تفسير الشريف المرتضى - ج ٢

تفسير الشريف المرتضى - ج ٢

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٠

وأيضا فإن معنى انعقاد اليمين أن يجب على الحالف فعل ما حلف أنّه يفعله أو يجب عليه أن لا يفعل ما حلف أنّه لا يفعله ، ولا خلاف أنّ الحكم مفقود في اليمين على المعصية ؛ لأنّ الواجب عليه أن لا يفعلها ، فكيف تنعقد يمين يجب عليه أن لا يفي بها وان يعدل عن موجبها؟

فان قيل : ليس معنى انعقاد اليمين ما ادّعيتم بل معناه وجوب الكفارة متى خالف أو حنث.

قلنا : هذا غير صحيح ؛ لأنّ وجوب الكفارة وحكم الحنث إنّما يتبعان انعقاد اليمين ؛ لأنّا إنّما نلزمه الكفارة لأجل خلافه ليمين انعقدت ، فكيف يفسّر الانعقاد بلزوم الكفارة وهو مبني عليه وتابع له؟ والذي يكشف عن صحّة ما ذكرناه أنّ الله تعالى أمرنا بأن نحفظ أيماننا ونقيم عليها بقوله تعالى : (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) ، وقوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (١) ، فاليمين المنعقدة هي التي يجب حفظها والوفاء بها ، ولا خلاف أنّ اليمين على المعصية بخلاف ذلك ، فيجب أن تكون غير منعقدة ، فاذا لم تنعقد فلا كفّارة فيها ، [فلو انعقدت اليمين على المعصية لوجب الوفاء بها بظاهر هذه الآية ، وقوله تعالى : (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها) (٢) يدلّ على وجوب الوفاء باليمين المنعقدة وقد علمنا أن من حلف على فعل معصية يجب عليه نقض يمينه لا الوفاء بها ، فدلّ على أنها غير منعقدة] (٣).

وأيضا ، فانّ من حلف أن يفعل معصية ثم لم يفعلها هو [بأن لم يفعلها] مطيع الله عزوجل ، فاعل لما أوجبه عليه ، فكيف يجب عليه كفارة فيما أطاع الله تعالى فيه وأدّى الواجب به؟ وإنّما تجب الكفارة على من أثم بمخالفة يمينه ، وحنث لتحطّ عنه الكفارة الاثم والوزر.

فإن قيل : فقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : من حلف على شيء فرأى ما هو خير منه ، فليأت الذي هو خير منه ، وليكفّر عن يمينه (٤).

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية : ١.

(٢) سورة النحل ، الآية : ٩١.

(٣) الناصريات : ٤٠٠.

(٤) صحيح البخاري ، ٢ : ٩٩٥.

٢٤١

قلنا : هذا خبر واحد لا يوجب علما ولا يقتضي قطعا ، وإنّما تثبت الأحكام بما يقتضي العلم ، ولنا من أخبارنا (١) التي نرويها عن أئمتنا عليهم‌السلام ما لا يحصى عددا من المعارضة ممّا تضمّن التصريح بسقوط الكفارة.

ويعارض هذا الخبر بما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث عمر أنّه قال : وليأت الذي هو خير وكفّارتها تركها (٢) ـ يعني عليه‌السلام ترك المعصية ـ لأنّ الكفارة لمّا كانت لازالة الاثم وترك المعصية إذا كان واجبا ، فلا إثم عليه فيه ، فقد قام مقام الكفارة. ونحن نستعمل الخبرين المرويين عنه عليه‌السلام فنحمل قوله : «وليكفّر» على الاستحباب والندب ، والمخالف لنا لا يمكنه على مذهبه استعمال الخبر المتضمّن سقوط الكفارة ، وإنّ كفارتها تركها (٣).

ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة : ٩٠].

[قال الناصر رحمه‌الله :] «الخمر نجسة ، وكذلك كلّ شراب يسكر كثيره».

لا خلاف بين المسلمين في نجاسة الخمر ، إلّا ما يحكى عن شذّاذ لا اعتبار بقولهم (٤).

والذي يدلّ على نجاستها قوله تعالى : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) وقد بيّنّا (٥) أنّ الرجس والرجز بمعنى واحد في الشريعة (٦).

فأما الشراب الذي يسكر كثيره : فكلّ من قال إنّه محرّم الشرب ، ذهب إلى أنّه نجس كالخمر. وإنّما يذهب إلى طهارته من ذهب إلى إباحة شربه (٧).

وقد دلّت الأدلّة الواضحة على تحريم كلّ شراب أسكر كثيره ، فوجب أن يكون نجسا ؛ لأنّه لا خلاف في أنّ نجاسته تابعة لتحريم شربه (٨).

__________________

(١) الكافي ، ٧ : ٤٤٣.

(٢) سنن أبي داود ، ٢ : ١١٦.

(٣) الانتصار : ١٥٦ وراجع أيضا الناصريات : ٣٩٩.

(٤) المجموع ، ٢ : ٥٦٣.

(٥) الناصريات : ٩١ انظر أيضا الانتصار : ١٥.

(٦) يأتي في سورة الأنفال : ١١.

(٧) المغني (لابن قدامة) ، ١٠ : ٣٤١.

(٨) الناصريات : ٩٥.

٢٤٢

ـ (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) [المائدة : ٩١].

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

ـ (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [المائدة : ٩٣].

