تفسير الشريف المرتضى - ج ٢

تفسير الشريف المرتضى - ج ٢

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٠

١

٢

٣
٤

سورة آل عمران

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) [آل عمران : ٧].

[إن سأل سائل عن هذه الآية] :

الجواب : قلنا : ذكر في هذه الآية وجهان مطابقان للحقّ :

أحدهما : أن يكون الراسخون في العلم معطوف على اسم الله تعالى ؛ فكأنّه قال : وما يعلم تأويله إلّا الله وإلّا الراسخون في العلم ، وإنّهم مع علمهم به «يقولونءامنّا به» ؛ فوقع قوله : (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) في موقع الحال ؛ والمعنى أنّهم يعلمونه قائلين : (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) وهذا في غاية المدحة لهم ؛ لأنّهم إذا علموا ذلك بقلوبهم ، وأظهروا التصديق به على ألسنتهم فقد تكاملت مدحتهم ووصفهم بأداء الواجب عليهم.

والحجّة ـ لمن ذهب إلى ما بيّناه ، والردّ على من استبعد عطفه على الأوّل وتقديره أن يكون قوله : (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) على هذا التأويل لا ابتداء له ـ قوله : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى) ؛ إلى قوله : (شَدِيدُ الْعِقابِ) (١) ؛ فذكر جملة ، ثمّ تلاها بالتفصيل ، وتسمية من يستحقّ هذا الفيء ، فقال : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) ، إلى قوله : (الصَّادِقُونَ) (٢).

__________________

(١) سورة الحشر ، الآية : ٧.

(٢) سورة الحشر ، الآية : ٨.

٥

وقال في الذين تبؤوا الدار والإيمان ـ وهم الأنصار ـ : (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ) (١). وقال فيمن جاء بعدهم : (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) (٢) فهذه الآيات تدلّ على أنّه لا ينكر في آية (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) أن يكون قوله : (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) حالا لهم ؛ مع العلم بتأويل المتشابه ؛ ولو أشكل شيء من ذلك لما أشكل قوله : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا) في أنّه موافق لقوله : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) وأنّ الصورتين واحدة.

وممّا يستشهد به على ذلك من الشعر قول يزيد بن مفرّغ (٣) في عبد له كان يسمّي بردا باعه ثمّ ندم عليه :

وشريت بردا ليتني

من بعد برد كنت هامه (٤)

هامة تدعو صدى

بين المشقّر فاليمامه (٥)

الرّيح تبكى شجوه

والبرق يلمع في الغمامه

فعطف البرق على الريح ، ثمّ اتبعه بقوله : «يلمع» ؛ كأنّه قال : والبرق أيضا يبكيه لا معا في غمامه ؛ أي في حال لمعانه ؛ ولو لم يكن البرق معطوفا على الريح في البكاء لم يكن للكلام معنى ولا فائدة.

ويمكن أيضا على هذا الوجه ـ مع عطف «الراسخين» على ما تقدّم ، وإثبات العلم بالمتشابه لهم ـ أن يكون قوله : (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) استئنافها جملة ، واستغني فيه عن حرف العطف ؛ كما استغني في قوله تعالى : (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) (٦) ونحو ذلك ممّا للجملة الثانية فيه التباس في الجملة الأولى ، فيستغنى به عن حرف العطف ، ولو عطف بحرف العطف كان حسنا ، ينزّل الملتبّس منزلة غير الملتبّس.

__________________

(١) سورة الحشر ، الآية : ٩.

(٢) سورة الحشر ، الآية : ١٠.

(٣) هو يزيد بن ربيعة بن مفرغ ؛ وخبر بيعه بردا ، مع الأبيات في الأغاني : ١٧ / ٥٣ ـ ٥٥.

(٤) شريت : بعت ، والهامة والصدى ، كلاهما كناية عما تزعم العرب أنه يطير من رأس الميت.

(٥) المشقر : حصن بين البحرين ونجران.

(٦) سورة الكهف ، الآية : ٢٢.

٦

والوجه الثاني في الآية : أن يكون قوله : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) مستأنفا غير معطوف على ما تقدّم ، ثمّ أخبر عنهم بأنّهم : (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) ، ويكون المراد بالتأويل على هذا الجواب المتأوّل ، لأنه قد يسمّى تأويلا ، قال تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) (١) ، المراد بذلك لا محالة المتأوّل ، والمتأوّل الذي لا تعلمه العلماء ؛ وإن كان الله عزوجل عالما به ، كنحو وقت قيام الساعة ، ومقادير الثواب والعقاب ، وصفة الحساب ، وتعيين الصغائر ؛ إلى غير ذلك ؛ فكأنّه قال : وما يعلم تأويل جميعه. على المعنى الذي ذكرناه إلّا الله ؛ والعلماء يقولون آمنّا به.

