تفسير الشريف المرتضى - ج ٢

تفسير الشريف المرتضى - ج ٢

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٠

ترتع ما رتعت حتى إذا ذكرت

فإنّما هي إقبال وإدبار

أرادت إنّما هي ذات إقبال وإدبار.

وقال قوم : إنّ المعنى أصل ابنك هذا الذي ولد على فراشك وليس بابنك على الحقيقة [عمل غير صالح ، يعني الخيانة من امرأته ، وهذا جواب من ذهب إلى أنّه لم يكن ابنه على الحقيقة] والذي اخترناه خلاف ذلك.

وقال آخرون إنّ إلهاء في قوله : (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) راجعة إلى السؤال ؛ والمعنى : إن سؤالك إياي ما ليس لك به علم عمل غير صالح لأنّه قد وقع من نوح دليل السؤال والرغبة في قوله : (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُ) ومعنى ذلك نجّه كما نجّيتهم ، ومن يجيب بهذا الجواب يقول : إنّ ذلك صغيرة من النبي ؛ لأنّ الصغائر تجوز عليهم ، ومن يمنع أن يقع من الأنبياء شيء من القبائح يدفع هذا الجواب ؛ ولا يجعل الهاء راجعة إلى السؤال بل إلى الابن ، ويكون تقدير الكلام ما تقدّم.

فإذا قيل له : فلم قال : (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)؟ فكيف قال نوح عليه‌السلام من بعد : (قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ)؟

قال : لا يمتنع أن يكون نهي عن سؤال ما ليس له به علم ؛ وإن لم يقع منه وأن يكون تعوّد من ذلك وإن لم يوافقه ؛ ألا ترى أنّ الله تعالى قد نهى نبيه عن الشّرك والكفر ؛ وإن لم يكن ذلك وقع منه ؛ فقال : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) (١) وكذلك لا يمتنع أن يكون نهاه في هذا الموضع عمّا لم يقع منه ، ويكون عليه‌السلام إنّما سأل نجاة ابنه باشتراط المصلحة لا على سبيل القطع ؛ وهكذا يجب في مثل هذا الدعاء.

فأمّا القراءة بالنصب فقد ضعّفها قوم وقالوا : كان يجب أن يقال : إنّه عمل عملا غير صالح ؛ لأنّ العرب لا تكاد تقول هو يعمل غير حسن ، حتى يقولوا :

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية : ٦٥.

٤٤١

عملا غير حسن ، وليس وجهها بضعيف في العربية ؛ لأنّ من مذهبهم الظاهر إقامة الصفة مقام الموصوف عند انكشاف المعنى وزوال اللبس ؛ فيقول القائل : قد فعلت صوابا ، وقلت حسنا ، بمعنى فعلت فعلا صوابا وقلت قولا حسنا ؛ وقال عمر بن أبي ربيعة المخزوميّ :

أيّها القائل غير الصواب

أخّر النّصح وأقلل عتابي

وقال أيضا :

وكم من قتيل ما يباء به دم

ومن غلق رهن إذا لفّه مني (١)

ومن مالئ عينيه من شيء غيره

إذا راح نحو الجمرة البيض كالدّمى

أراد : وكم إنسان قتيل! وأنشد أبو عبيدة لرجل من بجيلة :

كم من ضعيف العقل منتكث القوى

ما إن له نقض ولا إبرام

مالت له الدّنيا عليه بأسرها

فعليه من رزق الإله ركام

ومشيّع جلد أمين حازم

مرس له فيما يروم مرام

أعمى عليه سبيله فكأنّه

فيما يحاوله عليه حرام

أراد : كم من إنسان ضعيف القوى (٢).

ـ (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) [هود : ٥٨].

إن سأل سائل فقال : إنّ الماء في عهد نوح لمّايمّ جميع الارض لم ينج من الغرق إلّا أصحاب السفينة ، فالريح المسخرة بم نجّى منها هود عليه‌السلام ومن اتّبعه من المؤمنين ، مع علمنا أنّ كلّ ريح تهبّ من شمال أو جنوب أوصباء أو دبور ؛ فإنّها تعم الارض وأكثرنا (٣).

__________________

(١) لا يباء به لا يباء به ، أي ليس من يكافئه فيقتل به. وغلق الرهن إذا صار لا سبيل إلى سكاكه ، وفي نسخة : «ومن غلق رهنا إذا ضمه».

(٢) الأمالي ، ١ : ٤٧٤. وراجع أيضا تنزيه الأنبياء : ٣٥ وبينهما اختلاف في الترتيب.

(٣) كذا في المطبوعة.

٤٤٢

وهذا السؤال وإن لم يكن داخلا في علم الكلام ، فإنّ كثرة العلم وجودة الطبع يوسّع للمسؤول إذا كانت هذه حالة المقال ويضرب له المثال.

الجواب :

عن الريح المهلكة لعاد المدّمرة عليهم ما الوجه في كيفية نجاة هود عليه‌السلام منها ، ومن نجاة من نجى بنجاته من أهله وأصحابه ، مع عموم الريح الأماكن كلّها.

فالجواب عندي : أنّه غير ممتنع أن يكون هود عليه‌السلام ومن كان في صحبته بحيث لم تهبّ فيه هذه الريح المهلكة ، والله تعالى قادر على أن يخصّ بالريح أرضا دون أرض ، ويكف عن هود عليه‌السلام ومن معه عند هبوبها وتأثير اعتمادها ، فلا يلحقهم من الضرر بها وان هبّت بينهم كما لحق من هلك ، كما أنّه تعالى كفّ إحراق النار عن إبراهيم عليه‌السلام وبردها في جسمه وإن كان حاصلا فيها ، وكلّ ذلك جائز واضح (١).

ـ (وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) [هود : ٦٩].

[فان قيل :] وكيف يحضر إبراهيم عليه‌السلام للملائكة الطعام وهو يعلم أنّها لا تطعم؟ ومن أيّ شيء كانت مخافته منهم لمّا امتنعوا من تناول الطعام؟ وكيف يجوز أن يجادل ربّه فيما قضاه وأمر به؟.

