تفسير الشريف المرتضى - ج ٢

تفسير الشريف المرتضى - ج ٢

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٠

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرّرهم في المقدّمة بكونه إماما ، وإنّما ذهبنا إلى أن التقرير وقع لفرض الطاعة التي تجب للرسول والإمام ، ولا يختلف فيهما ولا خلاف بيننا وبينه في أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تجب طاعته ، ويصحّ أن يقرر بوجوبها أمّته ، فامتناع إطلاق لفظ الإمامة عليه لا يضرّنا ولا يؤثر فيما قصدناه.

وقوله : «إذا لم يصحّ أن يراد بقوله : «ألست أولى بكم منكم بأنفسكم» معنى الإمامة فقد بطل ما ادّعوه فما رأيناه أبطل معنى الإمامة بشيء أكثر ممّا ذكروه من معنى الاشتراك ، وقد بيّنا أنه يدخل في معنى الإمامة ، وبما ذكره من امتناع إطلاق لفظ الإمام على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك غير مبطل لحصول معنى الإمامة في التقرير ؛ لأنّه اعتمد انّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن كان يقوم بما يقوم به الإمام ، فإن الوصف بالإمامة لا يطلق عليه والمعنى حاصل له ، فعلى هذا فما المانع من أن يكون التقرير وقع بفرض الطاعة وهو معنى الإمامة ؛ لأن المراد بقولنا : إنّه بمعناها ان هذه الصفة لا تحصل بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا لمن كان إماما قائما بما يقوم به الأئمّة ، وإن كان إطلاق الاسم يمتنع لما ذكره.

فأمّا حكايته عن كثير من شيوخه دفع التواتر بالمقدمة (١) فليس بحجّة ، وقد دلّلنا فيما مضى على أن الشيعة تتواتر بالخبر بمقدّمة الحديث وأكثر من رواة من العامّة روى المقدّمة أيضا وإنّما أغفلها من الرواة قليل من كثير ، وبيّنا ما يصحّ أن يكون عذرا في ترك من ترك روايتها ، وليس يجوز أن يجعل إغفال من أغفلها حجّة في دفع رواية من رواها.

وأمّا اقتصار أمير المؤمنين في الاحتجاج على ذكر ما عدا المقدّمة من الخبر ؛ فإنه لا يدل أيضا على بطلانها : لأنّه عليه‌السلام احتجّ من الخبر بما يكون الاعتراف به اعترافا بالجميع على عادة الناس في أمثال هذه الاحتجاجات ، وقد تقدّم الكلام في هذا وذكرنا أيضا أن طريقة التقسيم غير مفترقة إلى المقدّمة ،

__________________

(١) أي دفعهم تواتر مقدمة حديث الغدير وهي «ألست أولى بكم منكم بأنفسكم» وأن المتواتر عندهم «من كنت مولاه فعلي مولاه» الخ.

٢٢١

وإنما يحتاج إليها في الطريقة الأولى التي اعتمدناها ، وطريق إثباتها واضح بما أوردناه ، ويمكن أن يستدل على الإمامة بالخبر من وجه آخر لا يفتقر إلى المقدّمة وهو أن يقال : قد ثبت أن من جملة ما يحتمله لفظة «مولى» من الأقسام معنى الإمام بما دلّلنا عليه من قبل ، ووجدنا كلّ من ذهب إلى أن لفظ خبر الغدير يحتمل معنى الإمامة ، وأن لفظة «مولى» يقتضيها في جملة أقسامها يذهب إلى أن الإمامة هي المرادة بالخبر ، وهذه طريقة قوية يمكن أن تعتمد.

قال صاحب الكتاب : «على أن ذلك لو صحّ وثبت أن المراد به ما قالوه لم يجب فيما تعقبه من الجملة أن يراد به ذلك ، بل يجب أن يحمل على ما يقتضيه لفظه ، فإن كل لفظه يقتضي ما ذكروه فلا وجه لتعلّقهم بالمقدّمة ، وإن كان لا يقتضي ذلك لم يصر مقتضيا له لأجل المقدّمة ، وإنّما قدّم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك ليؤكد ما يريد أن يبيّن لهم من وجوب موالاته عليه‌السلام وموالاة أمير المؤمنين عليه‌السلام ؛ لأن العادة جارية فيمن يريد أن يلزم غيره أمرا عظيما في نفسه أن يقدّم مثل (١) هذه المقدّمات تأكيدا لحق الرجل الرئيس السيد الذي يريد إلزام قومه أمرا ، فيقول لهم : ألست القائم بأموركم والذاب عنكم (٢) والناصر لكم ، والمنعم عليكم ، فإذا قالوا : نعم فيقول عنده : فافعلوا كيت وكيت ، وإن كان ما أمرهم به ثانيا لا يتّصل بما أمرهم أولا ولا يكون لتقديم ذلك حكمة ، وعلى هذا الوجه قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّما أنا لكم مثل الوالد فإذا ذهب أحدكم إلى الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها بغائط ولا بول» فقدّم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند إرادته بيان ما يختصّ بحال الخلوة ، وما يدلّ على إشفاق وحسن نظر. فكذلك القول فيما ذكرناه ، ولو أن الذي ذكرناه صرّح به لكان خارجا من العبث صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليسلم من العيب بأن يقول : ألست أولى بكم في بيان الشرع لكم ، وما يجب عليكم ، وما يحلّ عليكم ، وما يحرم فإذا كنت كذلك في باب الدين فمن يلزمه موالاتي باطنا وظاهرا بالإعظام والمدح والنصرة فليوال عليا على هذا الحد ، لكان الكلام حسنا مستقيما يليق

__________________

(١) في المغني «قبل هذه».

(٢) «الذاب عنكم» ساقطة من المغني ، كما أن فيه «القيم» مكان «القائم».

٢٢٢

بعضه ببعض ، وإنّما كان يجب ما ذكروه لو كان متى حملت الجملة الثانية على ما قلناه نبت (١) عن الجملة الأولى ونافرتها ، فأمّا إذا كانت الحال ما ذكرناه فهو مستقيم لا خلل فيه ، ...» (٢).

يقال له : قد مضى في جملة ما قدّمناه من الكلام ما يبطل معاني فصلك هذا ، فأما نفيك لأن يكون الكلام مقتضيا لما ذكرناه لأجل المقدّمة ، وقولك : «يجب أن يحمل على ما يقتضيه لفظه من غير مراعاة للمقدّمة» فغير صحيح ؛ لأنّك أن أردت بذلك الاقتضاء على سبيل الاحتمال لا على الإيجاب فاللفظ ليس يصير لأجل المقدّمة مقتضيا فغير ما كان مقتضيا له ، وإن أردت بالاقتضاء الإيجاب ، فقد بيّنا أن بورود المقدّمة لا بدّ من تخصيص اللفظ الوارد من بعدها بمعناها ، وضربنا له الأمثال ، وممّا يبيّن صحّة ما ذكرناه أن قول القائل : عبدي حرّ وله عبيد كثير ، لفظه محتمل مشترك بين سائر عبيده ، فإذا قال بعد أن يقرر بمعرفة بعض عبيده ممّن يسمّيه ويعيّنه : فعبدي حرّ ، كان كلامه الثاني محمولا على سبيل الوجوب على العبد الذي قدم تعيينه وتعريفه ، وصار قوله : فعبدي حرّ إذا ورد بعد المقدّمة مقتضيا على سبيل الإيجاب لما لو لم يحصل لم يكن مقتضيا له على هذا الوجه ، وإن كان يقتضيه على طريق الاحتمال.