وقد اختار أبو عليّ الجبائيّ هذا الوجه ، وقوّاه ، وضعّف الأوّل بأن قال : قول الراسخين في العلم (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) دلالة على استسلامهم ؛ لأنّهم لا يعرفون تأويل المتشابه ، كما يعرفون تأويل المحكم ، ولأنّ ما ذكرناه من وقت القيامة ، ومن التمييز بين الصغائر والكبائر هو من تأويل القرآن ؛ إذا كان داخلا في خبر الله ؛ والراسخون في العلم لا يعلمون ذلك.

وليس الذي ذكره بشيء ؛ لأنّه لا يمتنع أن يقول العلماء مع علمهم بالمتشابه : (آمَنَّا بِهِ) على الوجه الذي قدّمنا ذكره ؛ فكيف يظنّ أنّهم لا يقولون ذلك إلّا مع فقد العلم به! وما المنكر من أن يظهر الإنسان بلسانه الإيمان بما يعلمه ويتحققه! فأمّا قوله : «ولأنّ ما ذكرناه من تأويل القرآن» ، فذلك إنّما يكون تأويلا للقرآن إذا حملت هذا اللفظة على المتأوّل ، لا على الفائدة والمعنى. وأمّا إذا حملت على أنّه : وما يعلم معنى المتشابه وفائدته إلّا الله ، فلا بدّ من دخول العلماء فيه.

وليس يمكنه أن يقول : إنّ حمل التأويل على المتأوّل أظهر من حمله على المعنى والفائدة ؛ لأنّ الأمر بالعكس من ذلك ؛ بل حمله على المعنى أظهر وأكثر في الاستعمال ، وأشبه بالحقيقة ؛ على أنّه لو قيل : إنّ الجواب الأوّل أقوى من

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ٥٣.

٧

الثاني لكان أولى من قوله من قبل : إنّه لو كان المراد بالتأويل المتأوّل لا الفائدة والمعنى لم يكن لتخصيص المتشابه بذلك دون المحكم معنى ؛ لأنّ في متأوّل المحكم ـ كإخباره عن الثواب والعقاب والحساب ؛ ممّا لا شبهة في كونه محكما ـ ما لا يعرف تفصيله وكنهه إلّا الله تعالى ؛ فأيّ معنى لتخصيص المتشابه والكلام يقتضى توجّهه نحو المتشابه! ألا ترى إلى قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ)! فخصّ المتشابه بالذكر.

والأولى أيضا أن يكون المراد بلفظة (تَأْوِيلِهِ) الثانية هو المراد ب (تَأْوِيلِهِ)» الأوّلى ، وقد علمنا أنّ الذين في قلوبهم زيغ إنّما اتّبعوا تأويله على خلاف معناه ولم يطلبوا تأويله الذي هي متأوّله ؛ والوجه الأوّل أقوى وأرجح.

ويمكن في الآية وجه ثالث لم نجدهم ذكروه ، على أن يكون قوله : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) مستأنفا غير معطوف ، ويكون المعنى : وما يعلم تأويل المتشابه بعينه وعلى سبيل التفصيل إلّا الله ؛ وهذا صحيح لأنّ أكثر المتشابه قد يحتمل الوجوه الكثيرة المطابقة للحقّ ، الموافقة لأدلّة العقول ؛ فيذكر المتأوّل جميعها ، ولا يقطع على مراد الله منها بعينه ، لأنّ الذي يلزم مثل ذلك أن يعلم فى الجملة أنّه لم يرد من المعني ما يخالف الأدلّة ؛ وأنّه قد أراد بعض الوجوه المذكورة المتساوية في الجواز ، والموافقة للحقّ. وليس في تكليفنا أن نعلم المراد بعينه ؛ وهذا مثل الضلال والهدى اللّذين تبيّن احتمالهما لوجوه كثيرة ؛ منها ما يخالف الحقّ فنقطع على أنه تعالى لم يرده ، ومنها وجوه تطابق الحق ، فنعلم في الجملة أنّه قد أراد أحدها ، ولا يعلم المراد منها بعينه وغير هذا من الآي المتشابهة ؛ فإن أكثرها يحتمل وجوها ، والقليل منها يختصّ بوجه واحد صحيح ولا يحتمل سواه ؛ ويكون قوله تعالى من بعد : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) ، أي صدّقنا بما نعلمه مفصّلا ومجملا من المحكم والمتشابه ؛ وأنّ الكلّ من عند ربّنا ؛ وهذا وجه واضح (١).

__________________

(١) الأمالي ، ١ : ٤١٨.

٨

ـ (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران : ٨].