الجواب : قلنا : أمّا وجه تقديم الطعام فلأنّه عليه‌السلام لم يعلم في الحال أنّهم ملائكة ؛ لأنّهم كانوا في صورة البشر فظنّهم أضيافا ، وكان من عادته عليه‌السلام إقراء الضيف ، فدعاهم إلى الطعام ليستأنسوا به وينبسطوا ، فلمّا امتنعوا أنكر ذلك منهم ، وظنّ أنّ الامتناع لسوء يريدونه ، حتّى خبّروه بأنّهم رسل الله تعالى أنفذهم لإهلاك قوم لوط عليه‌السلام.

وأمّا الحنيذ : فهو المشويّ بالأحجار. وقيل : إنّ الحنيذ الذي يقطر ماؤه ودسمه. وقد قيل : إنّ الحنيذ هو النّضيج.

__________________

(١) الرسائل ، ٣ : ٩٤.

٤٤٣

وأنشد أبو العبّاس :

إذا ما اختبطنا اللحم للطّالب القرى

حنذناه حتّى يمكن اللحم آكله

فإن قيل : فكيف صدّقهم في دعواهم انّهم ملائكة؟.

قلنا : لا بدّ من أن يقترن بهذه الدعوى علم يقتضي التصديق ، ويقال : إنّهم دعوا الله بإحياء العجل الّذي كان ذبحه وشواه لهم ، فصار حيّا يرعى.

وأما قوله : (يُجادِلُنا) ، فقيل : معناه يجادل رسلنا ، وعلّق المجادلة به تعالى من حيث كانت لرسله ، وإنما جادلهم مستفهما منهم ؛ هل العذاب نازل على سبيل الاستيصال أو على سبيل التخويف؟ وهل هو عامّ للقوم أو خاصّ؟ وعن طريق نجاة لوط عليه‌السلام وأهله المؤمنين بما لحق القوم؟ وسمّى ذلك جدالا لما كانت فيه من المراجعة والاستثبات على سبيل المجاز.

وقيل : إنّ معنى قوله : (يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) : يسائلنا أن نؤخّر عذابهم رجاء أن يؤمنوا أو أن يستأنفوا الصلاح. فخبّره الله تعالى بأنّ المصلحة في إهلاكهم ، وأنّ كلمة العذاب قد حقّت عليهم ، وسمّى المسألة جدالا على سبيل المجاز.

فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) (١) فأتى بفعل مستقبل بعد «لمّا» ومن شأن ما يأتي بعدها ، أن يكون ماضيا.

قلنا : عن ذلك جوابان :

أحدهما : إنّ في الكلام محذوفا ، والمعنى : أقبل يجادلنا أو جعل يجادلنا ، وانّما حذفه لدلالة الكلام عليه واقتضائه له.

والجواب الآخر : أنّ لفظة (لمّا) يطلب في جوابها الماضي ، كطلب لفظة (إن) في جوابها المستقبل. فلمّا استحسنوا أن يأتوا في جواب (إن) بالماضي ، ومعناه الاستقبال ، لدلالة (أن) عليه ، استحسنوا أن يأتوا بعد (لمّا) الاستقبال تعويلا على

__________________

(١) سورة هود ، الآية : ٧٤.

٤٤٤

أنّ اللفظة تدلّ على مضيّه. فكما قالوا : إن زرتني زرتك ، وهم يريدون : إن تزرني أزرك ، قالوا : ولمّا تزرني أزرك ، وهم يريدون : لمّا زرتني زرتك.

وأنشدوا في دخول الماضي في جواب (إن) قول الشاعر (١).

إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا

منّي وما سمعوا من صالح دفنوا

وفي قول الآخر في دخول المستقبل جوابا بالماضي :

وميعاد قوم إن أرادوا لقاءنا

بجمع منى إن كان للنّاس مجمع

يروا خارجيا لم ير الناس مثله

تشير لهم عين اليه وإصبع

ويمكن في هذا جواب آخر : هو أن يجعل «يجادلنا» حالا لا جوابا للفظة «لمّا». ويكون المعنى أنّ البشرى جاءته في حال الجدال للرسل.

فإن قيل : فأين جواب «لمّا» على هذا الوجه؟.

قلنا : يمكن أن نقدّره في أحد موضعين : إمّا في قوله تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) ويكون التقدير : قلنا إنّ إبراهيم كذلك.

والموضع الآخر أن يكون أراد تعالى (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) ناديناه : (يا إِبْراهِيمُ) (٢). فجواب «لمّا» هو «ناديناه» ، وإن كان محذوفا ودلّ عليه لفظة النداء. وكلّ هذا جائز (٣).

ـ (قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [هود : ٧٣].

[استشهد السيّد بهذه الآية على أن لفظة «أمر» تستعمل بمعنى الفعل أيضا ، قال :] وأراد الفعل لا محالة (٤).

ـ (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) [هود : ٧٤].

أنظر هود : ٦٩ من التنزيه : ٥٩.

__________________

(١) الشاعر قعنب بن أم صاحب ، راجع لسان العرب ١٣ : ٩.

(٢) سورة هود ، الآية : ٧٦.

(٣) تنزيه الأنبياء والأئمّة : ٥٩.

(٤) الذريعة ، ١ : ٢٨.

٤٤٥

ـ (قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ...) [هود : ٧٨].

أنظر البقرة : ٢٢٣ من الانتصار : ١٢٥.

ـ (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣)) [هود : ٨٢ ـ ٨٣].

أنظر النحل : ١٠ من الأمالي ، ١ : ٥٧٦.

ـ (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) [هود : ٩٠].

[ان سأل سائل فقال :] والشيء لا يعطف على نفسه لا سيّما بالحرف الّذي يقتضي التراخي والمهلة وهو «ثمّ» وإذا كان الاستغفار هو التوبة فما وجه هذا الكلام؟

الجواب : قلنا في هذه الآية وجوه :

أوّلها : أن يكون المعنى اجعلوا المغفرة غرضكم وقصدكم الّذي إليه تجئرون ونحوه يتوجّهون ، ثمّ توصّلوا إليها بالتوبة إليه ، فالمغفرة أوّل في الطلب وآخر في السبب.