وأمّا قوله عليه‌السلام : «إنّما أنا لكم مثل الوالد» إلى آخر الخبر ، فغير معترض على كلامنا ؛ لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يورد في الكلام الثاني لفظا يحتمل معنى الكلام المتقدّم ، وأراد به خلاف معناه ، والذي أنكرناه في خبر الغدير غير هذا ؛ لأنّه لو لم يرد بلفظة «مولى» معنى «أولى» لكان قد أورد لفظا محتملا لما تقدّم من غير أن يريد به معنى المتقدّم ، وفساد ذلك ظاهر ، وليس ينكر أن يكون صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو صرّح بما ذكره صاحب الكتاب على سبيل التقدير مفيدا فكلامه خارج عن العبث إلّا أنه متى لم يصرّح بذلك وأورد اللفظ المحتمل فلا بدّ من أن يكون مراده ما ذكرناه ، كما أن القائل إذا أقبل على جماعة وقال لهم : ألستم تعرفون ضيعتي

__________________

(١) نبت : تباعدت ، وفي «المغني» انتفت ، والمنافرة : التجافي والتباعد. پ.

(٢) المغني ، ٢٠ : ١٥١.

٢٢٣

الفلانية ، ثم قال : فاشهدوا أن ضيعتي وقف ، لا يجوز أن يفهم من لفظه الثاني إذا كان حكيما إلّا وقفه للضيعة التي قدم ذكرها ، وإن كان جائزا أن يصرّح بخلاف ذلك فيقول بعد تقريره بمعرفة الضيعة : فاشهدوا أن ضيعتي التي تجاورها وقف ، فيصرّح بوقفه غير الضيعة التي سمّاها أو عيّنها ، وهذه الجملة تأتي على كلامه.

قال صاحب الكتاب بعد أن ذكر التعلّق بإمساك أمير المؤمنين عليه‌السلام وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين عن الاحتجاج بالنصّ من خبر يوم الغدير في المواقف التي وقع التنازع في الإمامة فيها فقد مضى الكلام عليه مستوفى : «وقد قال شيخنا أبو هاشم : «إن ظاهر الخبر يقتضي إثبات حال ما أثبته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمير المؤمنين عليه‌السلام في الحال وذلك لا يتأتى في الإمامة [فيجب حمله على ما ذكرناه (١)] ومتى قالوا : إن الظاهر وإن اقتضى الحال فإنا نحمله على بعد موت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكونوا بذلك أولى ممّن حمله على الوقت الذي بويع فيه ويكون ذلك أولى لما ثبت بالدليل من صحّة إمامة أبي بكر ، وقال : متى قالوا : تثبت له الإمامة في الحال لكنّه إمام صامت ، قيل لهم : فيجب أن لا يصير ناطقا بهذا الخبر ؛ لأنّه إنما دل على كونه إماما صامتا ، ومتى قالوا : إنه يدلّ على كونه إماما ناطقا ، فيجب أن يكون كذلك في الوقت ، وبيّن أنه لا يمكنهم القول بأنه إمام (٢) مع أنه لا يقوم بما إلى الأئمّة في حال حياته» وقال : «لا فرق بين من استدلّ بذلك على النصّ» وبين من قال : إن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي بكر : «اتركوا لي أخي وصاحبي ، صدقني حيث كذبني الناس» وهو نصّ على إمامته بعد وفاته إلى غير ذلك ممّا روي نحو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لو كنت متّخذا خليلا لاتّخذت أبا بكر خليلا» وقوله : «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» إلى غير ذلك ممّا اشتهرت فيه الرواية (٣) ...» (٤).

__________________

(١) ما بين المعقوفتين من «المغني».

(٢) كلمة «إمام» كانت مطموسة في «المغني» فقال المحقّق : لعلّها «ثابتا» ، ولا يستقيم المعنى حتى لو كانت كما عللها.

(٣) في المغني «ممّا اشتهر في الرواية».

(٤) المغني ، ٢٠ : ١٥٢.

٢٢٤

يقال له : إن الكلام في إلزامنا حمل الخبر على إيجاب الإمامة في الحال فقد مضى مستقصى ، والذي يبطل قول من ألزمنا وجوب النصّ به بعد عثمان ما تقدّم أيضا عند كلامنا في النصّ الجلي ، وهو أن الأمة مجمعة على أن إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد قتل عثمان لم تحصل له بنصّ من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تناول تلك الحال ، واختصّ بها دون ما تقدّمها ، ويبطله أيضا أن كلّ من أثبت لأمير المؤمنين عليه‌السلام النصّ على الإمامة بخبر الغدير أثبته على استقبال وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غير تراخ عنها.

فأمّا الأخبار التي أوردها على سبيل المعارضة فالإضراب عن ذكرها ، وترك تعاطي الانتصاف من المستدلّين بخبر الغدير لها أستر على موردها ، وأوّل ما في هذه الأخبار أنّها لا تساوي ولا تداني خبر الغدير في باب الصحّة والثبوت ، ووقوع العلم ؛ لأنا قد بيّنا فيما تقدّم تواتر النقل بخبر الغدير ووقوع العلم به لكلّ من صحّح الأخبار ، وأنه ممّا أجمعت الأمة على قبوله ، وإن كانوا مختلفين في تأويله (١) وليس شيء من هذا في الأخبار التي ذكرها ، على أن أصحابنا قديما قد تكلّموا على هذه الأخبار ، وبيّنوا أن حديث الخلّة يناقض ويبطل آخره أوله ؛ لأنهم يروون عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «لو كنت متّخذا خليلا لاتّخذت فلانا خليلا ولكن ودّا واخاء إيمان» فأول الخبر يقتضي أن الخلة لم تقع ، وآخره يقتضي

__________________

(١) أحصى شيخنا الأميني في الجزء الأول من الغدير رواة حديث الغدير فكانوا مائة وعشرة من الصحابة وأربعة وثمانين من التابعين وثلاثمائة وسبعة وخمسين من العلماء ومعظمهم بل جميعهم من علماء السنّة وأحصى من أفرد التأليف في الغدير من علماء الفريقين فكانوا ستّة وعشرين عالما ، وقال ابن كثير في البداية والنهاية ٥ / ٢٠٨ «وقد اعتنى بأمر هذا الحديث أبو جعفر محمد ابن جرير الطبري صاحب التفسير والتاريخ فجمع فيه مجلّدين أورد فيهما طرقه وألفاظه ، وكذلك الحافظ الكبير أبو القاسم ابن عساكر أورد أحاديث كثيرة في هذه الخطبة ، وقال القندوزي في ينابيع المودّة ص ٣٦ : حكي عن أبي المعالي الجويني الملقّب بإمام الحرمين أستاذ أبي حامد الغزالي رحمهما‌الله كان يتعجّب ويقول : رأيت مجلّدا في بغداد في يد صحّاف فيه روايات خبر غدير خم مكتوب عليه : المجلّدة الثامنة والعشرون من طرق قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (من كنت مولاه فعليّ مولاه) «ويتلوه المجلدة التاسعة والعشرون».