[إن سأل سائل] فقال : أوليس ظاهر الآية يقتضي أنّه تعالى يجوز أن يزيغ القلوب عن الإيمان حتى تصحّ مسألته تعالى ألّا يزيغها ، ويكون هذا الدعاء مفيدا؟.

الجواب : قلنا في هذه الآية وجوه :

أوّلها : أن يكون المراد بالآية : ربّنا لا تشدّد علينا المحنة في التكليف ، ولا تشقّ علينا فيه ، فيفضى بنا ذلك إلى زيغ القلوب منّا بعد الهداية ؛ وليس يمتنع أن يضيفوا ما يقع من زيغ قلوبهم عند تشديده تعالى عليهم المحنة إليه ؛ كما قال «عزوجل» في السورة : إنّها (١) زادتهم رجسا إلى رجسهم ، وكما قال مخبرا عن نوح عليه‌السلام : (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) (٢).

فإن قيل : كيف يشدّد عليهم في المحنة؟.

قلنا : بأن يقوّي شهواتهم ، لما قبحه في عقولهم ، ونفورهم عن الواجب عليهم ، فيكون التكليف عليهم بذلك شاقّا ، والثواب المستحقّ عليهم عظيما متضاعفا وإنّما يحسن أن يجعله شاقّا تعريضا لهذه المنزلة.

وثانيها : أن يكون ذلك دعاء بالتثبيت لهم على الهداية ، وإمدادهم بالألطاف التي معها يستمرّون على الإيمان.

فإن قيل : وكيف يكون مزيغا لقلوبهم بألّا يفعل اللّطف؟

قلنا : من حيث كان المعلوم أنّه متى قطع إمدادهم بألطافه وتوفيقاته زاغوا وانصرفوا عن الإيمان. ويجرى هذا مجرى قولهم : اللهم لا تسلّط علينا من لا يرحمنا ؛ معناه لا تخلّ بيننا وبين من لا يرحمنا فيتسلّط علينا ؛ ومثله قول الشاعر :

__________________

(١) الضمير يعود إلى المحنة ؛ والآية في سورة التوبة : ١٢٥ : (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ).

(٢) سورة نوح ، الآية : ٦.

٩

أتاني ورحلي بالمدينة وقعة

لآل تميم أقعدت كلّ قائم

أراد : قعد لها كل قائم ؛ فكأنّهم قالوا : لا تخلّ بيننا وبين نفوسنا وتمنعنا ألطافك ، فنزيغ ونضلّ.

وثالثها : ما أجاب به أبو عليّ الجبّائيّ محمّد بن عبد الوهّاب ، لأنّه قال : المراد بالآية ربّنا لا تزغ قلوبنا عن ثوابك ورحمتك. ومعني هذا السؤال أنّهم سألوا الله تعالى أن يلطف لهم في فعل الإيمان ؛ حتى يقيموا عليه ولا يتركوه في مستقبل عمرهم ، فيستحقّوا بترك الإيمان أن يزيغ قلوبهم عن الثواب ، وأن يفعل بهم بدلا منه العقاب.

فإن قال قائل : فما هذا الثواب الذي هو في قلوب المؤمنين ؛ حتى زعمتم أنّهم سألوا الله تعالى ألّا يزيغ قلوبهم عنه؟ وأجاب بأنّ من الثواب الذي في قلوب المؤمنين ما ذكره الله تعالى من الشرح والسّعة بقوله تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) (١) ؛ وقوله تعالى للرسوله عليه وآله السلام : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (٢) وذكر أنّ ضدّ هذا الشرح هو الضّيق والحرج اللّذان يفعلان بالكفّار عقوبة ، قال : ومن ذلك أيضا التطهير الذي يفعله في قلوب المؤمنين ، وهو الذي منعه الكافرين ، فقال تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) (٣).

قال : ومن ذلك أيضا كتابته الإيمان في قلوب المؤمنين ، كما قال الله تعالى : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) (٤) وضدّ هذه الكتابة هي سمات الكفر التي في قلوب الكافرين ؛ فكأنّهم سألوا الله تعالى ألّا يزيغ قلوبهم عن هذا الثواب إلى ضدّه من العقاب.

ورابعها : أن تكون الآية محمولة على الدعاء بألّا يزيغ القلوب عن اليقين والإيمان. ولا يقتضي ذلك أنّه تعالى سئل ما كان لا يجب أن يفعله ، وما لو لا المسألة لجاز فعله ؛ لأنّه غير ممتنع أن يدعوه على سبيل الانقطاع إليه ، والافتقار

__________________

(١) سورة الأنعام ، الآية : ١٢٥.

(٢) سورة الشرح ، الآية : ١.

(٣) سورة المائدة ، الآية : ٤١.