وثانيها : أنّه لا يمتنع أن يريد بقوله : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) أي سلوه التوفيق للمغفرة والمعونة عليها ثمّ توبوا إليه ؛ لأنّ المسألة للتوفيق ينبغي أن يكون قبل التوبة.

وثالثها : أنّه أراد ب «ثمّ» الواو ، فالمعنى استغفروا ربّكم وتوبوا إليه ، وهذان الحرفان قد يتداخلان فيقوم أحدهما مقام الآخر.

ورابعها : أن يريد استغفروه قولا ونطقا ، ثمّ توبوا إليه لتكونوا بالتوبة فاعلين لما يسقط العقاب عنده.

وخامسها : انّه خاطب المشركين بالله تعالى فقال لهم : استغفروه من الشرك بمفارقته ثمّ توبوا إليه ، أي ارجعوا إلى الله تعالى بالطاعات وأفعال الخير ؛ لأنّ الانتفاع لا يكون إلّا بتقديم الاستغفار من الشرك ومفارقته. والتائب والآئب والنائب والمنيب بمعنى واحد.

٤٤٦

وسادسها : ما أومى إليه أبو علي الجبّائيّ في تفسير هذه الآية ؛ لأنّه قال : «أراد بقوله : (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) أي أقيموا على التوبة إليه ؛ لأنّ التائب إلى الله تعالى من ذنوبه يجب أن يكون تائبا إلى الله في كل وقت يذكر فيه ذنوبه بعد توبته الأولى ؛ لأنّه يجب أن يكون مقيما على الندم على ذلك ، وعلى العزم على أن لا يعود إلى مثله ؛ لأنّه لو نقض هذا العزم لكان عازما على العود ، وذلك لا يجوز ؛ وكذلك لو نقض الندم لكان راضيا بالمعصية مسرورا بها وهذا لا يجوز» وقد حكينا ألفاظه بأعيانها. حمله على هذا الوجه أنّه أراد التكرار والتأكيد والأمر بالتوبة بعد التوبة ، كما يقول أحدنا لغيره : «اضرب زيدا ثم اضربه» «وافعل هذا ثم افعل».

وهذا الّذي حكيناه عن «أبي عليّ» اولى ممّا ذكره في صدر هذه السورة ؛ لأنّه قال هناك : (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) (١) إنّ معناه استغفروا ربكم من ذنوبكم السالفة ثمّ توبوا إليه بعد ذلك من كل ذنب يكون منكم أو معصية. وهذا ليس بشيء ؛ لأنّه إذا حمل الاستغفار المذكور في الآية على التوبة فلا معنى لتخصيصه بما سلف دون ما يأتي ؛ لأنّ التوبة من ذلك أجمع واجبة ، ولا معنى أيضا لتخصيص قوله : (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) بالمعاصي المستقبلة دون الماضية ؛ لأنّ الماضي والمستقبل ممّا يجب التوبة منه ، فالّذي حكيناه أوّلا عنه أشفى وأولى (٢).

ـ (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [هود : ١٠٣ ـ ١٠٥].

وقال في موضع آخر : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦)) (٣). وفي موضع آخر : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧)) (٤).

وظاهر هذه الآيات ظاهر الاختلاف ، لأنّ بعضها ينبئ عن أنّ النطق لا يقع

__________________

(١) سورة هود ، الآية : ٣.

(٢) تنزيه الأنبياء والأئمّة : ٩٦.

(٣) سورة المرسلات ، الآيتان : ٣٥ ـ ٣٦.

(٤) سورة الصافات ، الآية : ٢٧ ، وسورة الطور ، الآية : ٢٥.

٤٤٧

منهم في ذلك اليوم ، ولا يؤذن لهم فيه ، وبعضها ينبئ عن خلافه. وقد قال قوم من المفسّرين في تأويل هذه الآيات : إنّ يوم القيامة يوم طويل ممتدّ ، فقد يجوز أن يمنع النّطق في بعضه ، ويؤذن لهم في بعض آخر.

وهذا الجواب يضعّف ، لأنّ الإشارة إلى يوم القيامة بطوله ، فكيف تجوز أن تجعل الحالات فيه مختلفة ؛ وعلى هذا التأويل يجب أن يكون قوله تعالى : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) في بعضه ، والظاهر بخلاف ذلك.

والجواب السديد عن هذا أن يقال : إنّما أراد الله تعالى نفي النّطق المسموع المقبول الذي ينتفعون به ، ويكون لهم في مثله عذر أو حجّة ، ولم ينف النطق الذي ليست هذه حاله ، ويجري هذا مجرى قولهم : خرس فلان عن حجّته ، وحضرنا فلانا يناظر فلانا فلم يقل شيئا ، وإن كان الذي وصف بالخرس عن الحجّة ، والذي نفي عنه القول قد تكلّم بكلام كثير غزير ، إلّا أنّه من حيث لم يكن فيه حجّة ، ولا به منفعة جاز إطلاق القول الذي حكيناه عليه ؛ ومثل هذا قول الشاعر (١) :

أعمى إذا ما جارتي خرجت

حتّى يواري جارتي الخدر

ويصمّ عمّا كان بينهما

سمعي وما بي غيره وقر

وقال الآخر :

لقد طال كتمانيك حتّى كأنّني

بردّ جواب السّائلي عنك أعجم

وعلى هذا التأويل قد زال الاختلاف ، لأنّ التساؤل والتلاؤم لا حجّة فيه. وأمّا قوله تعالى : (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) ، فقد قيل : إنّهم غير مأمورين بالاعتذار ، فكيف يعتذرون؟

ويجاب بحمل الإذن على الأمر ؛ وإنّما لم يؤمروا به من حيث كانت تلك

__________________

(١) هو مسكين الدارمي ؛ وهو ربيعة بن عامر بن أنيف ؛ والبيان في (معجم الأدباء : ١١ / ١٣٢).