٢٢٥

وقوعها على الشرط المذكور الذي يعلم كلّ أحد أن الخلّة منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا تكون إلّا عليه ؛ لأنّه لا يصحّ أن يخالّ أحدا إلّا في الإيمان وما يقتضيه الدّين ، ويذكرون أيضا في ذلك ما يروونه من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل وفاته : «برئت إلى كلّ خليل من خليل فإنّ الله عزوجل قد اتّخذ صاحبكم خليلا» ويقولون : إن كان أثبت الخلّة بينه وبين غيره فيما تقدّم فقد نفاها وبرئ منها قبل وفاته ، وافسدوا حديث الاقتداء بأن ذكروا أن الأمر بالاقتداء بالرجلين يستحيل ؛ لأنهما مختلفان في كثير من أحكامهما وأفعالهما ، والاقتداء بالمختلفين ؛ والاتباع لهما متعذّر غير ممكن ولأنّه يقتضي عصمتهما ، والمنع من جواز الخطأ عليهما ، وليس هذا بقول لأحد فيهما ، وطعنوا في رواية الخبر بأن رواية عبد الملك بن عمير وهو من شيع بني أميّة ، وممّن تولّى القضاء لهم ، وكان شديد النصب والانحراف عن أهل البيت أيضا ، ظنينا في نفسه وأمانته.

وروي أنه كان يمرّ على أصحاب الحسين بن عليّ عليهما‌السلام وهم جرحى فيجهز عليهم فلما عوتب على ذلك قال : إنّما أريد أن أريحهم ، وفيهم من حكى رواية الخبر بالنصب وجعل أبا بكر وعمر على هذه الرواية مناديين مأمورين بالاقتداء بالكتاب والعترة ، وجعل قوله : «اللّذين من بعدي» كناية عن الكتاب والعترة ، واستشهد على صحّة تأويله بأمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غير هذا الخبر بالتمسّك بهما والرجوع إليهما في قوله : «إنّي مخلف فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي وأنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض» (١) وابطل من سلك هذه الطريقة في تأويل الخبر اعتراض الخصوم بلفظ «اقتدوا» ، وأنه خطاب للجميع لا يسوغ توجّهه إلى الاثنين بأن قال : ليس ينكر أن يكون «اقتدوا» باللّذين متوجّها إلى جميع الأمة وقوله «من بعدي أبا بكر وعمر» نداء لهما على

__________________

(١) حديث الثقلين رواه طائفة من علماء السنة لا يحصون كثرة حتى أفرد السيّد ناصر حسين في تتميم العبقات لوالده السيد حامد حسين اللكهنوي مجلّدا كاملا وضمّ إليه حديث السفينة فكان حصيلة بحثه أنّ من رواه من الصحابة ٢٤ ومن التابعين ١٩ ثمّ ذكر طبقات العلماء من رواته من القرن الثاني إلى القرن الرابع عشر ، وقد ترجمه وحقّقه ونظمه الأستاذ المحقّق السيّد علي الحسيني الميلاني.

٢٢٦

سبيل التخصيص لهما لتأكيد الحجّة عليهما ، وشرح هذه الجملة موجودة في مواضعه من الكتب ، وإن كان مخالفونا يدفعون ورود الرواية بالنصب أشدّ دفع ، ويدّعون أنه ممّا خرج على سبيل التأويل من غير رجوع إلى رواية ، وممّا يمكن أن يعتمد في إبطال خبر الاقتداء أنه لو كان موجبا للنصّ على الوجه الذي عارض به أبو هاشم لأحتجّ به أبو بكر لنفسه في السقيفة ، ولما جاز أن يعدل إلى روايته «ان الأئمّة من قريش» ، ولا خفاء على أحد في أن الاحتجاج بخبر الاقتداء اقطع للشغب ، وأخصّ بالحجّة ، وأشبه بالحال لا سيّما والتقية والخوف عنه زائلان ، ووجوه الاحتجاج له معرضة ، وجميع ما يدّعيه الشيعة بالنصّ الذي تذهب إليه عن الرجل منتفية ، ولوجب أيضا أن يحتج به أبو بكر على طلحة لما نازعه فيما رواه من النصّ على عمر ، وأظهر الإنكار لفعله ، فكان احتجاجه في تلك الحال بالخبر المقتضي لنصّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عمر ودعائه الناس إلى الاقتداء به ، والاتباع له أولى وألزم من قوله : «أقول : يا ربّ ولّيت عليهم خير أهلك» وأيضا لو كان هذا الخبر صحيحا لكان حاظرا (١) مخالفة الرجلين وموجبا لموافقتهما في جميع أقوالهما وأفعالهما ، وقد رأينا كثيرا من الصحابة قد خالفهما في كثير من أحكامهما وذهبوا إلى غير ما يذهبان إليه ، وقد أظهروا ذلك ، فيجب أن يكونوا بذلك عصاة مخالفين لنصّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد كان يجب أيضا أن ينبّه الرجلان من يخالفهما على مقتضى هذا الخبر ، ويذكرانهم بأنّ خلافهما محظور ممنوع منه ، على أن ذلك لو اقتضى النصّ بالإمامة على ما ظنّوا لوجب أن يكون ما رووه عنه عليه‌السلام من قوله : «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم» (٢) موجبا

__________________

(١) حاظرا : مانعا.

(٢) هذا الحديث مروي من طريق جعفر بن عبد الواحد الهاشمي وإليك ما نقله الذهبي في ميزان الاعتدال ج ٤١٣ / ١ في جعفر هذا قال : «جعفر بن عبد الواحد الهاشمي القاضي ، قال الدارقطني : يصنع الحديث ، وقال أبو زرعة : روى أحاديث لا أصل لها ، وقال ابن عدي : يسرق الحديث ويأتي بالمناكير ، ثم ساق له ابن عدي أحاديث ، وقال كلّها بواطيل ، وبعضها سرقه من قوم ـ إلى أن قال ـ ومن بلاياه عن وهب بن جرير عن أبيه عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصحابي كالنجوم ومن اقتدى بشيء منها اهتدى».

٢٢٧

لإمامة الكلّ ، وإذا لم يكن هذا الخبر موجبا للإمامة فكذلك الآخر ، وقد رووا أيضا عنه عليه‌السلام أنه قال : «اهتدوا بهدي عمّار ، وتمسّكوا بعهد ابن أم عبد» (١) ولم يكن في شيء من ذلك نصّ بإمامة ولا فرض طاعة ، فكيف يظنّ هذا في خبر الاقتداء ، وحكم الجميع واحد في مقتضى ظاهر اللفظ؟

وبعد ، فلو تجاوزنا عن هذا كلّه ، وسلّمنا رواية الأخبار وصحّتها ، لم يكن في شيء منها تصريح بنصّ ولا تلويح إليه.

