الوصائل الى الرسائل - ج ١٠

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل الى الرسائل - ج ١٠

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-10-4
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

إذ لولاه لم يتحقق احتياط في كثير من الموارد مع رجحان الاحتياط فيها إجماعا.

وكيف كان : فالعامل بما يقتضيه البراءة مع الشك حين العمل لا يصح عبادته وإن انكشف مطابقته للواقع.

أمّا لو غفل عن ذلك أو سكن فيه إلى فعل من يسكن اليه من أبويه وأمثالهما ، فعمل باعتقاد التقرّب ، فهو خارج عن محل كلامنا الذي هو في عمل الجاهل الشاكّ قبل الفحص بما يقتضيه البراءة ،

______________________________________________________

إذ لولاه) أي : لو لا عدم اعتبار الجزم في هذه الموارد المشكوكة (لم يتحقق احتياط في كثير من الموارد) سواء موارد العلم الاجمالي ، أم موارد احتمال كونه طاعة (مع رجحان الاحتياط فيها إجماعا) حيث يعلم من هذا الاجماع : ان هذه الموارد قد خرجت عن مقتضى الأصل الأولي الذي قلنا فيه قبل قليل يجب ان يبنى عليه.

(وكيف كان : فالعامل بما يقتضيه البراءة مع الشك حين العمل ، لا يصح عبادته وان انكشف مطابقته للواقع) لما عرفت : من انه لا يتمكن من الجزم بقصد القربة.

(أمّا لو غفل عن ذلك) أي : عن احتمال عدم صحة ما يأتي به واتفق مطابقته للواقع (أو سكن فيه إلى فعل من يسكن اليه) في امور عباداته ومعاملاته وسائر شئونه (من أبويه وأمثالهما) بأن رأى شيوع عمل في المجتمع واعتقد عباديته وكان مطابقا للواقع (فعمل باعتقاد التقرّب فهو) في هذين الصورتين (خارج عن محل كلامنا الذي هو في عمل الجاهل الشاكّ قبل الفحص) العامل (بما يقتضيه البراءة) أو بما يقتضيه التخيير أو الاستصحاب.

وإنّما خصّص محل الكلام من البراءة هنا بالجاهل الشاك : لأنه كما قال :

٢٨١

إذ مجرى البراءة في الشاك ، دون الغافل ، أو معتقد الخلاف.

وعلى أيّ حال : فالأقوى صحته إذا انكشف مطابقته للواقع ، إذ لا يعتبر في العبادة إلّا إتيان المأمور به على قصد التقرّب ، والمفروض : حصوله والعلم بمطابقته للواقع ، أو الظن بها من طريق معتبر شرعي غير معتبر في صحة العبادة لعدم الدليل ، فان أدلة وجوب رجوع المجتهد إلى الأدلة ، ورجوع المقلّد

______________________________________________________

(إذ مجرى البراءة) يختص (في الشاك ، دون الغافل ، أو معتقد الخلاف) لأن الغافل ليس شاكا ، وكذا معتقدا الخلاف ، لا يكون شاكا أيضا.

(وعلى أيّ حال : فالأقوى صحته إذا انكشف مطابقته للواقع) في هاتين الصورتين : من الغفلة ، واعتقاد الخلاف (إذ لا يعتبر في العبادة إلّا إتيان المأمور به على قصد التقرّب ، والمفروض : حصوله) أي : قصد التقرب ، وكذا حصول المطابقة للواقع ، فانّ هذا العامل قد أتى بعبادة متطابقة مع الواقع وقد قصد التقرّب بها.

(و) امّا (العلم بمطابقته للواقع ، أو الظن بها من طريق معتبر شرعي) زيادة على مطابقة العمل للواقع ، فهو (غير معتبر في صحة العبادة لعدم الدليل) عليه ، فانه لا يلزم أن يكون المكلّف حين العمل إذا كان عمله مطابقا للواقع أو لفتوى الفقيه : ان يعلم بالمطابقة.