وفي حاشية بعض النسخ : «قبلهما» :

ما ضرّ جارا لي أجاوره

ألّا يكون لبابه ستر

٤٤٨

الحال لا تكليف فيها ، والعباد ملجئون عند مشاهدة أحوالهم إلى الاعتراف والإقرار.

وأحسن من هذا التأويل أن يحمل (يُؤْذَنُ) ، على معنى أنّه لا يستمع لهم ، ولا يقبل عذرهم ، والعلة في امتناع قبول عذرهم هي الّتي ذكرناها (١).

ـ (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨)) [هود : ١٠٦ ـ ١٠٨].

[إن سأل سائل] فقال : ما معنى الاستثناء هاهنا والمراد الدوام والتأبيد؟ ثمّ ما معنى التمثيل بمدة السماوات والأرض التي تفنى وتنقطع؟.

الجواب : قلنا : قد ذكر في هذه الآية وجوه :

أوّلها : أن تكون «إلّا» ـ وإن كان ظاهرها الاستثناء ـ فالمراد بها الزيادة ؛ فكأنّه تعالى قال : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) من الزيادة لهم على هذا المقدار ؛ كما يقول الرجل لغيره : لي عليك ألف دينار إلّا الألفين الذين أقرضتكهما وقت كذا وكذا ، فالألفان زيادة على الألف بغير شكّ ؛ لأنّ الكثير لا يستثنى من القليل ؛ وهذا الجواب يختاره الفرّاء وغيره من المفسّرين.

والوجه الثاني : أن يكون المعنى : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) من كونهم قبل دخول الجنّة والنار في الدنيا ؛ وفي البرزخ الذي هو ما بين الحياة والموت وأحوال المحاسبة والعرض وغير ذلك ؛ لأنّه تعالى لو قال : خالدين فيها أبدا ، ولم يستثن لتوهّم متوهّم أنّهم يكونون في الجنّة والنار من لدن نزول الآية ، أو من بعد انقطاع التكليف ، فصار للاستثناء وجه ، وفائدة معقولة.

والوجه الثالث : أن تكون «إلّا» بمعنى الواو ؛ والتأويل : (خالِدِينَ فِيها ما

__________________

(١) الأما لي ، ١ : ٦٨.

٤٤٩

دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) ، وما شاء ربك من الزيادة : واستشهد على ذلك بقول الشاعر :

وكلّ أخ مفارقه أخوه

لعمر أبيك إلّا الفرقدان (١)

معناه : والفرقدان ، ويقول الآخر :

وأري لها دارا بأغدرة السّي

دان لم يدرس لها رسم (٢)

إلّا رمادا هامدا دفعت

عنه الرّياح خوالد سحم

والمراد ب «إلّا» هاهنا الواو ؛ وإلّا كان الكلام متناقضا.

والوجه الرابع : أن يكون الاستثناء الأوّل متّصلا بقوله : (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) ؛ وتقدير الكلام : لهم في النار زفير وشهيق إلّا ما شاء ربك من أجناس العذاب الخارجة عن هذين الضربيّن ، ولا يتعلّق الاستثناء بالخلود.

فإن قيل : فهبوا أنّ هذا أمكن في الاستثناء الأوّل ، كيف يمكن في الثاني؟.

قلنا : يحمل الثاني على استثناء المكث في المحاسبة والموقف ، أو غير ذلك ممّا تقدّم ذكره.

والوجه الخامس : أن يكون الاستثناء غير مؤثّر في النقصان من الخلود ؛ وإنّما الغرض فيه : أنّه لو شاء أن يخرجهم وأن لا يخلدهم لفعل ، وأنّ التخليد

__________________

(١) البيت من شواهد سيبويه (الكتاب ١ / ٣٧١) ، ونسبه إلى عمرو بن معدي كرب ، وأورده شاهدا على نعت «كلّ» ، بقوله : «إلا الفرقدان» ؛ على تأويل «غير». وفي حاشية بعض النسخ : قوله «إلا الفرقدان» قيل «إلا» بمعنى غير ، والتقدير : غير الفرقدين ، ومثله قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) أي غير الله.

(٢) أغدرة السيدان : موضع وراء كاظمة ؛ بين البصرة والبحرين ؛ كذا ذكره ياقوت واستشهد بالبيت والبيتان من قصيدة مفضلية ؛ للمخبل السعدي ؛ وقبلهما :

ذكر الرّباب وذكرها سقم

فصبا ، وليس لمن صبا حلم

وإذا ألم خيالها طرفت

عيني ، فماء شؤونها سجم

كاللؤلؤ المسجور أغفل في

سلك النّظام فخانه النّظم

وانظر المفصليات ١١٣ ـ ١١٨ (طبعة المعارف).

٤٥٠

إنّما يكون بمشيئته وإرادته ، كما يقول القائل لغيره : والله لأضربنّك إلّا أن أرى غير ذلك ، وهو لا ينوي إلّا ضربه ، ومعنى الاستثناء هاهنا : أنّي لو شئت ألّا أضربك لفعلت وتمكّنت ؛ غير أنّي مجمع على ضربك.

والوجه السادس : أن يكون تعليق ذلك بالمشيئة على سبيل التأكيد للخلود ، والتبعيد للخروج ؛ لأنّ الله تعالى لا يشاء إلّا تخليدهم على ما حكم به ، ودلّ عليه ؛ ويجري ذلك مجرى قول العرب : والله لأهجرنّك إلّا أن يشيب الغراب ، ويبيضّ القار ؛ ومعنى ذلك أنّي أهجرك أبدا ؛ من حيث علّق بشرط معلوم أنّه لا يحصل ؛ وكذلك معنى الآيتين ؛ والمراد بهما أنّهم خالدون أبدا ، لأنّ الله تعالى لا يشاء أن يقطع خلودهم.