أمّا خبر الخلّة وما يدعونه من قوله عليه‌السلام : «اتركوا لي أخي وصاحبي» فلا شبهة على عاقل في بعدهما عن الدلالة على النصّ.

فأمّا خبر الاقتداء فهو كالمجمل ؛ لأنّه لم يبيّن في أيّ شيء يقتدى بهما ، ولا على أيّ وجه ولفظة «بعدي» مجملة ليس فيها دلالة على أن المراد بعد وفاتي دون بعد حال أخرى من أحوالي ، ولهذا قال بعض أصحابنا : إن سبب هذا الخبر أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان سالكا بعض الطريق وكان أبو بكر وعمر متأخّرين عنه جائيين على عقبه فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبعض من سأله عن الطريق الذي يسلكه في اتباعه واللّحوق به : «اقتدوا باللذين من بعدي» وعنى بسلوك الطريق دون غيره ، وهذا القول وإن كان غير مقطوع به فلفظ الخبر محتمله كاحتماله لغيره ، وأين الدلالة على النصّ والتسوية بينه وبين أخبارنا ، ونحن حيث ذهبنا في خبر الغدير وغيره إلى النصّ لم نقتصر على محض الدّعوى ، بل كشفنا عن وجه الدلالة ، واستقصينا ما يورد من الشبه ، وقد كان يجب على من عارضنا بهذه الأخبار وادّعاء إيجابها للنصّ أن يفعل مثل ما فعلناه أو قريبا منه ، وليس لأحد أن يتطرق إلى إبطال ما ذكرناه من التأويلات بأن يدّعي أن الناس في هذه الأخبار بين منكر

__________________

(١) هذا الحديث كما في فيض القدير ج ٥٦ / ٢ من حديث عبد الملك بن عمير عن ربعي عن حذيفة بن اليمان ، وعبد الملك لم يسمعه من ربعي وربعي لم يسمعه من حذيفة ، اه وعبد الملك بن عمير هذا كان قاضيا بالكوفة أيّام عبيد الله بن زياد وهو الذي مرّ على عبد الله بن يقطر رسول الحسين عليه‌السلام وقد رماه ابن زياد من أعلى قصر الإمارة فرآه يجود بنفسه وقد تهشّمت عظامه فذبحه بيده فلما ليم على ذلك قال : أردت أن أريحه!!

٢٢٨

ومتقبّل ، فالمنكر لا تأويل له ، والمتقبّل يحملها على النصّ ويدفع سائر التأويلات ؛ لأن هذا القول يدلّ على غفلة شديدة من قائله أو مغالطة ، وكيف يكون ادّعاؤه صحيحا ونحن نعلم أن كلّ من أثبت إمامة أبي بكر من طريق الاختيار ـ وهم أضعاف من أثبتها من طريق النصّ ـ ينقلون هذه الأخبار من غير أن يعتقدوا فيها دلالة على نصّ عليه؟

قال صاحب الكتاب : «وقد قال شيخنا أبو الهذيل (١) في هذا الخبر : أنه لو صحّ لكان المراد به الموالاة في الدّين وذكر أن بعض أهل العلم حمله على أن قوما نقموا على عليّ عليه‌السلام بعض أموره فظهرت مقالاتهم له ، وقولهم فيه ، فأخبر عليه‌السلام بما يدلّ على منزلته وولايته وفعاله وأفعالهم عما خاف فيه الفتنة ، وقد قال بعضهم في سبب ذلك : إنه وقع بين أمير المؤمنين عليه‌السلام وبين أسامة بن زيد كلام ، فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام : أتقول هذا لمولاك ، فقال : لست مولاي ، وإنّما مولاي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، [قال] فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من كنت مولاه فعليّ مولاه» يريد بذلك قطع ما كان من أسامة وتبيان (٢) أنه بمنزلته في كونه مولى له ، وقال بعضهم مثل ذلك في زيد بن حارثة ، وأنكروا (٣) أن خبر الغدير بعد موته ، والمعتمد في معنى الخبر على ما قدّمناه ؛ لأن كلّ ذلك لو صحّ وكان الخبر خارجا ، فلم يمنع من التعلّق بظاهره وما يقتضيه لفظه ، فيجب أن يكون الكلام في ذلك دون بيان السبب الذي وجوده كعدمه ، في أنّ وجود الاستدلال بالخبر يتغيّر ، ...» (٤).

يقال له : أمّا الذي يبطل ما حكيته عن أبي الهذيل فهو جميع ما تقدّم من كلامنا.

__________________

(١) أبو الهذيل : محمد بن الهذيل العبدي بالولاء المعروف بالعلّاف كان شيخ البصريين في الاعتزال ومن أكبر علمائهم توفّي في سامراء سنة ٢٦ أو ٢٧ أو ٢٣٥ بعد أن أشرف على المائة وقد كف بصره وخرف في آخر عمره.

(٢) في المغني «وبيان».

(٣) في المغني «وذكروا».

(٤) المغني ، ٢٠ : ١٥٤.

٢٢٩

فأما التعلّق بذكر السبب وما ادعى من ملاحاة زيد بن حارثة أو أسامة ابنه ، فالذي يفيده ما قدّمناه أيضا من اقتضاء الكلام لمعنى الإمامة ، وأن صرفه عن معناها يخرجه عن حدّ الحكمة ، وقد ذكر أصحابنا في ذلك وجوها :

منها : ان زيد بن حارثة قتل بمؤتة وخبر الغدير كان بعد منصرف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن حجّة الوداع وبين الوقتين زمان طويل ، فكيف يمكن أن يكون سببه ما ادّعوه؟ وهذا الوجه أيضا يختص بذكر زيد بن حارثة وما تقدّم وتأخّر من الوجوه يعم التعلّق بزيد وأسامة ابنه.

ومنها : أن أسباب الأخبار يجب الرجوع فيها إلى النقل ، كالرجوع في نفس الأخبار ، ولا يحسن أن يقتصر فيها على الدّعاوي والظنون ، وليس يمكن أحدا من الخصوم أن يسند ما يدّعيه من السبب إلى رواية معروفة ، ونقل مشهور ، والمحنة بيننا وبينهم في ذلك ، ولو أمكنهم على أصعب الأمور أن يذكروا رواية في السبب لم يمكن الإشارة فيه إلى ما يوجب العلم وتتلقاه الأمة بالقبول على الحدّ الذي ذكرناه في خبر الغدير ، وليس لنا أن نحمل تأويل الخبر الذي هو صفة على سبب أحسن أحواله أن يكون ناقله واحدا لا يوجب خبره علما ولا يثلج صدرا.

