تفسير الشريف المرتضى - ج ٢

تفسير الشريف المرتضى - ج ٢

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٠

وأخرى في الزيادة والكثرة ؛ قال الله تعالى : (حَتَّى عَفَوْا) أي كثروا ؛ ويقال : قد عفا الشّعر إذا كثر ، وقال الشاعر :

ولكنّا نعضّ السّيف منها

بأسؤق عافيات اللّحم كوم

أراد كثيرات اللحم ؛ يقال : قد عفا وبر البعير إذا زاد ؛ ويقال : أعفيت الشعر وعفوته إذا كثرته وزدت فيه ، وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن تحفى الشوارب وتعفى اللّحي ؛ أي توفّر (١).

ـ (وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (١١٣) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (١١٩)) [الأعراف : ١١٣ ـ ١١٩].

[وفيها أمران :

الأوّل :] فإن قيل : كيف جاز لموسى عليه‌السلام أن يأمر السحرة بإلقاء الحبال والعصيّ وذلك كفر وسحر وتلبيس وتمويه ، والأمر بمثله لا يحسن؟

الجواب : قلنا : لا بدّ من أن يكون في أمره عليه‌السلام بذلك شرط ، فكأنّه قال : «ألقوا ما أنتم ملقون إن كنتم محقّين وكان فيما تفعلونه حجّة وحذف الشرط لدلالة الكلام عليه واقتضاء الحال له وقد جرت العادة باستعمال هذا الكلام محذوف الشرط وإن كان الشرط مرادا وليس يجري هذا مجرى قوله تعالى : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) (٢) وهو يعلم أنّهم لا يقدرون على ذلك وما أشبه هذا الكلام من ألفاظ التحدّيّ ؛ لأنّ التحدّيّ وإن كان بصورة الأمر لكنّه ليس بأمر على الحقيقة ولا تصاحبه إرادة الفعل ، فكيف تصاحبه الإرادة والله تعالى يعلم استحالة وقوع ذلك منهم وتعذّره عليهم؟ وإنّما التحدّي لفظ موضوع لإقامة

__________________

(١) الأمالي ، ٢ : ١٦٨.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ٢٣.

٣٠١

الحجّة على المتحدّيّ وإظهار عجزه وقصوره عمّا تحدّى به ، وليس هناك فعل يتناوله إرادة الأمر بإلقاء الحبال والعصيّ بخلاف ذلك ؛ لأنّه مقدور ممكن ، فليس يجوز أن يقال : إنّ المقصود به هو أن يعجزوا بها عن إلقائها ويتعذّر عليهم ما دعوا إليه ، فلم يبق بعد ذلك إلّا أنّه أمر بشرط.

ويمكن أن يكون على سبيل التحدّيّ بأن يكون دعاهم إلى الإلقاء على وجه يساوونه فيه ، ولا يخيّلون فيما ألقوه من السعي والتصرّف من غير أن يكون له حقيقة ؛ لأنّ ذلك غير مساو لما ظهر على يده من انقلاب الجماد حية على الحقيقة دون التخييل. وإذا كان ذلك ليس في مقدورهم فإنّما تحدّاهم به لتظهر حجّته ويوجّه دلالته وهذا واضح.

وقد بيّن الله تعالى في القرآن ذلك بأوضح ما يكون فقال : (وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ) [إلى آخر ما تقدّم من الآيات] (١).

[الثاني : انظر الصافات : ٩٥ و ٩٦ من الأمالي ، ٢ : ٢٠٣]

ـ (قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) [الأعراف : ١٢٣].

أنظر الأعراف : ١٤٣ من الأمالي ، ٢ : ١٨٥.

ـ (قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [الأعراف : ١٢٩].

أنظر النور : ٥٥ من الشافي ، ٤ : ٣٦ و ٤٥.

ـ (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) [الأعراف :

١٤٢] (٢).

قال القاضي : «دليل لهم آخر ، واستدلوا بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنت مني بمنزلة

__________________

(١) تنزيه الأنبياء والأئمّة : ١٠٥.

(٢) أقول : نقلنا كلامه هنا بطوله لاشتماله على فوائد تفسيرية وروائية وبحوث كلامية في الإمامة الّتي هي الخلاف الجرزى بيننا وبين العامة.

٣٠٢

هارون ابن موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي» (١) فاقتضى هذا الظاهر أن له كلّ منازل هارون من موسى ؛ لأنّه أطلق ولم يخصّ إلّا ما دلّ عليه العقل ، والاستثناء المذكور ، ولو لا أن الكلام يقتضي الشمول لما كان للاستثناء معنى ، وإنّما نبّه عليه‌السلام باستثناء النبوّة على أن ما عداه قد دخل تحته إلّا ما علم بالعقل أنه لا يدخل فيه نحو الاخوة في النسب أو الفضل الذي يقتضيه شركة النبوّة إلى ما شاكله ، وقد ثبت أنّ أحد منازله من موسى عليه‌السلام أن يكون خليفته من بعده وفي حال غيبته ، وفي حال موته ، فيجب أن يكون هذه حال أمير المؤمنين عليه‌السلام ، من بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قالوا : ولا يطعن فيما بيّنّاه أن هارون عليه‌السلام مات قبل موسى عليه‌السلام لأن المتعالم أنّه لو عاش بعده لخلفه فالمنزلة ثابتة ، وإن لم يعش فيجب حصولها لأمير المؤمنين عليه‌السلام إذا عاش بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما لو قال الرئيس لصاحب له : منزلتك عندي في الإكرام والعطاء منزلة فلان من فلان وفلان فات فيه الإكرام والعطاء بموت أو غيبة ولم يفت في الثاني ، فالواجب أن ينزل منزلته ، ولا يجوز أن يقال : لا يزاد على الأوّل في ذلك ، قال : وربّما قالوا : قد ثبت أن موسى عليه‌السلام قد استخلف هارون على الإطلاق على ما دلّ عليه

__________________

(١) حديث المنزلة أخرجه جماعة من الحفاظ وأرباب المسانيد كالبخاري في صحيحه ٤ / ٢٠٨ ، كتاب بدء الخلق باب مناقب عليّ بن أبي طالب وج ٥ / ١٢٩ ، كتاب المغازي ، باب غزوة تبوك ، ومسلم في صحيحه ٢ / ٣٦٠ ، كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عبد البرّ بترجمة عليّ عليه‌السلام من الاستيعاب ٣ / ٤٥ وعقب عليه بقوله : «وهو من أثبت الاثار وأصحها رواه عن النبي سعد بن أبي وقاص» قال : «وطرق سعد فيه كثيرة ذكرها ابن أبي خيثمة وغيره» قال : «ورواه ابن عبّاس ، وأبو سعيد الخدري ، وأمّ سلمة ، وأسماء بنت عميس ، وجابر بن عبد الله وجماعة يطول ذكرهم» ورواه أحمد في المسند بطرق عديدة عن جماعة من الصحابة (انظر الجزء الأول ص ١٧٣ و ١٧٥ و ١٧٧ و ١٧٩ و ١٨٢ و ١٨٥ و ٣٣١ ، والجزء السادس ٣٦٩ و ٤٣٨ ، وفي صواعق ابن حجر ص ١٧٩ قال أخرج أحمد «إنّ رجلا سأل معاوية عن مسألة ، فقال : سل عنها عليا فهو أعلم ، قال : جوابك فيها أحبّ إليّ من جواب عليّ ، قال بئس ما قلت لقد كرهت رجلا كان رسول الله يغره بالعلم غرّا ، ولقد قال له : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنه لا نبيّ بعدي» وكان عمر إذا أشكل عليه شيء أخذ منه قال : وأخرجه آخرون ولكن زاد بعضهم : قم عنّي لا أقام الله رجليك ، ومحا اسمه من الديوان» ونقله كلّ علماء السيرة عند تعرضهم لغزوة تبوك ، والكلام في ذكر كلّ ما هنالك يطول.

