تفسير الشريف المرتضى - ج ٢

تفسير الشريف المرتضى - ج ٢

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٠

[الثالث : قال الناصر رحمه‌الله :] «استعمال التراب في أعضاء التيمّم شرط في صحّة التيمّم».

وعندنا أنّ ذلك ليس بشرط ، وهو مذهب أبي حنيفة (١).

والشافعي يذهب إلى اعتبار تعلّق التراب باليد ويقول : لا بدّ من ممسوح به (٢).

والدليل على صحّة ما اخترناه أنّه تعالى أمر بالتيمّم بالصعيد الطيّب ولم يشترط فيه بقاء التراب على اليد ، فيجب ألّا يكون شرطا.

وأيضا ما روي عنه عليه‌السلام «من أنّه نفض يديه قبل أن يمسح بهما وجهه ويديه» (٣).

وهذا يدلّ على أن بقاءه على اليد ليس بشرط.

وأيضا ليس يجوّز تعلّق التراب باليد من ذهب إلى الضربة الواحدة ، لأنّه معلوم أنّه إذا مسح وجهه لم يبق فيهما من التراب بعد ذلك ما يمسح به يديه.

وتعلّق الشافعي في أنه لا بدّ من ممسوح به ، بقوله تعالى : (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) (٤) ، لأنّ «من» هنا مبني لابتداء الغاية وليست للتبعيض ، وعند جميع النحويين من البصريين أن «من» لا يكون إلّا لابتداء الغاية (٥).

[الرابع :] وممّا إنفردت الإمامية به القول : بأنّ مسح الوجه بالتراب في التيمّم إنّما هو إلى طرف الأنف من غير استيعاب له ، فإنّ باقي الفقهاء يوجبون الاستيعاب له (٦).

والإمامية وإن إقتصرت في التيمم على ظاهر الكفّ فلم تنفرد بذلك ؛ لأنّه قد روي عن الأوزاعي (٧) مثله ، والذي يدلّ على ما ذكرناه ـ مضافا إلى الإجماع ـ

__________________

(١) بداية المجتهد ، ١ : ٧٢.

(٢) الام ، ١ : ٦٧.

(٣) صحيح البخاري ، ١ : ٢١٤ ، ٣٣٤.

(٤) المجموع ، ٢ : ٢١٤ ، ٢٣٨.

(٥) الناصريات : ١٥٥.

(٦) المحلّى ، ٢ : ١٤٧.

(٧) المغني (لابن قدامة) ، ١ : ٢٤٥.

١٤١

هو قوله تعالى : (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) ودخول الباء إذا لم يكن لتعدية الفعل إلى المفعول لا بدّ له من فائدة وإلّا كان عبثا ولا فائدة بعد إرتفاع التعدية إلّا التبعيض.

وأيضا : فانّ التيمم طهارة موضوعها التخفيف ، فلا يجوز إستيعاب الأعضاء فيها كاستيعابها في طهارة الاختيار ، فلهذا كانت في عضوين ، وكانت الطهارة الأخرى في أربعة (١).

[الخامس :] وممّا انفردت به الإمامية القول : بأنّ التيمم إنّما يجب في آخر وقت الصلاة وعند تضيقه ، والخوف من فوت الصلاة متى لم يتيمّم وإن قدّمه على هذا الوقت لم يجزه. وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك (٢) ...

دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه الاجماع المتكرّر ، وأيضا فالتيمم بلا خلاف إنّما هو طهارة ضرورية ، ولا ضرورة إليه إلّا في آخر الوقت ، وما قبل هذه الحال لا يتحقّق فيه ضرورة ، وليس للمخالف أن يتعلّق بظاهر قوله جلّ ثناؤه : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) ، وأنّه لم يفرّق بين أوّل الوقت وآخره ؛ لأنّ الآية لو كان لها ظاهر يخالف قولنا جاز أن نخصّه بما ذكرناه من الأدلة فكيف ولا ظاهر لها ينافي ما نذهب إليه ؛ لأنّه جلّ ثناؤه قال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ...) وأراد بلا خلاف إذا أردتم القيام إلى الصلاة ثم اتبع ذلك حكم العادم للماء الذي يجب عليه التيمّم ، فيجب على من تعلّق بهذه الآية أن يدلّ على أنّ من كان في أوّل الوقت له أن يريد الصلاة ويعزم على القيام إليها فانّا نخالف في ذلك ونقول : ليس لمن عدم الماء أن يريد الصلاة في أول الوقت ، وليس لهم أن يفصلوا بين حكم الجملتين ويقولوا : إنّ إرادة الصلاة شرط في الجملة الأولى التي أمر فيها بالطهارة بالماء مع وجوده ، وليست شرطا في الجملة الثانية التي ابتداؤها (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) وذلك لأنّ الشرط الأول لو لم

__________________

(١) الانتصار : ٣٢.

(٢) بداية المجتهد ، ١ : ٦٩.

١٤٢

يكن شرطا في الجملتين معا لكان يجب على المريض والمسافر إذا أحدثا التيمّم وإن لم يريدا الصلاة وهذا لا يقوله أحد (١).

[السادس : انظر المقدّمة الثالثة ، الأمر السادس]

ـ (إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) [المائدة : ١١].

أنظر يوسف : ٢٤ من التنزيه : ٧٣.

ـ (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) [المائدة : ١٦].

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

ـ (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ) [المائدة : ١٩].

[نقل القاضي استدلال واصل بن عطاء بهذه الآية على ان الزمان قد يخلو من حجّة من رسول أو إمام واستند أيضا بإجماع الأمّة في ذلك.

قال السيّد : هذه الآية صريحة] في أن الفترة تختص الرسل ، وأنها عبارة عن الزمان الذي لا رسول فيه ، وهذا إنّما يلزم من ادّعى أنّ في كلّ زمان حجّة هو رسول ، فأمّا إذا لم يزد على ادّعاء حجّة وجواز أن يكون رسولا وغير رسول ، فإنّ هذا الكلام لا يكون حجاجا عليه.