ومنها : أن الذي يدعونه في السبب لو كان حقّا ، لما حسن من أمير المؤمنين عليه‌السلام أن يحتجّ به في الشورى على القوم في جملة فضائله ومناقبه ، وما خصّه الله تعالى به ؛ لأن الأمر لو كان على ما ذكروه لم يكن في الخبر شاهد على فضل ، ولا دلالة على تقدّم ، ولوجب أن يقول له القوم في جواب احتجاجه : وأي فضيلة لك بهذا الخبر علينا ، وإنّما كان سببه كيت وكيت ممّا تعلمه ونعلمه وفي احتجاجه عليه‌السلام به وأضرابهم عن ردّ الاحتجاج دلالة على بطلان ما يدّعونه من السّبب.

ومنها : أن الأمر لو كان على ما ادّعوه في السبب لم يكن لقول عمر بن الخطّاب في تلك الحال على ما تظاهرت به الروايات الصحيحة «أصبحت

٢٣٠

مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة» معنى ؛ لأن عمر لم يكن مولى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جهة ولاء العتق ولا جماعة المؤمنين.

ومنها : أن زيدا أو أسامة ابنه لم يكن بالذي يخفى عليه أنّ ولاء العتق يرجع إلى بني العم فينكره ، وليس منزلته منزلة من يستحسن أن يكابر فيما يجري هذا المجرى ، ولو خفي عليه لما احتمل شكّه فيه ذلك الإنكار البليغ من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي جمع له الناس في وقت ضيّق وقدّم فيه من التقرير والتأكيد ما قدّم.

ومنها : أن السبب لو كان صحيحا لم يكن طاعنا على تأويلنا ؛ لأنّه لا يمتنع أن يريد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما ذهبنا إليه مع ما يقتضيه السبب من ولاء العتق ، وإنّما يكون السبب طاعنا لو كان حمل الخبر على موجبه ينافي تأويلنا ، وأكثر ما تقتضيه الأسباب أن يجعل الكلام الخارج عليها مطابقا لها ، فأمّا أن لا يتعداها فغير واجب.

ومنها : أن كلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجب أن يحمل على ما يكون مفيدا عليه ، ثم على ما يكون أدخل في الفائدة ؛ لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحكم الحكماء ، وإذا كان هذا واجبا لم يحسن أن يحمل خبر الغدير على ما ادّعوه ؛ لأنّه إذا حمل عليه لم يفد من قبل أنه معلوم لكلّ أحد علما لا يخالج فيه الشكّ أن ولاء العتق لبني العمّ.

قال صاحب الكتاب بعد كلام قد تقدّم كلامنا عليه : «وأما من استدلّ بأن ذكر القسمة فيما يحتمله لفظة «مولى» من ملك الرق ، والمعتق ، وابن العم ، والعاقبة ، وأبطل كلّ ذلك ، وزعم أنه ليس بعده إلّا الإمامة ، فإنه يقال له : ومن أين أن هذه اللفظة تفيد الإمامة في لغة أو شرع أو تعارف ليتم لك إدخاله في القسمة؟ ؛ لأنّه إنّما يدخل في القسمة ما يفيده القول ويحتمله دون غيره ، فإن قال : لأن لفظة الإمام تقتضي الائتمام به والاقتداء ، ووجوب الطاعة ، ولفظة «مولى» تطلق على ذلك في التفصيل فيجب دخول الإمامة تحته ، فيقال له : ومن أين أن وجوب الطاعة يستفاد بمولى؟ أولست تعلم أن طاعة الوالد على الولد واجبة ، ولا يقال له إنه مولى؟ وإذا ملك بعقد الإجارة الأجير يلزمه طاعته ولا

٢٣١

يقال ذلك فيه ، وقد استعمل أهل اللغة في الرئيس المقدّم لفظة «الربّ» ولم يستعملوا لفظة «المولى» إلّا إذا أرادوا به النصرة ، فإن قال : قد ثبت انهم يقولون في السيد : إنه مولى العبد لما ملك طاعته ، ولزمه الانقياد له ، وذلك قائم في الإمام فوجب أن يوصف بذلك ، قيل له : لم يوصف المولى بذلك لما ذكرته ، وإنما يوصف ؛ لأنّه يملك بيعه وشراءه ، والتصرف فيه بحسب التصرّف في الملك ، وذلك لا يصحّ في الإمام ، ...» (١).

يقال له : قد بيّنا أنّ لفظة «مولى» تفيد في اللغة من كان أولى بالتدبير ، وأحقّ بالشيء الذي قيل : «إنّه مولاه» واستشهدنا من الاستعمال بما لا يمكن دفعه ، غير أن ما يستعمل هذه اللفظة فيه على ضربين :

أحدهما : لا يصحّ مع التخصّص بتدبيره والتحقّق بالتصرّف فيه وصفه بالطاعة ، كسائر ما يملك سوى العبيد ؛ فإنه قد يوصف المالك للأموال وما جرى مجراها من المملوكات بأنه مولى لها على الحدّ الذي وصف الله تعالى به الورثة المستحقّين للميراث ، والمختصّين بالتصرّف فيه ، في قوله : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) (٢) وإن كان دخول لفظ الطاعة ووجوبها في ذلك ممتنعا.

والضرب الآخر : يصحّ مع التحقّق به والتملّك له وصفه بالطاعة ووجوبها ، كالوصف للسيّد بأنّه مولى العبد ، ووليّ المرأة في الخبر الذي أوردناه متقدّما بأنه مولاها ورجوع كلا الوجهين إلى معنى واحد وهو التحقّق بالشيء والتخصص بتدبيره ، ولا معتبر بامتناع دخول لفظ الطاعة في أحدهما دون الآخر إذا كانت الفائدة واحدة.

فأمّا إلزامه إجراء لفظة «مولى» على الوالد والمستأجر للأجير من حيث وجبت طاعتهما فغير ممتنع أن يقال في الوالد : أنه مولى ولده بمعنى أنه أولى بتدبيره ، كما أنه قد يستعمل فيه ما يقوم مقام مولى من الألفاظ ، فيقال : إنه أحقّ

__________________

(١) المغني ، ٢٠ : ١٥٥.

(٢) سورة النساء ، الآية : ٣٣.

٢٣٢

بتدبير ولده وأولى به ، وكذلك القول في المستأجر ؛ لأنّه يملك تصرف الأجير إلّا أن إطلاق ذلك من غير تفسير وضرب من التفصيل ربّما لم يحسن ، ليس لأن اللغة لا تقتضيه لكن لأن لفظة «مولى» قد كثر استعمالها بالإطلاق في مالك العبد ومن جرى مجراه ، فصار تقييدها في الوالد واجبا ، إزالة للبس والإبهام ، ومثل هذا كثير في الألفاظ ، وليس هو بمخرج لها عن حقائقها وأصولها.