(٤) سورة المجادلة ، الآية : ٢٢.

١٠

إلى ما عنده بأن يفعل تعالى ما نعلم أنّه لا بدّ من أن يفعله ، وبألّا يفعل ما نعلم أنّه واجب ألّا يفعله ؛ إذا تعلّق بذلك ضرب من المصلحة ؛ كما قال تعالى حاكيا عن إبراهيم عليه‌السلام : (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) (١). وكما قال في تعليمنا ما ندعوه به : (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ) (٢) وكقوله تعالى : (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) (٣) ، على أحد الأجوبة ، وكلّ ما ذكرناه واضح بحمد الله (٤).

ـ (وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ) [آل عمران : ١٤].

أنظر النحل : ١٠ من الأمالي ، ١ : ٥٧٦.

ـ (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ ....) [آل عمران : ١٨].

أنظر البقرة : ١٤٣ من الشافي ، ١ : ٢٢٩.

ـ (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [آل عمران : ١٩].

أنظر البقرة : ٨ من الذخيرة : ٥٣٦.

ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍ) [آل عمران : ٢١].

وفي موضع آخر : (وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) (٥).

[إن سأل سائل فقال :] ظاهر هذا القول يقتضي أنّ قتلهم قد يكون بحقّ.

وقوله تعالى : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) (٦). وقوله : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) (٧) ، وقوله : (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) (٨) ، وقوله : (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) (٩) ؛ والسؤال عن هذه الآيات كلّها من وجه واحد وهو الذي تقدم.

__________________

(١) سورة الشعراء ، الآية : ٨٧.

(٢) سورة الأنبياء ، الآية : ١١٢.

(٣) سورة البقرة ، الآية : ٢٨٦.

(٤) الأمالي ، ٢ : ٢٥.

(٥) سورة النساء ، الآية : ١٥٥.

(٦) سورة المؤمنون ، الآية : ١١٧.

(٧) سورة الرعد ، الآية : ٢.

(٨) سورة البقرة ، الآية : ٤١.

(٩) سورة البقرة ، الآية : ٢٧٣.

١١

والجواب : أنّ للعرب فيما جرى هذه المجرى من الكلام عادة معروفة ، ومذهبا مشهورا ، عند من تصفّح كلامهم وفهم عنهم. ومرادهم بذلك المبالغة في النفي وتأكيده ؛ فمن ذلك قولهم : «فلان لا يرجى خيره» ليس يريدون أنّ فيه خيرا لا يرجى ، وإنّما غرضهم أنّه لا خير عنده على وجه من الوجوه ؛ ومثله : «قلّما رأيت مثل هذا الرجل» وإنّما يريدون أنّ مثله لم ير قليلا ولا كثيرا ؛ وقال امرؤ القيس :

على لاحب لا يهتدي بمناره

إذا سافه العود الدّيافيّ جرجرا (١)

يصف طريقا ، وأراد بقوله : «لا يهتدي بمناره» أنّه لا منار له فيهتدي بها. والعود : المسنّ من الإبل ، والدّيافيّ : منسوب إلى دياف ، قرية بالشام معروفة. وسافه : شمّه ، والجرجرة مثل الهدير ؛ وإنّما أراد ان أنّ العود إذا شمّه عرفه فاستبعده ، وذكر ما يلحقه فيه من المشقّة ، فجرجر لذلك ؛ وقال ابن أحمر :

لا تفزع الأرنب أهوالها

ولا ترى الضّبّ بها ينجحر

أراد : ليست بها أهوال فتفزع الأرنب ؛ وقال النّابغة :

يحفّه جانبا نيق وتتبعه

مثل الزّجاجة لم تكحل من الرّمد (٢)

أراد : ليس بها رمد فتكتحل له ؛ وقال امرؤ القيس أيضا (٣) :

وصمّ حوام ما يقين من الوجى

كأنّ مكان الرّدف منه على رال

يصف حوافر فرسه. وقوله : «ما يقين من الوجي» فالوجى هو الحفا ، و «يقين» ؛ أي يتوقّين ، يقال : وقي الفرس إذا هاب المشي ، فأراد أنّه لا وجي بحوافره فيتهيبن الأرض من أجله ، والرأل : فرخ النعام ، وشبّه إشراف عجزه

__________________

(١) ديوانه : ١٠١ ، واللاحب : الطريق المنقاد الذى لا ينقطع. والمنار : جمع منارة ؛ وهي العلامة التي تجعل بين الحدين ؛ ورواية الديوان : «النباطي».

(٢) انظر الأبيات وشرحها في ديوان النابغة ـ بشرح البطليوسي ٢٣ ، ٢٤.

(٣) وانظر الديوان : ٦٥.