٣٠٣

قوله تعالى : (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) فيجب ثبوت هذه المنزلة لعليّ عليه‌السلام من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الإطلاق حتّى تصير كأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : اخلفني في قومي ، والمعلوم أنه لو قال ذلك لتناول حال الحياة وحال الممات فيجب لذلك أن يكون هو الخليفة [من بعده] وربّما قالوا : قد ثبت أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد استخلف أمير المؤمنين عليه‌السلام عند غيبته في غزوة تبوك ، ولم يثبت عنه أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صرفه فيجب أن يكون خليفته بعد وفاته كما يجب في هارون أن يكون خليفته أبدا ما عاش ، وربما ذكّروا ذلك بأن قالوا : إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أثبت له منزلته ونفى الأشياء الأخرى فإذا كان ما نفاه بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثابتا فالذي أثبته كمثله وهذا يوجب أنه الخليفة بعده ؛ لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبّه بالاستثناء على هذه الحالة وإن كان مثلها لم يحصل لهارون عليه‌السلام إلّا في حال حياة موسى عليه‌السلام ، ...» (١).

يقال له : نحن نبيّن كيفية الاستدلال بالخبر الذي أوردته على إيجاب النص ونورد من الأسئلة والمطالبات ما يليق بالموضع ثمّ نعود إلى نقض كلامك على عادتنا فيما سلف من الكتاب فنقول : إن الخبر دالّ على النصّ من وجهين ما فيهما إلّا قوي معتمد : أحدهما : أنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنه لا نبيّ بعدي» يقتضي حصول جميع منازل هارون من موسى عليه‌السلام لأمير المؤمنين إلّا ما خصّه الاستثناء المتطرق (٢) به في الخبر وما جرى مجرى الاستثناء من العرف ، وقد علمنا أن منازل هارون من موسى هي الشركة في النبوة ، واخوة النسب والفضل والمحبّة والاختصاص على جميع قومه والخلافة له في حال غيبته على أمّته ، وأنه لو بقي بعده لخلفه فيهم ولم يجز أن يخرج القيام بأمورهم عنه إلى غيره ، وإذا خرج بالاستثناء منزلة النبوّة ، وخصّ العرف منزلة الاخوة في النسب ؛ لأنّ من المعلوم لكلّ أحد ممن عرفهما عليهما‌السلام أنه لم يكن بينهما أخوة نسب وجب القطع على ثبوت ما عدا هاتين المنزلتين ، وإذا ثبت ما عداهما وفي جملته أنه لو بقي لخلفه ودبّر أمر امّته وقام فيهم مقامه ،

__________________

(١) المغني ، ٢٠ : ١٥٩.

(٢) في نسخة المستطرق به وفي أخرى «المنطوق به».

٣٠٤

وعلمنا بقاء أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجبت له الإمامة بعده بلا شبهة.

فإن قالوا : دلّوا أولا على صحّة الخبر فهو الأصل ، ثمّ على أنّ من جملة منازل هارون من موسى أنه لو بقي بعد وفاته لخلفه وقام بأمر امّته ، ثمّ على أن الخبر يصحّ فيه طريقة العموم ، وأنه يقتضي ثبوت جميع المنازل بعد ما أخرجه الاستثناء وما جرى مجراه.

قيل : أمّا الذي يدلّ على صحّة الخبر فهو جميع ما دلّ على صحّة خبر الغدير ممّا استقصيناه فيما تقدّم وأحكمناه ، ولأن علماء الأمّة مطبقون على قبوله وإن اختلفوا في تأويله والشيعة تتواتر به وأكثر رواة الحديث يرويه ومن صنف الحديث منهم أورده من جملة الصحيح ، وهو ظاهر بين الأمة شائع كظهور سائر ما نقطع على صحته من الأخبار ، واحتجاج أمير المؤمنين عليه‌السلام على أهل الشورى يصححه ، ومن يحكي أنّه ردّه أو أظهر الشكّ فيه لا شك ـ إذا صحت الحكاية عنه ـ في شذوذه ، وتقدّم الإجماع لقوله ثم تأخره عنه ، وكلّ هذا قد تقدّم فلا حاجة بنا إلى بسطه.

وأمّا الدليل على أنّ هارون عليه‌السلام لو بقي بعد موسى لخلفه في امّته فهو أنه قد ثبت خلافته له في حال حياته بلا خلاف وفي قوله تعالى : (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) أكبر شاهد بذلك. وإذا ثبت الخلافة له في حال الحياة وجب حصولها له بعد حال الوفاة لو بقي إليها ؛ لأن خروجها عنه في حال من الأحوال مع بقائه حطّ له من رتبة كان عليها ، وصرف عن ولاية فوّضت إليه ، وذلك يقتضي من التنفير أكثر ممّا يعترف به خصومنا من المعتزلة بأن الله تعالى يجنّب أنبياءه عليهم‌السلام من القباحة في الخلق والدمامة المفرطة ، والصغائر المستخفة ، وأن لا يجيبهم الله تعالى إلى ما يسألونه لأمتهم من حيث يظهر لهم.

فإن قال : ولم زعمتم أن فيما ذكرتموه تنفيرا قيل له : لأن خلافة هارون

٣٠٥

لموسى عليه‌السلام كانت منزلة في الدين جليلة ، ودرجة فيه رفيعة ، واقتضت من التبجيل والتعظيم ما يجب لمثلها لم يجز أن يخرج عنها ؛ لأن في خروجه عنها زوال ما كان له في النفوس بها من المنزلة ، وفي هذا نهاية التنفير والتأثير في السكون إليه ومن دفع أن يكون الخروج عن هذه المنزلة منفّرا كمن دفع أن يكون سائر ما عددناه منفّرا.

فإن قال : إذا ثبت فيما ذكرتموه أنّه منفّر وجب أن يجتنبه هارون عليه‌السلام من حيث كان نبيا ومؤديا عن الله عزوجل ؛ لأنه لو لم يكن نبيا لما وجب أن يجتنب المنفرات ، فكأنّ نبوّته هي المقتضية لاستمرار خلافته إلى بعد الوفاة ، وإذا كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد استثنى في الخبر النبوّة وجب أن يخرج معها ما هي مقتضية له وكالسّبب فيه ، وإذا أخرجت هذه المنزلة مع النبوّة لم يكن في الخبر دلالة على النصّ الذي تدعونه.

