الوصائل الى الرسائل - ج ١٠

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل الى الرسائل - ج ١٠

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-10-4
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

إلّا أنّ الاكتفاء بوجود السبب من دون إحراز عدم المانع ولو بالأصل محل تأمل ، فتأمل.

الثاني : أن لا يتضرر بأعمالها مسلم ،

______________________________________________________

وقد تقدّم : ان الشك في المانع يكون في حكم العلم بعدم المانع.

هذا (إلّا انّ الاكتفاء بوجود السبب من دون إحراز عدم المانع ولو بالأصل محل تأمل) فان تأثير المقتضي موقوف على إحراز عدم المانع ولو بالأصل ، وعدم المانع فيما نحن فيه غير محرز ، لأن أصالة عدم المانع لا يثبت عدم تقدّم الكرّية إلّا على القول بالأصل المثبت.

(فتأمل) ولعل وجهه : ان عدم العلم بالمانع في حكم العلم بعدم المانع وذلك لبناء العقلاء على عدم الاعتناء باحتمال المانع مع إحراز المقتضي ، فلا حاجة حينئذ إلى احراز عدم المانع ولو بالأصل.

ثم لا يخفى : انهم قد اختلفوا في ان الماء النجس ، المتمم بطاهر حتى أصبح كرا ، أو الماء الطاهر ، المتمم بنجس حتى أصبح كرا هل هو طاهر بعد التتميم أم لا؟.

وجه الطهارة ما ذكرناه ، ووجه النجاسة : انّ الماء النجس لا بد ان يتصل بالكر ، أو بالمطر ، وما أشبه حتى يطهر ، وهذا لم يتصل بشيء من ذلك ولذا ذهب غير واحد من الفقهاء إلى القول بنجاسته كما حكي عن الشرائع ، والمعتبر ، والتحرير ، والمنتهى ، والمختلف ، والقواعد ، والذكرى ، وكشف اللثام ، والجواهر ، وغيرها ، وتفصيل الكلام في مسألتي : التقارن والتتميم كرا في الفقه.

(الثاني) من شروط البراءة التي ذكرها الفاضل التوني : (أن لا يتضرر بأعمالها) أي : بأعمال البراءة (مسلم) وينبغي ان يضاف إليه : ومن هو محترم

٣٦١

كما لو فتح إنسان قفص طائر فطار ، أو حبس شاة فمات ولدها ، أو أمسك رجلا فهرب دابته ، فانّ إعمال البراءة فيها يوجب تضرّر المالك ، فيحتمل اندراجه في قاعدة الاتلاف وعموم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ضرر ولا ضرار» ،

______________________________________________________

المال والعرض والدم ، كالذمي والمعاهد ونحوهما ، لأن الجميع في هذه الجهة بحكم واحد.

(كما لو فتح إنسان قفص طائر فطار) الطائر (أو حبس شاة فمات ولدها) أو وضع قربة السمن في الشمس فذاب السمن وأريق (أو أمسك رجلا فهرب دابته) إلى غير ذلك ، لا كلام في انه لو كان متعمدا لاستحق العقاب والتعزير عليه ، وإنّما الكلام في انه إضافة إلى ذلك هل هو ضامن لأنه أضر بالغير ، أم له ان يجري البراءة لأنه لم يباشر الضرر؟.

هذا ، ولا يخفى : ان اجراء البراءة هنا يضر بالغير كما قال : (فانّ إعمال البراءة فيها يوجب تضرّر المالك) وقد عرفت : ان من شرط البراءة ان لا يتضرر بإعمالها غيره من محترم المال والعرض والدم.

وعليه : (فيحتمل اندراجه) أي : اندراج كل واحد من هذه الأمثلة لأنها من الضرر بالتسبيب ، لا بالمباشرة حتى يقطع باندراجها ، بل يحتمل اندراجها (في قاعدة الاتلاف) وهي «من أتلف مال الغير فهو له ضامن» (وعموم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ضرر ولا ضرار» (١)).

إذن : فعلى هذا الضار ان ينفي الضرر بالضمان للقيمة ونحوها.

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٢٨٠ ح ٤ وص ٢٩٢ ح ٢ وص ٢٩٤ ح ٨ ، تهذيب الاحكام : ج ٧ ص ١٦٤ ب ٢٢ ح ٤ ، غوالي اللئالي : ج ١ ص ٣٠٩ ح ١٨ وص ١٨٣ ح ١١ ، معاني الاخبار : ص ٢٨١ ، نهج الحق : ص ٤٨٩ وص ٤٩٥ وص ٥٠٦.

٣٦٢

لأنّ المراد نفي الضرر من غير جبران بحسب الشرع ، وإلّا فالضرر غير منفي ، فلا علم حينئذ ولا ظن بأن الواقعة غير منصوصة ، فلا يتحقق شرط التمسك بالأصل من فقدان النصّ ، بل يحصل القطع بتعلّق حكم شرعي بالضار ، ولكن لا يعلم أنّه مجرد التعزير

______________________________________________________

وإنّما عليه الضمان (لأنّ المراد) من (نفي الضرر) ليس هو نفي وجوده ، بل تركه (من غير جبران بحسب الشرع ، وإلّا فالضرر غير منفي) لوجوده بكثرة بين المسلمين ، فأدلة نفي الضرر وان نفت نفس الضرر ، إلّا ان وجود الضرر بين المسلمين قرينة على ان المراد من نفيه هو : الضرر غير المتدارك.