١٢

بعجز الرّأل ؛ وقال الآخر (١) :

لا يغمز السّاق من أين ولا وصب

ولا يعضّ على شرسوفه الصّفر

أراد : ليس بساقه أين ولا وصب فيغمزهما من أجلهما ؛ وقال سويد بن أبي كاهل :

من أناس ليس من أخلاقهم

عاجل الفحش ولا سوء الجزع (٢)

لم يرد أنّ في أخلاقهم فحشا آجلا ولا جزعا ؛ وإنّما أراد نفي الفحش والجزع عن أخلاقهم. ومثل ذلك قولهم : فلان غير سريع إلى الخنا ، وهم يريدون أنّه لا يقرب الخنا ، لا نفى الإسراع حسب. وقال الفرزدق وهو يهجو جعفر بن كلاب ، ويعيّرهم بقتلى منهم أصيبوا في حروبهم ، فحملت النساء هؤلاء القتلى حتى أتين بهم الحيّ (٣) :

ولم تأت عير أهلها بالّذي أتت

به جعفرا يوم الهضيبات عيرها (٤)

أتتهم بعير لم تكن هجرية

ولا حنطة الشام المزيت خميرها

يعني أنّ العير إنّما تحمل التمر والطعام إلى الحي ، فحملت عير هؤلاء القتلى ، وقوله : «لم تكن هجريّة» أي لم تحمل التمر ، وذلك لكثرة التمر بهجر ، ثمّ قال : «ولا حنطة الشام المزيت خميرها» ، ولم يرد أنّ هناك حنطة ليس في خميرها زيت ؛ لكنّه أراد أنّها لم تحمل تمرا ولا حنطة ، ثمّ وصف الحنطة بما يجعل في خميرها من الزيت.

وعلى هذا يقع تأويل الآيات الّتي وقع السؤال عنها ، لأنّه تعالى لمّا قال :

__________________

(١) وفي ملحقات ديوان الأعشى ٦٨ :

لا يتأرى لما في القدر يرقبه

ولا يعضّ على شرسوفه الصّفر

لا يغمز السّاق من أين ولا وصب

ولا يزال أمام القوم يقتفر

(٢) المفضليات : ١٩٥.

(٣) ديوانه : ٤٥٩ / ٢.

(٤) الهضيبات : موضع كان فيه يوم من أيام العرب ؛ هو يوم طخفة ؛ ذكره البكري في معجم ما استعجم : ١٣٥٤ ، وأورد البيت.

١٣

(وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ) دلّ على أنّ قتلهم لا يكون إلّا بغير حقّ ، ثمّ وصف القتل بما لا بدّ أن يكون عليه من الصفة ، وهي وقوعه على خلاف الحقّ ؛ وكذلك : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) ، [إنّما هو وصف لهذا الدعاء ، وأنّه لا يكون إلّا عن غير برهان] ، وقوله تعالى : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) وجهه أيضا أنّه لو كان هناك عمد لرأيتموه ، فإذا نفي رؤية العمد نفي وجود العمد ؛ كما قال : «لا يهتدي بمناره» أي لا منار له من حيث علم أنّه لو كان له منار لاهتدى ، به فصار نفي الاهتداء بالمنار نفيا لوجود المنار. وقوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) تغليظ وتأكيد في تحذيرهم الكفر ، وهو أبلغ من أن يقول : «ولا تكفروا به» ، ويجرى مجرى قولهم : فلان لا يسرع إلى الخنا ؛ وقلّما رأيت مثله إذا أرادوا به تأكيد نفي الخنا ونفي رؤية مثل المذكور. وكذلك قوله : (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) ، معناه لا مسأله تقع منهم ، ومثل الأوّل : (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) والفائدة أنّ كلّ ثمن لها لا يكون إلّا قليلا ، فصار نفي الثمن القليل نفيا لكلّ ثمن ، وهذا واضح بحمد الله ومنّه (١).

ـ (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) [آل عمران : ٢٨].

أنظر مائدة : ١١٦ من الأمالي ، ١ : ٣١٧.

ـ (قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) [آل عمران : ٤٠].

[فيها أمران :

الأوّل إن سأل سائل فقال :] فكأنّه سأل أمرا يستحيل كونه ، وقد علمنا لا محالة أن زكرياء يعلم أنّ الله تعالى لا يعجزه ما يريد ، فما وجه الكلام؟.

[قلنا :] إنّه غير ممتنع أن يكون زكرياء عليه‌السلام لم يسأل الذريّة في حال كبره وهرمه ؛ بل قبل هذه الحال ، فلمّا رزقه الله تعالى ولدا على الكبر ، ومع كون

__________________

(١) الأمالي ، ١ : ٢٣٣.