قيل له : إن أردت بقولك إن الخلافة من مقتضى النبوّة أنه من حيث كان نبيّا تجب له هذه المنزلة كما يجب له سائر شروط النبوّة فليس الأمر كذلك ؛ لأنّه غير منكر أن يكون هارون قبل استخلاف موسى له شريكا في نبوّته ، وتبليغ شرعه وإن لم يكن خليفة له فيما سوى ذلك في حياته ولا بعد وفاته ، وإن أردت أن هارون بعد استخلاف موسى له في حياته يجب أن يستمر حاله ولا يخرج عن هذه المنزلة ؛ لأن خروجه عنها يقتضي التنفير الذي يمتنع نبوّة هارون منه ، وأشرت في ذلك أن النبوة تقتضي الخلافة بعد الوفاة إلى هذا الوجه فهو صحيح ، غير أنّه لا يجب ما ظننته من استثناء الخلافة باستثناء النبوة ؛ لأن أكثر ما فيه أن يكون كالسبب في ثبوت الخلافة بعد الوفاة ، وغير واجب أن ينفي ما هو كالسبب عن غيره عند نفي ذلك الغير ، ألا ترى أن أحدنا لو قال لوصيّه : اعط فلانا من مالي كذا وكذا ـ وذكر مبلغا عيّنه ـ فإنه يستحق هذا المبلغ عليّ من ثمن سلعة ابتعتها منه ، وأنزل فلانا منزلة فلان الذي أوصيتك به وأجره مجراه ؛ فإنّ ذلك يجب له من أرش جناية أو قيمة متلفة ، أو ميراث أو غير هذه الوجوه ، بعد أن يذكر وجها يخالف الأول لوجب على الوصي أن يسوي بينهما

٣٠٦

في العطية ، ولا يخالف بينهما فيها من حيث اختلفت جهة استحقاقهما ، ولا يكون قول هذا القائل عند أحد من العقلاء يقتضي سلب المعطى الثاني العطية من حيث سلبه جهة استحقاقها في الأول ، فوجب بما ذكرناه أن تكون منزلة هارون من موسى عليه‌السلام في استحقاق خلافته له بعد وفاته ثابتة لأمير المؤمنين عليه‌السلام لاقتضاء اللفظ لها ، وإن كانت تجب لهارون من حيث كان في انتفائها تنفير يمنع نبوته منه ، وتجب لأمير المؤمنين عليه‌السلام من غير هذا الوجه.

وليس له أن يقول : إن ما ذكرتم حاله لم يختلفا في جهة العطية ، وما هو كالسبب لها ؛ لأن القول من الموصي هو المقتضي لها ، والمذكوران يتساويان فيه ؛ وذلك أن سبب استحقاق العطية في الحقيقة ليس هو القول ، بل هو ما تقدم ثمن البيع وقيمة التلف أو ما جرى مجراهما وهو مختلف لا محالة ، وإنما يجب بالقول على الموصى إليه العطية ، فأمّا الاستحقاق على الموصي وسببه فيتقدمان بغير شك ، ويزيد ما ذكرناه وضوحا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو صرّح به حتّى يقول : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى» في خلافته له في حياته واستحقاقها له لو بقي إلى بعد وفاته إلّا أنك لست بنبي كان كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صحيحا غير متناقض ولا خارج عن الحقيقة ، ولم يجب عند أحد أن يكون باستثناء النبوة نافيا لما أثبته من منزلة الخلافة بعد الوفاة ، وقد يمكن مع ثبوت هذه الجملة أن يرتب الدليل في الأصل على وجه يجب معه كون هارون مفترض الطاعة على امّة موسى لو بقي إلى بعد وفاته ، وثبوت مثل هذه المنزلة لأمير المؤمنين عليه‌السلام وإن لم يرجع إلى كونه خليفة له في حال حياته ووجوب استمرار ذلك إلى بعد الوفاة فإن في المخالفين من يحمله نفسه على دفع خلافة هارون لموسى في حياته وإنكار كونها منزلة تنفصل عن نبوته وإن كان فيما حمل نفسه عليه ظاهره المكابرة ويقول : قد ثبت أن هارون كان مفترض الطاعة على امّة موسى عليه‌السلام لمكان شركته له في النبوّة التي لا يتمكن من دفعها ، وثبت أنه لو بقي بعده لكان ما يجب من طاعته على جميع امّة موسى عليه‌السلام يجب له ؛ لأنّه لا يجوز خروجه عن النبوّة وهو حيّ ، وإذا وجب ما ذكرناه وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أوجب بالخبر لأمير المؤمنين عليه‌السلام جميع منازل هارون من موسى ونفى أن يكون نبيّا وكان من

٣٠٧

جملة منازله أنه لو بقي بعده لكانت طاعته مفترضة على أمته وإن كانت تجب لمكان نبوته وجب أن يكون أمير المؤمنين عليه‌السلام المفترض الطاعة وعلى سائر الأمّة بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن لم يكن نبيا ؛ لأنّ نفي النبوّة لا يقتضي نفي ما يجب لمكانها على ما بينّاه ، وإنّما كان يجب بنفي النبوّة ، نفي فرض الطاعة لو لم يصح حصول فرض الطاعة إلّا للنبيّ ، وإذا جاز أن يحصل لغير النبيّ كالإمام والأمير علم انفصاله من النبوّة ، وانه ليس من شرائطها وحقائقها التي تثبت بثبوتها وتنتفي بانتفائها والمثال الذي تقدّم يكشف عن صحّة قولنا ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو صرّح أيضا بما ذكرناه حتى يقول : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى» في فرض الطاعة على امّتي وإن لم تكن شريكي في النبوة وتبليغ الرسالة لكان كلامه مستقيما بعيدا من التنافي.

فإن قال : فيجب على هذه الطريقة أن يكون أمير المؤمنين عليه‌السلام مفترض الطاعة على الأمّة في حال حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما كان هارون كذلك في حياة موسى عليه‌السلام.

قيل له : لو خلينا وظاهر الكلام لأوجبنا ما ذكرته ، غير أن الإجماع مانع منه ؛ لأنّ الأمة لا تختلف في أنه عليه‌السلام لم يكن مشاركا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فرض الطاعة على الأمة في جميع أحوال حياته حيث ما كان عليه هارون في حياة موسى ، ومن قال منهم : إنه مفترض الطاعة في تلك الأحوال يجعل ذلك في أحوال غيبة الرسول عن الأمة في جميع أحوال حياته حيث ما كان عليه هارون في حياة موسى ، ومن قال منهم : إنه مفترض الطاعة في تلك الأحوال يجعل ذلك في أحوال غيبة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على وجه الخلافة له لا في أحوال حضوره ، وإذا خرجت أحوال الحياة بالدليل تثبت الأحوال بعد الوفاة بمقتضى اللفظ.