هذه الآية تشاغل المفسّرون بإيضاح الوجوه في التكرار الذي تضمّنته ؛ وظنّوا أنّه المشكل منها ، وتركوا ما هو أشدّ إشكالا من التكرار ؛ وهو أنّه تعالى نفى الجناح عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيما يطعمونه بشرط الاتقاء والإيمان وعمل الصالحات. وإذا أريد بالاتقاء تجنّب القبائح والمحارم ، كان ذلك شرطا صحيحا في نفي الجناح ؛ إلّا أنّ الإيمان وعمل الصالحات ليس بشرط في نفي الجناح على وجه ولا سبب ؛ لأنّ من جانب القبيح المحظور عليه لم يكن عليه جناح فيما يطعمه ، وإن لم يكن مؤمنا ، ولا ممّن عمل الصالحات ، ألا ترى أنّ المباح إذا وقع من الكافر لا إثم عليه ولا وزر! ووقوعه منه مع كفره في نفي الإثم كوقوعه من المؤمنين. والإشكال إنّما هو في اشتراط الإيمان وعمل الصالحات ؛ وليس لذلك تأثير معقول في نفي الجناح.

ونحن نبيّن ما يحلّ هذه الشبهة القويّة ، ونتكلّم على التكرار ، ولنا في ذلك طريقان : أحدهما : أن نضمّ إلى المشروط المصرّح بذكره غيره حتى يظهر تأثير ما ذكر من الشروط. أو نجعل ما ولي الاتقاء من الإيمان ، وعمل الصالحات ليس بشرط حقيقيّ وإن كان معطوفا على الشرط وكلّ ذلك جائز إذا قاد الدليل إليه ، وأحوج إلى التعويل عليه.

أمّا الوجه الأوّل : فبيانه أن يكون تقدير الكلام «ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا وغيره إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات» ، لأنّ الشرط في نفي الجناح لا بدّ أن يكون له تأثير ؛ حتى يكون متى انتفى ثبت الجناح. وقد علمنا أنّ باتّقاء المحارم ينتفي الجناح فيما يطعم ، فهو الشرط الذي لا زيادة عليه. ولما ولي ذكر الاتقاء الإيمان وعمل الصالحات ـ ولا تأثير لهما في نفي الجناح ـ وجب أن نقدّر هناك ما تؤثّر هذه الأفعال في

٢٤٣

نفي الجناح عنه ، فأشرنا إلى إضمار ما تقدّم ذكره حتّى يصحّ الشرط ، ويطابق المشروط ، لأنّ من اتّقى الحرام فيما يطعم لا جناح عليه فيما يطعم ؛ لكنّه قد يصحّ أن يثبت عليه الجناح فيما أخلّ به من واجب ، وضيّعه من فرض ، فإذا شرطنا أنّه مع اتّقاء القبيح ممّن آمن بالله وبما أوجب عليه الإيمان به ، وعمل الصالحات ارتفع الجناح عنه من كلّ وجه.

وليس بمنكر حذف ما قدّرناه لدلالة الكلام عليه ، فمن عادتهم أن يحذفوا ما يجري هذا المجرى ، وتكون قوّة الدلالة عليه وسوقها إليه مغنيين عن النطق به. وفي القرآن وفصيح كلام العرب وأشعارهم أمثلة كثيرة لذلك لا تحصى ، فمنه قوله تعالى : (وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ) (١) ؛ فقد ذكر في الآية وجوه ؛ من أوضحها أنّه تعالى أراد «آتينا موسى الكتاب ومحمّدا الفرقان» لأنّه لما عطف الفرقان على الكتاب الذي أوتيه موسى عليه‌السلام ، وعلمنا أنّه لا يليق به ـ لأنّ الفرقان ليس ممّا أوتيه موسى عليه‌السلام ـ وجب أن نقدّر ما يطابق ذلك.

ومثله قوله الشاعر :

تراه كأنّ الله يجدع أنفه

وعينيه إن مولاه بات له وفر (٢)

لمّا كان الجدع لا يليق بالعين ـ وإن كانت معطوفة على الأنف الذي يليق به الجذع ـ أضمرنا ما يليق بالعين ، وهو البخص وما يجري مجراه.

ومثله :

يا ليت زوجك قد غدا

متقلّدا سيفا ورمحا

ومثله :

علفتها تبنا وماء باردا (٣)

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٥٣.

(٢) حاشية بعض النسخ : «كان له وفر» ، والبيت في (الحيوان ٦ / ٤٠) ؛ ونسبه إلى خالد بن الطيفان.

(٣) بقيته : حتى شتت همّالة عيناها.

وهو من شواهد ابن عقيل ١ / ٥٢٤.

٢٤٤

والإضمار مع قوّة الدلالة أحسن من الإظهار ، وأدخل في البلاغة والفصاحة.

وأمّا بيان الوجه الثاني : فهو أنّا نعدل عن ظاهر الشرط فيما ولي الاتّقاء ؛ من ذكر الإيمان وعمل الصالحات ، ونجعله ليس بشرط وإن كان معطوفا على شرط ، لأنّ العدول عن الظاهر بالأدلّة القاهرة واجب لازم مستعمل في أكثر القرآن ؛ فكأنّه تعالى لمّا أراد أن يبيّن وجوب الإيمان وعمل الصالحات وتأكّد لزومه ، عطفه على ما هو واجب لازم من اتقاء المحارم لاشتراكهما في الوجوب ؛ وإن لم يشتركا في كونهما شرطا في نفي الجناح فيما يطعم ؛ وهذا تفسّح وتوسّع في البلاغة يحار فيها العقل استحسانا واستغرابا ؛ وتعويل على أنّ المخاطب بذلك على إرساله والعدول عن تفصيله يضع كلّ شيء منه في موضعه ؛ وكم في القرآن من هذه الغرائب في الفصاحة والعجائب والحذوف والاختصارات التي لا يتجاسر بليغ ولا فصيح على الإقدام عليها ، والمرور بشعبها خوفا من الزلل والخلل!.

وأمّا الجواب عن مشكل التكرار فالوجه فيه على الجملة أن نجعل الأحوال التي يقع فيها الاتقاء والإيمان وعمل الصالحات مختلفة بمضيّ واستقبال ، فيزول التكرار ، أو نجعل المأمور به من الاتّقاء والإيمان وعمل الصالحات مشروطا مخصوصا ، يتناول الأوّل غير متناول الثاني ، والثاني غير متناول الأوّل ؛ فيزول أيضا بذلك التكرار.