إن قلت : الأدلة تقول : بأنه يلزم ان يكون العمل مستندا إلى الاجتهاد أو التقليد ، وهذا الغافل المعتمد على أبويه ـ مثلا ـ لم يكن عمله مستندا ، لا إلى الاجتهاد ولا إلى التقليد ، فكيف تقولون بصحته؟.

قلت : الرجوع إلى المجتهد أو الاجتهاد إنّما هو طريق ، لا ان له مدخلية في الموضوع (فان أدلة وجوب رجوع المجتهد إلى الأدلة ، ورجوع المقلّد

٢٨٢

إلى المجتهد إنّما هي لبيان الطرق الشرعية التي لا يقدح مع موافقتها مخالفة الواقع ، لا لبيان اشتراط كون الواقع مأخوذا من هذه الطرق ، كما لا يخفى على من لاحظها ، ثم إنّ مرآة مطابقة العلم الصادر للواقع العلم بها أو الطريق الذي يرجع إليه المجتهد أو المقلّد.

______________________________________________________

إلى المجتهد) ليس من باب انه بدونهما لا يكون الواقع واقعا ، بل (إنّما هي لبيان الطرق الشرعية التي لا يقدح مع موافقتها مخالفة الواقع) فانه لو وافق إحدى الطرق الشرعية وكان عمله مخالفا للواقع لا يعاقب يوم القيامة على مخالفته تلك ، لأنه ليس مكلفا بأكثر من ذلك.

وعليه : فان الأدلة لبيان الطرق الشرعية (لا لبيان اشتراط كون الواقع مأخوذا من هذه الطرق) فان الشارع لم يجعل الواقع مقيّدا بهذه الطرق حتى إذا لم يسلك الانسان هذه الطرق لا يكون آتيا بالواقع (كما لا يخفى على من لاحظها) فان الذي يلاحظ تلك الأدلة يرى انها تدل على ان الاجتهاد والتقليد من الطرق إلى الواقع ، لا ان الواقع مقيّد بهذه الطرق.

(ثم انّ مرآة مطابقة العلم الصادر) عن الغافل أو المعتمد على أبويه ـ مثلا ـ (للواقع) تلك المرآة هي (العلم بها) أي : بالمطابقة للواقع (أو الطريق الذي يرجع إليه المجتهد) اجتهادا (أو المقلّد) تقليدا ، بلا فرق بين الانكشاف القطعي الذي هو العلم ، أو الانكشاف الظني الحجة الذي هو عبارة عن الاجتهاد أو التقليد.

إن قلت : ان ظن المجتهد إنّما يصحح الواقعة المستندة اليه حين صدورها ، فلا يصحح الواقعة التي صدرت سابقا بلا استناد إليه ، كعمل الغافل ، أو المعتمد على أبويه ـ مثلا ـ.

٢٨٣

وتوهّم : «أنّ ظنّ المجتهد وفتواه لا يؤثر في الواقعة السابقة» غلط ، لأن مؤدى ظنه نفس الحكم الشرعي الثابت للأعمال الماضية والمستقبلية.

______________________________________________________

قلت : (وتوهّم : انّ ظنّ المجتهد وفتواه لا يؤثر في الواقعة السابقة غلط) فان ظن المجتهد يؤثر في تصحيح العمل بلا فرق بين الأعمال السابقة واللاحقة (لأن مؤدى ظنه) أي : ظن المجتهد (نفس الحكم الشرعي الثابت للأعمال الماضية والمستقبلية) فلا موضوعية لظن المجتهد حتى يتقيد صحة العمل بالاستناد اليه حين الصدور.

أقول : ان كلام المصنّف هذا القائل : بأن ظن المجتهد يؤثر في الواقعة السابقة كما يؤثر في الواقعة اللاحقة ، إنّما هو بالنسبة إلى الحكم الوضعي : من صحة الأعمال السابقة وعدم صحتها الذي هو محل الكلام ، لا بالنسبة إلى الحكم التكليفي : من استحقاق العقاب على مخالفة أعماله السابقة للواقع وعدم استحقاقه عليها ـ مما سيأتي الكلام عنه ان شاء الله تعالى مفصلا ـ.