فإن قال ظاهر قوله عليه‌السلام : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى» لم يمنع ممّا ذكرتموه ؛ لأنّه يقتضي من المنازل ما حصل لهارون من جهة موسى واستفادة به ، وإلّا فلا معنى لنسبة المنازل إلى أنها منه ، وفرض الطاعة الحاصل عن النبوة غير متعلّق بموسى عليه‌السلام ولا واجب من جهته.

قيل له : أمّا سؤالك فظاهر السقوط على كلامنا ؛ لأن خلافة هارون لموسى

٣٠٨

في حياته لا شكّ في أنها منزلة منه ، وواجبة بقوله الذي ورد به القرآن ، فأما ما أوجبناه من استخلافه الخلافة بعده فلا مانع من إضافته أيضا إلى موسى عليه‌السلام ؛ لأنّه من حيث استخلفه في حياته وفوض إليه تدبير قومه ولم يجز أن يخرج عن ولاية جعلت له ، وجب حصول هذه المنزلة له بعد الوفاة ، فتعلّقها بموسى عليه‌السلام تعلّق قويّ ، فلم يبق إلّا أن نبيّن استأنفناها ، والذي يبيّنه أن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» لا يقتضي ما ظنّه السائل من حصول المنازل بموسى عليه‌السلام ومن جهته ، كما أن قول أحدنا : أنت منّي بمنزلة أخي منّي أو بمنزلة أبي منّي لا يقتضي كون الاخوة والأبوة به ومن جهته ، فليس يمكن أحدا أن يقول في هذا القول : إنّه مجاز أو خارج عن حكم الحقيقة ، ولو كانت هذه الصيغة تقتضي ما ادعى لوجب أيضا أن لا يصحّ استعمالها في الجمادات ، وكلّ ما لا يصحّ منه فعل ، وقد علمنا صحّة استعمالها فيما ذكرناه ؛ لأنّهم لا يمنعون من القول بأن منزلة دار زيد من دار عمرو بمنزلة دار خالد من دار بكر ، ومنزلة بعض أعضاء الإنسان منه بمنزلة بعض آخر منه ، وإنما يفيدون تشابه الأحوال وتقاربها ، ويجري لفظة «من» في هذه الوجوه مجرى «عند» و «مع» فكأن القائل أراد محلّك عندي ، وحالك معي في الإكرام والإعظام كحال أبي عندي ومحلّه فيهما ، وممّا يكشف عن صحّة ما ذكرناه حسن استثناء الرسل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النبوّة من جملة المنازل ، ونحن نعلم أنّه لم يستثن إلّا ما يجوز دخوله تحت اللفظ عندنا ، أو يجب دخوله عند مخالفينا ، ونعلم أيضا أن النبوة المستثناة لم تكن بموسى عليه‌السلام ، وإذا ساغ استثناء النبوّة من جملة ما اقتضى اللفظ مع أنها لم تكن بموسى عليه‌السلام بطل أن يكون اللفظ متناولا لما وجب من جهة موسى من المنازل ، وأما الذي يدلّ على أن اللفظ يوجب حصول جميع المنازل إلّا ما أخرجه الاستثناء ، وما جرى مجراه وإن لم يكن من ألفاظ العموم الموجبة للاشتمال والاستغراق ، ولا كان من مذهبنا أيضا أن في اللفظ المستغرق للجنس على سبيل الوجوب لفظا موضوعا له فهو أن دخول الاستثناء في اللفظ الذي يقتضي على سبيل الاحتمال أشياء كثيرة متى صدر من حكيم يريد البيان والافهام

٣٠٩

دليل على أن ما يقتضيه اللفظ يحتمله بعد ما خرج بالاستثناء مرادا بالخطاب وداخل تحته ، ويصير دخول الاستثناء كالقرينة أو الدلالة التي توجب بها الاستغراق والشمول ؛ يدلّ على صحّة ما ذكروه أن الحكيم منّا إذا قال : «من دخل داري أكرمته إلّا زيدا» فهمنا من كلامه بدخول الاستثناء أن من عدا زيدا مراد بالقول ؛ لأنّه لو لم يكن مرادا لوجب استثناؤه مع إرادة الإفهام والبيان ، فهذا وجه.

ووجه آخر وهو إنّا وجدنا الناس في هذا الخبر على فرقتين منهم من ذهب إلى أن المراد منزلة واحدة لأجل السبب الذي يدّعون خروج الخبر عليه أو لأجل عهد أو عرف ، والفرقة الأخرى تذهب إلى عموم القول بجميع ما هو منزلة لهارون من موسى عليه‌السلام بعد ما أخرجه الدليل على اختلافهم في تفصيل المنازل وتعيينها ، وهؤلاء هم الشيعة وأكثر مخالفيهم ؛ لأن القول الأول لم يذهب إليه إلّا الواحد والاثنان ، وإنّما يمتنع من خالف الشيعة من إيجاب كون أمير المؤمنين عليه‌السلام خليفة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حيث لم يثبت عندهم أن هارون لو بقي بعد موسى لخلفه ، ولا أن ذلك ممّا يصحّ أن يعد في جملة منازله فكان كلّ من ذهب إلى أن اللفظ يصحّ تعديه المنزلة الواحدة ذهب إلى عمومه فإذا فسد قول من قصر القول على المنزلة الواحدة لما سنذكره ، وبطل وجب عمومه ؛ لأن أحدا لم يقل بصحّة تعديته مع الشكّ في عمومه ، بل القول بأنّه ممّا يصحّ أن يتعدى ، وليس بعام خروج عن الإجماع.

فإن قال : وبأي شيء تفسدون أن يكون الخبر مقصورا على منزلة واحدة لأجل السبب أو ما يجري مجراه.

قيل له : أمّا ما تدّعي من السبب الذي هو إرجاف المنافقين ، ووجوب حمل الكلام عليه وألّا يتعدّاه فيبطل من وجوه :

منها : أن ذلك غير معلوم على حدّ العلم بنفس الخبر (١) بل غير معلوم

__________________

(١) في نسخة «على حد تيقّن الخبر».

٣١٠

أصلا ، وإنّما وردت به أخبار آحاد وأكثر الأخبار واردة بخلافه ، وأن أمير المؤمنين عليه‌السلام لما خلفه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمدينة في غزوة تبوك كره أن يتخلّف عنه ، وأن ينقطع عن العادة التي كان يجري عليها في مواساته له بنفسه ، وذبّه الأعداء عن وجهه ، فلحق به وشكى إليه ما يجده من ألم الوحشة ، فقال له هذا القول ، وليس لنا أن نخصّص خبرا معلوما بأمر غير معلوم ، على أن كثيرا من الروايات قد أتت بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال له : «أنت منّي بمنزله هارون من موسى» في أماكن مختلفة ، وأحوال شتّى ، فليس لنا أيضا أن نخصه بغزوة تبوك دون غيرها ، بل الواجب القطع على الخبر الحق ، والرجوع إلى ما يقتضيه والشك فيما لم يثبت صحّته من الأسباب والأحوال.