وقد أوّل المفسّرون على اختلافهم بكثير من الجملة التي أشرنا هاهنا إليها ، وذكروا أنّ الشرط الأوّل يتعلّق بالزمان الماضي ، والشرط الثاني متعلّق بالدوام على ذلك والاستمرار على فعله ، والثالث مختصّ باتّقاء ظلم العباد.

وذكر أبو عليّ الجبّائيّ هذا بعينه ، واستدلّ على أنّ الاتّقاء الثالث يختصّ بظلم العباد بقوله تعالى : (وَأَحْسَنُوا) ، وأنّ الإحسان إذا كان متعديا وجب أن يكون ما أمروا باتّقائه من المعاصي أيضا متعدّيا ؛ وهذا ممّن اعتمده من

٢٤٥

المفسّرين مزج ؛ لاختلاف الأحوال باختلاف المأمور به ؛ وما ينبغي أن يكون كذلك ، بل الواجب أن نبطل التكرار. إمّا من جهة اختلاف الأحوال من غير أن نمزجها باختلاف غيرها ؛ أو نعدل عن اختلاف الأحوال فنبطل التكرار من حيث اختلاف المأمور به في عموم وخصوص.

ولعلّ أبا عليّ وغيره إنّما عدل في الشرط الثالث عن ذكر الأحوال لمّا ظن أنّه لا يمكن فيه ما أمكن في الأوّل والثاني. ونحن نبيّن أنّ الأمر بخلاف ما ظنّه ؛ وهو أنّه لا يمتنع أن يحمل الشرط الأوّل على الماضي من الزمان ، والثاني على الحال والثالث على المنتظر والمستقبل.

وليس لأحد أن يقول : لا واسطة عند المتكلّمين بين الماضي والمستقبل ؛ لأنّ الفعل إمّا أن يكون معدوما فيكون مستقبلا ، أو موجودا فيكون ماضيا ؛ وإنّما يجعل الأحوال ثلاثة النحويون ، ولا يرتضي ذلك المتكلّمون.

والجواب عن هذا أنّ الصحيح أنّه لا واسطة بين العدم والوجود على ما ذكر ، غير أنّ الموجود في أقرب الزمان لا يمتنع أن نسمّيه حالا ، وبينه وبين الماضي الغابر السالف فرق ؛ كما كان كذلك بينه وبين المنتظر.

وأمّا بيان اختلاف المأمور ؛ فأن يحمل الاتّقاء الأوّل على اتّقاء المعاصي العقلية التي تختصّ المكلّف ولا تتعدّاه ، والإيمان الأوّل والإيمان بالله تعالى وبما أوجب الإيمان به ، والإيمان الثاني بقبح هذه المعاصي ووجوب تجنّبها ، والاتّقاء الثالث الاتّقاء لما يتعدّى من المعاصي من الظلم والإساءة.

وليس ينبغي أن يفزع في أنّ الاتقاء الثالث يختصّ بمظالم العباد إلى ما اعتمده أبو عليّ من قوله تعالى : (وَأَحْسَنُوا) من حيث كان الإحسان إذا كان متعدّيا فكذلك ما عطف عليه ؛ لأنّ ذلك من ضعيف الاستدلال ، لأنّ قول الله تعالى : (وَأَحْسَنُوا) ليس بصريح في أنّ المراد به الإحسان المتعدّي ؛ لأنّه غير ممتنع أن يريد به فعل الحسن والمبالغة فيه ، وإن اختصّ الفاعل ولم يتعدّه ؛ ألا ترى أنّهم يقولون لمن بالغ في فعل الحسن وتناهى فيه وإن اختصّه : أحسنت وأجملت! ثمّ إن سلّم أنّ

٢٤٦

المراد به الإحسان المتعدّي لم يمتنع أن يعطفه وهو متعدّ على فعل لا يتعدّى ؛ ألا ترى أنّه لو صرّح بذلك فقال : اتّقوا المعاصي كلّها والقبائح ، وأحسنوا إلى غيركم لكان حسنا غير قبيح! وإنّما ينبغي أن يفزع في التخصيص إلى الفرار من التكرار ، وحمله على ما يفيد ، وذلك يغني عمّا تكلّفه أبو عليّ.

فإن قيل : أيّ فائدة في تخصيص الذين آمنوا وعملوا الصالحات بنفي الجناح فيما يطعمونه بالشرط المذكور؟ ومن ليس بمؤمن يشاركهم في هذا الحكم مع ثبوت الشرط!.

قلنا : تعليق الحكم بالصّفة أنّ الاسم لا يدلّ على نفيه عمن عدا المسمّى أو الموصوف ؛ وقد دلّ العلماء على ذلك في مواضع كثيرة ؛ وليس بممتنع على المذهب الصحيح أن يعلّق الحكم باسم أو صفة ، ويكون من عدا الموصوف أو المسمّى مشاركا في ذلك الحكم.

وقد قيل : إنّ السبب في نزول هذه الآية أنّه لمّا نزل تحريم الخمر قال المسلمون : كيف بإخواننا الذين تناولوا الخمر قبل نزول تحريمها ، وماتوا وهي في أجوافهم؟ وكيف بإخواننا الطائفين في أطراف البلاد وهم لا يشعرون بهذا التحريم؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية تطييبا لنفوسهم ، وإعلاما لهم : أن من يطعم ـ ما لم يبيّن له تحريمه ـ لا جناح عليه.

وقيل أيضا : إنّ الآية وردت في قوم حرّموا على أنفسهم اللحوم ، وسلكوا طريق الترهّب ؛ كعثمان بن مظعون وغيره ، فبيّن الله سبحانه أنّ الحلال لا جناح في تناوله ، وإنّما يجب التجنّب للمحرّم ، وهذه الأسباب لا تبقى معها مسألة عن سبب تخصيص المؤمنين بنفي الجناح. وكلّ هذا واضح (١).

ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) [المائدة : ٩٥].

__________________

(١) الأمالي ، ٢ : ٣١٢.

٢٤٧

وممّا ظنّ انفراد الإمامية به القول : بأنّ كفارة الجزاء على الترتيب دون التخيير ومثاله أنّهم يوجبون في النعامة مثلا بدنة ، فان لم يجد اطعم ستين مسكينا ، فإن لم يقدر صام شهرين متتابعين ، ورويت الموافقة للامامية عن ابن عباس وابن سيرين ، أنهما قالا ذلك على الترتيب ، فلا يجوز أن يطعم مع القدرة على إخراج المثل ولا أن يصوم مع القدرة على الاطعام (١) ، وباقي الفقهاء يقولون ذلك على التخيير (٢). دليلنا إجماع الطائفة ، فان قيل : ظاهر القرآن يخالف مذهبكم ؛ لأنّه تعالى قال : (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) ، ولفظة «أو» تقتضي التخيير قلنا : ندع الظاهر للدلالة كما تركنا ظاهر إيجاب الواو للجمع وحملناها على التخيير في قوله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) (٣) ويكون معنى «أو كذا» إذا لم تجد الأوّل (٤).

ـ (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [المائدة : ٩٦].

[فيها أمران :]

[الأوّل : قال الناصر رحمه‌الله :] «الدم كلّه نجس».

عندنا : أنّ دم السمك طاهر ، لا بأس بقليله وكثيره في الثوب ، وكذلك ما لا دم له سائل نحو البراغيث والبقّ ؛ وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه (٥).

وقال مالك في دم البراغيث : إنّه إذا تفاحش غسل ، وإذا لم يتفاحش لا بأس به (٦).

وقال : يغسل دم السّمك ، والذباب.

وسوّى الشافعي بين الدّماء كلّها في النجاسة (٧).

__________________

(١) المغني (لابن قدامة) ، ٢ : ٥٤٣.

(٢) نفس المصدر.

(٣) سورة النساء ، الآية : ٣.

(٤) الانتصار : ١٠١.

(٥) أحكام القرآن (للجصّاص) ، ١ : ١٥٢.

(٦) نفس المصدر.

(٧) نفس المصدر.

٢٤٨

فأمّا دليلنا على طهارة دم السمك فهو بعد إجماع الفرقة المحقّة قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ) يقتضي إباحة ظاهرة ، وإباحة لكلّ سمك وطهارة لجميع أجزائه ؛ لأنّ التّحليل يقتضي الإباحة من جميع الوجوه.

ويدلّ عليه أيضا قوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ) (١) فأخبر تعالى أنّ ما عدا المسفوح ليس بمحرّم ، ودم السمك ليس بمسفوح فوجب ألّا يكون محرّما (٢).

[الثاني :] وممّا انفردت به الإمامية تحريم أكل الثعلب والأرنب والضب ، ومن صيد البحر السمك الجريّ والمارما هي والزمّار وكل ما لا فلس له من السمك ، وخالف باقي الفقهاء في ذلك إلّا أنّه روي عن أبي حنيفة وأصحابه موافقتنا في الثعلب خاصة (٣).

وروي عنهم أيضا كراهية أكل الضبّ ، ورووا كلّهم في خبر معروف رواه الأعمش قال : نزلنا أرضا كثيرة الضباب ، وأصابتنا مجاعة فطبخنا منها وأنّ القدر لتغلي بها إذ جاءنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : ما هذا؟ قلنا ضباب أصبناها ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ أمّة من بني إسرائيل مسخت ، وأرانا في تلك الأرض وإنّي أخشى أن تكون هذه منها فاكفوها (٤).

وهذا الخبر يقتضي ـ كما نراه ـ أنّ الضبّ مع تحريمه مسخ ، وهو قول الإمامية ؛ لأنّهم يعدون الضبّ من جملة المسوخ التي هي الفيل والأرنب والدبّ والعقرب والضب والعنكبوت والجري والوطواط والقرد والخنزير ، ولا يزال مخالفوهم إذا سمعوا منهم ذكر هذه المسوخ التي ما اعتمدوا في أنّها مسوخ إلّا على الرواية تضاحكوا منهم واستهزؤا بهم ونسبوهم إلى الغفلة وبعد الفطنة وهم يروون عن طرقهم وعن رجالهم مثل ما عجبوا منه بعينه ، والله المستعان.

والذي يدلّ على صحّة ما ذهبنا إليه الاجماع المتردد ، وإن شئت أن تبني

__________________

(١) سورة الأنعام ، الآية : ١٤٥.

(٢) الناصريات : ٩٤.

(٣) المغني (لابن قدامة) ، ١١ : ٦٧.

(٤) شرح معاني الآثار ، ٤ : ١٩٧.

٢٤٩

هذه المسألة على مسألة تحريم صيد البازي وما أشبهه من جوارح الطير فعلت ، فقلت كلّ من حرّم صيد جوارح الطير حرّم ما عددناه ، والتفرقة بين الأمرين خلاف الاجماع.

فإن إستدل المخالف بقوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) ، وظاهر هذه الآية يقتضي أن جميع صيد البحر حلال ، وكذلك صيد البرّ إلّا على المحرم خاصة ، أو استدلّ بما لا يزال يستدلّ به على أنّ أصل المنافع التي لا ضرر فيها عاجلا ولا آجلا على الإباحة ، وعلى من حظر شيئا من ذلك الدليل.