فأمّا ادعاؤه إجماع علماء المسلمين على الفترات بين الرسل ، فإن أراد بالفترات خلو الزمان من رسول وحجّة فلا إجماع في ذلك ، وكلّ من يقول بوجوب الإمامة في كلّ زمان وعصر يخالف في ذلك ، فكيف يدّعي الإجماع (٢).

ـ (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩)) [المائدة : ٢٨ ـ ٢٩].

__________________

(١) الانتصار : ٣١ وراجع أيضا الناصريات : ١٥٦.

(٢) الشافي في الإمامة وإبطال حجج العامّة ، ٣ : ١٥١.

١٤٣

[إن سأل سائل] فقال : كيف يجوز أن يخبر تعالى عن هابيل ـ وقد وصفه بالتقوى والطاعة ـ بأنه يريد أن يبوء أخوه بالإثم ؛ وذلك إرادة القبيح ، وإرادة القبيح قبيحة عندكم على كل حال ؛ ووجه قبحها كونها إرادة لقبيح ، وليس قبحها ممّا يتغيّر؟.

وكيف يصحّ أن يبوء القاتل بإثمه وإثم غيره؟ وهل هذا إلّا ما يأبونه من أخذ البريء بجرم السقيم؟.

الجواب : قلنا : جواب أهل الحقّ عن هذه الآية معروف ؛ وهو أنّ هابيل لم يرد من أخيه قبيحا ، ولا أراد أن يقتله ، وإنّما أراد ما خبّر الله تعالى به عنه من قوله : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) ؛ أي إني أريد أن تبوء بجزاء ما أقدمت عليه من القبيح وعقابه ، وليس بقبيح أن يريد نزول العقاب المستحق بمستحقّه. ونظير قوله : «إثمي» ـ مع أنّ المراد به عقوبة إثمي الذي هو قتلي ـ قول القائل لمن يعاقب على ذنب جناه : هذا ما كسبت يداك ، والمعنى : هذا جزاء ما كسبت يداك ، وكذلك قولهم لمن يدعون عليه : لقاك الله عملك ، وستلقى عملك يوم القيامة ، معناه ما ذكرناه.

فإن قيل : كيف يجوز أن يحسن إرادة عقاب غير مستحقّ لم يقع سببه ، لأنّ القتل على هذا القول لم يكن واقعا؟.

قلنا : ذلك جائز بشرط وقوع الأمر الذي يستحقّ به العقاب ؛ فهابيل لمّا رأى من أخيه التصميم على قتله ، والعزم على إمضاء القبيح فيه ، وغلب على ظنّه وقوع ذلك جاز أن يريد عقابه ؛ بشرط أن يفعل ما همّ به ، وعزم عليه.

فأمّا قوله : (بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) فالمعنى فيه واضح لأنّه أراد بإثمي عقاب قتلك لي وبإثمك أي عقاب المعصية التي أقدمت عليها من قبل ، فلم يتقبل قربانك لسببها ، لأنّ الله تعالى أخبر عنهما بأنّهما : (قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ) (١) ، وأنّ العلّة في أنّ قربان أحدهما لم يتقبّل أنّه غير متّق ،

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية : ٢٧.

١٤٤

وليس يمتنع أن يريد بإثمي ما ذكرناه ؛ لأنّ الإثم مصدر ، والمصادر قد تضاف إلى الفاعل والمفعول جميعا ، وذلك مستعمل مطّرد في القرآن والشعر والكلام.

فمثال ما أضيف إلى الفاعل قوله تعالى : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) (١) ومن إضافته إلى المفعول قوله تعالى : (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) (٢) وقوله تعالى : (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ) (٣).

وممّا جاء في الشعر من إضافته إلى المفعول ومعه الفاعل قول الشاعر :

أمن رسم دار مربع ومصيف

لعينيك من ماء الشّؤون وكيف (٤)

وفي الكلام : يقول القائل : أعجبني ضرب عمرو خالدا ، إذا كان «عمرو» فاعلا ، وضرب عمرو خالد إذا كان «عمرو» مفعولا.

وقد ذكر قوم في الآية وجها آخر : وهو أن يكون المراد : إنّي أريد زوال أن تبوء بإثمي وإثمك ؛ لأنّه لم يرد له إلّا الخير والرّشد ؛ فحذف «الزوال» ، وأقام «أن» وما اتّصل بها مقامه ؛ كما قال تعالى : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ) (٥) أراد «حبّ العجل» فحذف «الحبّ» وأقام «العجل» مقامه ، وكما قال تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) (٦) ، وهذا قول بعيد ، لأنّه لا دلالة في الكلام على محذوف ، وإنّما تستحسن العرب الحذف في بعض المواضع لاقتضاء الكلام المحذوف ودلالته عليه.

وذكر أيضا وجه آخر : وهو أن يكون المعنى : إنّي أريد ألّا تبوء بإثمي وإثمك ، أي أريد ألّا تقتلني ولا أقتلك ، فحذف «لا» واكتفى بما في الكلام ، كما قال تعالى :

__________________

(١) سورة الحج ، الآية : ٤٠.

(٢) سورة فصلت ، الآية : ٤٩.

(٣) سورة ص ، الآية : ٢٤.

(٤) البيت للحطيئة ، ديوانه : ٣٩ ، وهو مطلع قصيدة يمدح فيها سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص ؛ حينما كان واليا على المدينة. الشؤون : مجاري الدمع من الرأس إلى العين ؛ واحدها شأن ، وكيف : مصدر وكف ، أي سأل. وفي حاشية بعض النسخ : «يقول : أأن رسم دارا مربع ومصيف بكيت! والمربع والمصيف واردان مورد المصدر ، فلذلك عملا في رسم دار».

(٥) سورة البقرة ، الآية : ٩٣.

(٦) سورة يوسف ، الآية : ٨٢.

١٤٥

(يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) (١) معناه ألّا تضلوا ، وكقوله تعالى : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) (٢) ، معناه أن لا تميد بكم ، وكقول الخنساء :

فأقسمت آسي على هالك

وأسأل نائحة ما لها (٣)

أرادت : «لا آسى».

