛ بل قد دلّ الدليل على أنّه يتعالى عن فعل ذلك وخلقه ، فافترق الأمران.

وفي الآية وجه آخر : وهو أن لا يكون قوله تعالى : (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) معطوفا على القردة والخنازير ؛ بل معطوفا على (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ) ؛ وتقدير الكلام : من لعنه الله ، ومن غضب عليه ، ومن عبد الطاغوت ، ومن جعل الله منهم القردة والخنازير ؛ وهذا هو الواجب ؛ لأنّ «وعبد» فعل ، والفعل لا يعطف على الاسم ، فلو عطفناه على القردة والخنازير لكنّا قد عطفنا فعلا على اسم ، فالأولى عطفه على ما تقدّم من الأفعال.

وقال قوم : يجوز أن يعطف (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) على الهاء والميم في «منهم» ؛ فكأنه تعالى جعل منهم ، ومن عبد الطاغوت القردة والخنازير ؛ وقد يحذف «من» في الكلام ؛ قال الشاعر :

أمن يهجو رسول الله منكم

ويمدحه وينصره سواء (١)

أراد : ومن يمدحه وينصره.

فإن قيل : فهبوا هذا التأويل ساغ في قراءة من قرأ بالفتح ، أين أنتم عن قراءة من قرأ «وعبد» بفتح العين وضمّ الباء ، وكسر التاء من «الطاغوت» ، ومن قرأ «عبد الطّاغوت» بضم العين والباء ، ومن قرأ : «وعبّد الطّاغوت» بضم العين والتشديد ، ومن قرأ : «وعبّاد الطّاغوت»!.

قلنا : المختار من هذه القراءة عند أهل العربية كلّهم القراءة بالفتح ، وعليها جميع القرّاء السبعة ؛ إلّا حمزة فإنّه قرأ ؛ «عبد» بفتح العين وضم الباء ، وباقي القراءات شاذة غير مأخوذ بها.

__________________

(١) البيت لحسان ، ديوانه : ٩٠ ، وروايته : «فمن يهجو.».

١٨٢

قال أبو إسحاق الزجّاج في كتابه في معاني القرآن : (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) نسق على «من لّعنه الله» قال : وقد قرئت «عبد الطّاغوت» ؛ «وعبد الطّاغوت» والذي اختاره «وعبد الطّاغوت».

وروي عن ابن مسعود رحمه‌الله : «وعبدوا الطّاغوت» فهذا يقوّي : «وعبد الطّاغوت» قال : ومن قرأ «وعبد الطّاغوت» بضم الباء وخفض الطاغوت فإنّه عند بعض أهل العربية ليس بالوجه من جهتين :

أحدهما : أن «عبد» على وزن «فعل» ، وليس هذا من أمثلة الجمع ؛ لأنهم فسّروه خدم الطاغوت.

والثاني : أن يكون محمولا على وجعل منهم عبدا للطّاغوت ثمّ خرّج لمن قرأ «وعبد» أنّه بلغ الغاية في طاعة الشيطان. وهذا كلام الزجّاج.

وقال أبو عليّ الحسن بن عبد الغفّار الفارسيّ محتجّا لقراءة حمزة : ليس «وعبد» لفظ جمع ؛ ألا ترى أنّه ليس في أبنية الجموع شيء على هذا البناء! ولكنه واحد يراد به الكثرة ؛ ألا ترى أنّ في الأسماء المفردة المضافة إلى المعارف ما لفظه لفظ الإفراد ومعناه الجمع ، كقوله تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) (١) ، وكذلك قوله : «وعبد الطّاغوت» جاء على «فعل» لأنّ هذا البناء يراد به الكثرة والمبالغة ؛ وذلك نحو «يقظ وندس» ؛ فهذا كأنّ تقديره أنّه قد ذهب في عبادة الشيطان والتذلّل له كلّ مذهب.

قال : وجاء على هذا لأنّ «عبد» في الأصل صفة ، وإن كان قد استعمل استعمال الأسماء ، واستعمالهم إيّاه استعمالها لا يزيل عنه كونه صفة ؛ ألا ترى أنّ «الأبرق والأبطح» (٢) وإن كان قد استعملا استعمال الأسماء حتى كسّرا هذا النحو عندهم من التكسير في قولهم : «أبارق وأباطح» ؛ فلم يزل عنه حكم الصفة ، يدلّك على ذلك تركهم صرفه ، كتركهم صرف «أحمر» ولم يجعلوا ذلك

__________________

(١) سورة إبراهيم ، الآية : ٣٤.

(٢) الأبرق : أرض فيها حجارة سود وبيض ، والأبطح : الأرض المنبطحة.

١٨٣

كأفكل وأيدع (١) ؛ وكذلك «عبد» وإن كان قد استعمل استعمال الأسماء فلم يخرجه ذلك عن أن يكون صفة ، وإذا لم يخرج عن أن يكون صفة لم يمتنع أن يبنى بناء الصفات على «فعل».

وهذا كلام مفيد في الاحتجاج لحمزة ؛ فإذا صحّت قراءة حمزة وعادلت قراءة الباقين المختارة ، وصحّ أيضا سائر ما روي من القراءات التي حكاها السائل كان الوجه الأوّل الذي ذكرناه في الآية يزيل الشبهة فيها.

ويمكن في الآية وجه آخر على جميع القراءات المختلفة «في عبد الطّاغوت» : وهو أن يكون المراد بجعل منهم عبد الطاغوت ؛ أي نسبه إليهم ، وشهد عليه بكونه من جملتهم. ول «جعل» مواضع قد تكون بمعنى الخلق والفعل ؛ كقوله : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) (٢) ؛ وكقوله : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً) (٣) وهي هاهنا تتعدّى إلى مفعول واحد ؛ وقد تكون أيضا بمعنى التسمية والشهادة ؛ كقوله تعالى : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) (٤) ؛ وكقول القائل : جعلت البصرة بغداد ، وجعلتني كافرا ، وجعلت حسني قبيحا ؛ وما أشبه ذلك ؛ فهي هاهنا تتعدّى إلى مفعولين.

ول «جعل» مواضع أخر لا حاجة بنا إلى ذكرها ؛ فكأنّه تعالى قال : ونسب عبد الطاغوت إليهم ، وشهد أنّهم من جملتهم.