فالجواب : أنّ قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) لا يتناول ظاهره الخلاف في هذه المسألة ؛ لأنّ الصيد مصدر صدت ، وهو يجري مجرى الاصطياد الذي هو فعل الصائد ، وإنّما يسمّى الوحش وما جرى مجراه صيدا مجازا وعلى وجه الحذف ؛ لأنّه محل للاصطياد فسمّي باسمه ، وإذا كان كلامنا في تحريم لحم المصيد فلا دلالة في إباحة الصيد ؛ لأنّ الصيد غير المصيد ، فإن قيل : قوله تعالى : (وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ) يقتضي أنّه أراد المصيد دون الصيد ؛ لأنّ لفظة الطعام لا يليق إلّا بما ذكرناه دون المصدر.

قلنا : لو سلّمنا أنّ لفظة الطعام ترجع إلى لحوم ما يخرج من حيوان البحر ، لكان لنا أن نقول : قوله تعالى : (وَطَعامُهُ) يقتضي أن يكون ذلك اللحم مستحقّا في الشريعة لاسم الطعام ؛ لأنّ ما هو محرّم في الشريعة لا يسمّى بالاطلاق فيها طعاما ، كالميتة والخنزير ، فمن ادّعى في شيء ممّا عددنا تحريمه أنّه طعام في عرف الشريعة فليدل على ذلك ، فانه يتعذر عليه.

وقد روي عن الحسن البصري في قوله تعالى : (وَطَعامُهُ) أنّه أراد به البرّ والشعير والحبوب التي تسقى بذلك الماء (١) ، وحمل أكثر المفسّرين لفظة البحر على كلّ ماء كثير من عذب وملح (٢) ، وإذا حمل على الحبوب سقطت

__________________

(١) لم نعثر عليه.

(٢) أحكام القرآن : ٢ : ٤٧٨.

٢٥٠

المسألة ، فأمّا الجواب عن قولهم : أن الأصل الاباحة فهو كذلك إلا أنّا نرجع عن حكم الأصل بالأدلة القاطعة وقد ذكرناها (١).

ـ (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [المائدة : ١٠٣].

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

ـ (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ ...) [المائدة : ١١٠].

أنظر مريم : ٢٨ و ٢٩ من الأمالي ، ٢ : ١٧٠.

ـ (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [المائدة : ١١٦].

[فيها أمران :]

[الأوّل : فان قيل : ما معنى هذه الآية] وليس يخلو من أن يكون عيسى عليه‌السلام ممّن قال ذلك ، أو يجوز أن يقوله ؛ وهذا خلاف ما تذهبون إليه في الأنبياء عليهم‌السلام ، أو يكون ممّن لم يقل ذلك ولا يجوز أن يقوله ؛ فلا معنى لاستفهامه تعالى منه وتقريره؟ ثمّ أيّ معنى في قوله : (وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ)؟ وهذه اللفظة لا تكاد تستعمل في الله تعالى.

الجواب : قلنا : إنّ قوله تعالى (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) ليس باستفهام على الحقيقة وإن كان خارجا مخرج الاستفهام ، والمراد به تقريع من ادّعى ذلك عليه من النصارى وتوبيخهم وتأنيبهم وتكذيبهم ، وهذا يجري مجرى قول أحدنا لغيره : «أفعلت كذا وكذا»؟ وهو يعلم أنّه لم يفعله ، ويكون مراده تقريع من ادّعى ذلك عليه ، وليقع الانكار والجحود ممّن خوطب بذلك فيبكت من ادّعاه عليه.

__________________

(١) الانتصار : ١٨٦.

٢٥١

وفيه وجه آخر : وهو أنّه تعالى أراد بهذا القول تعريف عيسى عليه‌السلام أنّ قوما قد اعتقدوا فيه وفي أمّه أنّهما إلهان ؛ لأنّه ممكن أن يكون عيسى عليه‌السلام لم يعرف ذلك إلّا في تلك الحال. ونظيره في التعارف أن يرسل الرجل رسولا إلى قوم فيبلّغ الرسول رسالته ويفارق القوم فيخالفونه بعده ويبدّلون ما أتى به وهو لا يعلم ، ويعلم المرسل له ذلك ، فإذا أحبّ أن يعلمه مخالفة القوم له جاز أن يقول له : «أأنت أمرتهم بكذا وكذا» ، على سبيل الإخبار له بما صنعوا (١).

[الثاني : إن سأل سائل] فقال : ما المراد بالنفس في هذه الآية؟ وهل المعنى فيها كالمعنى في قوله : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) (٢) أو يخالفه؟ هل يطابق معنى الآيتين والمراد بالنفس فيهما ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : يقول الله تعالى : «إذا أحبّ العبد لقائي أحببت لقاءه ، وإذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه ، وإذا تقرّب إليّ شبرا تقرّبت إليه ذراعا ، وإذا تقرّب إليّ ذراعا تقربت إليه باعا» ، أو لا يطابقه؟

الجواب : قلنا : النفس في اللغة لها معان مختلفة ، ووجوه في التصرّف متباينة ؛ فالنفس نفس الإنسان وغيره من الحيوان ، وهي التي إذا فقدها خرج عن كونه حيّا ، ومنه قوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) (٣).

والنّفس ذات الشيء الذي يخبر عنه كقولهم : فعل ذلك فلان نفسه ؛ إذا تولّى فعله.

والنفس : الأنفة ، من قولهم ليس لفلان نفس ، أي لا أنفة له.

والنفس الإرادة ، من قولهم نفس فلان في كذا ، أي إرادته ؛ قال الشاعر :

فنفساي نفس قالت أيت ابن بحدل

تجد فرجا من كلّ غمّى (٤) تهابها (٥)

__________________

(١) تنزيه الأنبياء والأئمّة : ١٤٥.

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ٢٨.

(٣) سورة آل عمران ، الآية : ١٨٥.

(٤) في التنزيه «من كلّ غمّ».

(٥) جمهرة الأشعار : ٣٥٣ ، واللسان (زلل) ، والمزلة : موضع الزلل والانزلاق.