١٤

امرأته عاقرا قال : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) من غير إنكار منه لقدرة الله تعالى على ذلك ؛ بل ليرد من الجواب ما يزداد به بصيرة ويقينا.

ويجوز أيضا أن يكون سأل الولد مع الكبر وعقم امرأته ، ليفعل الله تعالى ذلك على سبيل الآية له ، وخرق العادة من أجله ؛ فلمّا رزقه الله تعالى الولد عجب من ذلك ، وأنكره بعض من تضعف بصيرته من أمته ، فقال عليه‌السلام : (أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ) ليرد من الجواب ما يزول به شكّ غيره ؛ فكأنّه سأل في الحقيقة لغيره لا لنفسه ؛ ويجري ذلك مجرى سؤال موسى عليه‌السلام أن يريه الله تعالى نفسه لمّا شكّ قومه في ذلك ، فسأل لهم لا لنفسه (١).

[الثاني : انظر البقرة : ٢٦ و ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧].

ـ (اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) [آل عمران : ٤٧].

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

ـ (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) [آل عمران : ٦١].

قال القاضي : «دليل لهم آخر ، وربما تعلقوا بآية المباهلة (٢) وأنها لمّا نزلت جمع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام وأن ذلك يدلّ على أنه الأفضل ، وذلك يقتضي أنه بالإمامة أحق ، ولا بدّ من أن يكون هو المراد بقوله : (وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) ؛ لأنّه عليه‌السلام لا يدخل تحت قوله تعالى : (نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ) فيجب أن يكون داخلا تحت قوله : (وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) ولا يجوز أن يجعله من نفسه إلّا وهو يتلوه في الفضل».

__________________

(١) الأمالي ، ٢ : ٣١٦ وراجع أيضا الرسائل ، ٣ : ١٠٣ وانظر أيضا سورة الأنبياء : ٣٧ من الأمالي ، ١ : ٤٤١.

(٢) في المغني «آيات المباهلة».

١٥

قال : «وهذا مثل الأول في أنه كلام في التفضيل ، ونحن نبيّن أن الإمامة قد تكون فيمن ليس بأفضل ، وفي شيوخنا من ذكر عن أصحاب الآثار أن عليّا عليه‌السلام لم يكن في المباهلة ، قال شيخنا أبو هاشم : إنّما خصص صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تقرّب منه في النسب ولم يقصد الإبانة عن الفضل ، ودلّ على ذلك بأنّه عليه‌السلام أدخل فيها الحسن والحسين عليهم‌السلام مع صغرهما لما اختصّا به من قرب النسب وقوله : (وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) يدلّ على هذا المعنى ؛ لأنّه أراد قرب القرابة ، كما يقال في الرجل يقرب في النسب من القوم : «إنه من أنفسهم» ولا ينكر أن يدل ذلك على لطف محلّه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وشدّة محبّته له وفضله ، وإنّما أنكرنا أن يدل ذلك على أنّه الأفضل أو على الإمامة ، ...» (١).

يقال له : لا شبهة في دلالة آية المباهلة على فضل من دعي إليها ، وجعل حضوره حجة على المخالفين ، واقتضائها تقدّمه على غيره ؛ لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يجوز أن يدعو إلى ذلك المقام ليكون حجة فيه إلّا من هو في غاية الفضل وعلوّ المنزلة ، وقد تظاهرت الرواية بحديث المباهلة وأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا إليها أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام ، وأجمع أهل النقل وأهل التفسير على ذلك.

ولسنا نعلم إلى أي أصحاب الآثار أشار بدفع أمير المؤمنين عليه‌السلام في المباهلة وما نظن أحدا يستحسن مثل هذه الدعوى ، ونحن نعلم أن قوله : (وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) لا يجوز أن يعني بالمدعو فيه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لأنّه هو الداعي ، ولا يجوز أن يدعو الانسان نفسه ، وإنّما يصحّ أن يدعو غيره ؛ كما لا يجوز أن يأمر نفسه وينهاها ، وإذا كان قوله تعالى : (وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) لا بد أن يكون إشارة إلى غير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجب أن يكون إشارة إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام ؛ لأنّه لا أحد يدّعي دخول غير أمير المؤمنين وغير زوجته وولديه عليهم‌السلام في المباهلة ، وما نظن من حكى عنه دفع دخول أمير المؤمنين عليه‌السلام فيها يقدم على أن يجعل مكان أمير المؤمنين غيره ، وهذا الضرب من الاستدلال كالمستغني عن

__________________

(١) المغني ، ٢٠ : ١٤٢.

١٦

تكلف إطباق أهل الحديث كافة على دخول أمير المؤمنين عليه‌السلام في المباهلة (١) ، وإنّما أوردناه استظهارا في الحجّة.