فإن قيل : لو كانت «جعل» هاهنا على ما ذكرتم لوجب أن يكون متعدّية إلى مفعولين ؛ لأنّها إذا لم تتعدّ إلّا إلى مفعول واحد فلا معنى لها إلّا الخلق.

قلنا : هذا غلط من متوهّمه ؛ لأنّ «جعل» هاهنا متعدّية إلى مفعولين ، وقوله تعالى : (مِنْهُمُ) يقول مقام المفعول الثاني عند جميع أهل العربية ، لأنّ كلّ جملة تقع في موضع خبر المبتدأ فهي تحسن أن تقع في موضع المفعول الثاني ؛ كجعلت وظننت وما أشبههما. وقال الشاعر :

__________________

(١) الأفكل : الرعدة ، والأيدع : صبغ أحمر ؛ وهو المسمى دم الأخوين.

(٢) سورة الأنعام ، الآية : ١.

(٣) سورة النحل ، الآية : ٨١.

(٤) سورة الزخرف ، الآية : ١٩.

١٨٤

أبا لأراجيز يابن اللّؤم توعدني

وفي الأراجيز خلت اللؤم والخور (١)

وقد فسر هذا على وجهين :

أحدهما : على الغاء «خلت» من حيث توسّطت الكلام ؛ فيكون «في الأراجيز» على هذا في موضع رفع بأنّه خبر المبتدأ.

والوجه الثاني : على إعمال «خلت» فيكون «في الأراجيز» في موضع نصب من حيث وقع موقع المفعول الثاني. وهذا بيّن لمن تدبّره (٢).

ـ (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) [المائدة : ٦٤].

[فيها أمران : الأوّل : إن سأل سائل] فقال : ما اليد التي أضافتها اليهود إلى الله تعالى ، وادّعوا أنّها مغلولة؟ وما نرى أنّ عاقلا من اليهود ولا غيرهم يزعم أنّ لربّه يدا مغلولة ، واليهود تتبرّأ من أن يكون منها قائل بذلك ؛ وما معنى الدعاء عليهم ب (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) [وهو تعالى ممّن لا يصحّ أن] يدعو على غيره؟ لأنّه تعالى قادر على أن يفعل ما يشاء ، وإنّما يدعو الداعي بما لا يتمكّن من فعله طلبا له.

الجواب : قلنا : يحتمل أن يكون قوم من اليهود وصفوا الله تعالى بما يقتضي تناهي مقدوره فجرى ذلك مجرى أن يقولوا : إنّ يده مغلولة ، لأنّ عادة الناس جارية بأن يعبّروا بهذه العبارة عن هذا المعنى ، فيقولون : يد فلان منقبضة عن كذا ، ويده لا تنبسط إلى كذا ، إذا أرادوا وصفه بالفقر والقصور ، ويشهد بذلك قوله تعالى في موضع آخر : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) (٣) ، ثمّ قال تعالى مكذبا لهم : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) ، أي أنّه لا يعجزه شيء ، وثنّى اليدين تأكيدا للأمر ، وتفخيما له ؛ ولأنّه أبلغ في المعنى المقصود من أن يقول : بل يده مبسوطة.

__________________

(١) البيت للعين المنقري يهجو العجاج ؛ وهو من شواهد الكتاب (٦٠ / ١).

(٢) الأمالي ، ٢ : ١٥٧.

(٣) سورة آل عمران ، الآية : ١٨١.

١٨٥

وقد قيل أيضا : إنّ اليهود وصفوا الله تعالى بالبخل ، واستبطؤوا فضله ورزقه ؛ وقيل : إنّهم قالوا على سبيل الاستهزاء : إنّ إله محمد الذي أرسله ؛ يداه إلى عنقه ؛ إذ ليس يوسّع عليه وعلى أصحابه ، فردّ الله قولهم وكذّبهم بقوله : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) ، واليد هاهنا الفضل والنعمة ، وذلك معروف في اللغة ، متظاهر في كلام العرب وأشعارهم.

ويشهد بذلك من الكتاب قوله تعالى : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) (١) ، ولا معنى لذلك إلّا الأمر بترك إمساك اليد عن النفقة في الحقوق ؛ وترك الإسراف ، إلى القصد والتوسّط.

ويمكن أن يكون الوجه في تثنية النعمة من حيث أريد بها نعم الدنيا ونعم الآخرة ؛ لأنّ الكلّ ـ وإن كانت نعم الله ـ فمن حيث اختصّ كلّ واحد من الأمرين بصفة تخالف صفة الآخر صارا كأنّهما جنسان أو قبيلان.

ويمكن أيضا أنّه أريد بها النعم الظاهرة والباطنة.

فأمّا قوله تعالى : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) ، ففيه وجوه :

أوّلها : أن لا يكون ذلك على سبيل الدّعاء ؛ بل على وجه الإخبار منه عزوجل عن نزول ذلك بهم ؛ وفي الكلام ضمير «قد» قبل قوله : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) ، وموضع (غُلَّتْ) نصب على الحال ، كأنّه تعالى قال : وقالت اليهود كذا وكذا ؛ في حال ما غلّ الله تعالى أيديهم ولعنهم ، أو حكم بذلك فيهم ؛ ويسوغ إضمار «قد» هاهنا كما ساغ في قوله عزوجل : (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ) (٢) والمعنى : وقد صدقت ، وقد كذبت.

وثانيها : أن يكون معنى الكلام وقالت اليهود يد الله مغلولة فغلّت أيديهم ، أو وغلّت أيديهم ، وأضمر تعالى الفاء والواو ؛ لأنّ كلامهم تمّ ، واستؤنف بعده كلام آخر ؛ ومن عادة العرب أن تحذف فيما يجري مجرى هذا الموضع ؛ من

__________________

(١) سورة الإسراء ، الآية : ٢٩.

(٢) سورة يوسف ، الآيتان : ٢٦ ـ ٢٧.

١٨٦

ذلك قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) (١) أراد : فقالوا أتتخذنا هزوا ، فأضمر تعالى الفاء ؛ لتمام كلام موسى عليه‌السلام ، ومنه قول الشاعر :

لمّا رأيت نبطا أنصارا

شمّرت عن ركبتي الإزارا

كنت لها من النّصارى جارا

أراد : «وكنت» ، فأضمر الواو.