ومنها : ان الذي يقتضيه السبب مطابقة القول له ، وليس يقتضي مع مطابقته ألّا يتعدّاه ، وإذا كان السبب ما يدّعونه من إرجاف المنافقين أو استثقاله عليه‌السلام أو كان الاستخلاف في حال الغيبة والسفر فالقول على مذهبنا وتأويلنا يطابقه ويتناوله ، وإن تعداه إلى غيره من الاستخلاف بعد الوفاة الذي لا ينافي ما يقتضيه السبب ، يبين ذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو صرّح بما ذهبنا إليه حتى يقول : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى» في المحبّة والفضل والاختصاص والخلافة في الحياة وبعد الوفاة لكان السبب الذي يدّعي غير مانع من صحّة الكلام واستقامته.

ومنها : ان القول لو اقتضى منزلة واحدة امّا الخلافة في السفر أو ما ينافي من إرجاف المنافقين من المحبّة والميل لقبح الاستثناء ؛ لأنّ ظاهره لا يقتضي تناول الكلام لأكثر من منزلة واحدة ، ألا ترى أنه لا يحسن أن يقول أحدنا لغيره منزلتك منّي في الشركة في المتاع المخصوص دون غيرها منزلة فلان من فلان إلّا انك لست بجاري ، وإن كان الجوار ثابتا بين من ذكره من حيث لم يصح تناول قوله الأول ما يصحّ دخول منزلة الجوار فيه ، وكذلك لا يصحّ أن يقول : ان ضربت غلامي زيدا إلّا غلامي عمرا ، وإن صحّ أن يقول : «ضربت غلماني إلّا غلامي عمرا» من حيث تناول اللفظ الواحد دون الجمع ، وبهذا الوجه يسقط قول من ادّعى أن الخبر يقتضي منزلة واحدة ؛ لأنّ ظاهر اللفظ يتناول أكثر من

٣١١

المنزلة الواحدة ، وأنه لو أراد منازل كثيرة لقال : «أنت منّي بمنازل هارون من موسى» وذلك أن اعتبار موضع الاستثناء يدلّ على أن الكلام يتناول أكثر من منزلة واحدة ، والعادة في الاستعمال جارية بأن يستعمل مثل هذا الخطاب ، وإن كان المراد المنازل الكثيرة ؛ لأنّهم يقولون : منزلة فلان من الأمير كمنزلة فلان منه ، وإن أشاروا إلى أحوال مختلفة وإلى منازل كثيرة ، ولا يكادون يقولون بدلا ممّا ذكرناه منازل فلان كمنازل فلان ، وإنّما حسن منهم ذلك من حيث اعتقدوا أن ذوي المنازل الكثيرة ، والرتب المختلفة قد حصل لهم بمجموعها منزلة واحدة كأنّها جملة تتفرع على غيرها ، فتقع الإشارة منهم إلى الجملة بلفظ الواحدة ، وباعتبار ما اعتبرناه من الاستثناء يبطل قول من حمل الكلام على منزلة يقتضيها العهد والعرف ، ولأنه ليس في العرف ألّا تستعمل لفظ منزلة إلّا في شيء مخصوص دون ما عداه ؛ لأنّه لا حال من الأحوال يحصل لأحد مع غيره من نسب وجوار وولاية ومحبّة واختصاص إلى سائر الأحوال إلّا ويصح أن يقال فيه : انه منزلة ، ومن ادعى عرفا في بعض المنازل كمن ادّعاه في غيره ، وكذلك لا عهد يشار إليه في منزلة من منازل هارون من موسى عليه‌السلام دون غيرها فلا اختصاص بشيء من منازله بعهد ليس في غيره ، بل سائر منازله كالمعهود من جهة أنّها معلومة بالأدلة عليها ، وكلّ ما ذكرناه واضح لمن أنصف من نفسه.

طريقة أخرى من الاستدلال بالخبر على النص وهي أنه إذا ثبت كون هارون خليفة لموسى على امته في حياته ومفترض الطاعة عليهم ، وان هذه المنزلة من جملة منازله ، ووجدنا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استثنى ما لم يرده من المنازل بعده بقوله : «إلّا أنّه لا نبيّ بعدي» دلّ هذا الاستثناء على أنّ ما لم يستثنه حاصل لأمير المؤمنين عليه‌السلام بعده وإذا كان من جملة المنازل الخلافة في الحياة وثبتت بعده فقد صحّ وجه النص بالإمامة.

فإن قال : ولم قلتم إنّ الاستثناء في الخبر يدلّ على بقاء ما لم يستثن من المنازل وثبوته بعده.

قيل له : لأنّ الاستثناء كما من شأنه إذا كان مطلقا أن يوجب ما لم يستثن

٣١٢

مطلقا ، كذلك من شأنه إذا قيّد بحال أو وقت أن يوجب ثبوت ما لم يستثن في ذلك الوقت ؛ لأنّه لا فرق بين أن يستثنى من الجملة في حال مخصوصة ما لم يتضمنه الجملة في تلك الحال وبين أن يستثنى منها ما لم يتضمنه على وجه من الوجوه ، ألا ترى أن قول القائل : ضربت غلماني إلّا زيدا في الدّار ، وإلّا زيدا فإني لم أضربه في الدار ، يدلّ على أن ضربه غلمانه كان في الدار لموضع تعلّق الاستثناء بها ، وأن الضرب لو لم يكن في الدار لكان تضمّن الاستثناء لذكر الدار كتضمّنه ذكر ما لا تشتمل عليه الجملة الأولى من بهيمة وغيرها ، وليس لأحد أن يقول ويتعلّق بأن لفظة «بعدي» في الخبر لا تفيد حال الوفاة ، وأن المراد بها بعد نبوّتي ؛ لأن الجواب عن هذه الشبهة يأتي فيما بعد مستقصى بمشيئة الله ، ولا له أن يقول : من أين لكم ثبوت ما لم يدخل تحت الاستثناء من المنازل؟ لأنا قد دلّلنا على ذلك في الطريقة الأولى.

ونحن نعود إلى كلام صاحب الكتاب في الفصل.

أما الطريقة الأولى وهي التي بدأ بذكرها فقد استوفينا نصرتها.

وأمّا ما ذكره ثانيا فليس بمعتمد جملة ؛ لأن قوله تعالى في حكاية خطاب موسى لهارون (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ) إن كانت هذه الصيغة بعينها هي الواقعة من موسى عليه‌السلام لم يكن دلالة على ثبوت الاستخلاف في جميع الأحوال ، فكيف ونحن نعلم أن الحكاية تناولت معنى قوله دون صيغته ، وإنّما قلنا إن قوله : «أخلفني في قومي» لا يقتضي عموم سائر الأحوال ؛ لأنه محتمل ، وليس يجب في اللفظ المحتمل أن يحمل على سائر ما يحتمله إلّا بدليل ، كما لا يجب ذلك في البعض.