وأمّا ما حكاه عن أبي هاشم من أن القصد لم يكن إلى الإبانة عن الفضل ، وإنما قصد إلى إحضار من يقرب منه في النسب ، فظاهر البطلان ؛ لأن القصد لو كان إلى ما ادّعاه لوجب أن يدعو العبّاس وولده ، وعقيلا إذ كان إسلام العبّاس وعقيل وانضمامهما إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متقدّما لقصّة المباهلة بزمان طويل ؛ لأنّ المباهلة كانت في سنة عشرة من الهجرة ، لمّا وفد «السيد» و «العاقب» فيمن كان معهما من أساقفة نجران على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين هذه الحال وبين حصول العباس وعقيل مع النبيّ مدّة فسيحة ، وفي تخصيص النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمير المؤمنين بالحضور دون من عداه ممّن يجري مجراه في القرابة دليل على ما ذكرناه.

فأمّا تعلقه بدخول الحسن والحسين عليهما‌السلام فيها من صغر سنّهما فمعلوم أن صغر السنّ ونقصانها عن حدّ بلوغ الحلم لا ينافي كمال العقل ، وإنّما جعل بلوغ الحلم حدّا لتعلق الأحكام الشرعيّة ، وقد كان سنّهما عليهما‌السلام ، في تلك الحال سنّا لا يمتنع معها أن يكونا كاملي العقول ؛ لأن سنّ الحسن عليه‌السلام كان في قصة المباهلة يزيد على سبع سنين بعدّة شهور وسنّ الحسين عليه‌السلام يقارب السبعة ، على أن من مذهبنا أن الله تعالى يخرق العادات للأئمة ويخصّهم بما ليس لغيرهم ، فلو صحّ أن كمال العقل مع صغر السنّ ليس بمعتاد لجاز فيهم عليهم‌السلام على سبيل خرق العادة ، وليس يجوز أن يكون المعنى في قوله تعالى : (وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) قرب القرابة حسب ما ظنّ ، بل لا بدّ أن تكون هذه الإضافة مقتضية للتخصيص والتفضيل.

وقد عضد هذا القول من أقوال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مقامات كثيرة بمشهد من أصحابه ما يشهد بصحة قولنا ، فمن ذلك ما تظاهرت به الرواية من أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٣ / ٢١٢ و ٢١٣ ومعالم التنزيل للبغوي ٢ / ١٥٠ والدرّ المنثور للسيوطي ٢ / ٣٩ والترمذي ٢ / ١٦٦ و ٣٠٠ ومسند أحمد ١ / ١٨٥ ومستدرك الحاكم ٣ / ١٥٠. الخ.

١٧

عن بعض أصحابه فقال له قائل : فعليّ؟ فقال : «إنّما سألتني عن الناس ولم تسألني عن نفسي» (١).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لبريدة الأسلمي : «يا بريدة لا تبغض عليّا فإنه منّي وأنا منه ، إن الناس خلقوا من شجر شتى وخلقت أنا وعليّ من شجرة واحدة» (٢).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم أحد وقد ظهرت من وقاية أمير المؤمنين عليه‌السلام له بنفسه ونكايته في المشركين وفضه لجمع منهم بعد الجمع ما ظهر هذا بعد انهزام الناس وانفلالهم (٣) وإسلامهم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى قال جبرئيل عليه‌السلام : «يا محمّد إن هذه لهي المواساة» فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا جبرئيل إنه منّي وأنا منه» فقال جبرئيل «وأنا منكما» (٤) ، ولا شبهة في أن الإضافة فيما ذكرناه من الأخبار إنما تقتضي التفضيل والتعظيم والاختصاص دون القرابة (٥).

ـ (وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [آل عمران : ٧٢].

أنظر القصص : ٨٨ من الأمالي ، ١ : ٥٤٤.

ـ (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ

__________________

(١) في كنز العمّال ٦ / ٤٠٠ أن السائل عمرو بن العاص وهناك روايات عدّة فيها تصريح من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن عليا نفسه مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لتنتهن يا بني وليعة أو لأبعثنّ إليكم رجلا كنفسي) أو قال : (عديل نفسي) قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : فما تمنيت الإمارة إلّا يومئذ قاتلعت صدري رجاء أن هذا ، فأشار إلى عليّ بن أبي طالب) وانظر خصائص النسائي ص ١٥ ، ومجمع الزوائد ٧ / ١١٠ وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد م ١ / ٩٧) وفوق ذلك ما شهد به القرآن الكريم (وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ).