وثالثها : أن يكون القول خرج مخرج الدعاء ؛ إلّا أنّ معناه التعليم من الله تعالى لنا والتأديب ؛ فكأنّه جلّت عظمته وقفنا على الدعاء عليهم ، وعلّمنا ما ينبغي أن نقول فيهم ، كما علّمنا الاستثناء في غير هذا الموضع بقوله تعالى : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) (٢) ، وكلّ ذلك جلّي واضح ، والمنة لله (٣).

[الثاني :] أي نعمه مبسوطة ، ورزقه دار نازل ، كما تقول العرب : «يد فلان مبسوطة» إذا أرادوا وصفه بالجوهر وكثرة العطاء ، ومثله قوله تعالى : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) ، وهذا القول ردّ على اليهود الّذين ادّعوا انّه قد أمسك عنهم رزقه وحبس ضرّه ، ولم يدّعوا أنّ له جارحة مقبوضة (٤).

ـ (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) [المائدة : ٦٧].

قال القاضي : «دليل لهم آخر من طريق السنة ، قالوا قد ثبت عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم غدير خم ما يدلّ على أنه نصّ على أمير المؤمنين عليه‌السلام بالإمامة ؛ لأنّه مع الجمع العظيم في ذلك المقام قام فيهم خطيبا فقال : «ألست أولى بكم منكم بأنفسكم» (٥)؟ فقالوا اللهم نعم ، فقال بعده إشارة إليه «فمن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه اللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله»

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٦٧.

(٢) سورة الفتح ، الآية : ٢٧.

(٣) الأمالي ، ٢ : ٥.

(٤) الملخص ، ٢ : ٢٢٤.

(٥) في المغني «من أنفسكم».

١٨٧

حتّى قال عمر بن الخطاب له : بخّ بخّ (١) أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة ، ولا يجوز أن يريد بقوله «من كنت مولاه» إلّا ما تقتضيه مقدّمة الكلام ، وإلّا لم يكن لتقديمها فائدة ، فكأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : فمن كنت أولى به من نفسه فعليّ أولى به ، لتكون المقدّمة مطابقة لما تقدّم ذكره ، وما قصد إليه من الذكر بعد المقدّمة يكون مطابقا لها ، وقد علمنا أنه لم يرد بقوله : «ألست أولى بكم منكم بأنفسكم» إلّا في الطاعة والاتباع والانقياد ، فيجب فيما عطف عليه أن يكون هذا مراده به ، وذلك لا يليق إلّا بالإمامة ، واستدلّ بعضهم بدلالة الحال في ذلك وهو أنه تعالى أنزل على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (٢) فأمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ذلك في غدير خم بجمع أصحابه ، وقام وأخذ بيد أمير المؤمنين عليه‌السلام فرفعها حتّى رأى قوم بياض إبطه ، وقال هذا القول مع كلام تقدّم أو تأخّر ، ولا يجوز أن يفعل ذلك إلّا لبيان أمر عظيم ، وذلك لا يليق إلّا بالإمامة التي فيها احياء معالم الدين دون سائر ما يذكر في هذا الباب ممّا يشركه فيه غيره ، وممّا قد بان وظهر من قبل.

وقال بعضهم في وجه الاستدلال بذلك انه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما قال «من كنت مولاه فعليّ مولاه» لم يخل من أن يريد بذلك مالك الرق أو المعتق وابن العم أو يريد بذلك العاقبة ، كقوله تعالى : (مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ) (٣) أي عاقبتكم أو يريد بذلك ما يليه خلفه أو قدامه لأنّه قد يراد ذلك بهذا اللفظ أو يراد بذلك مالك الطاعة ؛ لأن ذلك قد يراد بهذا اللفظ ، فإذا بطلت تلك الأقسام من حيث يعلم أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يرد مالك الرق ولا المعتق أو المعتق ، فيجب أن يكون هذا هو

__________________

(١) بخ ـ بوزن بل ـ كلمة تقال عند المدح والرضا بالشيء وتكرّر للمبالغة فيقال : بخ بخ ، وإذا وصلت خفضت ونوّنت فيقال : بخ بخ وربّما شدّدت فيقال : بخّ ، والعجيب أنّها في المغني لخ لخ ، وعلّق عليها المحقق قائلا : «هكذا بالأصل» ولم يكلف نفسه عناء البحث عنها ، ولعلّه أمر مقصود لتضييع الحقيقة في هذه «اللخلخة».

(٢) سورة المائدة ، الآية : ٦٧.

(٣) سورة الحديد ، الآية : ١٥.

١٨٨

المراد ومالك الطاعة لا يكون إلّا بمعنى الإمام ؛ لأن الإمامة مشتقة من الإئتمام به والائتمام هو الاتباع والاقتداء والانقياد ، فإذا وجبت طاعته فلا بدّ من أن يستحقّ هذا المعنى.

وفيهم من استدلّ بذلك بأن قال : إنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال هذا القول ، فلو لم يرد به الإمامة على ما نقول لكان بأن يكون محيّرا لهم وملبسا عليهم أقرب من البيان والحال حال بيان ، فلا بدّ من حمله على ما ذكرناه ، وان يقال : إنّ القوم عرفوا قصده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك ؛ لأنّهم لو لم يعرفوا مراده في إثبات الإمامة بما يقول لكان قوله هذا خارجا عن طريقة البيان ، وزعم أن الذي له قاله معروف بالتواتر ، وإنما كتمه بعضهم وعدل عنه بغضا ومعاداة» (١).

يقال له : الوجه المعتمد في الاستدلال بخبر الغدير على النصّ هو ما نرتبه فنقول : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استخرج من امّته بذلك المقام الاقرار بفرض طاعته ، ووجوب التصرّف بين أمره ونهيه ، بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ألست أولى بكم منكم بأنفسكم؟» وهذا القول وإن كان مخرجه مخرج الاستفهام فالمراد به التقرير ، وهو جار مجرى قوله تعالى : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) (٢) فلما أجابوه بالاعتراف والاقرار رفع بيد أمير المؤمنين عليه‌السلام وقال عاطفا على ما تقدّم : «فمن كنت مولاه فهذا مولاه» وفي روايات أخرى «فعليّ مولاه اللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله» فأتى عليه‌السلام بجملة يحتمل لفظها معنى الجملة الأولى التي قدّمها وإن كان محتملا لغيره ، فوجب أن يريد بها المعنى المتقدّم الذي قرّرهم به على مقتضى استعمال أهل اللغة وعرفهم في خطابهم ، وإذا ثبت أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد ما ذكرناه من إيجابه كون أمير المؤمنين عليه‌السلام أولى بالإمامة من أنفسهم ، فقد أوجب له الإمامة ؛ لأنّه لا يكون أولى بهم من أنفسهم إلّا فيما يقتضي فرض طاعته عليهم ، ونفوذ أمره ونهيه فيهم ، ولن يكون كذلك إلّا من كان إماما.