فأما ما ذكره ثالثا فهو طريقة إثبات النص ، وقد اعتمدها أصحابنا أنه ليس بمتعلّق بالخبر الذي شرع صاحب الكتاب في حكاية وجوه استدلالاتنا منه ، ولا مفتقرة إليه ، وما نعلم أحدا من أصحابنا قرن هذه الطريقة من الاستدلال بالكلام في الخبر ، وإيرادها في هذا الموضع طريف.

فأمّا ما ذكره رابعا فهي الطريقة التي أوردناها وقد بيّنا كيفية دلالتها.

٣١٣

قال صاحب الكتاب : «واعلم أن قوله : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى» لا يتناول إلّا منزلة ثابتة منه ، ولا يدخل تحته منزلة مقدرة ؛ لأن المقدر ليس بحاصل ولا يجوز أن يكون منزلة ؛ لأنّ وصفه بأنّه منزلة يقتضي حصوله على وجه مخصوص ولا فرق في المقدّر بين (١) أن يكون من الباب الذي كان يجب لا محالة على الوجه الذي قدّر أو لا يجب في أنه لا يدخل تحت الكلام ، ويبيّن صحّة ذلك أن قوله : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى» يقتضي منزلة لهارون من موسى معروفة يشبه (٢) بها منزلته ، فكيف يصح أن تدخل في ذلك المقدر وهو كقول القائل : حقّك (٣) علي مثل حقّ فلان على فلان ، ودينك عندي مثل دين فلان ، إلى ما شاكل ذلك في أنه لا يتناول إلّا أمرا معروفا حاصلا وإذا ثبت ذلك ، فيقال : ننظر فإن كانت منزلة هارون من موسى معروفة حملنا الكلام عليها ، وإلّا وجب التوقّف كما يجب مثله فيما مثلناه من الحق والدين ، ويجب أن ننظر إن كان الكلام يقتضي الشمول حملناه عليه وإلّا وجب التوقّف عليه ولا يجوز أن يدخل تحت الكلام ما لم يحصل لهارون من المنزلة البتة ، وقد علمنا أنه لم تحصل له الخلافة بعده فيجب أن لا يدخل ذلك تحت الخبر ، ولا يمكنهم أن يقولوا بوجوب دخوله تحت الخبر على التقدير الذي ذكروه ؛ لأنا قد بيّنا أن الخبر لا يتناول التقدير (٤) الذي لم يكن ، وإنما يتناول أول المنزلة الكائنة الحاصلة.

فإن قيل : إنّ المنزلة التي تقدّرها لهارون هي كأنها ثابتة ؛ لأنّها واجبة بالاستخلاف في حال الغيبة ، وإنّما حصل فيها منع وهو موته قبل موت موسى عليه‌السلام ، ولو لا هذا المنع لكانت ثابتة فإذا لم يحصل مثل هذا المنع في أمير المؤمنين عليه‌السلام فيجب أن تكون ثابتة.

قيل له : إنّ الذي ذكرته إذا سلّمناه لم يخرج هذه المنزلة من كونها غير ثابتة

__________________

(١) في المغني «في العدد».

(٢) في المغني : «ليست بها منزلته» والظاهر تحريف «ليست» عن «يشبه».

(٣) في المغني «حصل عليّ».

(٤) في المغني «المقدّر».

٣١٤

في الحقيقة وإن كانت في الحكم كأنّها ثابتة ، وقد بيّنا (١) أن الخبر لم يتناول المقدّر صحّ وجوبه أو لم يصحّ ، فنحن قبل أن نتكلم في صحّة ما أوردته ووجوبه قد صحّ كلامنا (٢) فلا حاجة بنا (٣) إلى منازعتك في هذه المنزلة هل كانت تجب لو مات موسى قبله ، أو كانت لا تجب؟ يبيّن ذلك أنه عليه‌السلام لو ألزمنا صلاة سادسة في المكتوبات أو صوم شوّال لكان ذلك شرعا له ولوجب ذلك لمكان المعجز ، وليس بواجب أن يكون من شرعه الآن ، وإن كان لو أمر به للزم ، وكذلك القول فيما ذكروه وليس كلّ مقدر حصل سبب وجوبه وكان يجب حصوله له ولو لا المانع يصحّ أن يقال : إنه حاصل ، وإذا تعذّر ذلك فكيف يقال : انه منزلة وقد بيّنا أن كونه (٤) صفة زائدة على حصوله يبيّن ذلك أن الخلافة بعد الموت لها من الحكم ما ليس للخلافة في حالة الحياة فهما منزلتان مختلفتان تختصّ كلّ واحدة منهما بحكم يخالف حكم صاحبتها ؛ لأنه [في حال الحياة تصحّ فيها الشركة والعزل والاختصاص ، وبعد الوفاة] (٥) لا يصحّ فيها ذلك فلا يجب ثبوت إحداهما بثبوت الأخرى ، ولا يصحّ أن يعدّ ذلك منزلة ولم يحصل فكيف يقال إن الخبر يتناوله ...» (٦).

يقال له : لم قلت : «إن ما يقدر لا يصحّ وصفه بأنه منزلة» فما نراك ذكرت إلّا ما يجري مجرى الدعوى ، وما أنكرت من أن يوصف المقدّر بالمنزلة إذا كان سبب استحقاقه وجوبه حاصلا ، وليس يخرج بكونه مقدّرا من أن يكون معروفا يصحّ أن يشار إليه ويشبه به غيره ؛ لأنه إذا صحّ وكان مع كونه مقدّرا معلوما حصوله ووجوبه عند وجود شرطه فالإشارة إليه صحيحة ، والتعريف فيه حاصل ، وقد رضينا بما ذكرته في الدين ؛ لأنّه لو كان لأحدنا على غيره دين مشروط يجب في وقت منتظر يصحّ قبل ثبوته وحصوله أن تقع الإشارة إليه ، ويحمل غيره عليه ، ولا يمتنع من جميع ذلك فيه كونه منتظرا متوقعا ، ويوصف أيضا بأنه دين وحقّ

__________________

(١) في المغني «وقد ثبت أن الخبر».

(٢) في المغني «فيجب صحّة كونه كلامنا».

(٣) في المغني «فلا حاجة بنا الآن».

(٤) في المغني «وقد بيّنا أنه منزلة».

(٥) التكملة بين المعقوفتين من «المغني».

(٦) المغني ، ٢٠ : ١٥٩.