إذن : (ف) في هكذا موارد بناء على ان المنفي هو : الضرر غير المتدارك ، لا يجوز للضار إجراء البراءة من دون فحص عن الدليل لاحتمال وجود دليل يبيّن ما يجب عليه من التدارك ، فيرجع هذا الشرط وهو : ان لا يتضرر من اعمال البراءة غيره إلى ما سبق من اشتراط البراءة بالفحص واليأس ، إذ (لا علم حينئذ ولا ظن بأن الواقعة) المذكورة في الأمثلة المتقدمة (غير منصوصة).

وإنّما لا علم ولا ظن بعدم النص لاحتمال ان «لا ضرر» و «من أتلف» وما أشبه يشمل هذه الوقائع من الأمثلة (فلا يتحقق شرط التمسك بالأصل) أي : أصل البراءة (من فقدان النصّ) لأن النص موجود.

وعليه : فليس المقام إذن مما لا نص فيه حتى يجري فيه البراءة ، بل المقام مما فيه العلم الاجمالي بلزوم الضار شيئا كما قال : (بل يحصل القطع بتعلق حكم شرعي بالضار) مردّد بين كونه هو التعزير والعقاب خاصة ، أو الضمان خاصة ، أو كلاهما.

إذن : فهو يعلم بتوجه حكم اليه (ولكن لا يعلم) هل (انّه مجرد التعزير)

٣٦٣

أو الضمان أو هما معا ، فينبغي له تحصيل العلم بالبراءة ولو بالصلح».

ويرد عليه : أنّه إن كان قاعدة نفي الضرر معتبرة في مورد الأصل ، كان دليلا ، كسائر الأدلّة الاجتهادية الحاكمة على البراءة ، وإلّا فلا معنى للتوقف في الواقعة

______________________________________________________

في الدنيا والعقاب في الآخرة (أو الضمان) فقط (أو هما معا) أي : التعزير والضمان وحينئذ (فينبغي له تحصيل العلم بالبراءة) لأن الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية (ولو بالصلح» (١)) مع المتضرر.

(ويرد عليه :) بالاضافة إلى انه قد يقطع بعدم التعزير والعقاب ، كما في صدور هذه الأفعال عن الصبي ، أو المجنون ، أو غير العامد ـ : ان هذا ليس من شروط البراءة ، فان قاعدة «نفي الضرر» ، وكذا قاعدة «الاتلاف» يتقدّمان على أقوى الأمارات ، فكيف بالاصول العملية وخاصة أصل البراءة منها كما قال :

(أنّه إن كان قاعدة نفي الضرر) وقاعدة : «من أتلف مال الغير فهو له ضامن» (معتبرة في مورد الأصل) بأن تكون مشرّعة في مورد أصل البراءة ، كما هو الصحة ، فان قاعدتي الاتلاف والاضرار ظاهرتان في شمول المباشر والمسبب معا ، فلا يدعان مجالا للشك حتى يكون المقام من مورد الأصل.

وعليه : فاذا اعتبر كذلك (كان دليلا كسائر الأدلّة الاجتهادية الحاكمة على البراءة) فان كل الأدلة الاجتهادية تتقدم الاصول العملية على ما عرفت.

(وإلّا) بأن قلنا باجمال قاعدة الاتلاف ، وقاعدة نفي الضرر بالنسبة إلى غير المباشر ، وان ظهورهما في الانسان المباشر للاتلاف فقط ، دون الانسان الذي هو سبب فينتفي الدليل بالنسبة اليه ، وإذا انتفى الدليل (فلا معنى للتوقف في الواقعة

__________________

(١) ـ الوافية : مخطوط.

٣٦٤

وترك العمل بالبراءة ، ومجرّد احتمال اندراج الواقعة في قاعدة الاتلاف والضرر لا يوجب رفع اليد عن الأصل.

والمعلوم تعلّقه بالضّار فيما نحن فيه هو : الاثم والتعزير إن كان متعمّدا ، وإلّا فلا يعلم وجوب شيء عليه ، فلا وجه لوجوب تحصيل العلم بالبراءة ولو بالصلح.

______________________________________________________

وترك العمل بالبراءة) فيها حينئذ.

(و) ان قلت : احتمال اندراج الواقعة في القاعدة يوجب رفع اليد عن البراءة.

قلت : (مجرّد احتمال اندراج الواقعة في قاعدة الاتلاف والضرر لا يوجب رفع اليد عن الأصل) أي : البراءة فان موارد إجمال النص ، كموارد فقدان النص يكون المحكم فيها بعد الفحص هو البراءة.

والحاصل : ان الأمثلة المذكورة ان كانت مشمولة لقاعدة الاتلاف والضرر فلا مجال لأصل البراءة ، وان لم تكن مشمولة أو شككنا في شمول القاعدة لها كان المحكم هو : البراءة ، فلم يكن ما ذكره الفاضل التوني هنا على ما ادعاه هو من شرائط اجراء البراءة.

(و) امّا ما ذكره هنا من العلم الاجمالي المردد بين امور ثلاثة : التعزير والعقاب خاصة ، أو الضمان خاصة ، أو كلاهما فهو غير تام ، لوضوح ان (المعلوم تعلّقه بالضّار فيما نحن فيه هو : الاثم والتعزير إن كان متعمدا) في فعله ذلك (وإلّا فلا يعلم وجوب شيء عليه) أي : على الضارّ ، وإذا كان الاشتغال مشكوكا (فلا وجه لوجوب تحصيل العلم بالبراءة ولو بالصلح).