(٢) أخرجه ـ باختلاف يسير على ما في المتن ـ أحمد في المسند ٥ / ٣٥٦ ، والنسائي في الخصائص ص ٢٣ والهيثمي في مجمع الزوائد ٩ / ١٢٧ و ١٢٨ وقال : أخرجه أحمد والبزاز ، والحاكم في المستدرك ٢ / ٢٤١ والذهبي في تلخيصه ، وفي ميزان الاعتدال ١ / ٤٦٢ ، الخ.

(٣) الانفلال : الانكسار.

(٤) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد ٦ / ١١٤ وقال «رواه الطبراني» ، والمحبّ في الرياض النضرة ٢ / ١٧٢ وقال : «أخرجه أحمد».

(٥) الشافي في الإمامة وابطال العامّة ، ٢ : ٢٥٣.

١٨

الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران : ٧٨].

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

ـ (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ...) [آل عمران : ٨٥].

أنظر البقرة : ٨ من الذخيرة : ٥٣٦.

ـ (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [آل عمران : ٩٣].

فصل : «في أنه لا يجوز أن يفوّض الله تعالى إلى النبيّ عليه‌السلام أو العالم أن يحكم في الشرعيّات بما شاء إذا علم أنه لا يختار إلّا الصواب».

اعلم أنّ الصحيح أنّ ذلك لا يجوز ، ولا بدّ في كلّ حكم من دليل ، ولا يرجع إلى اختيار الفاعل ، والعلم بأنّه لا يختار إلّا الصواب غير كاف في هذا الباب. وخالف مويس بن عمران في ذلك ، وقال : لا فرق بين أن ينصّ الله على الحكم وبين أن يعلم أنّه لا يختار إلّا ما هو المصلحة ، فيفوّض ذلك إلى اختياره.

وقد تعلّق مويس في نصرة قوله بأشياء :

أوّلها قوله تعالى : (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ) فأضاف التحريم إليه ...

فيقال له فيما تعلّق به أوّلا : ليس يمتنع أن يضاف التحريم إليه عليه‌السلام وإن كان عن وحي ، من حيث كان مؤدّيا له إلينا. وقد يضاف التحريم أيضا إلى الكتاب ، فيقال : إنّ الكتاب حرّم كذا وكذا ، وإن كان الله تعالى حرّمه. ويمكن أيضا أن يكون حرّمه بالنذر أو باليمين. وقد قال قوم : إنّه غير ممتنع أن يكون الله تعالى كلّفه الاجتهاد ، وأدّاه الاجتهاد إلى تحريمه ، فأضاف التحريم إليه : وكلّ واحد من هذه الوجوه يمنع ممّا يتعلّق به مويس (١).

__________________

(١) الذريعة ، ٢ : ٦٦٧.

١٩

ـ (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) [آل عمران : ٩٧].

[فيها أمور :

الأوّل : [فالضرورة تدعو إلى جعله] يعني قوله «ومن دخله» أمرا لأنه لو كان خبرا كان كذبا وإذا كان أمرا كان صحيحا (١) والمعنى : انه يجب أن يأمن ، فجعل قوة الوجوب واللزوم كانه حصول ووقوع (٢).

[الثاني : قال الناصر رحمه‌الله :] «الاستطاعة هي الزاد وصحّة البدن».

عندنا : أنّ الاستطاعة التي يجب معها الحجّ صحّة البدن ، وارتفاع الموانع ، والزاد والراحلة ، وزاد كثير من أصحابنا أن يكون له سعة يحج ببعضها ويبقي بعضه القوت عياله (٣) ...

دليلنا على صحّة ما ذهبنا إليه بعد الاجماع المتكرّر ذكره : أنّه لا خلاف في أنّ ما حاله من ذكرناه أنّ الحجّ يلزمه ، فمن ادّعى أنّ الصحيح الجسم إذا خلا من سائر الشرائط التي ذكرناها يلزمه الحجّ فقد ادّعى وجوب حكم شرعيّ في الذمّة وعليه الدليل ؛ لأنّ الأصل براءة الذمّة.

وأيضا ؛ قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً). والاستطاعة في عرف الشرع وعهد اللغة أيضا عبارة عن تسهيل الأمر وارتفاع المشقّة فيه ، وليست بعبارة عن مجرّد القدرة.

ألا ترى أنّهم يقولون : ما أستطيع النظر إلى فلان ؛ إذا كان يبغضه ويمقته ويثقل عليه النظر إليه ، وإن كانت معه قدرة على ذلك.

وكذلك يقولون : لا أستطيع شرب هذا الدّواء ، يريدون إنّني أنفر منه ويثقل عليّ.

__________________

(١) الشافي في الإمامة وإبطال حجج العامة ، ٣ : ١٩٥.

(٢) الرسائل ، ٤ : ١٥٧.

(٣) المختلف ، ٤ : ٦.

٢٠