والوجه السابع : أن يكون المراد بالذين شقوا من أدخل النار من أهل الإيمان ، الذين ضمّوا إلى إيمانهم وطاعتهم المعاصي ؛ فقال تعالى : إنّهم معاقبون في النار إلّا ما شاء ربك ؛ من إخراجهم إلى الجنّة ، وإيصال ثواب طاعاتهم إليهم.

ويجوز أيضا أن يريد بأهل الشقاء هاهنا جميع الداخلين إلى جهنّم ؛ ثمّ استثنى تعالى بقوله : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) أهل الطاعات منهم ، ومن يستحقّ ثوابا لا بدّ أنّه يوصل إليه فقال : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) من إخراج بعضهم ؛ وهم أهل الثواب.

وأمّا الذين سعدوا فإنّما استثنى تعالى من خلودهم أيضا لما ذكرناه ؛ لأنّ من نقل من النار إلى الجنة وخلّد فيها لا بدّ من الإخبار عنه بتأبيد خلوده من استثناء ما تقدّم ؛ فكأنّه تعالى قال : إنّهم خالدون في الجنّة ما دامت السماوات والأرض ؛ إلّا ما شاء ربك من الوقت الذي أدخلهم فيه النار ، قبل أن ينقلهم إلى الجنّة.

والذين شقوا على هذا الجواب هم الذين سعدوا ، وإنّما أجرى عليهم كلّ لفظ في الحال التي تليق بهم ؛ إذا أدخلوا النار وعوقبوا فيها من أهل الشقاء ، وإذا نقلوا إلى الجنّة من أهل الجنة والسعادة.

٤٥١

وقد ذهب إلى هذا الوجه جماعة من المفسّرين كابن عباس وقتادة والضحّاك وغيرهم. وروى بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحّاك ، عن ابن عباس قال : الذين شقوا ليس فيهم كافر ؛ وإنّما هم قوم من أهل التوحيد ، يدخلون النار بذنوبهم ، ثمّ يتفضّل الله تعالى عليهم فيخرجهم من النار إلى الجنّة ، فيكونون أشقياء في حال ، سعداء في حال أخرى.

وأمّا تعليق الخلود بدوام السماوات والأرض فقد قيل فيه : إنّ ذلك لم يجعل شرطا في الدوام ؛ وإنّما علّق به على سبيل التبعيد وتأكيد الدوام ؛ لأنّ للعرب في مثل هذا عادة معروفة خاطبهم الله تعالى عليها ؛ لأنّهم يقولون : لا أفعل كذا ما لاح كوكب ، وما أضاء الفجر ، وما اختلف الليل والنهار ، وما بلّ بحر صوفة ، وما تغنّت حمامة ، ونحو ذلك ، ومرادهم التأبيد والدوام.

ويجري كلّ ما ذكرناه مجرى قولهم : لا أفعل كذا أبدا ؛ لأنّهم يعتقدون في جميع ما ذكرناه أنّه لا يزول ولا يتغيّر ؛ وعباراتهم إنّما يخرجونها بحسب اعتقاداتهم ، لا بحسب ما عليه الشيء في نفسه ؛ ألا ترى أنّ بعضهم لمّا اعتقد في الأصنام أنّ العبادة تحقّ لها سمّاها آلهة بحسب اعتقادهم ، وإن لم تكن في الحقيقة كذلك!.

وممّا يشهد لمذهبهم الذي حكيناه قول أبي الجويرية العبديّ :

ذهب الجود والجنيد جميعا

فعلى الجود والجنيد السلام (١)

أصبحا ثاويين في قعر مرت (٢)

ما تغنّت على الغصون الحمام

وقال الأعشى :

ألست منتهيا عن نحت أثلتنا

ولست ضائرها ما أطّت الإبل! (٣)

__________________

(١) معجم الشعراء للمرزباني ٢٥٨ ، والمختلف والمؤتلف للآمدي ٧٩ ؛ وذكر بعدها بيتا ثالثا :

لم تزل غاية الكرام فلمّا

متّ مات الندى ومات الكرام

وهو الجنيد بن عبد الرحمن المري ، كان والي خراسان.

(٢) المرت : القفر من الأرض ؛ وفي المؤتلف : «بطن مرو». وفي بعض النسخ : «قعر مرو».

(٣) ديوانه : ٤٦. أثلة كل شيء : أصله ؛ ويريد بها هاهنا الحسب ؛ يقال : فلان ينحت أثلتنا إذا قال ـ

٤٥٢

وقال الآخر :

لا أفتأ الدّهر أبكيهم بأربعة

ما اجترّت النّيب أو حنّت إلى بلد (١)

وقال زهير منبئا عن اعتقاده دوام الجبال ، وأنّها لا تفنى ولا تتغيّر :

ألا لا أرى على الحوادث باقيا

ولا خالدا إلّا الجبال الرّواسيا (٢)

فهذا وجه.

وقيل أيضا في ذلك : أنّه أراد به الشرط ، وعنى بالآية دوام السماوات والأرض المبدّلتين ؛ لأنّه تعالى قال : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) (٣) ، فأعلمنا تعالى أنّهما تبدّلان ؛ وقد يجوز أن يديمهما بعد التغيير أبدا بلا انقطاع ؛ وإنّما المنقطع هو دوام السماوات والأرض قبل التبديل والفناء.

ويمكن أيضا أن يكون المراد : أنّهم خالدون بمقدار مدّة السماوات والأرض التي يعلم الله تعالى انقطاعها ثمّ يزيدها الله تعالى على ذلك ويخلّدهم ، ويؤيّد مقامهم وهذا الوجه يليق بالأجوبة التي تتضمّن أنّ الاستثناء أريد به الزيادة على المقدار المتقدّم لا النقصان (٤).

ـ (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) [هود : ١١٣].