٢٥٢

ونفس تقول اجهد نجاءك لا تكن (١)

كخاضبة لم يغن شيئا خضابها (٢)

ومنه أنّ رجلا قال للحسن : يا أبا سعيد ، لم أحجج قطّ ، فنفس تقول لي : حجّ ، ونفس تقول لي : تزوّج ، فقال الحسن : إنّما النفس واحدة ، ولكن لك همّ يقول حجّ.

وقال الممزّق العبديّ ـ وتروى لمعقّر بن حمار البارقيّ :

ألا من لعين قد نآها حميمها

وأرّقني (٣) بعد المنام همومها

فباتت لها نفسان شتّى همومها

فنفس تعزّيها ونفس تلومها

وقال النّمر بن تولب العكليّ :

أمّا خليلي فإنّي لست معجله

حتى يؤامر نفسيه كما زعما

نفس له من نفوس القوم صالحة

تعطي الجزيل ونفس ترضع الغنما (٤)

أراد أنّه بين نفسين : نفس تأمره بالجود ، وأخرى تأمره بالبخل ، وكنّى برضاع الغنم عن البخل ، لأنّ اللّئيم يرضع اللبن من الشّاة ولا يحلبها ؛ لئلّا يسمع الضيف صوت الشّخب فيهتدى إليه ، ومنه قيل : لئيم راضع ؛ وقال كثيّر :

فأصبحت ذا نفسين نفس مريضة

من اليأس ما ينفكّ همّ يعودها (٥)

ونفس ترجّي وصلها بعد صرمها

تجمّل كي يزداد غيظا حسودها

والنفس العين التي تصيب الإنسان ، يقال : أصابت فلانا نفس ، أي عين. وروي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يرقي فيقول : «بسم الله أرقيك ، والله يشفيك ، من كلّ داء فيك ؛ من عين عائن ، ونفس نافس ، وحسد حاسد».

وقال ابن الاعرابيّ : النّفوس الذي يصيب الناس بالعين (٦). وذكر رجلا فقال : والله حسودا نفوسا كذوبا. وقال عبيد الله بن قيس الرّقيّات :

__________________

(١) في التنزيه «ونفس تقول اجهد بحال ولا تكن».

(٢) طبقات الشعراء : ٢٥٠.

(٣) في التنزيه «وأرّقها».

(٤) البيتان في الأغاني : ١٩ / ١٦١.

(٥) ديوانه : ١ / ٧٥.

(٦) في التنزيه «بالنفس».

٢٥٣

يتّقي أهلها النّفوس عليها

فعلى نحرها الرّقي والتّميم

وقال مضرّس بن ربعيّ الفقعسيّ :

وإذا نموا صعدا فليس عليهم

منّا الخبال ولا نفوس الحسّد

وقال ابن هرمة يمدح عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك :

فأسلم سلمت من المكاره والرّدى

وعثارها ووقيت نفس الحسّد

والنفس أيضا من الدّباغ بمقدار الدّبغة ؛ تقول : اعطني نفسا من دباغ ، أي قدر ما أدبغ به مرة.

والنفس الغيب ، يقول القائل : إنّي لا أعلم نفس فلان ، أي غيبه ؛ وعلى هذا تأويل قوله تعالى : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) ، أي تعلم غيبي وما عندي ، ولا أعلم غيبك.

وقيل : إنّ النفس أيضا العقوبة ، من قولهم : أحذّرك نفسي ؛ أي عقوبتي ؛ وبعض المفسّرين حمل قوله تعالى : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) على هذا المعنى ؛ كأنّه قال : يحذّركم عقوبته. وروي ذلك عن ابن عباس والحسن وآخرين ؛ قالوا : معنى الآية ويحذركم الله إيّاه (١). وقد روى عن الحسن ومجاهد في قوله تعالى : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) ما ذكرناه من التأويل بعينه.

فإن قيل : ما وجه تسمية الغيب بأنّه نفس؟

قلنا : لا يمتنع أن يكون الوجه في ذلك أنّ نفس الإنسان لمّا كانت خفيّة الموضع نزّل ما يكتمه ويجتهد في ستره منزلتها ، وسمّي باسمها ، فقيل فيه إنّه نفسه ، مبالغة في وصفه بالكتمان والخفاء ؛ وإنّما حسن أن يقول تعالى مخبرا عن نبيّه : (وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) من حيث تقدّم قوله : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) ؛ ليزدوج الكلام ، ولهذا لا يحسن ابتداء أن يقول : أنا لا أعلم ما في نفس الله تعالى ، وإن

__________________

(١) العبارة في التنزيه هكذا : «وروى ذلك عن عبّاس والحسن. وآخرون قالوا : معنى الآية ويحذركم الله إيّاه».

٢٥٤

حسن على الوجه الأول ؛ ولهذا نظائر في الاستعمال مشهورة مذكورة (١).

فأمّا الخبر الذي ذكره السائل فتأويله ظاهر ، وهو خارج على مذهب العرب في مثل هذا الباب معروف ؛ ومعناه أنّ من ذكرني في نفسه جازيته على ذكره لي ، وإذا تقرّب باسمه اتساعا ، كما قال تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (٢) ؛ (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ) (٣) ، (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) (٤) ؛ وكما قال الشاعر :

ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا

ونظائر هذا كثيرة في كلام العرب. ولمّا أراد تعالى المبالغة في وصف ما يفعله به من الثواب والمجازاة على تقرّبه بالكثرة والزيادة ؛ كنّى عن ذلك بذكر المسافة المتضاعفة فقال : «باعا وذراعا» إشارة إلى المعنى من أبلغ الوجوه وأحسنها (٥).

ـ (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة : ١١٨].