ثم يقال له : إذا قلت : إن لفظة «مولى» تفيد الموالاة في الدين التي يحصل بين المؤمنين ، فهلّا أطلقت على الوالد أنه مولى ولده ، والمستأجر أنه مولى أجيره إذا كان الجميع مؤمنين ، وذهبت في اللفظة إلى معنى الموالاة؟

فإن قلت : إني أطلق ذلك لا أحتشم منه ، قلنا لك : ونحن أيضا نطلق ما سمتنا (١) إطلاقه فيهما ، ويزيد المعنى الذي ذهبنا إليه ؛ لأن قلّة الاستعمال إذا لم تكن مانعة لك من إطلاق اللفظ على المعنى الذي اخترته لم تكن مانعة ـ وأدلتنا ثابتة ـ لنا ، وإذا ثبت الإطلاق كنت مناقضا إلّا أن تعتذر بمثل ما اعتذرنا به.

فأمّا الرئيس السيّد فلا شبهة في إجراء لفظة «مولى» عليه وقد حكينا ذلك فيما تقدّم عن أهل اللغة ، وليس هو مما يقلّ استعماله في كلامهم ، بل ظهوره بينهم كظهور استعمال لفظة «رب» في الرئيس ، ودفع ما جرى هذا المجرى قبيح.

فأمّا إنكاره استعمال لفظة «مولى» في مالك العبد من حيث ملك طاعته ، وقوله : «إنّما وصف بمولى من حيث ملك بيعه وشراه والتصرّف فيه» فهو إنكار متضمّن للإقرار ، وإن لم يشعر به ؛ لأنا نعلم أن المالك من العبد التصرّف بالبيع والاستخدام وغيرها من وجوه المنافع لا يصحّ أن يكون مالكا لذلك إلّا ويجب على العبد طاعته فيه ، والانقياد له في جميعه ، فقد صار مالك التصرّف غير منفصل من مالك الطاعة ووجوبها ، بل المستفاد بمالك التصرّف معنى وجوب الطاعة والانقياد فيما يرجع إلى العبد ، وإنّما انفصل التصرّف المستحقّ

__________________

(١) سمتنا : كلفتنا.

٢٣٣

على العبد من الذي ليس لمملوك ولا مستحقّ بهذه المزية ، وهذا يبيّن أن الذي أباه صاحب الكتاب لا بدّ له من الاعتراف به.

ثم يقال له : إذا كان وصف مولى العبد إنما اجري من حيث ملك بيعه وشراه لا من حيث وجبت طاعته عليه فيلزمك أن تجري هذا الوصف في كلّ موضع حصل فيه هذا المعنى ، فتقول في المالك للثوب والدار والبهيمة والضيعة : إنه مولى لجميع ذلك ، وتطلق القول من غير تقييده ، فإن فعلت واطلقت ما سمّينا لك إطلاقه ذهابا إلى أن أصل اللفظة في الوضع ومعناها يقتضيانه ، ولم تحفل بقلّة الاستعمال جاز لنا أن نطلق أيضا في الوالد أنه مولى ولده ، وكذلك في الأجير ونذهب إلى معنى اللفظة وما يقتضيه وضعها ، ولا نجعل قلة الاستعمال مؤثرا ، فليس ما سمتنا إطلاقه بأقلّ في الاستعمال مما ألزمناك أن تطلقه ، وإن أبيت الإطلاق فليس لك بدّ من أن تصير إلى ما ذكرناه ، وإلّا كنت مناقضا ويسقط على كلّ حال إلزامك الذي ظننت انك تتوصّل به إلى إبطال قولنا في إجراء لفظة «مولى» على من وجبت طاعته ، على أن استدلالنا بخبر الغدير على إيجاب الإمامة لا يفتقر إلى أن لفظة «مولى» تجري على الإمام ، ومالك الطاعة بغير واسطة ؛ لأنا قد بيّنا احتمالها للأولى ، وهذا ممّا لا يمكن صاحب الكتاب ولا أحدا دفعه ؛ فإنه ظاهر في اللغة ، وقد ذكرنا فيما تقدّم من كلامنا في الشواهد عليه ما في بعضه كفاية ، وإذا احتملت «أولى» من غير إضافة ، وقد علمنا أن «الأولى» في اللغة هو الأحقّ بلا خلاف ، وقد يجوز أن يستعمل لفظة أحقّ وأولى مضافتين إلى الطاعة ، كما يجوز استعمالها في غير الطاعة من ضروب الأشياء ، وإذا جاز ذلك وثبت أن مقدّمة خبر الغدير تضمّنت التقرير بوجوب الطاعة وكان معنى «أولى بكم» أولى بتدبيركم ، ووجوب الطاعة عليكم بغير خلاف أيضا ، وكنا قد دلّلنا فيما تقدّم على أن ما أوجبه في الكلام الثاني (١) يجب أن يكون مطابقا لمقتضى المقدّمة الأولى حتى كأنه قال عليه‌السلام : من

__________________

(١) الكلام الثاني في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من كنت مولاه فعليّ مولاه ، والمقدّمة الأولى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أولست أولى بكم منكم بأنفسكم».

٢٣٤

كنت أولى به في تدبيره وأمره ونهيه فعليّ أولى به في ذلك ، فقد وضح ما قصدناه من الدلالة على النصّ بالإمامة من غير حاجة إلى أن لفظة «مولى» تجري على ملك الطاعة بنفسها ، هذا على الطريقة الأولى ، فأمّا على طريقة التقسيم فهي أيضا غير مفتقرة إلى ذلك ؛ لأنّه إذا بطل أن يكون مراده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلفظة «مولى» سائر ما يحتمله اللفظة سوى أولى وبطل أن يريد بأولي شيئا مما يجوز أن يضاف إلى هذه اللفظة سوى ما يقتضي الإمامة ، والتحقق بالتدبير لما تقدّم ذكره ، فقد وضح وجه الاستدلال بالطريقتين معا.

قال صاحب الكتاب : «وقد ذكر أبو مسلم أن هذه الكلمة مأخوذة من الموالاة بين الأشياء يعني اتباع بعضها بعضا ، ولذلك يقولون فيمن يختصون به من أقربائهم إذا أخبروا عنهم : هذا لي ولمن يلين (١) وكأن المعنى في كون المؤمن مواليا لأخيه أن يكون متابعا له ، ثم تصرفوا في الاستعمال قرينة على أن التعارف في ذلك هو بمعنى النصرة ومتابعة البعض للبعض فيما يتّصل بأمر الدين ، وذلك لا يليق بالإمامة ؛ لأن الوجه الذي له يكون مولى لهم يقتضي أن يختصوا بمتابعته ويكون المتابعة من أحد الطرفين ، واشتقاق اللفظ يقتضي المتابعة من كلا الطرفين ، وذلك يليق بالموالاة في الدين ، وإنّما يقال في الإمام إنّه مولى لا من جهة الإمامة ، بل من جهة الدين ؛ لأنّه إذا اختص بالإمامة لزمته النصرة وسائر ما يختصّ به ويتعلّق بالدين (٢) ، وعلى هذا الوجه يقال في سائر رعيّته : أنهم موال له ، كما يقال فيه : أنه مولى لهم ، وقد بيّنا أن المعاني التي يختصّ بها الإمام وتفيدها الإمامة لا يعلم إلّا بالشرع ؛ لأنّ العقل لا يميّز ذلك من غيره ، وإنّما نعرف ذلك شرعا ، فلا يمكن أن يقال : إنّ لفظة «مولى» تفيده من جهة اللغة إلّا على وجه التشبيه ، ولا يمكن أن يقال : إنها لفظة شرعية ولا للتعارف فيها مدخل ، فكيف يمكن ما ذكروه من إدخال ذلك في القسمة فضلا

__________________

(١) في المغني «ولمن يليني فكأن».