وممّا ظن انفراد الإمامية به منعهم من الايتمام في الصلاة بالفاسق ، ومالك يوافقهم في هذه المسألة (٥) ، وباقي الفقهاء يجيزون الايتمام في الصلاة بالفاسق (٦) ، دليلنا الاجماع المتكرر ، وطريقة اليقين ببراءة الذمّة ، وأيضا قوله

__________________

في حقه قبيحا ؛ كذا ذكره صاحب اللسان واستشهد بالبيت. والأطيط : صوت الإبل من ثقل أحمالها.

(١) الجرة : ما تخرجه الإبل من أجوافها ، وتعيد مضغه. وفي حاشية بعض النسخ : يعني بأربعة أحجبة العين ؛ كما قال :

يا عين بكّي عند كلّ صباح

جودي بأربعة على الجرّاح

(٢) ديوانه : ٢٨٨.

(٣) إبراهيم : ٤٨.

(٤) الأمالي ، ٢ : ٧٧.

(٥) المغني (لابن قدامة) ٢ : ٢٢.

(٦) نفس المصدر.

٤٥٣

تعالى : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) وتقديم الإمام في الصلاة ركون إليه ؛ لأنّ إمامة الصلاة معتبر فيها الفضل والتقديم فيما يعود إلى الدين ، ولهذا رتّب فيها من هو أقرأ وأفقه وأعلم ، والفاسق ناقص فلا يجوز تقديمه على من خلا من نقصه (١).

ـ (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) [هود : ١١٤].

[فيها امران :]

[الأوّل : قال الناصر رحمه‌الله :] «آخر وقت الظهر حين تصير القامة مثلها في احدى الروايتين ، وحين تصير مثليها في الرواية الأخرى».

والذي يذهب إليه أنّه إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر بلا خلاف ، ثمّ اختصّ أصحابنا بأنّهم يقولون : إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر والعصر معا ، إلّا أن الظهر قبل العصر (٢).

وتحقيق هذا الموضع : أنّه إذا زالت الشمس دخل وقت الظّهر بمقدار ما يؤدّى أربع ركعات ، فإذا خرج هذا المقدار من الوقت اشترك الوقتان.

ومعنى ذلك أنّه يصحّ أن يؤدّى في هذا الوقت المشترك الظهر والعصر بطوله ، على أنّ الظهر متقدمة للعصر ، ثمّ لا يزال في وقت منهما إلى أن يبقى إلى غروب الشمس مقدار أداء أربع ركعات ، فيخرج وقت الظهر ، ويخلص هذا المقدار للعصر ، كما خلص الوقت الأوّل للظهر ...

والذي يدل على صحّة مذهبنا بعد الإجماع المتقدّم ، قوله تعالى : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ) يعني الفجر والعصر ، وطرف الشيء ما يقرب من نهايته ، ولا يليق ذلك إلّا بقول من قال : وقت العصر ممتد إلى قرب غروب الشمس ؛ لأنّ مصير ظلّ كلّ شيء مثله أو مثليه يقرب من الوسط ، ولا يقرب إلى الغاية والانتهاء.

__________________

(١) الانتصار : ٤٩ وراجع أيضا الناصريات : ٢٤٤.

(٢) مختلف الشيعة ، ٢ : ٦ ، ٧.

٤٥٤

ولا معنى لقول من حمل الآية على الفجر والمغرب ؛ لأنّ المغرب ليس هو في طرف النهار ، وإنّما هو طرف الليل ، بدلالة أنّ الصائم يحلّ له الافطار في ذلك الوقت ، والافطار لا يحلّ في بقيّة النّهار.

وأيضا ؛ فإنّ قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) (١) ، فظاهر هذا الكلام يقتضي أنّ وقت الظهر ابتداؤه من دلوك الشمس وهو زوالها ، وأنّه يمتد إلى غسق الليل ، وخرج منه بالدليل والاجماع وقت غروب الشمس ، فبقي ما قبله (٢).

[الثاني :] فان استدلّوا على التحابط بقوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) الآية وبقوله تعالى : (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) (٣) ، وقوله تعالى : (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (٤) ، وقوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) (٥).

والجواب عن ذلك : أنه لو كان لهذه الآيات ظواهر تقتضي بطلان ما ذهبنا إليه من نفي التحابط لوجب أن تحمل على خلاف ظواهرها ، للأدلّة العقلية التي لا يحتمل ولا يدخل المجاز (٦). فكيف ولا ظاهر لها إلّا وهو إلى أن يشهد بصحّة قولنا أقرب ؛ لأن الاحباط المذكور في جميع الآيات معلّق بالأعمال دون الجزاء عليها ، وخصومنا يذهبون إلى التحابط بين الجزاء على الأعمال ، فلا شاهد لهم في شيء منها.

وإذا أمكننا تأويل هذه الآيات من غير عدول عن ظواهرها كنا أولى منهم بها.

ومعنى قوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) أن من استكثر من الحسنات وأدمن على فعلها ، كان ذلك لطفا له في الامتناع من السّيئات.

__________________

(١) سورة الإسراء ، الآية : ٧٨.

(٢) الناصريات : ١٨٩.

(٣) سورة البقرة ، الآية : ٢٦٤.

(٤) سورة الحجرات ، الآية : ٢.

(٥) سورة الزمر ، الآية : ٦٥.

(٦) كذا في المطبوعة.

٤٥٥

وهذا تأويل يوافق الظاهر ، ولا يحتاج معه إلى أن نقول : إن جزاء الحسنات يذهبن جزاء السيّئات.

وأمّا تأويل الآيات الباقيات فتبيّن بما تقدّم ، وهو أن إبطال العمل واحباطه عبارة عن وقوعه على خلاف الوجه المنتفع به ؛ لأن أحدنا لو جعل لغيره عوضا على نقل تراب أو غيره من موضع إلى موضع معيّن ؛ لكان إنّما يستحقّ العوض إذا نقله إلى ذلك المكان المعيّن ، ولو نقله إلى غيره لقيل : أحبطت عملك وأبطلته وأفسدته من حيث أوقعت على وجه لا يستحقّ به نفعا وأعدلت عن الوجه الّذي يستحقّ معه النفع.