وعليه : فقد ظهر من كل ذلك : ان محصّل كلام الفاضل التوني أمران :

الأوّل : انّ الأمثلة المذكورة هي ممّا توجب الضرر على المالك ، فيحتمل

٣٦٥

وبالجملة : فلا يعلم وجه صحيح لما ذكره في خصوص أدلة الضرر ، كما لا وجه لما ذكره في تخصيص مجرى الأصل بما إذا لم يكن جزء عبادة ، بناء على أنّ المثبت لأجزاء العبادة هو النص ،

______________________________________________________

اندراجها تحت قاعدتي : الاتلاف والضرر ، فتكون مما فيه نص ولا تكون مجالا للبراءة ، فأورد عليه المصنّف بقوله : ويرد عليه : انه ان كان قاعدة نفي الضرر معتبرة في مورد الأصل كان دليلا ، وإلّا فلا معنى للتوقف عن العمل بالأصل.

الثاني : انه يعلم إجمالا بتعلق حكم شرعي بالضار ، ولكن لا يعلم هل هو مجرد التعزير ، أو الضمان ، أو هما معا؟ ومع هذا العلم الاجمالي لا تجري البراءة ، فيلزم تحصيل العلم ببراءة الذمة ولو بالصلح ، فأورد عليه المصنّف بقوله : والمعلوم تعلقه بالضار فيما نحن فيه هو : الاثم والتعزير ان كان متعمدا ، وإلّا فلا شيء عليه.

(وبالجملة : فلا يعلم وجه صحيح لما ذكره) الفاضل التوني (في خصوص أدلة الضرر) إذ لا خصوصية لأدلة الضرر ، بل الميزان في جميع الموارد انه ان وجد دليل اجتهادي كان الدليل الاجتهادي محكما ، وان لم يوجد دليل اجتهادي كانت البراءة وسائر الاصول محكمة فلا خصوصية لا للأمثلة التي ذكرها ولا للبراءة.

(كما لا وجه لما ذكره) الفاضل التوني هنا من شرط ثالث لجريان البراءة حيث ذكر هنا (في تخصيص مجرى الأصل) أي : خصص جريان أصل البراءة (بما إذا لم يكن جزء عبادة ، بناء على انّ المثبت لأجزاء العبادة هو النص).

وعليه : فان الفاضل التوني جعل من شرائط البراءة ان لا يكون المشكوك جزء عبادة كالسورة ـ مثلا ـ والذي دعاه إلى اشتراط هذا الشرط هو : ان ماهية العبادة إنّما تثبت بالنص من الشارع ، فلا تكون حينئذ مجرى للبراءة.

٣٦٦

فان النص قد يصير مجملا وقد لا يكون نص في المسألة.

فان قلنا بجريان الأصل وعدم العبرة بالعلم بثبوت التكليف المردد بين الأقل والأكثر فلا مانع منه ، وإلّا فلا مقتضى له ، وقد قدّمنا ما عندنا في المسألة.

قاعدة لا ضرر

وحيث جرى ذكر حديث نفي الضرر والضرار ، ناسب بسط الكلام في ذلك في الجملة

______________________________________________________

وإنّما لا وجه لهذا الشرط من الفاضل التوني ، لما ذكره المصنّف بقوله : (فان النص قد يصير مجملا) فلا يعلم المراد منه (وقد لا يكون نص في المسألة) أصلا ، وفي الصورتين (فان قلنا بجريان الأصل وعدم العبرة بالعلم بثبوت التكليف) ذلك التكليف (المردد بين الأقل والأكثر) الارتباطيين كما في الصلاة مثلا (فلا مانع منه) أي : من إجراء أصل البراءة لما سبق : من ان الشك بين الأقل والأكثر الارتباطيين هو مجرى البراءة بالنسبة إلى الأكثر.

(وإلّا) بأن لم نقل بالبراءة ، بل قلنا بوجوب الاحتياط في الشك بين الأقل والأكثر الارتباطيين (فلا مقتضى له) أي : لأصل البراءة هنا ، لأنا نرى الاحتياط فيه.

هذا (وقد قدّمنا ما عندنا في المسألة) أي : في مسألة الجزئية والشرطية في العبادة وقلنا بجريان البراءة فيها ، وذلك على التفصيل الذي تقدّم.

قاعدة لا ضرر

(وحيث جرى ذكر حديث نفي الضرر والضرار ، ناسب بسط الكلام في ذلك في الجملة) فان هذه القاعدة هي قاعدة مهمة وقد تمسك بها الفقهاء من أول الفقه

٣٦٧

فنقول : قد ادّعى فخر الدين في الايضاح ، في باب الرهن : تواتر الأخبار على نفي الضرر والضرار ، فلا نتعرّض من الأخبار الواردة في ذلك إلّا لما هو أصح ما في الباب سندا وأوضحه دلالة ، وهي الروايات المتضمنة لقصّة

______________________________________________________

إلى آخره.

ثم ان المصنّف قدس‌سره بحث هنا تارة : في مدارك هذه القاعدة واخرى : في معنى اللفظين الواردين فيها من الضرر والضرار ، وثالثة : في معنى نفي الضرر والضرار ، ورابعة : في نسبة هذه القاعدة مع سائر العمومات ، وخامسة : في إشكالات التمسك بها.

(فنقول) : يدل على حرمة الضرر والضرار بالاضافة إلى الاجماع القطعي ، والعقل المستقل ، الكتاب ، والسنة.