وقال امرؤ القيس :

فقلت يمين الله أبرح قاعدا

ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي (٤)

أراد «لا أبرح».

وقال عمرو بن كلثوم :

نزلتم منزل الأضياف منّا

فعجّلنا القرى أن تشتمونا (٥)

أراد ألّا تشتمونا ؛ والشواهد في هذا كثيرة جدّا.

وهذا الجواب يضعّفه كثير من أهل العربية ؛ لأنّهم لا يستحسنون إضمار «لا» في مثل هذا الموضوع.

فأمّا قوله تعالى حاكيا عنه : (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) ؛ فقال قوم من المفسّرين : إنّ القتل على سبيل الانتصار والمدافعة لم يكن مباحا في ذلك الوقت ؛ وإنّ الله تعالى أمره بالصبر عليه ، وامتحنه بذلك ، ليكون هو المتولّي للانتصاف.

وقال آخرون : بل المعنى أنّك إن بسطت إليّ يدك مبتدئا ظالما لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك على وجه الظلم والابتداء ؛ فكأنّه نفى عن نفسه القتل القبيح ، وهو الواقع على سبيل الظلم.

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ١٧٦.

(٢) سورة النحل ، الآية : ١٥.

(٣) ديوانها : ٢٠٢ والرواية هناك :

يد الدّهر آسى على هالك

وأسأل نائحة ما لها

(٤) ديوانه : ٥٨.

(٥) من المعلقة ، ص ٢٣٥ ـ بشرح التبريزي.

١٤٦

والظاهر من الكلام بغير ما ذكر من الوجهين أشبه ، لأنّه تعالى خبّر عنه أنّه وإن بسط أخوه إليه يده ليقتله لا يبسط يده ليقتله ؛ أي وهو مريد لقتله ومخيّر إليه ؛ لأنّ هذه اللام بمعنى «كي» ، وهي منبئة عن الإرادة والغرض ؛ ولا شبهة في حظر ذلك وقبحه ؛ ولأنّ المدافع إنّما تحسن منه المدافعة للظالم أو طلبا للتخلّص من غير أن يقصد إلى قتله والإضرار به ؛ ومتي قصد ذلك كان في حكم المبتدئ بالقتل ؛ لأنّه فاعل القبيح ، والعقل شاهد بوجوب التخلّص من المضرّة بأيّ وجه تمكّن منه ؛ بعد أن يكون غير قبيح.

فإن قيل : فكأنّكم تمنعون من حسن امتحان الله تعالى بالصبر على ترك الانتصار والمدافعة توجبونهما على كلّ حال!

قلنا : لا نمنع من ذلك ؛ وإنّما بيّنا أنّ الآية غير مقتضية لتحريم المدافعة والانتصاف ؛ على ما ذهب إليه قوم ؛ لأنّ قوله : (لِأَقْتُلَكَ) يقتضي أن يكون البسط لهذا الغرض ؛ والمدافعة لا يقتضي ذلك ، ولا يحسن من المدافع أن يجري بها إلى ضرر ؛ فلا دلالة في الآية على تحريم المدافعة ، ووجب أن يكون ما ذكرناه أولى بشهادة الظاهر (١).

ـ (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ) [المائدة : ٣٠].

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

ـ (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) [المائدة : ٣٨].

[فيها أمور :

الأوّل : وفيه موضعان :]

[الأوّل :] وممّا انفردت به الإمامية القول بأنّ السارق يجب قطع يده من أصول الأصابع تبقى له الراحة والإبهام ، وفي الرجل يقطع من صدر القدم ويبقى له العقب.

__________________

(١) الأمالي ، ٢ : ٤٣.

١٤٧

وخالف باقي الفقهاء في ذلك وذهبوا كلّهم إلى أنّ قطع اليد من الرسغ ، والرجل من المفصل من غير تبقية قدم (١) ، وذهب الخوارج إلى أنّ القطع من المرفق ، وروى عنهم أنّه من أصل الكتف (٢) ، دليلنا على صحّة ما ذهبنا إليه بعد الإجماع المتردد ، أنّ الله تعالى أمر بقطع يد السارق بظاهر الكتاب ، واسم اليد يقع على هذا العضو من أوله إلى آخره ، ويتناول كلّ بعض منه ، ألا ترى أنّهم يسمّون كلّ من عالج شيئا بأصابعه أنّه فعل شيئا بيده ، قال الله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) (٣) ، كما يقولون فيمن عالج شيئا براحته : أنّه قد فعل بيده ، وآية الطهارة تتضمّن التسمية باليد إلى المرافق (٤) ، وليس يجري قولنا : «يد» مجرى قولنا : «إنسان» كما ظنّه قوم لأنّ الإنسان يقع على جملة يختصّ كلّ بعض منها باسم من غير أن يقع اسم إنسان على أبعاضها كما يقع اسم اليد على كلّ بعض من هذا العضو (٥) ، فإذا وقع اسم اليد على هذه المواضع كلّها ، وأمر الله تعالى بقطع يد السارق ولم ينضم إلى ذلك بيان مقطوع عليه في موضع القطع ، وجب الاقتصار على أقلّ ما يتناوله اسم اليد ؛ لأنّ القطع والاتلاف محظور عقلا ، فإذا أمر الله تعالى به ولا بيان ، وجب الاقتصار على أقلّ ما يتناوله الاسم. وأقلّ ما يتناوله الاسم وممّا وقع الخلاف فيه هو ما ذهبت الإمامية إليه.

فإن قيل : هذا يقتضي أن يقتصر على قطع أطراف الأصابع ولا يوجب أن يقطع من أصولها. قلنا : الظاهر يقتضي ذلك ، والإجماع منع منه ، فإن احتجّ المخالف بما يروونه من أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قطع من الكوع (٦) ، قلنا : هذا ما ثبت على وجه يوجب اليقين وإنّما هو من أخبار الآحاد ، ويعارضه ما رويناه ممّا يتضمّن خلاف ذلك (٧) ، وقد روى الناس كلّهم أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام قطع من

__________________

(١) المجموع ، ٢٠ ، ٩٧.