(٢) في المغني «لتعلّق» وقال المعلّق : «كذا بالأصل» واكتفى بذلك وخفي عليه المراد!

٢٣٥

على أن يقولوا : إنه الظاهر من الكلام؟ ومن عجيب الأمور في هذا المستدلّ أنه ذكر في الخبر سائر الأقسام وترك ما حمل شيوخنا الخبر عليه ولو اشتغل (١) بذلك لكان أولى به ، ...» (٢).

يقال له : إن الذي حكيته عن أبي مسلم لا ينكر إن يكون صحيحا ، وهو إذا صحّ لا يضرّنا ولا ينفعك ، وإن كنت قد أتبعته بشيء من عندك ليس بصحيح ، ولا خاف الفساد ؛ لأن أبا مسلم فسّر معنى الموالاة واشتقاقها ، ولم يقل : إن لفظة «ولي» أو «مولى» لا معنى لها ، ولا يحتمل إلّا الموالاة التي فسّرها بالمتابعة ، بل قد صرّح بضدّ ذلك ، ونحن نحكي كلامه بعينه في الموضع الذي نقل منه صاحب الكتاب الحكاية ، قال أبو مسلم في كتاب «تفسير القرآن» عند انتهائه إلى قوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) بعد كلام قدّمه : وقد ذكرنا معنى «الولي والموالاة» في عدّة مواضع ممّا فسّرنا من السّور الماضية ، وجملة معناه أن يكون الرجل تابعا محبّة أخيه في كلّ أحواله ويملك منه ما يملكه من نفسه ، ويريد له ما يريد لها والناس يقولون فيمن يختصون من أقاربهم إذا أخبروا عنهم : هذا لي ولمن يليني ، وكأنّ المعنى مأخوذ من الموالاة بين الأشياء ، أي اتباع بعضها بعضا ، فيكون المؤمن مواليا لأخيه أي متابعا له ، ويكون المعنى في نسبة ذلك إلى الله تعالى بقوله : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) أي من يملككم ويلي أمركم ، ويجب عليكم طاعته واتباعه وإلى الرسول بما عطف من ذكره على الله تعالى بما فرض الله من طاعته في أدائه عن الله تعالى إذ يقول : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) (٣) وبما يبذله من النصح للمؤمنين وهو فوق ما يعطيه بعضهم بعضا ، كما قال الله تعالى : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) (٤) وإنّما ينسب إلى (وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) (٥) ما قدّمناه من الاتّفاق بينهم وطاعة كلّ واحد منهم لصاحبه ومظافرته إيّاه على أمر الله ، وملكه من أخيه ما يملكه من نفسه فيه»

__________________

(١) في المغني «ولو استدل».

(٢) المغني ، ٢٠ : ١٥٥.

(٣) سورة النساء ، الآية : ٨٠.

(٤) سورة الأحزاب ، الآية : ٦.

(٥) سورة المائدة ، الآية : ٥٥.

٢٣٦

هذا كلامه بألفاظه وهو يشهد بما يذهب إليه من إجراء لفظة «ولي» على من تجب طاعته والانتهاء إلى أمره على خلاف ما يريده صاحب الكتاب ، ويذهب إليه ، وإذا كان معناها وأصل اشتقاقها إذا أريد بها الموالاة يقتضيان المتابعة على ما ذكر لم يناف ذلك قولنا ولا قدح فيه ؛ لأنا قد ذكرنا فيما تقدّم أن لفظة «مولى» و «ولي» تجريان على الموالاة في الدين ، ودلّلنا على أن المراد بهما في الآية وخبر الغدير ما ذهبنا إليه دون غيره ، وفي كلام أبي مسلم ما يخالف رأي صاحب الكتاب من وجه آخر ؛ لأنّه جعل قوله تعالى : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) موافقا لمعنى الآية التي ذكرناها في اقتضاء وجوب الطاعة والإتباع ، ومعلوم أن التقرير في مقدّمة خبر الغدير وقع بما أوجبه الله تعالى في الآية لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأن المعنيين متطابقان ، وصاحب الكتاب ينكر فيما حكيناه من كلامه ونقضناه أن يكون التقرير وقع بفرض الطاعة في خبر الغدير ، وقد بيّنا أنه خلاف للامة ، وقد كان يجب عليه إذا احتجّ بكلام أبي مسلم في الموضع الذي حكاه ، وجعله قدوة فيما يرجع إلى اللغة والاشتقاق أن يلتزم جميع ما ذكره هناك ، ولا يقتصر احتجاجه على ما وافق هواه دون ما خالفه ، وليس له أن يقول : إن الخطأ يجوز على أبي مسلم في بعض كلامه دون بعض ؛ لأن ذلك إنما يجوز فيما طريقه الاستدلال ، فأمّا فيما طريقه اللغة التي لا مجال للاستدلال والقياس فيها ، وإنّما يؤخذ سماعا فإنّه لا يجوز ، لا سيّما وقد جعل قوله في معنى اللفظة واشتقاقها حجّة ، ومن كان بهذه المنزلة فيما يرجع إلى اللغة يجب أن يرجع إلى جميع قوله في معنى هذه اللفظة وتأويلها.

فأما الخطأ الذي اتبع صاحب الكتاب كلام أبي مسلم فهو اعتقاده أن الموالاة إذا كانت بمعنى المتابعة استحال حصولها من جهة واحدة ، ووجب أن لا يدخل إلّا بين اثنين ، وهذا خطأ فاحش ؛ لأن لفظة المفاعلة ليس يجب في كل موضع دخوله بين الاثنين ، وإن كان قد يدخل بينهما في أكثر المواضع ، فمن لفظة المفاعلة المستعملة في الواحد دون الاثنين قولهم : ناولت وعاقبت وظاهرت وعافاه الله ، وما يجري مجرى ما ذكرناه مما يتسع ذكره ، وقولهم :

٢٣٧

تابعت وواليت لاحق بما عدّدناه ممّا يكون عبارة عن الواحد وإن كان لفظه لفظ المفاعلة.

فأمّا ما ذكره في آخر كلامه من أن ما تفيده الإمامة ويختصّ به الإمام لا يعلم إلّا بالشرع ، وتوصّله بذلك إلى أن لفظة «مولى» لا تفيد الإمامة فغير صحيح ؛ لأن الإمامة تجري في اللغة على معنى الاتباع والاقتداء ، وهي في الشرع أيضا تفيد هذا المعنى وإن كانت الشريعة وردت بأحكام يتولّاها الإمام على التفصيل لا يفيدها اللفظة اللغوية المفيدة للاتباع والاقتداء على سبيل الجملة.