أمّا الكتاب : فآيات مثل قوله سبحانه : (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) (١) وقوله سبحانه : (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) (٢) وقوله سبحانه : (وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ) (٣) إلى غيرها.

وأمّا السنة : فانه (قد ادّعى فخر الدين في الايضاح في باب الرهن : تواتر الأخبار على نفي الضرر والضرار) في كتب الحديث والفقه من السنة والشيعة ، ولذلك (فلا نتعرّض من الأخبار الواردة في ذلك إلّا لما هو أصح ما في الباب سندا وأوضحه دلالة) ولعلها هي الرواية الاولى التي رويت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا الباب.

(و) عليه : فان أصح الروايات هنا (هي الروايات المتضمنة لقصّة

__________________

(١) ـ سورة البقرة : الآية ٢٣٣.

(٢) ـ سورة البقرة : الآية ٢٨٢.

(٣) ـ سورة الطلاق : الآية ٦.

٣٦٨

سمرة بن جندب مع الأنصاري ، وهي : ما رواه غير واحد عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام :

«إنّ سمرة بن جندب كان له عذق ، وكان طريقه إليه في جوف منزل لرجل من الأنصار ،

______________________________________________________

سمرة بن جندب) الذي كان من أصحاب رسول الله ، ولكن كان شقيّا في زمانه ، حيث قصته مع الأنصاري في العذق ، وقصته في ضرب ناقة الرسول على رأسها وشجّها حتى خرجت الناقة إلى الرسول تشتكيه ، كما كان شقيا بعد زمانه ، فان معاوية بذل له مالا كثيرا ، يقال : انه مائة ألف درهم مقابل جعل رواية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تفسير آية : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) (١) بأنها نزلت في علي عليه‌السلام ، وبأن آية : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) (٢) نزلت في ابن ملجم وقد كان في زمان يزيد مدير شرطة ابن زياد في الكوفة وكان يحرّض الناس على الخروج إلى قتال الحسين عليه‌السلام حين أمر ابن زياد.

وعلى أي حال : فقصته (مع الأنصاري) مورد كلامنا هنا (وهي : ما رواه غير واحد عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام : «أنّ سمرة بن جندب كان له عذق) والعذق عبارة عن النخلة المثمرة (وكان طريقه إليه في جوف منزل لرجل من الأنصار) فقد تعارف في ذلك الزمان بيع البستان ، أو الدار فيها أشجار ، باستثناء شجرة أو أشجار منها ، فكان مالك الشجر يضطر بعد ذلك للذهاب إلى شجرة أن يدخل بيوت الناس وبساتينهم ومعلوم : ان ذلك لا يسوّغ له الدخول بلا إذن.

__________________

(١) ـ سورة البقرة : الآية ٢٠٤.

(٢) ـ سورة البقرة : الآية ٢٠٧.

٣٦٩

وكان يجيء ويدخل إلى عذقه بغير إذن من الأنصاري. فقال الأنصاري : يا سمرة! لا تزال تفجأنا على حال لا نحبّ أن تفجأنا عليها ، فاذا دخلت فاستأذن. فقال : لا أستأذن في طريقي إلى عذقي. فشكاه الأنصاري إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأتاه ، فقال له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ فلانا قد شكاك وزعم أنّك تمرّ عليه وعلى أهله بغير إذنه ، فاستأذن عليه إذا أردت أن تدخل ، فقال : يا رسول الله ، استأذن في طريقي إلى عذقي؟ فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : خلّ عنه ولك عذق في مكان كذا. قال : لا ، قال : فلك اثنان ، فقال : لا اريد ، فجعل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يزيد حتى بلغ عشر أعذق ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

______________________________________________________

هذا (و) لكن سمرة (كان يجيء ويدخل إلى عذقه بغير إذن من الأنصاري ، فقال الأنصاري) لسمرة يوما : (يا سمرة لا تزال تفجأنا على حال لا نحبّ أن تفجأنا عليها) لدخولك بلا إذن (فاذا دخلت فاستأذن) ثم ادخل.

(فقال) سمرة : (لا أستأذن في طريقي إلى عذقي ، فشكاه الأنصاري إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأتاه) أي : أتى سمرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (فقال له) الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ فلانا قد شكاك وزعم انّك تمرّ عليه وعلى أهله بغير إذنه ، فاستأذن عليه إذا أردت أن تدخل) منزله.

(فقال : يا رسول الله ، استأذن في طريقي إلى عذقي؟) هذا ما لا يكون.

(فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :) إذن (خلّ عنه) أي : ارفع يدك عن عذقك (ولك عذق في مكان كذا) يريد الرسول بذلك أن يعوّضه عذقا مكان عذقه حتى يكون عذق سمرة للأنصاري ـ مثلا ـ.

(قال :) سمرة (لا ، قال :) الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (فلك اثنان ، فقال لا اريد ، فجعل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يزيد حتى بلغ عشر أعذق ، فقال) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لسمرة

٣٧٠

خلّ عنه ، ولك عشر أعذق في مكان كذا ، فأبى ، فقال : خلّ عنه ولك بها عذق في الجنة. فقال : لا اريد. فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّك رجل مضارّ ، لا ضرر ولا ضرار على مؤمن ، قال عليه‌السلام : ثم أمر بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلعت ، ثم رمي بها اليه ، وقال له الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انطلق واغرسها حيث شئت» ، الخبر.