(٢) أحكام القرآن (للجصّاص) ، ٢ : ٤٢١.

(٣) سورة البقرة ، الآية : ٧٩.

(٤) الانتصار : ٢٦٢.

(٥) الذريعة ، ١ : ٣٥١.

(٦) سنن البيهقي ، ٨ : ٢٧٠.

(٧) الوسائل ، ١٨ : ٤٨٩.

١٤٨

الموضع الذي ذكرناه (١) ولم نعرف له مخالفا في الحال ولا منازعا له (٢).

[الثاني : ممّا عاب به النظام أمير المؤمنين عليه‌السلام من الأحكام الّتي ادعى انه خالف فيها جميع الأمّة ، قطع يد السارق من أصول الأصابع].

الجواب : إنا قد بينا قبل هذا الموضع أنه لا يعترض على أمير المؤمنين عليه‌السلام في أحكام الشريعة ويطمع فيه من عثرة أو زلة إلّا معاند لا يعرف قدره ، ومن شهد له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه أقضى الأمّة ، وان الحق معه كيف ما دار ، وضرب بيده على صدره وقال : اللهم اهد قلبه وثبت لسانه لما بعثه إلى اليمن حتّى قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «فما شككت في قضاء بين اثنين» (٣) وقال فيه عليه‌السلام : «أنا مدينة العلم وعليّ بابها ، فمن أراد المدينة فليأت الباب» (٤) لا يجوز أن يعترض أحكامه عليه‌السلام ، ولا يظنّ بها إلّا الصحّة والسداد.

وأعجب من هذا كلّه الطعن على هذه الأحكام وأشباهها بأنها خلاف الإجماع ، وأي إجماع ـ ليت شعري ـ يكون وأمير المؤمنين عليه‌السلام خارج منه ، ولا أحد من الصحابة الّذين لهم في الأحكام مذاهب وفتاوى [وقيام] إلّا وقد تفرد بشيء لم يكن له عليه موافق ، وما عد مذهبه خروجا عن الإجماع ، ولو لا التطويل لذكرنا شرح هذه الجملة ، ومعرفتها وظهورها يغنيان عن تكلّف ذلك ، ولو كان للطعن على أمير المؤمنين عليه‌السلام في هذه الأحكام مجال ، وله وجه ، لكان أعداؤه من بني أميّة والمتقرّبين إليهم من شيعتهم بذلك أخبر ، وإليه أسبق ، وكانوا يعيبونه عليه ويدخلونه في جملة مثالبهم ومعايبهم الّتي تمحلوها [له] ولما تركوا ذلك حتّى يستدركه النظام بعد السنين الطويلة ، وفي إضرابهم عن ذلك دليل على أنه لا مطعن بذلك ولا معاب.

وبعد ، فكلّ شيء فعله أمير المؤمنين عليه‌السلام من هذه الأحكام وكان له

__________________

(١) المحلّى ، ١١ : ٣٥٧.

(٢) الانتصار : ٢٦٢.

(٣) مسند أحمد بن حنبل ، ١ : ٨٣ و ١١١.

(٤) المستدرك على الصحيحين ، ٣ : ١٢٦ و ١٢٧.

١٤٩

مذهبا ، ففعله عليه‌السلام له واعتقاده إيّاه هو الحجّة فيه ، وأكبر البرهان على صحّته ، لقيام الأدلّة على أنه عليه‌السلام لا يزل ولا يغلط [ولا يحتاج] إلى بيان وجوه زائدة على ما ذكرناه إلّا على سبيل الاستظهار والتقرير على الخصوم ، وتسهيل طريق الحجّة عليهم (١).

فأمّا قطع السارق من الأصابع فهو الحقّ الواضح الجلي ؛ لأن الله تعالى قال : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) واسم اليد يقع على جملة هذا العضو إلى المنكب.

ويقع عليه أيضا إلى المرافق وإلى الزند وإلى الأصابع كلّ ذلك على سبيل الحقيقة. ولهذا يقول أحدهم أدخلت يدي في الماء إلى أصول الأصابع وإلى الزند وإلى المرفق وإلى المنكب ، فيجعل كلّ ذلك غاية.

وقال الله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) (٢) ومعلوم أن الكتابة تكون بالأصابع ، ولو يرى أحدنا قلما فعقرت السكين أصابعه لقيل قطع يده وعقرها ونحو ذلك.

وقال الله تعالى في قصّة يوسف عليه‌السلام (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ) (٣) ومعلوم أنهن ما قطعن اكفهن إلى الزند ، بل على ما ذكرناه.

وإذا كان الأمر على ما ذكرناه ولم يجز ان يحمل اليد على كل ما تناولته هذه اللفظة حتّى يقطع من الكتف على مذهب الخوارج (٤) ؛ لأن هذا باطل عند جميع الفقهاء ، وجب أن نحمله على أدنى ما تناوله ، وهو من أصول الأشاجع ، والقطع من الأصابع أولى بالحكمة وأرفق بالمقطوع ، لأنه إذا قطع من الزند فاته من المنافع أكثر ممّا يفوته إذا قطع من الأشاجع.

وقد روي أن عليّ بن أصمع سرق عيبة لصفوان ، فأتى به إلى أمير

__________________

(١) تنزيه الأنبياء والأئمّة : ٢١٢ ، وسنذكر الأمور الأخر الّتي عاب بها النظام ذيل الآيات المرتبطة بها.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ٧٩.

(٣) سورة يوسف ، الآية : ٣١.

(٤) المحلى ، ١١ : ٣٥٧.

١٥٠

المؤمنين عليه‌السلام فقطعه من أشاجعه ، فقيل له يا أمير المؤمنين أفلا من الرسغ. فقال عليه‌السلام «فعلى أي شيء يتوكأ وبأي شيء يستنجي» (١).