فإن قال : دلّوا على صحة الخبر ، ثم على أن لفظة «مولى» محتملة لأولى ،

__________________

(١) المغني ، ٢٠ : ١٤٤.

(٢) سورة الأعراف ، الآية : ١٧٢.

١٨٩

وأنه أحد أقسام ما يحتمله ، ثم على أن المراد بهذه اللفظة في الخبر هو الأولى دون سائر الأقسام ، ثم على أن الأولى يفيد معنى الإمامة.

قيل له : أما الدلالة على صحّة هذا الخبر فما يطالب بها إلّا متعنّت لظهوره وانتشاره ، وحصول العلم لكل من سمع الاخبار به ، وما المطالب بتصحيح خبر الغدير ، والدلالة عليه ، إلّا كالمطالب بتصحيح غزوات الرسول الظاهرة المشهورة ، وأحواله المعروفة ، وحجّة الوداع نفسها ؛ لأن ظهور الجميع ، وعموم العلم به بمنزلة واحدة.

وبعد ، فإن الشيعة قاطبة تنقله وتتواتر به ، وأكثر رواة أصحاب الحديث يروونه بالأسانيد المتّصلة ، وجميع أصحاب السير ينقلونه ويتلقونه عن أسلافهم خلفا عن سلف ، نقلا بغير إسناد مخصوص ، كما نقلوا الوقائع والحوادث الظاهرة ، وقد أورده مصنفوا الحديث في جملة الصحيح ، فقد استبد هذا الخبر بما لا يشركه فيه سائر الأخبار ، لأن الأخبار على ضربين :

أحدهما : لا يعتبر في نقله الأسانيد المتّصلة ، كالخبر عن وقعة بدر وحنين والجمل وصفين ، وما جرى مجرى ذلك من الأمور الظاهرة التي نقلها الناس قرنا بعد قرن بغير إسناد معين وطريق مخصوص.

والضرب الآخر : يعتبر فيه اتصال الأسانيد ، كأكثر أخبار الشريعة ، وقد اجتمع في خبر الغدير الطريقان معا مع تفرقهما في غيره من الأخبار ، على أن ما اعتبر في نقله من أخبار الشريعة اتصال الأسانيد لو فتّشت جميعه لم تجد رواته إلّا الآحاد ، وخبر الغدير قد رواه بالأسانيد الكثيرة المتّصلة الجمع الكثير ، فمزيّته ظاهرة ، وممّا يدلّ على صحّة الخبر إطباق علماء الأمّة على قبوله ، ولا شبهة فيما ادّعيناه من الإطباق ؛ لأن الشيعة جعلته الحجّة في النصّ على أمير المؤمنين عليه‌السلام بالإمامة ، ومخالفوا الشيعة تأولوه على خلاف الإمامة على اختلاف تأويلاتهم ، فمنهم من يقول : انه يقتضي كونه الأفضل ، ومنهم من يقول : إنه يقتضي موالاته على الظاهر والباطن ، وآخرون يذهبون فيه إلى ولاء

١٩٠

العتق ، ويجعلون سببه ما وقع من زيد بن حارثة وابنه اسامة من المشاجرة ، إلى غير ما ذكرناه من ضروب التأويلات والاعتقادات.

وما نعلم أن فرقة من فرق الأمة ردّت هذا الخبر ، واعتقدت بطلانه ، وامتنعت من قبوله ، وما تجمع الأمة عليه لا يكون إلّا حقّا عندنا وعند مخالفينا ، وإن اختلفنا في العلّة والاستدلال.

فإن قال : فما في تأويل مخالفيكم للخبر ما يدلّ على تقبلهم له ، أو ليس قد يتأول المتكلّمون كثيرا ممّا يقبلونه ، كأخبار المشبّهة وأصحاب الرؤية؟ فما المانع من أن يكون في الأمة من يعتقد بطلانه أو يشك في صحّته.

قيل له : ليس يجوز أن يتأوّل أحد من المتكلّمين خبرا يعتقد بطلانه ، أو يشك في صحّته ، إلّا بعد أن يبيّن ذلك من حاله ويدلّ على بطلان الخبر أو على فقد ما يقتضي صحّته ، ولم نجد مخالفي الشيعة في ماض ولا مستقبل يستعملون في تأويل خبر الغدير إلّا ما يستعمله المتقبل ؛ لأنا لا نعلم أحدا منهم يعتدّ بمثله قدم الكلام في إبطاله ، والدفع له امام تأويله ؛ ولو كانوا أو بعضهم يعتقدون بطلانه أو يشكّون في صحّته لوجب مع ما نعلمه من توفر دواعيهم إلى ردّ احتجاج الشيعة به ، وحرصهم على دفع ما يجعلونه الذريعة إلى تثبيته أن يظهر عنهم دفعه سالفا وآنفا ، ويشيع الكلام منهم في دفع الخبر كما شاع كلامهم في تأويله ؛ لأن دفعه أسهل من تأويله ، وأقوى في إبطال التعلّق به ، وأنفى للشبهة.

فإن قال : أليس قد حكي عن ابن أبي داود السجستاني (١) دفع الخبر ،

__________________

(١) هو أبو بكر عبد الله بن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني ، ولد بسجستان ولاية واسعة من كور خراسان ـ سنة ٢٣٠ وطاف مع أبيه ، أبي داود (صاحب السنن المشهور) في كثير من البلدان ، وحضر معه على شيوخه ثم نزل بغداد أخيرا ، فكان من كبار الحفاظ فيها ، إلى حدّ أن قيل : إنه أحفظ من أبيه ، كان يتّهم بالانحراف عن عليّ والميل عليه ، فأراد أن يدفع عنه هذه الشبهة فجعل يقرأ على الناس فضائل عليّ عليه‌السلام إلى درجة أن ابن جرير الطبري استغرب ذلك لما بلغه فقال : «تكبيرة من حارس» وروى عنه أنه كان يقول : «كل من كان بيني وبينه شيء أو ذكرني بشيء فهو في حلّ إلّا من رماني ببغض عليّ بن أبي طالب» كفّ بصره أخيرا وتوفي ببغداد سنة ٣١٦ ودفن فيها ، له كتب منها التفسير والسنن والمسند ، والناسخ والمنسوخ (انظر تاريخ بغداد ٩ من ص ٤٦٤ ـ ٤٦٨ ، ومعجم البلدان : ١٣ / ١٩٠).