وفي رواية اخرى موثّقة : «أن سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار وكان منزل الأنصاري بباب البستان ، وفي آخرها قال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للأنصاري : اذهب فاقلعها وارم بها إليه ، فانّه لا ضرر ولا ضرار» ، الخبر.

______________________________________________________

(خلّ عنه ، ولك عشر أعذق في مكان كذا ، فأبى) سمرة.

(فقال) صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (خلّ عنه ولك بها عذق في الجنة ، فقال : لا اريد).

وهنا لما رفض سمرة كل هذه الحلول ظهر انه يصرّ على أذى جاره (فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنك رجل مضارّ ، لا ضرر ولا ضرار على مؤمن ، قال عليه‌السلام : ثم أمر بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلعت ، ثم رمي بها اليه ، وقال له الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انطلق واغرسها حيث شئت» (١) الخبر).

هذا (وفي رواية اخرى موثّقة : «أن سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار وكان منزل الأنصاري بباب البستان ، وفي آخرها قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للأنصاري : اذهب فاقلعها وارم بها إليه ، فانّه لا ضرر ولا ضرار» (٢) الخبر).

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٢٩٤ ح ٨ ، وسائل الشيعة : ج ٢٥ ص ٤٢٨ ب ١٢ ح ٣٢٢٨١.

(٢) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٢٩٢ ح ٢ ، تهذيب الأحكام : ج ٧ ص ١٤٦ ب ٢٢ ح ٣٦ ، وسائل الشيعة : ج ٢٥ ص ٤٢٩ ب ١٢ ح ٣٢٢٨١.

٣٧١

.................................................................................................

______________________________________________________

ثم إنّ الأوثق قد جمع جملة من الروايات الدالة على ذلك ، نذكرها تباعا ، ففي رواية العيون : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ليس منا من غش مسلما أو ضره أو ما كره» (١).

وفي رواية طلحة بن زيد عن الصادق عليه‌السلام : «ان الجار كالنفس غير مضار ولا آثم» (٢).

وفي رواية عقبة بن خالد عن الصادق عليه‌السلام قال : «قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن وقال : لا ضرر ولا ضرار» (٣).

وعن هارون بن حمزة الغنوي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «في رجل شهد بعيرا مريضا وهو يباع فاشتراه رجل بعشرة دراهم ، فجاء واشترك فيه رجلا بدرهمين بالرأس والجلد ، فقضى : ان البعير برىء فبلغ ثمنه دنانير ، قال : لصاحب الدرهمين خمس ما بلغ ، فان قال : لا أريد إلّا الرأس والجلد ، فليس له ذلك هذا الضرار ، وقد اعطي حقه إذا اعطي الخمس» (٤).

وعن محمد بن الحسين قال : «كتبت إليه ـ يعني أبا محمد ـ عليه‌السلام رجل كان له رحى على نهر قرية ، والقرية لرجل ، فأراد صاحب القرية أن يسوق إلى قريته الماء في غير هذا النهر ويعطّل هذا الرحى ، أله ذلك أم لا؟ فوقّع عليه‌السلام : يتقي الله ويعمل في ذلك بالمعروف ولا يضرّ أخاه المؤمن» (٥).

__________________

(١) ـ عيون اخبار الرضا : ص ٢٩ ح ٢٦ ، تحف العقول : ص ٤٢ ، صحيفة الرضا : ص ٤٣ ح ١٣.

(٢) ـ الكافي (اصول) : ج ٢ ص ٦٦٦ ح ٢ وج ٥ (فروع) ص ٣١ ح ٥ ، تهذيب الاحكام : ج ٦ ص ١٤٠ ب ٢٢ ح ٥ وج ٧ ص ١٤٦ ب ٢٢ ح ٣٥.

(٣) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٢٨٠ ح ٤ ، تهذيب الاحكام : ج ٧ ص ١٦٤ ب ٢٢ ح ٤ ، من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ٧٦ ب ٢ ح ٣٣٦٨.

(٤) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٢٩٣ ح ٤ ، تهذيب الاحكام : ج ٧ ص ٧٩ ب ٢٢ ح ٥٥ وص ٨٢ ب ٢٢ ح ٦٥.

(٥) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٢٩٣ ح ٥.

٣٧٢

وأمّا معنى اللفظين ، فقال في الصحاح : «الضرّ خلاف النفع ، وقد ضرّه وضارّه بمعنى ، والإسم الضّرر ، ثم قال : والضّرار : المضارّة».

وعن النهاية الأثيريّة : في الحديث : «لا ضرر

______________________________________________________

وعن عقبة بن خالد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين أهل المدينة في مشارب النخل : انه لا يمنع نفع البئر ، وبين أهل البادية : انه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء ، فقال ، لا ضرر ولا ضرار» (١).

وفي جملة من الروايات ان «من أضرّ بشيء من طريق المسلمين فهو ضامن» (٢).

(وأمّا معنى اللفظين) : الضرر والضرار (فقال في الصحاح : «الضرّ) بالفتح (خلاف النفع) والظاهر : انه خلاف لا نفع ولا ضرر أيضا ، فان من يسافر لأجل تجارة قد يتضرر ، وقد ينتفع ، وقد لا يتضرر ولا ينتفع (وقد ضرّه وضارّه بمعنى) : واحد (والإسم) أي : اسم المصدر : (الضّرر).