وقد بيّنا أن الخبر إذا اقتضى وجوب الطاعة والاتباع فقد دلّ على الإمامة بجميع أحكامها الشرعية ؛ لأن الطاعة على جميع الخلق في سائر الأمور لا تجب بعد النبيّ إلّا للإمام فقد بطل قوله : «إن الإمامة لا تدخل في القسمة».

فأمّا تأويل شيوخه للخبر فقد تقدّم كلامنا عليه.

قال صاحب الكتاب : «فأمّا ما أورده من زعم أنه لو لم يرد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به الإمامة لكان قد تركهم في حيرة وعمى عليهم ، فإنه يقال له : ما الذي يمنع أن يثبت في كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما لا يدلّ ظاهره على المراد ، فإن قال : لأنّه يؤدّي إلى ضدّ ما بعث له من البيان قيل له : أليس في كتاب الله تعالى البيان والشفا ، وفيه متشابه لا يدلّ ظاهره على المراد ، فإن قال : إنّ المتشابه وإن كان ظاهره لا يدلّ على المراد ، ففي دليل العقل ما يبيّن المراد به قيل له : فيجوز (١) مثله في كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لأن من خالف لا يقول : إنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يرد بذلك فائدة ، وإنّما يقول : إن ظاهره لا يدلّ على مراده ، وإنّما يدلّ عليه بقرينة».

ثم قال : «فإن قال : إنما أردت أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما عرف قصده عند هذا الكلام باضطرار إلى الإمامة فلو لم يدلّ الكلام عليه لكان معمّيا ، ...» (٢). ونشرع في الجواب عن هذا السؤال بما لم نذكره ؛ لأنا لا نسأله عنه قط فنشتغل بإضمار جوابه.

__________________

(١) في المغني «فجوّز».

(٢) المغني ، ٢٠ : ١٥٦.

٢٣٨

وقال في آخر الفصل : «ومن عجيب أمر هذا المستدلّ أنه ادّعى ما يجري مجرى الضرورة عند هذا الخبر ، ثمّ ذكر أنه اشتبه على الناس بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حال هذا النصّ من حيث ثبت عندهم قوله : «الأئمّة من قريش» وظنّوا أن هذا العموم يقضي على ذلك النصّ».

قال : «وهذا من بعيد ما يقال ؛ لأنهم إذا عرفوا ذلك باضطرار وهم جمع عظيم ، فلا بدّ من أن يعرفه غيرهم بخبرهم ، ومتى اشتهرت الحال في ذلك لم يصحّ وقوع الاشتباه عليهم ، ...» (١).

يقال له : قد علمنا من الذي وجهت كنايتك في هذا الفصل إليه ، وهو شيخنا أبو جعفر بن قبة رحمه‌الله والذي ذكره في صدر كتابه المعروف ب «الإنصاف والانتصاف» خلاف ما ظننته ؛ لأنّه إنما أوجب كون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ملبسا محيّرا متى لم يقصد النصّ بخبر الغدير من حيث بيّن رحمه‌الله اقتضاء ظاهر الكلام للنصّ ، وانه متى حمل على خلافه كان القول خارجا عن مذهب أهل اللغة ، وقد فرّق في الكتاب أيضا بين متشابه القرآن وبين ما أنكره بأن قال : «إن العقل دالّ على أنه تعالى لم يقصد بذلك التشبيه وما جرى مجراه ممّا لا يجوز عليه ، والمخاطبون في تلك الحال بالمتشابه قد فهموا معناه ، وليس مثل هذا في النصّ ؛ لأن العقل لا يخيل أن يكون قصد بخبر الغدير إلى النصّ» وأسقط رحمه‌الله قول من سأل فقال : جوزوا أن يكون السامعون لخبر الغدير من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد فهموا مراده ، وأنه لم يرد به النصّ بأن قال : «إذا كانت معرفة المراد من الكلام لازمة لنا كلزومها لهم لم يجز أن يخصّوا بدلالة أو ما يجري مجرى الدلالة ممّا يوصل إلى معرفة المراد دوننا ، ولوجب أن يقطع عذر الجميع في معرفة مراده لعموم التكليف لهم».

فأمّا ما توهّمه على أبي جعفر من ادّعاء الضرورة في معرفة النصّ من خبر الغدير ، وأنه ناقض من بعد بقوله : «إن الأمر اشتبه على الناس حتى ظنّوا أن

__________________

(١) المغني ، ٢٠ : ١٥٨.

٢٣٩

العمل بقوله عليه‌السلام : «الأئمّة من قريش» أولى فغلط منه عليه ؛ لأن الرجل لم يدع الضرورة في شيء من كلامه ، ومن استقرأ كلامه في هذا الباب وغيره عرف صحّة ما ذكرناه ، بل قد صرّح بما يدلّ على خلاف الضرورة ؛ لأنّه استدلّ على إيجاب النصّ من الخبر باللغة وما تقتضيه المقدّمة والعطف عليها ، ولو كان قائلا بالضرورة في معرفة المراد لم يحتجّ إلى شيء ممّا ذكره ، على أنه قد قال أيضا عند تقسيم النصّ إلى قسمين «فأمّا النصّ الذي وقع بحضرة العدد الكثير فإنّما كان يوم الغدير وكلّهم كانوا ذاكرين لكلامه عليه‌السلام غير أنهم ذهبوا عنه بتأويل فاسد ؛ لأنهم إنما دخلت عليهم الشبهة من حيث توهّموا أنّ لذلك الكلام ضربا من التأويل يجوز معه للرؤساء إذا وقعت الفتنة ، واختلفت الكلمة أن يختاروا إماما» ومعلوم أن هذا كلام من لا يدّعي الاضطرار إلى معرفة المراد بخبر الغدير ؛ لأن الضرورة تنافي دخول التأويلات ، ولو كان القوم عنده مضطرين ما جاز أن يقول : «إنّهم ظنّوا أنّ للكلام ضربا من التأويل عند دخول الشبهة» ولسنا نعلم من أين وقع لصاحب الكتاب ما ظنّه مع بعده ، وهذه جملة كافية ، والمنّة لله تعالى (١).

ـ (لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ ...) [المائدة : ٨٠].

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

ـ (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ ....) [المائدة : ٨٩].

وممّا انفردت به الإمامية أنّ من حلف بالله تعالى أن يفعل قبيحا أو يترك واجبا لم ينعقد يمينه ولم يلزمه كفارة إذا فعل ما حلف أنّه لا يفعله أو لم يفعل ما حلف أنّه يفعله ، ومن عدا الإمامية يوجبون على من ذكرناه الحنث والكفّارة.

دليلنا الاجماع المتردد ، وأيضا ، فإنّ إنعقاد اليمين حكم شرعي بغير شبهة. وقد علمنا بالاجماع إنعقاد اليمين إذا كانت على طاعة أو مباح ، وإذا تعلّقت بمعصية فلا إجماع ولا دليل يوجب العلم على إنعقادها ، فوجب نفي إنعقادها لانتفاء دليل شرعي عليه.

__________________

(١) الشافي في الإمامة لإبطال حجج العامّة ، ٢ : ٢٥٨.

٢٤٠