١٩١

وحكى مثله عن الخوارج ، وطعن الجاحظ في كتاب «العثمانية» (١) فيه.

قيل له : أوّل ما نقوله : إنه لا معتبر في باب الإجماع بشذوذ كلّ شاذ عنه ، بل الواجب أن يعلم أن الذي خرج عنه ممن يعتبر قول مثله في الإجماع ثم يعلم أن الإجماع لم يتقدّم خلافه ، فابن أبي داود والجاحظ لو صرّحا بالخلاف لسقط خلافهما بما ذكرناه من الإجماع ، خصوصا بالذي لا شبهة فيه من تقدّم الإجماع ، وفقد الخلاف ، وقد سبقهما ثم تأخّر عنهما.

على أنّه قد قيل : إن ابن أبي داود لم ينكر الخبر ، وإنّما أنكر كون المسجد الذي بغدير خمّ متقدّما ، وقد حكي عنه التنصّل من القدح في الخبر ، والتبرّي ممّا قذفه به محمّد بن جرير الطبري. والجاحظ أيضا لم يتجاسر على التصريح بدفع الخبر ، وإنّما طعن في بعض رواته ، وادعى اختلاف ما نقل من لفظه ، ولو صرّحا وأمثالهما بالخلاف لم يكن قادحا لما قدّمناه.

أمّا الخوارج فما يقدر أحد على أن يحكي عنهم دفعا لهذا الخبر ، أو امتناعا من قبوله ، وهذه كتبهم ومقالاتهم موجودة معروفة وهي خالية مما ادّعي ، والظاهر من أمرهم حملهم الخبر على التفضيل وما جرى مجراه من ضروب تأويل مخالفي الشيعة ، وإنما آنس (٢) بعض الجهلة بهذه الدعوى على الخوارج ما ظهر منهم فيما بعد من القول الخبيث في أمير المؤمنين عليه‌السلام فظنّ أن رجوعهم عن ولايته يقتضي أن يكونوا جاحدين لفضائله ومناقبه ، وقد أبعد هذا المدّعي غاية البعد ؛ لأن انحراف الخوارج إنما كان بعد التحكيم للسبب المعروف ، وإلّا فاعتقادهم لإمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام وفضله وتقدّمه قد كان ظاهرا ، وهم على

__________________

(١) العثمانية من رسائل الجاحظ ، وقد نقضه أبو جعفر محمد بن عبد الله الإسكافي المتوفّى سنة ٢٤٠ ه‍ وهو من أكابر علماء المعتزلة ومتكلميهم صنف سبعين كتابا في الكلام ومن كتبه كتاب «المقامات في مناقب أمير المؤمنين عليه‌السلام ونقض العثمانية» وقد لخص ابن أبي الحديد العثمانية ونقضها في شرح نهج البلاغة م ٣ / ٢٥٤ كما أن لابن أبي الحديد نقض عليها أيضا أشار إليه في م ١ / ١١٣ بقوله عن معاوية «وقد ذكرنا في «نقض العثمانية» على شيخنا أبي عثمان الجاحظ ما رواه أصحابنا في كتبهم الكلامية عنه» الخ.

(٢) آنس ـ بالمدّ وهي هنا بمعنى أبصر.

١٩٢

كلّ حال بعض أنصاره وأعوانه ، وممّن جاهد معه الأعداء ، وكانوا في عداد الأولياء إلى أن كان من أمرهم ما كان.

وقد استدلّ على صحّة الخبر بما تظاهرت به الرواية من احتجاج أمير المؤمنين عليه‌السلام به في الشورى على الحاضرين (١) في جملة ما عدده من فضائله ومناقبه ، وما خصّه الله تعالى به حين قال : «أنشدكم الله هل فيكم أحد أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيده فقال : من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه ، اللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه غيري؟ فقال : القوم : اللهمّ لا».

قالوا : وإذا اعترف به من حضر الشورى من الوجوه ، واتصل أيضا بغيرهم من الصحابة ممن لم يحضر الموضع ، كما اتصل به سائر ما جرى ، ولم يكن من أحد نكير ولا إظهار شكّ فيه مع علمنا بتوفر الدواعي إلى إظهار ذلك لو كان الخبر بخلاف ما حكمنا به من الصحّة ، فقد وجب القطع على صحّته ، هذا على أن الخبر لو لم يكن في الوضوح كالشّمس لما جاز أن يدّعيه أمير المؤمنين عليه‌السلام على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا سيما في ذلك المقام الذي ذكرناه ؛ لأنّه عليه‌السلام كان أنزه وأجلّ قدرا من ذلك.

قالوا : وبمثل هذه الطريقة يحتجّ خصومنا في تصحيح ما ذكره أبو بكر يوم السقيفة وأسنده إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قول : «الأئمة من قريش» وفيما جرى مجراه من الأخبار.

فإن قال : كيف يصح احتجاجكم بهذه الطريقة وغاية ما فيها أن يكون الحاضرون للشورى صدقوا بخبر الغدير ، وشهدوا بصحّته وأن يكون من عداهم من الصحابة الذين لم يحضروا وبلغهم ما جرى أمسكوا عن ردّه ، وإظهار الشكّ فيه على سبيل التصديق أيضا ، وليس في جميع ذلك حجّة عندكم ؛ لأنكم قد رددتم فيما مضى من الكتاب على من جعل تصديق الصحابة بخبر الإجماع ، وإمساكهم عن ردّه حجّة في صحّته.

__________________

(١) احتجاج أمير المؤمنين عليه‌السلام يوم الشورى تجده مفصّلا في الغدير ١ / ١٥٩ فما بعدها.