[فان قيل : ما معنى هذه الآية ،] وكيف يجوز هذا المعنى مع علمه عليه‌السلام بأنّه تعالى لا يغفر للكفار؟

الجواب : قلنا : المعنى بهذا الكلام تفويض الأمر إلى مالكه وتسليمه إلى مدبّره ، والتبرّي من أن يكون إليه شيء من أمور قومه. وعلى هذا يقول أحدنا : ـ إذا أراد أن يتبرّأ من تدبير أمر من الأمور ويسلم منه ويفوّض أمره إلى غيره ـ «هذا الأمر لا مدخل لي فيه فإن شئت أن تفعله ، وإن شئت أن تتركه» مع علمه وقطعه على أنّ أحد الأمرين لا بدّ أن يكون منه. وإنّما حسن منه ذلك لمّا أخرج كلامه مخرج التفويض والتسليم.

وقد روي عن الحسن أنّه قال : معنى الآية إن تعذّبهم فبإقامتهم على كفرهم ، وإن تغفر لهم فبتوبة كانت منهم ، فكأنّه اشترط التوبة وإن لم يكن الشرط ظاهرا في الكلام.

__________________

(١) الأمالي ، ١ : ٣١٧ وراجع أيضا التنزيه : ١٤٥.

(٢) سورى الشورى ، الآية : ٤٠.

(٣) سورة الأنفال ، الآية : ٣٠.

(٤) سورة البقرة ، الآية : ١٥.

(٥) الأمالي ١ : ٣١٩.

٢٥٥

فإن قيل : فلم لم يقل : وإن تغفر لهم فإنّك أنت الغفور الرحيم؟ فهو أليق بالكلام ومعناه من العزيز الحكيم.

قلنا : هذا سؤال من لم يعرف معنى الآية ؛ لأنّ الكلام لم يخرج مخرج مسألة غفران ، فيليق بما ذكر في السؤال ، وإنّما ورد على معنى تسليم الأمر إلى مالكه. فلو قيل فإنّك أنت الغفور الرحيم ، لأوهم الدعاء لهم بالمغفرة ، ولم يقصد ذلك بالكلام ، على أنّ قوله : «العزيز الحكيم» أبلغ في المعنى وأشدّ استيفاء [له] من «الغفور الرحيم» ؛ وذلك أنّ الغفران والرحمة قد يكونان حكمة وصوابا ، وقد يكونان بخلاف ذلك ، فهما بالاطلاق لا يدلّان على الحكمة والحسن. والوصف بالعزيز الحكيم يشتمل على معنى الغفران والرحمة إذا كانا صوابين ، ويزيد عليهما باستيفاء معان كثيرة ؛ لأنّ العزيز هو المنيع القادر الذي لا يذلّ ولا يضامّ ، وهذا المعنى لا يفهم من الغفور الرحيم البتة. وأمّا الحكيم فهو الّذي يضع الأشياء مواضعها ويصيب بها أغراضها ، ولا يفعل إلّا الحسن الجميل ؛ فالمغفرة والرحمة إذا أقضتهما الحكمة دخلتا في قوله : (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) وزاد معنى هذه اللفظة عليهما من حيث اقتضاء وصفه بالحكمة في سائر أفعاله. وإنّما طعن بهذا الكلام من الملحدين من لا معرفة له بمعاني الكلام ، وإلّا فبين ما تضمّنه القرآن من اللفظة وبين ما ذكروه فرق ظاهر في البلاغة واستيفاء المعاني والاشتمال عليها (١).

__________________

(١) تنزيه الأنبياء والأئمّة : ١٤٨.

٢٥٦

سورة الأنعام

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام : ١].

أنظر المائدة : ٦٠ من الأمالي ، ٢ : ١٥٧.

ـ (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) [الأنعام : ٢].

اعلم أن الأجل هو الوقت ، والوقت هو الحادث الّذي تعلق حدوث غيره به ، فنجعل طلوع الشمس وقتا لقدوم زيد إذا كان المخاطب يعلم طلوع الشمس ولا يعلم متى يقدم زيد ، فمتى كان عالما بقدوم زيد وغير عالم بطلوع الشمس جاز أن يوقّت طلوع الشمس بقدوم زيد.

وقد يمكن التوقيت بما يجري مجرى الحادث وان لم يكن حادثا على الحقيقة ، مثل أن نقول : يدخل زيد الدار عند تلف حياة عمرو ؛ لأن طلب الحياة متجدّدة يجري مجرى الحادث ، ولأجل المراعاة في الوقت أن يكون حادثا أو ما جرى مجرى الحادث لم يجز التوقيت بالقديم تعالى ولا بالباقيات.

وأجل الدين هو الوقت الّذي يحل فيه الدين ويستحقّ عنده ، وأجل الموت هو الوقت الّذي يقع فيه الموت [وكذلك أجل القتيل هو وقت القتل ، فكما لا وقت لموته إلّا وقت واحد ـ وهو الوقت الّذي حدث فيه الموت ـ] (١) فكذلك الأجل لموته إلّا ما وقع موته فيه ، والقتل في هذا الباب بمنزلة الموت.

__________________

(١) ما بين المعقوفتين من بعض النسخ.

٢٥٧

ولا يجوز أن يكون الزمان الّذي يعلم الله تعالى أنه لو لم يقتله القاتل لعاش إليه ومات فيه أجلا له [على هذا التقدير ؛ لأنه وان صحّ بضرب من التقدير أن يكون أجلا لموته فان موته لم يقع فيه ، فلا يسمى ـ والموت غير واقع فيه ـ أجلا له] ، كما لا يسمى بأنه وقت لموته ولم يقع موته فيه ؛ ولهذا لا يقال : إن للإنسان الواحد آجالا كثيرة.

وبالتقدير لا يجوز إطلاق الإسم ، كما لو قدرنا أن الله تعالى يعلم أنه إن بقي هذا المقتول رزقه الأموال والأولاد والأحوال العظيمة والولايات السنية ، أن يطلق بأن ذلك كلّه رزق له ، وإن كان لو وصل إليه لقيل : إنه رزقه.