ومهما شككنا فإنا لا نشك في أن أمير المؤمنين عليه‌السلام كان أعلم باللغة العربية من النظام وجميع الفقهاء والذين خالفوه في القطع ، وأقرب إلى فهم ما نطق به القرآن ، وان قوله عليه‌السلام حجّة في العربية وقدوة ، وقد سمع الآية وعرف اللغة الّتي نزل بها القرآن ، فلم يذهب إلى ما ذهب إليه إلّا عن خبرة ويقين (٢).

[الثاني :] وممّا انفردت به الإمامية القول : بأنّه إذا اشترك نفسان أو جماعة في سرقة ما يبلغ النصاب من حرز قطع جميعهم ، وخالف باقي الفقهاء في ذلك (٣).

دليلنا على صحّة ما ذهبنا إليه : الإجماع المتردد ، وأيضا قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) والظاهر يقتضي أنّ القطع إنّما وجب بالسرقة المخصوصة وكلّ واحد من الجماعة يستحقّ هذا الاسم فيجب أن يستحقّ القطع (٤).

[الثالث :] إن سأل سائل عن الخبر الذي روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «لعن الله السّارق ؛ يسرق البيضة فتقطع يده ، ويسرق الحبل فتقطع يده».

الجواب : قلنا : قد تعلّق بهذا الخبر صنفان من الناس ؛ فالخوارج تتعلّق به ، وتدّعى أنّ القطع يجب في القليل والكثير ؛ وتستشهد على ذلك بظاهر قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) (٥) ، ويتعلق بهذا الخبر أيضا الملحدة والشّكاك ، ويدّعون أنّه مناقض للرواية المتضمنّة انتفاء القطع إلّا في ربع دينار. ونحن نذكر ما فيه :

فأوّل ما نقوله إنّ الخبر مطعون فيه عند أصحاب الحديث على سنده ، وقد

__________________

(١) روى نحوه في تفسير العيّاشي ، ١ : ٣١٨ ح ١٠٣ و ١٠٤ ، علل الشرائع : ٥٣٦ ح ١ و ٢.

(٢) تنزيه الأنبياء والأئمّة : ٢١٣ و ٢١٤.

(٣) المجموع ، ٢٠ : ٨٣.

(٤) الانتصار : ٢٦٤.

(٥) سورة المائدة ، الآية : ٣٨.

١٥١

حكى ابن قتيبة في تأويله وجها عن يحيى بن أكثم ، طعن عليه وضعّفه ، وذكر عن نفسه وجها آخر ؛ نحن نذكرهما وما فيهما ، ونتبعهما بما نختاره.

قال ابن قتيبة : كنت حضرت يوما مجلس يحيى بن أكثم بمكّة ، فرأيته يذهب إلى أنّ البيضة في هذا الحديث بيضة الحديد التي تغفر الرأس في الحرب ، وأن الحبل من حبال السفن ، قال : وكلّ واحد من هذين يبلغ ثمنه دنانير كثيرة ؛ قال : ورأيته يعجب بهذا التأويل ، ويبدى فيه ويعيد ، ويرى أنّه قطع به حجّة الخصم.

قال ابن قتيبة : وهذا إنّما يجوز على من لا معرفة له باللغة ومخارج الكلام ، وليس هذا موضع تكثير لما يأخذه السارق فيصرفه إلى بيضة تساوي دنانير ؛ وحبل لا يقدر السارق على حمله ؛ ولا من عادة العرب والعجم أن يقولوا : قبح الله فلانا! عرّض نفسه للضرر في عقد جوهر ، وتعرّض لعقوبة الغلول في جراب مسك ؛ وإنّما العادة في مثل هذا أن يقال : لعنة الله ، تعرّض لقطع في حبل رثّ ، أو إداوة خلق ، أو كبّة شعر ؛ وكلّ ما كان من ذلك أحقر كان أبلغ.

قال : والوجه في الحديث أنّ الله تعالى لمّا أنزل على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا) ؛ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لعن الله السارق ؛ يسرق البيضة فتقطع يده» ، على ظاهر ما أنزل عليه في ذلك الوقت ، ثمّ أعلمه الله تعالى بعد أن القطع لا يكون إلّا في ربع دينار فما فوقه ، ولم يكن عليه‌السلام يعلم من حكم الله تعالى إلّا ما أعلمه الله تعالى ، ولا كان الله يعرّفه ذلك جملة جملة ، بل بيّن له شيئا بعد شيء.

[أقول] : ووجدت أبا بكر الأنباريّ يقول : ليس الذي طعن به ابن قتيبة على تأويل الخبر بشيء ؛ قال : لأنّ البيضة من السلاح ليست علما في كثرة الثمن ونهاية علوّ القيمة ؛ فتجري مجرى العقد من الجوهر ، والجراب من المسك ؛ اللّذين هما ربّما ساويا الألوف من الدنانير ، والبيضة من الحديد ربّما اشتريت بأقلّ ممّا يجب فيه القطع ، وإنّما أراد عليه‌السلام أنّه يكتسب قطع يده بما لا غناء له به ، لأنّ البيضة من السلاح لا يستغنى بها أحد ، والجوهر والمسك في اليسير منهما غنى.

١٥٢

[أقول] : والذي نقوله إنّ ما طعن به ابن الأنباريّ على كلام ابن قتيبة متوجّه ؛ وليس في ذكر البيضة والحبل تكثير كما ظنّ ؛ فيشبه العقد والجراب من المسك ؛ غير أنّه يبقى في ذلك أن يقال : أيّ وجه لتخصيص البيضة والحبل بالذكر ، وليس هما النهاية في التقليل ؛ وإن كان كما ذكره ابن الأنباريّ ، من أنّ المعنى أنّه يسرق مالا يستغنى به ؛ فليس ذكر ذلك بأولى من غيره ؛ ولا بدّ من ذكر وجه في ذلك.