٣١٥

وإن لم يكن في الحال ثابتا ، ومما يكشف عن بطلان قولك : إنّ المقدر وإن كان ممّا يعلم حصوله لا يوصف بأنه منزلة أنّ أحدنا لو قال : فلان منّي بمنزلة زيد من عمرو في جميع أحواله وعلمنا أن ذلك قد بلغ من الاختصاص بعمرو ، والتقرّب منه ، والزلفى عنده إلى حدّ لا يسأله معه شيئا من أمواله إلّا أجابه إليه وبذله ، ثمّ إن المشبّه حاله بحاله [ان] سأل صاحبه درهما من ماله أو ثوبا لوجب عليه ـ إذا كان قد حكم بأن منزلته منه منزلة من ذكرناه ـ أن يبذله له وإن لم يكن وقع ممن شبهت حاله به مثل تلك المسألة بعينها ، ولم يكن للقائل الذي حكينا قوله أن يمنعه من الدّرهم والثوب بأن يقول : إنني جعلت لك منازل فلان من فلان ، وليس في منازله إن سأله درهما أو ثوبا فأعطاه في كل واحدة منهما بل يوجب عليه جميع من سمع كلامه العطية من حيث كان المعلوم من حال من جعل له مثل منزلته أنه لو سأله في ذلك كما سأل هذا ، أجيب إليه ، وليس يلزم على هذا أن تكون الصلاة السادسة وما أشبهها من العبادات التي لو أوجبها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علينا لوجب ممّا يجري عليها الوصف الآن بأنها من شرعه ؛ لأنّها لم يحصل لها سبب وجوب استحقاق بل سبب وجوبها مقدر بما أنّها مقدّرة ، وليس كذلك ما أوجبناه ؛ لأنا لا نصف بالمنزلة إلّا ما حصل استحقاقه وسبب وجوبه ولو قال عليه‌السلام : صلوا بعد سنة صلاة مخصوصة خارجة عما نعرف من الصلوات لجاز أن يقال : بل وجب أن تكون تلك الصلاة من شرعه قبل حضور الوقت من حيث ثبت سبب وجوبها ، ومثل ما ذكرناه يسقط قول من يقول : فيجب على كلامك أن يكون كل أحد نبيّا إماما وعلى سائر الأحوال التي يجوز على طريق التقدير أن يحصل عليها مثل أن يكون وصيّا لغيره ، وشريكا له ونسيبا إلى غير ذلك ؛ لأنّه على طريق التقدير يصحّ أن يكون على جميع هذه الأحوال لوجود أسبابها وشروطها ، وإنما لم يلزم جميع ما عددناه لما قدّمنا ذكره من اعتبار ثبوت سبب المنزلة واستحقاقها وجميع ما ذكر لم يثبت له سبب استحقاق ولا وجوب ، ولا يصحّ أن يقال إنّه منزلة.

ثم يقال له : ما نحتاج إلى مضايفتك في وصف المقدّر بأنّه منزلة وكلامنا

٣١٦

يتمّ وينتظم من دونه ؛ لأن ما عليه هارون من استحقاق منزلة الخلافة بعد وفاة موسى إذا كان ثابتا في أحوال حياته صح أن يوصف بأنه منزلة وإن لم يصح وصف الخلافة بعد الوفاة بأنها منزلة في حال الحياة ؛ لأن التصرف في الأمر المتعلّق بحال مخصوصة عند استحقاقه وأحد الأمرين منفصل من الآخر وإذا ثبت أن استحقاقه للخلافة بعد الوفاة يجري عليه الوصف بالمنزلة ، ووجب حصوله لأمير المؤمنين كما حصل لهارون لثبتت له الإمامة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتمام شرطها فيه ، ألا ترى أن من أوصى إلى غيره وجعل إليه التصرّف في أمواله بعد وفاته يجب له ذلك بشرط الوفاة وكذلك من استخلف غيره بشرط غيبته عن بلده ليكون نائبا عنه بعد الغيبة يجب له هذه المنزلة عند حصول شرطها ، فحال استحقاق التصرّف والقيام بالأمر المنصوص إليه غير حال استحقاقه ، ولو أن غير الموصي والمستخلف قال : فلان منّي بمنزلة فلان من فلان وأشار إلى الموصي والموصى إليه لوجب أن يثبت له من الاستحقاق في الحال والتصرّف بعدها ما أوجبناه للأوّل ، ولم يكن لأحد التطرق إلى منع هذا المتصرّف من التصرّف إذا بقي إلى حال وفاة صاحبه من حيث لا يوصف التصرف المستقبل بأنّه منزلة قبل حصول وقته ولا من حيث كان من شبهت حاله به لم يبق بعد الوفاة لو قدرنا أنه لم يبق.

فإن قال صاحب الكتاب : إنّما صحّ ما ذكرتموه ؛ لأنّ التصرّف في مال الموصي والخلافة لمن استخلف في حال الغيبة وإن لم يكونا حاصلين في حال الخطاب ولم يوصفا بأنّهما منزلتان فيما يقتضيهما من الوصيّة والاستخلاف الموجبتين لاستحقاقهما يثبت في الحال ، ويوصف بأنه منزلة.

قلنا : وهكذا نقول لك فيما أوجبناه من منازل هارون من موسى لأمير المؤمنين عليه‌السلام حرفا بحرف وليس له أن يخالف في أنّ استحقاق هارون بخلافة موسى بعد الوفاة كان حاصلا في الحال ؛ لأنّ كلامه في هذا الفصل مبنيّ على تسليمه وإن كان قد خالف في ذلك في فصل استأنفه يأتي مع الكلام عليه فيما بعد ، وقد صرّح في مواضع من كلامه الذي حكيناه بتسليم هذا الموضع ؛ لأنّه

٣١٧

بنى الفصل على أن الخلافة لو وجبت بعد الوفاة حسبما يذهب إليه لم يصحّ وصفها قبل حصولها بأنّها منزلة ، ولو كان مخالفا في أنّها ممّا يجب أن يحصل لاستغنى بالمنازعة عن جميع ما تكلّفه فقد بان من جملة ما أوردناه ، أن الذي اقترحه من أن الخبر لم يتناول المقدّر لم يغن عنه شيئا ؛ لأنّا مع تسليمه قد بيّنا صحّة مذهبنا في تأويله ، وان كلامه إذا صحّ لم يكن له من التأثير أكثر من منع الوصف بالمنزلة ما كان مقدّرا ، وليس يضرّ من ذهب في هذا الخبر إلى النصّ ؛ لامتناع من وصف الخلافة بعد الوفاة بأنّها منزلة قبل حصولها إذا ثبت له أنّها واجبة مستحقّة وأنّ ما يقتضيها يجب وصفه بأنّه منزلة.