والتعلّق بقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) في إثبات أجلين. غير صحيح ؛ لأنه تعالى لم يصرّح في الآية بأن الأجلين لأمر واحد ، ويجوز أن يريد بالأجل الأوّل أجل الموت ، وهو الّذي وقع فيه الموت ، وبالأجل الثاني أجل حياتهم في الآخرة ؛ لأن الحياة ممّا له أجل كالموت.

ويقوي هذا الوجه : أنه أعمّ الجميع بهذا القول وليس للجميع أجلا بالموت ، وإنّما هو على قول مخالفنا لبعضهم ، وحمل القول على العموم أولى ، ولا يليق العموم إلّا بما ذكرناه.

وقوله تعالى : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) (١).

وقوله تعالى : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِ) وقوله تعالى حاكيا عن نوح عليه‌السلام : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) (٢) ، لا حجّة فيه ؛ لأنه يجوز تسمية المقدّر من وقت الموت بانه أجل مجازا أو تشبيها ، فمجاز القرآن أكثر من أن يحصى ، وإنّما منعنا من أن يكون ذلك حقيقة (٣).

__________________

(١) سورة المنافقون ، الآية : ١٠.

(٢) سورة نوح ، الآيتان : ٣ ـ ٤.

(٣) الذخيرة : ٢٦١.

٢٥٨

ـ (وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً) [الأنعام : ٦].

أنظر الملك : ١٦ ، ١٧ من الأمالي ، ٢ : ١٤٦.

ـ (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام : ١٤].

أنظر البقرة : ٣١ من الأمالي ، ٢ : ٦٢ والأنعام : ١٥١ من الأمالي ، ٢ : ٢٩٧.

ـ (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) [الأنعام : ١٩].

ويوصف تعالى بأنه «شيء» من حيث صحّ أن يعلم ويخبر عنه ، وقد سمّى تعالى نفسه بذلك (١). والأولى أن يجرى عليه تعالى الوصف لشيء من جهة اللغة واقتضاؤها الاجراء هذا الاسم ، بخلاف ما ذهب إليه قوم من اجرائها عليه تعالى سمعا وشرعا ؛ لأنها ليست بلقب وهي مفيدة في الأصل ، وإنّما لأجل وقوع اشتراك مسمّياتها في فائدتها خرجت من الافادة ، فلأمر يرجع إلى غيرها لم يفد ، واللقب لا يفيد لشيء يرجع إلى وصفه ؛ والدليل على أنها مفيدة أنه لا يجوز تغييرها وتبديلها ، واللغة على ما هي عليه ، ويجوز ذلك في الألقاب.

وقيل : إنه غير ممتنع أن تكون مفيدة من حيث ميزت ما يتعلّق العلم به ممّا الذوات ممّا لا يتعلّق العلم به من الأكوان والصفات ، وهذه فائدة معقولة.

وتجري هذه اللفظة على القديم والمحدث ، والموجود والمعدوم ؛ لأنهم يقولون : علمت شيئا موجودا ، وعلمت شيئا معدوما ، وفعلت شيئا بالأمس ، وسأفعل شيئا غدا ، وقال الله تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (٢) (٣).

__________________

(١) أقول : في البحار عن عيون أخبار الرضا عن محمّد بن عبد الله الخراساني خادم الرضا عليه‌السلام قال : قال بعض الزنادقة لأبي الحسن عليه‌السلام : هل يقال لله : إنّه شيء ، فقال نعم وقد سمّى نفسه بذلك في كتابه فقال : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) فهو شيء (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ). بحار الأنوار ، ٣ : ٢٦٠.

(٢) سورة الكهف ، الآية : ٢٣.

(٣) ذخيرة : ٥٨٧.

٢٥٩

ـ (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤)) [الأنعام : ٢٣ ـ ٢٤].

[كذا] قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨)) [الأنعام : ٢٧ ـ ٢٨].

[إن سأل سائل] فقال : كيف يقع من أهل الآخرة نفي الشرك عن أنفسهم ، والقسم بالله تعالى عليه وهم كاذبون في ذلك ؛ مع أنّهم عندكم في تلك الحال لا يقع منهم شيء من القبيح لمعرفتهم بالله تعالى ضرورة ؛ ولأنّهم ملجؤون هناك إلى ترك جميع القبائح ، وكيف قال من بعد : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فشهد عليهم بالكذب ؛ ثمّ علّقه بما لا يصحّ فيه معنى الكذب وهو التمنّي ؛ لأنّهم تمنّوا ولم يخبروا!.

الجواب : قلنا : أوّل ما نقوله : إنّه ليس في ظاهر الآية ما يقتضي أنّ قولهم : (ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) إنّما وقع في الآخرة دون الدنيا ؛ وإذا لم يكن ذلك في الظاهر جاز أن يكون الإخبار يتناول حال الدنيا ، وسقطت المسألة ؛ وليس لأحد أن يتعلّق في وقوع ذلك في الآخرة بقوله تعالى قبل الآية : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (١) وأنّه عقّب ذلك بقوله تعالى : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ) ؛ فيجب أن يكون الجميع مختصا بحال الآخرة ؛ لأنّه لا يمنع أن يكون الآية تتناول ما يجرى في الآخرة ، ثمّ تتلوها آية تتناول ما يجرى في الدنيا ؛ لأنّ مطابقة كل آية لما قبلها في مثل هذا غير واجبة ، وقوله تعالى : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ) لا تدلّ أيضا على أنّ ذلك يكون واقعا بعد ما خبّر تعالى عنه في الآية الأولى ؛ فكأنّه تعالى قال على هذا الوجه : إنّا نحشرهم في الآخرة ونقول : أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون؟ وما كان فتنتهم وسبب ضلالهم في الدنيا إلّا قولهم : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ).

__________________

(١) سورة الأنعام ، الآية : ٢٢.

٢٦٠