ومعلوم أنه هاهنا ما كان يستحقّ شيئا فأبطله وأحبطه ، بل المعنى ما ذكرناه ، فلما كانت الصدقة إنّما يستحقّ بها الثواب إذا خلصت لوجه الله تعالى ، فإذا فعلت بالمنّ والاذى خرجت عن الوجه الّذي يستحقّ معه الثواب فقيل : بطلت.

وكذلك رفع الصوت على صوت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو وقع على سبيل الإجابة له والمسارعة إلى امتثال أمره لاستحقّ به الثواب ، وإذا وقع على خلاف ذلك بطل الفعل وانحبط.

وكذلك لمن عبّد مع الله تعالى شريكا يوصف عمله بالبطلان والانحباط ؛ لأنه وقع على وجه لا ينتفع به ، ولو أخلص العبادة لله تعالى وأفردها لانتفع بها (١).

ـ (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) [هود : ١١٨ ـ ١١٩].

[ان سأل سائل فقال :] ظاهر هذه الآية يقتضي أنّه تعالى ما شاء أن يكونوا أمة واحدة وأن يجتمعوا على الإيمان والهدى ؛ وهذا بخلاف ما تذهبون إليه ؛ ثمّ قال : (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) فلا يخلو من أن يكون عني أنّه للاختلاف خلقهم ، أو للرحمة ؛ ولا يجوز أن يعني الرحمة ؛ لأنّ الكناية عن الرحمة لا تكون بلفظه

__________________

(١) الذخيرة : ٣١١.

٤٥٦

«ذلك» ؛ ولو أرادها لقال : ولتلك خلقهم ، فلمّا قال : (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) كان رجوعه إلى الاختلاف أولى. وليس يبطل حمل الآية على الاختلاف من حيث لم يكن مذكورا فيها ؛ لأنّ الرحمة أيضا غير مذكورة فيها ، وإذا جعلتم قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ) دالّا على الرحمة فكذلك قوله : (مُخْتَلِفِينَ) دالّ على الاختلاف ؛ على أنّ الرحمة هي رقّة القلب والشفقة ؛ وذلك لا يجوز على الله تعالى ، ومتى ما تعدّى بها ما ذكرناه ، لم يعن بها إلّا العفو وإسقاط الضرر ، وما جرى مجراه عن مستحقّه ، وهذا ممّا لا يجوز أن يكونوا مخلوقين له على مذهبكم ، لأنّه لو خلقهم للعفو لما حسن منه عقاب المذنبين ومؤاخذة المستحقين.

الجواب : يقال له : أمّا قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ) فإنّما عني بها المشيئة التي ينضمّ إليها الإلجاء ، ولم يعن المشيئة على سبيل الاختيار ، وإنّما أراد تعالى أن يخبرنا عن قدرته ، وأنّه لا يغالب ، ولا يعصي مقهورا ؛ من حيث كان قادرا على إلجاء العبيد ، وإكراههم على ما أراد منهم.

فأمّا لفظة «ذلك» في الآية فحملها على الرحمة أولى من حملها على الاختلاف ؛ لدليل العقل وشهادة اللفظ ، فأمّا دليل العقل فمن حيث علمنا أنّه تعالى كره الاختلاف ؛ والذّهاب عن الدين ، ونهى عنه ، وتوعّد عليه ، فكيف يجوز أن يكون شائيا له ، ومجريا بخلق العباد إليه.

وأمّا شهادة اللفظ فلأنّ الرحمة أقرب إلى هذه الكناية من الاختلاف ، وحمل اللفظ على أقرب المذكورين إليها أولى في لسان العرب.

فأمّا ما طعن به السائل ، وتعلّق به من تذكير الكناية ، وأنّ الكناية عن الرحمة لا تكون إلّا مؤنثة فباطل ، لأنّ تأنيث الرحمة غير حقيقي ، وإذا كني عنها بلفظة التذكير كانت الكناية على المعنى ، لأنّ معناها هو الفضل والإنعام ؛ كما قالوا : سرّني كلمتك ، يريدون سرّني كلامك ، وقال الله تعالى : (هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي) (١) ؛ ولم يقل «هذه» ، وإنّما أراد هذا فضل من ربي ؛ وقالت الخنساء :

__________________

(١) سورة الكهف ، الآية : ٩٨.

٤٥٧

فذلك يا هند الرّزيّة فاعلمي

ونيران حرب حين شبّ وقودها (١)

أرادت الرّزء ؛ وقال امرؤ القيس :

برهرهة رؤدة رخصة

كخرعوبة البانة المنفطر (٢)

فقال : «المنفطر» ولم يقل المنفطرة ، لأنّه ذهب إلى الغصن ؛ وقال الآخر :

هنيئا لسعد ما اقتضى بعد وقعتي

بناقة سعد والعشيّة بارد

فذكّر الوصف : لأنّه ذهب إلى العشيّ ؛ وقال الآخر :

قامت تبكّيه على قبره

من لي من بعدك يا عامر

تركتني في الدّار ذا غربة

قد ذلّ من ليس له ناصر (٣)

فقال : «يا ذا غربة» ولم يقل ذات غربة ، لأنه أراد شخصا ذا غربة ؛ وقال زياد الأعجم :

إنّ الشّجاعة والسّماحة ضمّنا

قبرا بمرو على الطّريق الواضح (٤)

فقال : «ضمّنا» ولم يقل ضمّنتا ؛ قال الفرّاء : لأنّه ذهب إلى أنّ السماحة والشجاعة مصدران ، والعرب تقول : قصارة الثوب يعجبني ؛ لأنّ تأنيث المصادر يرجع إلى الفعل ، وهو مذكر. وقال الفرزدق :

تجوب بنا الفلاة إلى سعيد

إذا ما الشّاة في الأرطاة قالا (٥)

فذكّر الوصف ، لأنّه أراد التيس ؛ فأمّا الأرطاة واحدة الأرطى ، وهي شجر

__________________

(١) ديوانها : ٥٩.