١٩٣

قيل له : إنّما رددنا على من ذكرت من حيث لم يصحّ عندنا أولا إطباق الصحابة على الخبر المدّعى في الإجماع (١) ، ثم لما سلّمنا للخصوم ما يدّعونه من إطباق الصحابة أريناهم أنه لا حجّة فيه على مذاهبهم وأصولهم لأنّهم يجيزون على كلّ واحد منهم عقلا الغلط ، واعتقاد الباطل بالشبهة ، فلا أمان قبل صحّة ما يدّعونه من السمع من وقوع ما جاز عليهم ، وأبطلنا ما يتعلّقون به من عادة الصحابة في قبول الصحيح من الأخبار وردّ السقيم ، وبيّنا أنهم لم يقولوا في ذلك إلّا على دعوى لا يعضدها برهان ، وأنهم رجعوا في أن الخطأ لا يجوز عليهم إلى قولهم أو ما يجري مجرى قولهم ، وهذا لا يمنعنا من القطع على صحة ما يجمع عليه الأمة على مذاهبنا ؛ لأنا لا نجيز على كلّ واحد منهم الخطأ والضلال ، كما أجازوه من طريق العمل ، وإنما نجيزهما على من عدا الإمام ؛ لأن العقل قد دلّنا على وجود المعصوم في كلّ زمان ، ومنعنا من اجتماع الأمة على الباطل انما هو لأجله ، فمن يسلك طريقتنا يجب أن نمنعه من الثقة بالاجماع وتمسّكه به.

فإن قال : جميع ما ذكرتموه إنما يصحّ في متن الخبر أعني هو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من كنت مولاه فعليّ مولاه» دون المقدمة (٢) المتضمنة للتقرير ؛ لأن أكثر من روى الخبر لم يروها والإطباق من العلماء على القبول واستعمال التأويل غير موجود فيها ؛ لأنكم تعلمون خلاف خصومكم فيها وإنشاد أمير المؤمنين عليه‌السلام أهل الشورى لم يتضمّنها في شيء من الروايات ، ودليلكم على إيجاب الإمامة من الخبر متعلّق بها ، فدلّوا على صحّتها.

قيل له : ليس ينكر أن يكون بعض من روى خبر الغدير لم يذكر المقدّمة إلّا أن من أغفلها ليس بأكثر ممّن ذكرها ولا يقاربه ، وإنما حصل الاخلال بها من آحاد من الرواة ، ونقلة الشيعة كلّهم ينقلون الخبر بمقدّمته ، وأكثر من شاركهم من رواة أصحاب الحديث أيضا ينقلون المقدّمة ، ومن تأمّل نقل الخبر وتصفّحه علم

__________________

(١) أي الرواية المشهورة «لا تجتمع امّتي على ضلال».

(٢) يريد بالمقدّمة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ألست أولى بكم من أنفسكم».

١٩٤

صحّة ما ذكرناه ، وإذا صحّ فلا نكير في إغفال من أغفل المقدّمة ؛ لأن الحجّة تقوم بنقل من نقلها ، بل ببعضهم.

فأمّا إنشاد أمير المؤمنين عليه‌السلام أهل الشورى وخلوّه من ذكر المقدّمة فلا يدلّ على نفيها أو الشكّ في صحّتها ؛ لأنّه عليه‌السلام قررهم من الخبر بما يقتضي الاقرار بجميعه على سبيل الاختصار ، ولا حاجة به إلى أن يذكر القصّة من أوّلها إلى آخرها وجميع ما جرى فيها لظهورها ، ولأن الاعتراف بما اعترف به منها هو اعتراف بالكل ، وهذه عادة الناس فيما يقرّرونه ، ألا ترى أن أمير المؤمنين لما أن قررهم في ذلك المقام بخبر الطائر في جملة الفضائل والمناقب اقتصر على أن قال : «أفيكم رجل قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اللهمّ ابعث إليّ بأحبّ خلقك يأكل معي ، غيري» ولم يذكر إهداء الطائر وما تأخّر عن هذا القول من كلام الرسول ، وكذلك لما أن قررهم صلوات الله عليه بقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه لما ندبه لفتح خيبر ، ذكر بعض الكلام دون بعض ، ولم يشرح القصّة وجميع ما جرى فيها ، وإنّما اقتصر عليه‌السلام على القدر المذكور اتّكالا على شهرة الأمر ، وأن في الاعتراف ببعضه اعترافا بكلّه ، ولا ينكر أن يكون هذه علّة من أغفل رواية المقدّمة من الرواة ؛ فإن أصحاب الحديث كثيرا ما يقولون : فلان يروي عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذا ، فيذكرون بعض لفظ الخبر والمشهور منه على سبيل الاختصار ، والتعويل على ظهور الباقي ؛ فإن الجميع يجري مجرى واحدا ، وسنبيّن فيما بعد بعون الله ما يفتقر من الأدلّة على إيجاب الإمامة من خبر الغدير إلى المقدّمة وما لا يفتقر إليها إن شاء الله.

وأمّا الدليل على أن لفظ «مولى» تفيد في اللغة أولى فظاهر ؛ لأن من كان له أدنى اختلاط باللغة وأهلها يعرف أنهم يضعون هذه اللفظة مكان أولى ، كما أنّهم يستعملونها في ابن العم ، وما المنكر لاستعمالها في الأولى إلّا كالمنكر لاستعمالها في غيره من أقسامها ، ومعلوم أنهم لا يمتنعون من أن يقولوا في كلّ من كان أولى بالشيء : «أنه مولاه» ، فمتى شئت أن تفحم المطالب بهذه المطالبة فأعكسها عليه ، ثمّ طالبه بأن يدلّ على أن لفظة مولى تفيد في اللغة ابن العم

١٩٥

والجار أو غيرهما من الأقسام ؛ فإنه لا يتمكن إلّا من إيراد بيت شعر أو مقاضاة إلى كتاب أو عرف لأهل اللغة ، وكلّ ذلك موجود ممكن لمن ذهب إلى أنّها تفيد الأولى ، على أنا نتبرّع بإيراد جملة تدلّ على ما ذهبنا إليه فنقول : قد ذهب أبو عبيدة معمر بن المثنى (١) ـ ومنزلته في اللغة منزلته ـ في كتابه في القرآن المعروف ب «المجاز» لما انتهى إلى قوله : (مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ) (٢) أولى بكم ، وأنشد بيت لبيد عاضدا لتأويله :

فغدت كلا الفرجين تحسب أنّه

مولى المخافة خلفها وأمامها (٣)

وليس أبو عبيدة ممن يغلط في اللغة ، ولو غلط فيها أو وهم لما جاز أن يمسك عن النكير عليه ، والردّ لتأويله غيره من أهل اللغة ممن أصاب ما غلط فيه على عادتهم المعروفة في تتبع بعضهم لبعض ، وردّ بعض على بعض ، فصار قول أبي عبيدة الذي حكيناه ـ مع أنه لم يظهر من أحد من أهل اللغة ردّ له ـ كأنّه قول للجميع ، ولا خلاف بين المفسّرين في أن قوله تعالى (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) (٤) إن المراد بالموالي من كان أملك بالميراث ، وأولى بحيازته ، وأحق به.