ولا يخفى : ان الفرق بين المصدر واسم المصدر هو : ان المصدر يدل على الحدث المنسوب إلى الفاعل كالاغتسال بمعنى : فعل الغسل ، وامّا اسم المصدر : فيدل على الحالة الحاصلة من المصدر كالغسل فانه صورة وهيئة لما يأتي به المغتسل ، وكذلك التوضي والوضوء.

(ثم قال : والضّرار : المضارّة» (٣)) فيكون كالقتال والمقاتلة.

(وعن النهاية الأثيريّة) أي : نهاية ابن الأثير انه قال : (في الحديث : «لا ضرر

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٢٩٣ ح ٦.

(٢) ـ الكافي (فروع) : ج ٧ ص ٣٥٠ ح ٣ ، تهذيب الاحكام : ج ١٠ ص ٢٤٠ ب ٤ ح ٣٨ وص ٢٣١ ب ٤ ح ٤٤ ، من لا يحضره الفقيه : ج ٤ ص ١٥٥ ب ٢ ح ٣٥٤٦.

(٣) ـ الصحاح : ج ٢ ص ٧١٩ وص ٧٢٠ (مادة ضرر).

٣٧٣

ولا ضرار في الاسلام». الضرّ ضد النفع ، ضرّه يضرّه ضرّا وضرارا ، وأضرّ به يضرّه إضرارا ، فمعنى قوله : لا ضرر : لا يضرّ الرجل أخاه فينقصه شيئا من حقّه ، والضرار فعال من الضرّ ، أي : لايجازية على إضراره بادخال الضرر عليه ، والضرر فعل الواحد ، والضرار فعل الاثنين ، والضرر ابتداء الفعل ، والضرار الجزاء عليه. وقيل : الضرر ما تضرّ به صاحبك وتنتفع أنت به ، والضرار أن تضرّه بغير أن تنتفع.

______________________________________________________

ولا ضرار في الاسلام» (١) : الضرّ ضد النفع ، ضرّه يضرّه ضرّا وضرارا. وأضرّ به يضرّه إضرارا) كل ذلك مستعمل (فمعنى قوله : لا ضرر : لا يضرّ الرجل أخاه فينقصه شيئا من حقّه) والحق هنا يراد به الأعم من المال والجسم والعرض وما أشبه.

(والضرار) مصدر على وزن : (فعال) من ضارب يضارب مضاربة وضرابا وضيرابا ، وهكذا : ضارر يضارر مضاررة وضرارا وضيرارا (من الضرّ ، أي :

لايجازية على إضراره بادخال الضرر عليه) فالمعنى الذي ذكره النهاية هو : انه إذا أضر إنسان إنسانا ، فلا يجوز لذلك الانسان المعتدى عليه ان يضرّ الضار.

(والضرر فعل الواحد ، والضرار فعل الاثنين) مثل : القتل والقتال (والضرر ابتداء الفعل ، والضرار الجزاء عليه).

ثم قال النهاية : (وقيل : الضرر ما تضرّ به صاحبك وتنتفع أنت به ، والضرار أن تضرّه بغير أن تنتفع) ولكن هذا القيل لا شاهد عليه من انصراف ونحوه.

__________________

(١) ـ معاني الاخبار : ص ٢٨١ ، مصباح الكفعمي : ص ٣٤٦ ، وسائل الشيعة : ج ٢٦ ص ١٤ ب ١ ح ٣٢٣٨٢ ، نهج الحق ص ٤٨٩ وص ٥٠٦.

٣٧٤

وقيل : هما بمعنى. والتكرار للتأكيد» ، انتهى.

وعن المصباح : «ضرّه يضرّه» من باب قتل : إذا فعل به مكروها ، وأضرّ به ، يتعدى بنفسه ثلاثيا والباء رباعيا ، والاسم الضرر ، وقد يطلق على نقص في الأعيان ، وضارّه يضارّه مضارّة وضرارا ، يعني : ضرّه» ، انتهى.

وفي القاموس : الضرر ضد النفع ، وضارّه يضارّه ضرارا. ثم قال : والضرر سوء الحال ، ثم قال :

______________________________________________________

(وقيل : هما بمعنى) واحد بلا فرق بين ان تقول : ضرّ أو ضارّ (والتكرار) في الحديث : «لا ضرر ولا ضرار» إنّما هو (للتأكيد» (١) ، انتهى) كلام النهاية.

(وعن المصباح : «ضرّه يضرّه» من باب قتل ، إذا فعل به مكروها وأضرّ به) ذلك المكروه ، كما إذا ألقى متاعه في البحر ، لا مطلق المكروه ، فان من أحزن إنسانا لا يقال : انه ضره.

وهو (يتعدى بنفسه ثلاثيا) فيقال : ضرّه (والباء رباعيا) فيقال : أضرّ به ، فيكون من باب الأفعال حينئذ (والاسم) أي : اسم المصدر (الضرر).

هذا (وقد يطلق على نقص في الأعيان) وذلك من باب استعمال الكلي في بعض افراده لأن نقص العين نوع من الضرر ، كما ان جرح الجسم نوع من الضرر أيضا (وضارّه يضارّه مضارّة وضرارا ، يعني : ضرّه» (٢) انتهى) فيكون حينئذ باب المفاعلة والمجرد بمعنى واحد.

(وفي القاموس : الضرر ضد النفع ، وضارّه يضارّه ضرارا) فهو مضار (ثم قال : والضرر سوء الحال) وهو معنى ملازم لكثير من افراد الضرر كما لا يخفى ،

__________________

(١) ـ النهاية : ج ٣ ص ٨١ (مادة ضرر).