وأمّا تأويل ابن قتيبة فباطل لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يجوز أن يقول ما حكاه عند سماع قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) ؛ لأنّ الآية مجملة مفتقرة إلى بيان ؛ ولا يجوز أن يحملها أو يصرفها إلى بعض محتملاتها دون بعض بلا دلالة ؛ على أنّ أكثر من قال : إنّ الآية غير مجملة ، وأن ظاهر القول يقتضي العموم يذهب إلى أن ما اقتضى تخصيصها بسارق دون سارق لم يتأخر عن حال الخطاب بها ؛ فكيف يصحّ ما قاله ابن الأنباريّ أنّ الآية تقدّمت ، ثمّ تأخّر تخصيص السارق ؛ ولو كان ذلك كما ظنّ لكان المتأخر ناسخا للأوّل.

وعلى تأويله هذا يقتضي أن يكون كلّ الخبر منسوخا ؛ وإذا أمكن تأويل أخباره عليه‌السلام على ما لا يقتضي رفع أحكامها ونسخها كان أولى.

والأشبه أن يكون المراد بهذا الخبر أنّ السارق يسرق الكثير الجليل ، فتقطع يده ، ويسرق الحقير القليل فتقطع يده ؛ فكأنّه تعجيز له ، وتضعيف لاختياره ، من حيث باع يده بقليل الثمن ؛ كما باعها بكثيره.

وقد حكى أهل اللغة أنّ بيضة القوم وسطهم ، وبيضة الدار وسطها ، وبيضة السنام شحمته ، وبيضة الصّيف معظمة ، وبيضة البلد الذي لا نظير له ؛ وإن كان قد يستعمل ذلك في المدح والذمّ على سبيل الأضداد ، وإذا استعمل في الذمّ فمعناه أنّ الموصوف بذلك حقير مهين ، كالبيضة التي تفسدها النعامة فتتركها ملقاة لا تلتفت إليها.

فممّا جاء من ذلك في المدح قول أخت عمرو ابن عبد ودّ ترثيه ، وتذكر قتل أمير المؤمنين عليه‌السلام له ؛ وقيل إنّ الأبيات لامرأة من العرب غير أخته :

١٥٣

لو كان قاتل عمرو غير قاتله

لكنت أبكى عليه آخر الأبد

لكن قاتله من لا يعاب به

قد كان يدعى أبوه بيضة البلد (١)

وقال آخر في المدح :

كانت قريش بيضة فتفّلقت

فالمخّ خالصة لعبد مناف

وقال آخر الذمّ :

تأبى قضاعة أن تعرف لكم نسبا

وابنا نزار ، فأنتم بيضة البلد (٢)

أراد : «أن تعرف» فأسكن.

وقال آخر في ذلك :

لكنّه حوض من أودى بإخوته

ريب الزّمان فأمسي بيضة البلد (٣)

فقد صار معنى البيضة كلّه يعود إلى التفخيم والتعظيم.

وأمّا الحبل فذكر على السبيل المثل ؛ والمراد المبالغة في التحقير والتقليل ؛ كما يقول القائل : ما أعطاني فلان عقالا ، وما ذهب من فلان عقال ، ولا يساوي كذا نقيرا ؛ كلّ ذلك على سبيل المثل والمبالغة في التقليل ؛ وليس الغرض بذكر الحبل الواحد من الحبال على الحقيقة ؛ وإذا كان على هذا تأويل الخبر زال عنه المناقضة التي ظنّت ، وبطلت شبهة الخوارج في أنّ القطع يجب في القليل والكثير (٤).

ـ (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) [المائدة : ٤٤].

أنظر البقرة : ٨ من الذخيرة : ٥٣٦.

__________________

(١) البيتان في شرح المرزوقي لحماسة أبي تمام : ٨٠٤ واللسان (بيض).

(٢) اللسان (بيض) ، ونسبه إلى الراعي يهجو ابن الرقاع العاملي.

(٣) من أبيات في حماسة أبي تمام ـ بشرح المرزوقي ٨٠٢ ـ ٨٠٤ ، وفي اللسان بيض منسوبة إلى صنان بن عباد اليشكري.

(٤) الأمالي ، ٢ : ٧.

١٥٤

ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) [المائدة : ٥١].

أنظر الأنعام : ١٢٩ من الرسائل ، ٣ : ١٠١.

ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) [المائدة : ٥٤].

[فيها أمران :

الأوّل : أنظر المائدة : ٥٥ من الشافي ، ١ : ٢١٧.]

[الثاني : حكى القاضي استدلال شيخه «أبي عليّ» بهذه الآية على أن أبا بكر يصلح للإمامة ، قال :] وهذا خبر من الله تعالى ولا بدّ من أن يكون كائنا على ما أخبر به ، والذين قاتلوا المرتدّين هم أبو بكر وأصحابه ، فوجب أنّهم الذين عناهم بقوله : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) [وأنّهم (يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ)] (١) وذلك يوجب أن يكون على صواب [وأن يكون ممن وفى ، ويمنع من قول من يدّعي النصّ وأنّه كان على باطل] (٢).

[أقول :] ما زاد في هذا الوضع على الدعوى والاقتراح ، فيقال له من أين قلت : إن الآية في أبي بكر وأصحابه نزلت؟

فإن قال : لأنّهم هم الذين قاتلوا المرتدين بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا أحد قاتلهم سواهم.

قيل له : ومن الذي سلّم لك ذلك ، أو ليس أمير المؤمنين عليه‌السلام قد قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهؤلاء عندنا مرتدّون عن الدين ، ويشهد بصحّة هذا التأويل زائدا على احتمال القول له ما روي عن أمير المؤمنين من قوله عليه‌السلام يوم البصرة : والله ما قوتل أهل هذه الآية حتّى اليوم وتلا قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) وروي عن عمّار وحذيفة وغيرهما مثل ذلك.

__________________

(١) ما بين المعقوفتين من المغني.

(٢) المغني ، ٢٠ : ٢٢٦.

١٥٥

فإن قال : الدليل على أنّها في أبي بكر وأصحابه قول أهل التفسير.

قيل له : أو كل أهل التفسير قال ذلك؟

فإن قال : نعم ، كابر ؛ لأنّه قد روي عن جماعة التأويل الذي ذكرناه ، ولو لم يكن ذلك إلّا ما روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ووجوه الصحابة لكفى.