وقال الأخطل (٥) :

فأصبحت مولاها من الناس بعده

واحرى قريش أن تهاب وتحمدا

__________________

(١) أبو عبيدة معمر بن المثنّى التيمي بالولاء من العلماء باللغة والشعر والأدب ، وأيّام العرب وأخبارها قال فيه الجاحظ : «لم يكن في الأرض أعلم بجميع العلوم منه» وهو أوّل من صنّف في غريب الحديث توفّي سنة ٢٠٩.

(٢) سورة الحديد ، الآية : ١٥.

(٣) البيت من المعلّقة ، ويروى «فعدت» بالعين المهملة ، أي أنّها خائفة من كلا جانبيها ، من خلفها وأمامها ، والفرج : الواسع من الأرض ، والفرج أيضا : الثغر ، والثغر موضع المخافة ، ومولى المخالفة معناه وليّ المخالفة ، أي الموضع الذي فيه المخالفة ؛ (انظر شرح المعلّقات العشر للتبريزي ص ١٥٠).

(٤) سورة النساء ، الآية : ٣٣.

(٥) الأخطل : غياث برغوث التغلبي.

١٩٦

وقال أيضا مخاطبا بني أميّة :

أعطاكم الله جدّا تنصرون به

لا جدّ إلّا صغير بعد محتقر

لم تأشروا فيه إذ كنتم مواليه

ولو يكون لقوم غيركم أشروا (١)

وقال غيره :

كانوا موالي حقّ يطلبون به

فأدركوه وما ملّوا وما تعبوا

وقال العجاج :

الحمد لله الذي أعطى الخير

موالي الحق أن المولى شكر

وروي في الحديث : «أيّما امرأة تزوّجت بغير إذن مولاها فنكاحها باطل» (٢) كلّ ما استشهدنا به لم يرد بلفظ مولى فيه إلّا معنى أولى دون غيره ، وقد تقدّمت حكايتنا عن المبرد قوله : «إن أصل تأويل الولي الذي هو أولى أي أحقّ ومثله المولى» (٣) وقال في هذا الموضع بعد أن ذكر تأويل قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) (٤) «والولي والمولى معناهما سواء وهو الحقيق بخلقه المتولي لامورهم».

وقال الفرّاء في كتاب «معاني القرآن» : الولي والمولى في كلام العرب واحد ، وفي قراءة عبد الله بن مسعود : «إنّما موليكم الله ورسوله» مكان «وليّكم».

وقال أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري في كتابه في القرآن المعروف ب «المشكل» : «والمولى في اللغة ينقسم على ثمانية أقسام ، أولهن المولى المنعم المعتق ثم المنعم عليه المعتق والمولى الولي والمولى الأولى بالشيء» وذكر شاهدا عليه الآية التي قدّمنا ذكرها وبيت لبيد «والمولى الجار ، والمولى ابن العم ، والمولى الصهر ، والمولى الحليف» واستشهد على كلّ قسم من أقسام المولى بشيء من الشعر لم نذكره ؛ لأن غرضنا سواه.

__________________

(١) ديوان الاخطل : ١٦٣.

(٢) سنن الترمذي ١ / ٢٠٤ أبواب النكاح ، وفي نهاية ابن الأثير ج ٤ / ٢٢٩ مادة (ولا) عن الهروي ، وقال بعد نقل الحديث : «وليها» أي والي أمرها.

(٣) تقدّم في تفسير الآية ٥٥.

(٤) سورة محمد ، الآية : ١١.

١٩٧

وقال أبو عمرو غلام ثعلب في تفسير بيت الحارث بن حلزة : الذي هو :

زعموا أنّ كلّ من ضرّ

ب العير موال لنا ، وأنّي الولاء

أقسام المولى وذكر في جملة الأقسام ، أن المولى السيد وإن لم يكن مالكا ، والمولى الولي.

وقد ذكر جماعة ممن يرجع إلى مثله في اللغة : أنّ من جملة أقسام المولى السيد الذي ليس بمالك ولا معتق ، ولو ذهبنا إلى ذكر جميع ما يمكن أن يكون شاهدا فيما قصدناه لأكثرنا ، وفيما أوردناه كفاية ومقنع.

فإن قيل : أليس ابن الأنباري قد أورد أبيات الأخطل التي استشهدتم بها ، وشعر العجاج ، والحديث الذي رويتموه ، وتأوّل لفظة «مولى» في جميعه على «ولي» دون «أولى» فكيف ذكرتم أن المراد بها «الأولى»؟

قيل له : الأمر على ما حكيته عن ابن الأنباري غير معلوم في اللغة أن لفظة ولي تفيد معنى أولى ، وقد دلّلنا على ذلك فيما تقدّم من الكلام في تأويل قوله : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ) وجميع ما استشهدنا به من الشعر والخبر لا يجوز أن يكون المراد ب «مولى» فيه الّا «الأولى» ومن كان مختصّا بالتدبير ومتولّيا للقيام بأمر ما قيل إنه مولاه ، لأنّه متى لم يحمل على ما قلناه لم يفد ، فكيف يصحّ حمل قوله : بغير إذن مولاها إذا قيل : إنّ المراد به وليّها على غير من يملك تدبيرها وإليه العقد عليها؟

فإن قيل : قد دللتم على استعمال لفظة «مولى» في «أولى» فما الدليل على أن استعمالهم جرى على سبيل الحقيقة لا المجاز ، والمجاز قد يدخل في الاستعمال ، كما تدخل الحقيقة.