(٢) ـ المصباح المنير : ص ٣٦٠.

٣٧٥

والضرار : الضيق» ، انتهى.

إذا عرفت ما ذكرنا ،

______________________________________________________

وإلّا فسوء الحال لا يسمى في العرف ضررا (ثم قال :) القاموس (والضرار : الضيق» (١) ، انتهى).

هذا ، لكن الظاهر : ان المفاعلة ليست بمعنى المجرد ، بل المراد بها فعل الاثنين ، غير انها قد تطلق على الواحد من باب التلازم الغالبي ، فان من أضرّ بانسان اضرّ به ذلك الانسان غالبا.

وكذا مثله قوله سبحانه : (قاتَلَهُمُ اللهُ) (٢) حيث ان طبيعة القتل هو ان يكون له ردّ ، وقوله سبحانه : (يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) (٣) وقوله سبحانه : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) (٤).

وهكذا قوله : سافرت ، حيث ان السفر ذهاب ومجيء ، وسامحت زيدا حيث ان السماح من جانب يلازمه غالبا السماح من الجانب الآخر ، ومن ذكر لهما معنى واحدا أراد نتيجة الاستعمال لا إنهما بمعنى واحد ، فقد اشتهر : ان زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى ، وهو كذلك عند التتبع.

(إذا عرفت ما ذكرنا) من مدرك هذه القاعدة ، ومن معنى اللفظين : «ضرر ، وضرار» ، ففي الرواية نقول : ان عمدة الاحتمالات في معنى هذا الحديث ثلاثة ، وسائر الاحتمالات ترجع إليها.

أمّا الاحتمال الأوّل فهو ما أشار إليه المصنّف بقوله :

__________________

(١) ـ القاموس المحيط : ج ٢ ص ٥٥٠ (مادة الضرّ).

(٢) ـ سورة التوبة : الآية ٣٠ ، سورة المنافقون : الآية ٤.

(٣) ـ سورة النساء : الآية ١٤٢.

(٤) ـ سورة النحل : الآية ١٢٦.

٣٧٦

فاعلم : إنّ المعنى بعد تعذّر ارادة الحقيقة عدم تشريع الضرر ، بمعنى : أنّ الشارع لم يشرع حكما يلزم منه ضرر على أحد ، تكليفيا كان أو وضعيا ، فلزوم البيع من الغبن حكم يلزم منه ضرر على المغبون ، فينتفي بالخبر ، وكذلك لزوم البيع من غير شفعة للشريك. وكذلك وجوب الوضوء على من لا يجد الماء إلّا بثمن كثير ،

______________________________________________________

(فاعلم : إنّ المعنى بعد تعذّر ارادة الحقيقة) إذ ظاهر «لا ضرر» انه لا وجود للضرر في الخارج مثل لا رجل في الدار حيث ان معناه : لا وجود للرجل في الدار ، لكن حيث ان الضرر في الخارج موجود قطعا ، فاللازم ان يراد من لا ضرر : المعنى المجازي وهو : كما قال :

(عدم تشريع الضرر ، بمعنى : انّ الشارع لم يشرع حكما يلزم منه ضرر على أحد ، تكليفيا كان) ذلك الحكم ، كوجوب الوضوء والغسل والصلاة والصوم والحج وما أشبه ذلك (أو وضعيا) بناء على ان الوضع غير التكليف على ما سبق الالماع إلى القولين في المسألة.

وعليه : (فلزوم البيع من الغبن حكم يلزم منه ضرر على المغبون فينتفي) اللزوم (بالخبر) أي : بقوله : «لا ضرر ولا ضرار» فيكون للمغبون حق الفسخ.

(وكذلك لزوم البيع من غير شفعة للشريك) يلزم منه تضرر الشريك ، فينتفي اللزوم بالخبر ويكون للشريك حق فسخ البيع ، وقد تمسك الامام عليه‌السلام بهذه الرواية لثبوت الشفعة.

(وكذلك وجوب الوضوء على من لا يجد الماء إلّا بثمن كثير) فانه ضرر عليه فيرفعه الخبر ، فلا يجب عليه الوضوء ، وإنّما يجوز له التيمم ، وهكذا بالنسبة إلى الغسل والتيمم.

٣٧٧

وكذلك سلطنة المالك على الدخول إلى عذقه ، واباحته له من دون استيذان من الأنصاري ، وكذلك حرمة الترافع إلى حكّام الجور إذا توقف أخذ الحق عليه.

ومنه : براءة ذمة الضارّ عن تدارك ما أدخله من الضرر ، إذ كما أنّ تشريع حكم يحدث معه الضرر منفيّ بالخبر ، كذلك تشريع ما يبقى معه الضرر الحادث ، بل يجب أن يكون الحكم المشروع في تلك الواقعة

______________________________________________________

(وكذلك سلطنة المالك على الدخول إلى عذقه واباحته) أي : اباحة الشارع الدخول (له) أي : للمالك (من دون استيذان من الأنصاري) فان في هذا التسليط نوع ضرر لأن الضرر قد يكون دينيا ، وقد يكون ماليا ، وقد يكون عرضيا ، وقد يكون جسميا ، وقد يكون روحيا ، كما إذا سقاه دواء فصار معتوها ، فانه لم يتضرر جسمه ، وإنّما تضرر روحه ، وسمرة كان يضر الأنصاري عرضيا.