(٢) ديوانه : ٨. البرهوهة : الرقيقة الجلد ، الرخصة الناعمة ، والخرعوبة : القضيب الغض ، والمنفطر : المنشق.

(٣) البيتان في العقد ٣ / ٢٥٩ ، و ٥ / ٣٩٠ ، ونسبها لاعرابية على قبر ابن لها يقال له عامر.

(٤) اللآلي : ٩٢١ ؛ وبعده :

فإذا مررت بقبره فاعقر به

كوم الجلاد وكلّ طرف سابح

(٥) ديوانه : ٢ / ٦١٧ ، وروايته : «فروحت القلوص إلى سعيد».

٤٥٨

ينبت في الرمل تستظلّ بظلالة الظباء من الحرّ ، وتأوي إليه ، قال الشماخ :

إذا الأرطى توسّد أبرديه

خدود جوازيء بالرّمل عين (١)

وقوله : «قالا» من القيلولة لا من القول ، على أن قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) كما يدلّ على الرحمة يدلّ أيضا على «أن يرحم» ، فإذا جعلنا الكناية بلفظة «ذلك» عن أن يرحم كان التذكير في موضعه ؛ لأنّ الفعل مذكر ، ويجوز أيضا أن يكون قوله تعالى : (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) كناية عن اجتماعهم على الإيمان ، وكونهم فيه أمة واحدة ؛ ولا محالة أنّه لهذا خلقهم ؛ ويطابق هذه الآية قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٢).

وقد قال قوم في قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) معناه أنّه لو شاء أن يدخلهم أجمعين الجنّة ، فيكونوا في وصول جميعهم إلى النعيم أمة واحدة ، وأجرى هذه الآية مجرى قوله تعالى : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) (٣) في أنّه أراد : هداها إلى طريق الجنّة ، فعلى هذا التأويل أيضا يمكن أن ترجع لفظة «ذلك» إلى إدخالهم أجمعين إلى الجنّة ، لأنّه إنّما خلقهم للمصير إليها والوصول إلى نعيمها.

فأمّا قوله تعالى : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) فمعناه الاختلاف في الدين والذهاب عن الحقّ فيه بالهوى والشبهات.

وذكر أبو مسلم محمد بن بحر في قوله : (مُخْتَلِفِينَ) وجها غريبا : وهو أن يكون معناه أن خلف هؤلاء الكافرين يخلف سلفهم في الكفر ، لأنّه سواء قولك : خلف بعضهم بعضا ، وقولك : اختلفوا ، وسواء قولك : قتل بعضهم بعضا ، واقتتلوا ؛ ومنه قولهم : لا أفعل كذا ما اختلف العصران والجديدان ، أي جاء كلّ واحد منهما بعد الآخر.

فأمّا الرحمة فليست رقّة القلب كما ظنّه السائل ، لكنّه فعل النعم والإحسان ،

__________________

(١) ديوانه : ٩٤.

(٢) سورة الذاريات ، الآية : ٥٦.

(٣) سورة السجدة ، الآية : ١٣.

٤٥٩

يدلّ على ذلك أنّ من أحسن إلى غيره ، وأنعم عليه يوصف بأنّه رحيم به ، وإن لم يعلم منه رقّة قلب عليه ، بل وصفهم بالرحمة من لا يعهدون منه رقّة القلب أقوى من وصفهم الرقيق القلب بذلك ؛ لأنّ مشقة النعمة والفضل والإحسان على من لا رقّة عنده أكثر منها على الرقيق القلب ، وقد علمنا أنّ من رقّ قلبه لو امتنع من الإفضال والإحسان لم يوصف بالرحمة ، وإذا أنعم وصف بذلك ، فوجب أن يكون معناها ما ذكرناه ؛ على أنّه لا يمتنع أن يكون معنى الرحمة في الأصل ما ذكرتم ، ثمّ انتقل بالتعارف إلى ما ذكرناه كنظائره. وقد وصف الله القرآن بأنّه هدى ورحمة من حيث كان نعمة ، ولا يتأتى في القرآن ما ظنّوه ؛ وإنّما وصفت رقّة القلب بأنّها رحمة ؛ لأنّها ممّا تجاوره الرحمة التي هي النعمة في الأكثر ، وتوجد عنده ، فحلّ محلّ وصف الشهوة بأنّها محبّة لمّا كانت توجد عندها المحبة في الأكثر ، وليست الرحمة مختصّة بالعفو ، بل تستعمل في ضروب النّعم ، وصنوف الإحسان ؛ ألا ترى أنّا نصف المنعم علي غيره ، المحسن إليه بالرحمة ، وإن لم يسقط عنه ضررا ، ولم يتجاوز له عن زلّة ؛ وإنّما سمّى العفو عن الضرر وما جرى مجراه رحمة من حيث كان نعمة ؛ لأنّ النعمة بإسقاط الضرر تجري مجرى النعمة بإيصال النفع ، فقد بان بهذه الجملة معنى الآية ، وبطلان ما ضمّنه السائل سؤاله.

فإن قيل : إذا كانت الرحمة هي النعمة ، وعندكم أنّ نعم الله شاملة للخلق أجمعين ، فأيّ معنى لاستثناء (مَنْ رَحِمَ) من جملة المختلفين إن كانت الرحمة هي النعمة؟ وكيف يصحّ اختصاصها بقوم دون قوم وهي عندكم شاملة عامّة؟

قلنا : لا شبهة في أنّ نعم الله شاملة للخلق أجمعين ؛ غير أنّ في نعمه أيضا ما يختصّ بها بعض العباد ، إمّا لاستحقاق ، أو لسبب يقتضي الاختصاص فإذا حملنا قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ) على النعمة بالثواب ، فالاختصاص ظاهر ، لأنّ النعمة به لا تكون إلّا مستحقّة ، فمن استحقّ الثواب بأعماله وصل إلى هذه النعمة ، ومن لم يستحقّه لم يصل إليها.

وإن حملنا الرحمة في الآية على النعمة بالتوفيق للإيمان واللطف الذي وقع

٤٦٠