فإن قال : حجّتي قول بعض المفسّرين.

قلنا : وأي حجّة في قول البعض ، ولم صار البعض الذي قال ما ذكرته بالحق أولى من البعض الذي قال ما ذكرناه.

ثمّ يقال له : قد وجدنا الله تعالى نعت المذكورين في الآية بنعوت يجب أن نراعيها لنعلم أفي صاحبنا هي أم في صاحبك؟ لأنّه وصفهم بأنّ الله يحبّهم ويحبّونه ، وهذا وصف مجمع عليه في صاحبنا مختلف فيه في صاحبك ، وقد جعله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علما له في خيبر حين فرّ من القوم عن العدوّ فقال : «لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله كرّار غير فرّار» فدفعها إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ثمّ قال : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) ومعلوم بلا خلاف حالة أمير المؤمنين عليه‌السلام في التخاشع والتواضع وذمّ نفسه وقمع غضبه وأنّه ما رؤي طائشا ولا مستطيرا (١) في حال من أحوال الدنيا ، ومعلوم حال صاحبيكم في هذا الباب :

أمّا أحدهم : فإنه اعترف طوعا بأن له شيطانا يعتريه عند غضبه ، وأمّا الآخر : فكان معروفا بالحدّة والعجلة ، مشهورا بالفظاظة والغلظة.

وأمّا العزّة على الكافرين فإنّما يكون بقتالهم وجهادهم والانتصاف منهم ، وهذه حال لم يسبق أمير المؤمنين عليه‌السلام إليها سابق في الحقيقة ولا لحقه فيها لاحق ثمّ قال : «يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم» وهذا وصف أمير المؤمنين عليه‌السلام مستحقّ له بالإجماع ، وهو منتف عن أبي بكر وعمر بالاجماع ؛

__________________

(١) الطيش : القحة والنزق ، والمستطير ـ هنا ـ : الشّرير.

١٥٦

لأنّه لا قتيل لهما في الإسلام ، ولا جهاد بين يدي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإذا كانت الأوصاف المراعاة في الآية حاصلة لأمير المؤمنين عليه‌السلام وغير حاصلة لمن ادّعيتهم ؛ لأنّها فيهم على ضربين : ضرب معلوم انتفاؤه كالجهاد ، وضرب مختلف فيه كالأوصاف التي هي غير الجهاد ، وعلى من أثبتها لهم الدلالة على حصولها ، ولا بدّ من أن يرجع في ذلك إلى غير ظاهر الآية ، فلا يبقى في يده من الآية دليل (١).

ـ (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) [المائدة : ٥٥].

[قال القاضي : دليل لهم آخر ، ربّما تعلقوا بهذه الآية] ويقولون : المراد بالذين آمنوا أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه‌السلام ؛ لأنّه وصفه بصفة لم تثبت إلّا له وهي إيتاء الزكاة في حال الركوع ؛ وربّما ادّعوا في ذلك أخبارا منقولة أنه الذي أريد به ، ويقولون : قد يذكر الواحد بلفظ الجمع تفخيما لشأنه ، ويقولون : المراد بالولي في الآية لا يخلو من وجهين : إمّا أن يراد من له التولي في باب الدّين.

أو يراد نفاذ الأمر وتنفيذ الحكم.

ولا يجوز أن يراد به الأول ؛ لأن ذلك لا يختص الرسول ولا أمير المؤمنين عليه‌السلام ؛ لأنّ الواجب تولي كلّ مؤمن (٢) فلا يكون لهذا الاختصاص وجه فلم يبق إلّا أن المراد ما ذكرناه ، ...» (٣).

يقال له : ترتيب الاستدلال بهذه الآية على النصّ هو أنه قد ثبت أن المراد بلفظة (وَلِيُّكُمُ) المذكورة في الآية من كان متحققا بتدبيركم والقيام بأموركم ويجب طاعته عليكم ، وثبت أن المعنى ب (الَّذِينَ آمَنُوا) أمير المؤمنين عليه‌السلام. وفي ثبوت هذين الوصفين دلالة على كونه عليه‌السلام إماما لنا.

__________________

(١) الشافي في الإمامة وإبطال العامّة ، ٤ : ٣٧.

(٢) في المغني «كلّ قوم» وهو خطأ بيّن.

(٣) المغني ، ٢٠ : ١٣٣.

١٥٧

فإن قال : دلّوا أولا ، على أن لفظة «وليّ» تفيد في الاستعمال ما ادّعيتموه من المتحقق بالتدبير والتصرف ، ثم دلّوا على أن المراد بها في الآية ذلك ؛ لأنّه قد يجوز أن يحتمل اللفظ في وضع اللغة ما لا يقصد المخاطب بها إليه في كلّ حال ، ودلّوا من بعد على توجّه لفظ «الذين آمنوا» إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام وأنه المتفرّد بها دون غيره.

قيل له : أما كون لفظة «وليّ» مفيدة لما ذكرناه فظاهر لا إشكال في مثله ، ألا ترى أنهم يقولون : فلان وليّ المرأة ، إذا كان يملك تدبير إنكاحها والعقد عليها ، ويصفون عصبة المقتول بأنهم أولياء الدم من حيث كانت إليهم المطالبة بالقود (١) والإعفاء ، وكذلك يقولون في السلطان : أنه وليّ أمر الرعيّة ، وفيمن يرشحه لخلافته عليهم بعده : أنه ولي عهد المسلمين؟

قال الكميت : (٢)

ونعم ولي الأمر بعد وليّه

ومنتجع التقوى ونعم المؤدّب

إنّما أرادوا ولي الأمر والقائم بتدبيره.

وقال أبو العباس المبرّد في كتابه المترجم ب «العبارة» عن صفات الله تعالى : «أصل تأويل الولي الذي هو أولى أي أحقّ ، ومثله المولى» وفي الجملة من كان واليا لأمر ومتحققا بتدبيره ، يوصف بأنه وليه وأولى به في العرف اللغوي والشرعي معا والأمر فيما ذكرناه ظاهر جدا.