(وكذلك) بسبب «لا ضرر» يرتفع (حرمة الترافع إلى حكّام الجور إذا توقف أخذ الحق عليه) لأن الشارع إذا حرّم الرجوع إلى حكام الجور للتقاضي عندهم في حين لم يتمكن صاحب الحق ان ينقذ حقه من الظالم إلّا بالرجوع إليهم كان الشارع قد أضره بسبب ذلك.

(ومنه : براءة ذمة الضارّ عن تدارك ما أدخله من الضرر) على المتضرر ، فان الشارع إذا قال : ان الضارّ بريء الذمة كان معناه : ان الشارع أضر المتضرر بسبب البراءة ذمة الضار (إذ كما انّ تشريع حكم يحدث معه الضرر) على ما مرّ من الأمثلة المتقدمة (منفيّ بالخبر ، كذلك تشريع ما يبقى معه الضرر الحادث) يكون منفيا بالخبر أيضا ، ومنه حكم الشارع ببراءة ذمة الضار كما عرفت.

(بل يجب ان يكون الحكم المشروع في تلك الواقعة) التي أضر فيها إنسان

٣٧٨

على وجه يتدارك ذلك الضرر كأن لم يحدث.

إلّا أنّه قد ينافي هذا قوله : «لا ضرار» بناء على أنّ معنى الضرار : المجازاة على الضرر.

وكذا لو كان بمعنى : المضارّة ، التي هي من فعل الاثنين ، لأن فعل الثاني منهما ضرر قد نفي بالفقرة الاولى ، فالضرار المنفي بالفقرة الثانية

______________________________________________________

إنسانيا آخر ، ان يكون الحكم فيها (على وجه) الضمان ـ مثلا ـ بحيث (يتدارك ذلك الضرر) حتى يكون الضرر الوارد (كأن لم يحدث) وهذا إنّما يكون إذا حكم الشارع بضمان الضار.

(إلّا انّه قد ينافي هذا) المعنى وهو : حكم الشارع بضمان الضار (قوله : «لا ضرار» بناء على انّ معنى الضرار : المجازاة على الضرر) فانه لو كان معنى «لا ضرار» : انه لا يحق لانسان ان يجازي على الضرر ، لزم في المثال الأخير تعارض لا ضرر ولا ضرار.

وإنّما يلزم تعارضهما لأن الصدر يدل على عدم براءة ذمة الضار ووجوب الغرامة عليه ، والذيل يدل على ان المتضرر يحرم عليه أخذ الغرامة.

(وكذا لو كان) الضرار (بمعنى : المضارّة ، التي هي من فعل الاثنين) فانه لو كان معنى «لا ضرار» عدم مضارة أحدهما للآخر ، لزم منه تعارض لا ضرر ولا ضرار في المثال الأخير أيضا.

وإنّما يلزم تعارضهما على هذا المعنى أيضا (لأن فعل الثاني منهما) وهو : المتضرر إذا أخذ الغرامة مثلا من الضار ، فانه (ضرر قد نفي بالفقرة الاولى) من قوله : «لا ضرار» المفيدة لوجوب ردّ الضرر بضرر مثله (فالضرار المنفي بالفقرة الثانية) من قوله : «لا ضرار» المفيدة لحرمة رد الضرر بضرر مثله

٣٧٩

إنّما يحصل بفعل الثاني ، وكأنّ من فسره بالجزاء على الضرر أخذه من هذا المعنى ، لا على أنّه معنى مستقلّ.

______________________________________________________

(إنّما يحصل بفعل الثاني) أي : بردّ المتضرر الضرر على الضار فيحصل التعارض بين الصدر القائل بوجوب ردّ الضرر ، والذيل القائل بحرمة ردّ الضرر بضرر مثله.

(وكأنّ من فسره) أي : فسر «الضرار» في الرواية بالمعنى الأوّل أي : (بالجزاء على الضرر أخذه) أي : أخذ هذا التفسير (من هذا المعنى) أي : من معنى المضارة التي هي بين اثنين ، فهذا المعنى هو نفس المعنى الأوّل (لا على انّه معنى مستقلّ).

هذا ، لكنك قد عرفت المعنى الذي ذكرناه ، وان الضرار غير الضرر ، فان الظاهر من : «لا ضرر ولا ضرار» انه لا يحق لانسان ان يضر غيره ، كما لا يضر الله سبحانه وتعالى الانسان بتشريع حكم ضرري عليه.

وكذا لا يحق لنفرين ان يضر أحدهما الآخر ، لأن المفاعلة بين الاثنين ، وهذا ليس بمعنى عدم الجزاء على الضرر حتى يقال : انه ينافي قوله سبحانه : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (١) وينافي قوله سبحانه : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) (٢) بل معناه : عدم تشاغل نفرين في اضرار الآخر كشخصين إذا التقيا بسيفيهما حيث قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «القاتل والمقتول في النار» (٣) ، وهذا غير ما إذا ضرب أحد شخصا بسيف حيث ان للمضروب حق القصاص وليس في النار.

__________________

(١) ـ سورة الشورى : الآية ٤٠.

(٢) ـ سورة البقرة : الآية ١٩٤.

(٣) ـ تهذيب الاحكام : ج ٦ ص ١٧٤ ب ٢٢ ح ٢٥ (بالمعنى) ، وسائل الشيعة : ج ١٥ ص ١٤٨ ب ٦٧ ح ٥١٨٤ (بالمعنى).

٣٨٠