قال صاحب الكتاب : «فإن قال : إنّ الذي يدلّ على أنّ الخبر يتناول ذلك قوله : «إلّا أنّه لا نبيّ بعدي» وظاهر ذلك بعد موتي فيجب أن يكون ما أثبته بعد الموت ، أيضا قيل له : إن التشبيه الأول يقتضي حمل هذا الاستثناء على أن المراد به بعد كوني (١) نبيّا ليصحّ أن يحصل ما استثناه (٢) في هارون كما صحّ أن يحصل ما استثنى منه في هارون ؛ لأنّه لا بدّ من صحّة الأمرين في هارون (٣) وقد علمنا أنه لم يكن من منازل النبوّة بعد موسى ، وإنما يدخل في منازله النبوّة بعد نبوّة موسى فيجب أن يكون إنما استثنى ما لولاه لثبت من منازل (٤) هارون ، ولا يجوز أن يستثنى ما لولاه لم يثبت من منازل (٥) هارون ؛ لأن ذلك لا يفيد ، وهذا يبين صحّة ما قدّمناه ، وإذا ثبت أن المراد إلّا أنّه لا نبيّ بعد نبوّتي فيجب أن يكون المنازل التي دخلها (٦) هذا الاستثناء بعد نبوته لا بعد موته ، وهذا يسقط ما عوّلوا عليه ، فصار التشبيه الأول هو الدال على أنّ المستثنى والمستثنى منه جميعا حاصلان لهارون ، وإذا لم يحصل له كلّ المنازل إلّا في حال الحياة من موسى وجب صحّة ما ذكرناه ، وممّا يبيّن صحّة ذلك أنّ من حق الاستثناء أن يطابق المستثنى منه في وقته ؛ لأنّ الرجل إذا قال لفلان عليّ عشرة دراهم إلّا

__________________

(١) في المغني «يتصل كون نبيّا».

(٢) في نسخة «ما استثني منه».

(٣) في المغني «في منازل هارون».

(٤) في المغني «في منازل».

(٥) كذلك.

(٦) في المغني «المنازل التي حصل لأجلها».

٣١٨

درهما فالمراد بما أثبته الحال وبما نفاه الحال ولا يجوز في الكلام سوى ذلك إلّا بقرينة ودلالة ، وقد علمنا أنّه عليه‌السلام لما قال لعليّ عليه‌السلام : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى» أثبت له المنزلة في الوقت ، فيجب فيما استثنى أن يتناول الوقت فكيف يقال : إنّه أراد بعد موته بل [كيف] (١) يجب حمله على الوقت فكأنه قال : أنت منّي في حال نبوّتي بمنزلة هارون من موسى في حال نبوّته وبعد نبوّته إلّا أنّه لا نبيّ بعد نبوّتي ، حتّى يكون الاستثناء متناولا للحال التي لو لا الاستثناء لثبت ، فإذا كان لو لم يستثن لوجب في حق الكلام أن يكون شريكه في النبوّة في الحال ، كما ثبت لهارون فيجب إذا استثني أن يقتضي نفي هذا المعنى وهذا يمنع من حمله على بعد الموت ، وليس لأحد أن يقول : فيجب أن لا يعرف بقوله : «إلّا أنّه لا نبيّ بعدي» أنه خاتم الأنبياء ؛ وذلك لأنّه إذا كان المراد إلّا أنه لا نبيّ بعد كوني نبيّا فقد دلّ على ذلك بأقوى ما يدلّ لو أراد إلّا أنّه لا نبيّ بعد وفاتي (٢) فكيف لا يدلّ على ما ذكرتموه؟

ولسنا نعتمد في أنه خاتم النبيّين عليه‌السلام إلّا على ما نعلم من دينه ضرورة بالنقل المتواتر الذي نعرف به ذلك من غير اعتبار لفظه ...» (٣).

يقال له : قد أجاب أصحابنا من أن يكون قوله عليه‌السلام : «إلّا أنه لا نبيّ بعدي» أراد به بعد نبوّتي بجوابين :

أحدهما : أن قوله عليه‌السلام : «لا نبيّ بعدي» يقتضي ظاهره بعد موتي ؛ لأن العادة جارية في فائدة مثل هذه اللفظة إذا وقعت على هذا الوجه بمثل ما ذكرناه ، ألا ترى أن أحدنا إذا قال : فلان وصيي من بعدي وهذا المال يفرق على الفقراء من بعدي لم يفهم من كلامه إلّا بعد وفاتي دون سائر أحواله ، وإذا كان الظاهر يقتضي صحّة قولنا وجب التمسّك به ، واطراح قول من سامه العدول عنه.

والجواب الثاني : إنا لو سلّمنا للخصوم ما اقترحوه من أن المراد بنفي النبوّة

__________________

(١) «كيف» من «المغني».

(٢) في المغني «ولو أراد بقوله : ببعدي بعد وفاتي».

(٣) المغني ، ٢٠ : ١٦٣.

٣١٩

لم يختصّ حال الوفاة ، بل يتناول ما هو بعد حال نبوّته من الأحوال لم يخلّ ذلك بصحّة تأويلنا للخبر ؛ لأنا نعلم أن الذي أشاروا إليه من الأحوال يشتمل على أحوال الحياة ، وأحوال الوفاة إلى قيام الساعة فيجب بظاهر الكلام ، وبما حكمنا به من مطابقة الاستثناء في الحال التي وقع فيها المستثنى منه ، أن يجب لأمير المؤمنين عليه‌السلام الإمامة في جميع الأحوال التي تعلّق النفي بها ، فإن أخرجت دلالة شيئا من هذه الأحوال أخرجناه لها وأبقينا ما عداه ؛ لاقتضاء ظاهر الكلام له ، فكان ما طعن به مخالفونا إنّما زاد قولنا صحة وتأكيدا ، وهذا الجواب هو المعتمد دون الأول ؛ لأنّ لقائل أن يقول في الأول : أن الظاهر من قول القائل بعدي لا يتناول أحوال الوفاة على ما ادّعيتم ، ولا يمتنع أن يكون هذه الكناية متعلّقة بحال من أحوال القائل غير حال وفاته ؛ لأنا نعلم أولا انّها ليست بكناية عن ذاته وإنّما هي كناية عن حال من أحواله ، فلا فرق بين بعض أحواله وبين بعض في صحّة الكناية عنه بهذه اللفظة ، ألا ترى إلى صحّة قول القائل قدّم فلانا بعدي ، وتكلّم بعدي وولي فلان كذا وكذا بعد فلان ، وإن كانت لفظة بعدي جميعها كناية عن غير حال الوفاة ، ومتعلّقة بما يثبت في حال الحياة ، وليس يمكن أن يدّعي أنّ ظاهرها وحقيقتها يقتضيان حال الوفاة ، وأنها إذا اريد بها ما عدا حال الوفاة من الأحوال كانت مجازا ؛ لأنّ ذلك تحكم من مدّعيه ، ولا فرق بينه وبين من ادّعى عكسه عليه ، فقال إنّها إنّما تكون مجازا إذا عني بها حال الوفاة ، ومن رجع إلى ما يقع عليه هذه اللفظة في الاستعمال والتعارف لم يجد لوقوعها كناية عن بعض الأحوال مزية على بعض.

ثم يقال له : في قوله : «إن الكلام يقتضي حصول المستثنى والمستثنى منه معا لهارون عليه‌السلام وأنّ من حقّ الاستثناء أن يطابق المستثنى منه في وقته» اما مطابقة الاستثناء للمستثنى منه فهو الصحيح الواجب الذي فزعوا إليه ، ومدار كلامهم في هذه الطريقة عليه ، وأما حصول المستثنى والمستثنى منه معا لهارون في وقتهما وعلى سائر وجوههما فغير واجب ؛ لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقصد إلى جعل منازل هارون من موسى في زمانهما ووجه حصولهما لأمير

٣٢٠