قيل له : إنّما يحكم في اللفظ بأنه مستعمل في اللغة على وجه الحقيقة بأن يظهر استعماله فيها من غير أن يثبت ما يقتضي كونه مجازا من توقيف من أهل اللغة أو ما يجري مجرى التوقيف ، فأصل الاستعمال يقتضي الحقيقة ، وإنّما يحكم في بعض الألفاظ المستعملة بالمجاز لأمر يوجب علينا الانتقال عن الأصل.

وأمّا الذي يدل على أن المراد بلفظة مولى في خبر الغدير الأولى ، فهو أن

١٩٨

من عادة أهل اللسان في خطابهم إذا أوردوا جملة مصرّحة وعطفوا عليها بكلام محتمل لما تقدّم التصريح به ولغيره ، لم يجز أن يريدوا بالمحتمل إلّا المعنى الأوّل ، يبيّن صحّة ما ذكرناه أن أحدهم إذا قال مقبلا على جماعة ومفهما لهم وله عدّة عبيد : ألستم عارفين بعبدي فلان؟ ثم قال عاطفا على كلامه : فاشهدوا أن عبدي حرّ لوجه الله تعالى ، لم يجز أن يريد بقوله : «عبدي» بعد أن قدم ما قدمه ، إلّا العبد الذي سمّاه في أول كلامه دون غيره من سائر عبيده ، ومتى أراد سواه كان عندهم ملغّزا خارجا عن طريقة البيان ، ويجري قوله : فاشهدوا أن عبدي حرّ ، عند جميع أهل اللسان مجرى قوله : فاشهدوا أن عبدي فلانا حر ، إذا كرّر مجرى تسميته وتعيينه ، وهذه حال كلّ لفظ محتمل عطف على لفظ مفسّر على الوجه الذي صوّرناه ، فلا حاجة بنا إلى تكثير الأمثلة منه.

فإن قال : وكيف يشبه المثال الذي أوردتموه خبر الغدير ، وإنّما تكررت فيه لفظة عبدي غير موصوفة على سبيل الاختصار بعد أن تقدّمت موصوفة ، وخبر الغدير لم يتكرّر فيه لفظة واحدة ، وإنما وردت لفظة مولى ، فادعيتم أنها تقوم مقام أولى المتقدّمة.

قيل له : إنّك لم تفهم موقع التشبيه بين المثال وخبر الغدير ، وكيفية الاستشهاد به ؛ لأن لفظة «عبدي» وإن كانت متكرّرة فيه ، فإنّها لما وردت أولا موصولة بفلان جرت مجرى المفسّر المصرح الذي هو ما تضمنته المقدّمة في خبر الغدير من لفظ أولى ، ثم لما وردت من بعد غير موصولة حصل فيها احتمال واشتباه لم يكن في الأول ، فصارت كأنّها لفظة أخرى تحتمل ما تقدّم وتحتمل غيره ، وجرت مجرى لفظة مولى من خبر الغدير في احتمالها لما تقدّم ولغيره ، على أنا لو جعلنا مكان قوله : «فاشهدوا أن عبدي حرّ» «أشهدوا أن غلامي أو مملوكي حر» لزالت الشبهة في مطابقة المثال للخبر ، وإن كان لا فرق في الحقيقة بين لفظة «عبدي» إذا تكرّرت ، وبين ما يقوم مقامها من الألفاظ في المعنى الذي قصدناه.

فإن قال : ما تنكرون من أن يكون إنّما قبح أن يريد القائل الذي حكيتم قوله

١٩٩

بلفظة «عبدي» الثانية والتي تقوم مقامها من عدا المذكور الأوّل الذي قررهم بمعرفته ، من حيث تكون المقدّمة ـ إذا أراد ذلك ـ لا معنى لها ، ولا فائدة فيها ؛ ولأنّه أيضا ، لا تعلق لها بما عطف عليها بالفاء التي تقتضي التعلّق بين الكلامين ، وليس هذا في خبر الغدير ؛ لأنّه إذا لم يرد بلفظة «مولى» «أولى» وأراد أحد ما يحتمله من الأقسام لم تخرج المقدّمة من أن تكون مفيدة ، ومتعلّقة بالكلام الثاني ؛ لأنها تفيد التذكير بوجوب الطاعة ، وأخذ الإقرار بها ليتأكد لزوم ما يوجبه في الكلام الثاني لهم ، ويصير معنى الكلام : «إذا كنت أولى بكم وكانت طاعتي واجبة عليكم فافعلوا كذا وكذا ، فإنه من جملة ما آمركم بطاعتي فيه» وهذه عادة الحكماء فيما يلزمونه من يجب عليه طاعتهم فافترق الأمران ، وبطل أن يجعل حكمهما واحدا.

قيل له : لو كان الأمر على ما ذكرت لوجب أن يكون متى حصل في المثال الذي أوردناه فائدة لمقدمته وإن قلّت ، وتعلق بين المعطوف والمعطوف عليه ، أن يحسن ما ذكرناه وحكمناه بقبحه ووافقنا عليه ، ونحن نعلم أن القائل إذا أقبل على جماعة فقال : «ألستم تعرفون صديقي زيد الذي كنت ابتعت منه عبدي فلانا الذي من صفته كذا وأشهدناكم على أنفسنا بالمبايعة؟» ثم قال عقيب قوله : «فاشهدوا أنني قد وهبت له عبدي أو رددت عليه عبدي» لم يجز أن يريد بالكلام الثاني إلّا العبد الذي سمّاه وعيّنه في صدر الكلام ، وإن كان متى لم يرد ذلك يصحّ أن يحصل فيما قدمه فائدة ، ولبعض كلامه تعلّق ببعض ؛ لأنّه لا يمتنع أن يريد بما قدمه من ذكر العبد تعريف الصديق ، ويكون وجه التعلّق بين الكلامين أنكم إذا كنتم قد شهدتم بكذا وعرفتموه ، فاشهدوا أيضا بكذا ، وهو لو صرّح بما قدمناه حتى يقول بعد المقدمة : «فاشهدوا أنني قد وهبت له أو رددت إليه عبدي فلانا الذي كنت ملكته منه» ، ويذكر من عبيده غير من تقدّم ذكره لحسن ، وكان وجه حسنه ما ذكرناه ، فثبت أن الوجه في قبح حمل الكلام الثاني على معنى غير الأول (١) مع احتماله له خلاف ما ادّعاه السائل ، وأنه الذي ذهبنا إليه.

__________________

(١) في نسخة على غير.

٢٠٠