فأمّا الذي يدلّ على أنّ المراد بلفظة «وليّ» في الآية ما بيّناه من معنى الإمامة ، فهو أنه قد ثبت أولا أن المراد ب (الَّذِينَ آمَنُوا) ليس هو جميعهم على العموم ، بل بعضهم ، وهو من كانت له الصفة المخصوصة التي هي إيتاء الزكاة في حال الركوع ؛ لأنّه تعالى كما وصف بالإيمان من أخبر بأنه ولينا بعد

__________________

(١) القود ـ بفتحتين ـ القصاص ، يقال : أقاد القاتل بالقتيل : قتله به.

(٢) هاشميته التي أولها :

طربت وما شوقا إلى البيض أطرب

ولا لعبا مني وذو الشيب يلعب

١٥٨

ذكر نفسه ، وذكر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذلك وصفه بإيتاء الزكاة في حال الركوع ، فيجب أن يراعى ثبوت الصفتين معا.

وقد علمنا أن الصفة الثانية التي هي إيتاء الزكاة لم تثبت في كلّ مؤمن على الاستغراق ؛ لأن مخالفينا وإن حملوا نفوسهم على أن يجوّزوا مشاركة غير أمير المؤمنين عليه‌السلام في ذلك الفعل له ، فليس يصحّ أن يثبتوه لكل مؤمن ، وسندل فيما بعد على أن المراد وصفهم بإعطاء الزكاة في حال الركوع دون أن يكون أراد أن من صفتهم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ومن صفتهم الركوع ، ونبطل أيضا أن يكون المراد بالركوع الخضوع دون الفعل المخصوص عند الكلام على ما أورده صاحب الكتاب.

وإذا ثبت توجّه الآية إلى بعض المؤمنين دون جميعهم ووجدناه تعالى قد أثبت كون من أراده من المؤمنين وليا لنا على وحيه يقتضي التخصيص ونفي ما أثبته لمن عدا المذكور ؛ لأن لفظة «إنّما» يقتضي بظاهرها ما ذكرناه يبيّن صحّة قولنا : إن الظاهر من قولهم : «إنّما النحاة المدققون البصريون وإنما الفصاحة في الشعر للجاهلية» نفي التدقيق في النحو والفصاحة عمن عدا المذكورين ، والمفهوم من قول القائل : «إنما لقيت اليوم زيدا» و «إنّما أكلت رغيفا» نفي لقاء غير زيد ، وأكل أكثر من رغيف.

قال الأعشى :

ولست بالأكثر منهم حصى

وإنما العزة للكاثر (١)

وإنّما أراد نفي العزة عمن ليس بكاثر.

__________________

(١) البيت المذكور في المتن من قصيدة للأعشى قالها في منافرة علقمة بن علاثة وعامر بن الطفيل والقصيدة طويلة تجدها في ديوانه ص : ١٠٨ ـ ١٠٤ وأولها :

شاقتك من قلّة أطلالها

بالشطّ فالوتر إلى حاجر

إلى أن يقول :

ولست بالأكثر منهم حصى

البيت ... وقد تمثل أمير المؤمنين عليه‌السلام ببيت من هذه القصيدة في خطبته الشقشقية.

شتّان ما يومى على كورها

ويوم حيان أخي جابر

١٥٩

فيجب أن يكون المراد بلفظ «ولي» في الآية ما يرجع إلى معنى الإمامة والاختصاص بالتدبير ؛ لأن ما يحتمله هذه اللفظة من الوجه الآخر الذي هو الموالاة في الدين والمحبة لا تخصيص فيه ، والمؤمنون كلّهم مشتركون في معناه ، وقد نطق الكتاب بذلك في قوله تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (١) وإذا بطل حملها على الموالاة فلا بدّ من حملها على الوجه الذي بيّناه ؛ لأنّه لا محتمل اللفظة سواها ، وفيمن يستدل بهذه الآية على النصّ من يقول إذا طولب بمثل ما طولبنا به ـ وقد ثبت أن اللفظة محتملة للوجهين جميعا على سبيل الحقيقة ـ فالواجب حملها على المعنيين معا ؛ إذ هي محتملة لهما معا ولا تنافي بينهما ، وقد بيّنا فيما تقدّم أن هذه الطريقة غير سديدة ، ولا معتمدة.

ومنهم من يقول أيضا : إن ظاهر قوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ) يقتضي توجه الخطاب إلى جميع المكلّفين مؤمنهم وكافرهم ؛ لأن أحدنا لو أقبل على جماعة فشافههم بالخطاب بالكاف يحمل خطابه على أنه متوجّه إلى الجميع ؛ من حيث لم يكن بأن يتناول بعضهم أولى من أن يتناول كلّهم ، وجميع المكلفين فيما توجه إليهم من خطاب القديم تعالى بمنزلة من شافهه أحدنا بخطابه ؛ لأنهم جميعا في حكم الحاضرين له فيجب أن يكون الخطاب متوجها إلى جميعهم ، كما توجه قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) (٢) وما أشبهه من الخطاب إلى الكلّ ، وإذا دخل الجميع تحته استحال أن يكون المراد باللفظة الموالاة في الدّين ؛ لأن هذه الموالاة يختصّ بها المؤمنون دون غيرهم ، فلا بدّ إذا من حملها على ما يصحّ دخول الجميع فيه ، وهو معنى الإمامة ووجوب الطاعة ، وهذه الطريقة أيضا لا تستمر ؛ لأنها مبنيّة على أنّ ظاهر الخطاب يقتضي توجهه إلى الكل وذلك غير صحيح ، غير أن صاحب الكتاب لا يمكنه دفع الاستدلال بهاتين الطريقتين على أصوله ؛ لأنّه يذهب إلى ما بنيتا عليه.

فأمّا الذي يدل على توجّه لفظة (الَّذِينَ آمَنُوا) إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فوجوه :

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية : ٧١.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ١٨٣.

١٦٠