وعليه : فانه ان قلّد من يقول بصحة أعماله السابقة كان معذورا في عدم قضائها ، لكنه لم يكن معذورا في المؤاخذة عليها ان كانت أعماله السابقة مخالفة للواقع ، فاذا قيل له يوم القيامة : لما ذا لم تقض أعمالك السابقة؟ كان له أن يقول : ان المجتهد أفتى بعدم القضاء عليّ ، اما إذا قيل له : لما ذا خالفت الواقع بأعمالك السابقة؟ لم يكن له أن يقول : استندت إلى فتوى المجتهد ، لأنها حين الصدور لم تكن مستندة إلى فتواه فيستحق العقاب عليها.

والحاصل : ان كلام المصنّف هنا في صحة عمل الجاهل غير المقلّد

٢٨٤

وأمّا ترتيب الأثر على الفعل الماضي فهو بعد الرجوع ، فان فتوى المجتهد بعدم وجوب السورة كالعلم ، في أنّ أثرها قبل العمل : عدم وجوب السورة في الصلاة ، وبعد العمل : عدم وجوب إعادة الصلاة الواقعة من غير سورة ، كما تقدّم نظير ذلك في المعاملات.

ولنختم الكلام في الجاهل العامل قبل الفحص ، بامور

______________________________________________________

ولا المجتهد وعدم صحته بعد التقليد ، لا في استحقاق العقاب ان خالف الواقع ، وعدم استحقاقه بعد التقليد.

هذا (وأمّا ترتيب الأثر على الفعل الماضي فهو بعد الرجوع) إلى المجتهد (فان فتوى المجتهد بعدم وجوب السورة) ـ مثلا ـ يكون (كالعلم ، في انّ أثرها قبل العمل : عدم وجوب السورة في الصلاة ، وبعد العمل : عدم وجوب إعادة الصلاة الواقعة من غير سورة) وهكذا بالنسبة إلى سائر الأجزاء والشرائط والموانع والقواطع (كما تقدّم نظير ذلك في المعاملات) السابقة على التقليد ، فانه إذا كان فتوى المجتهد على صحتها رتب عليها الأثر في المستقبل أيضا ولا حاجة إلى اعادتها.

نعم ، ان ما قلناه هناك من استحقاق العقاب على مخالفة الواقع يأتي هنا أيضا ، لأنه لا فرق في ملاك ما ذكرناه بين العبادات والمعاملات ، غير انه قد استثنينا من العقاب بعض الصور في كتاب التقليد مما لا داعي إلى ذكره هنا أيضا.

(ولنختم الكلام في الجاهل العامل قبل الفحص ، بامور) هي كالتالي :

٢٨٥

الأوّل :

إنّ العبرة في باب المؤاخذة والعدم بموافقة الواقع الذي يعتبر مطابقة العمل له ومخالفته ، هل هو الواقع الأوليّ الثابت في كل واقعة عند المخطّئة ، فاذا فرضنا العصير العنبي الذي تناوله الجاهل حراما في الواقع ، وفرض جود خبر معتبر يعثر عليه بعد الفحص على الحليّة ،

______________________________________________________

الأمر (الأوّل :) في بيان الحكم التكليفي للجاهل العامل بالبراءة ، فان المصنّف بعد أن ذكر الحكم الوضعي بالنسبة إلى الأعمال الصادرة من الجاهل العامل بالبراءة أو التخيير ، أو الاستصحاب ، بدأ في بيان الحكم التكليفي له : من المؤاخذة وعدمها ، وهل انه يستحق المؤاخذة بمخالفة الواقع وان وافق الطريق الشرعي ، أو بمخالفة الطريق الشرعي وان وافق الواقع ، أو يكفي في المؤاخذة مخالفة أحدهما : من الواقع أو الطريق ، أو يكفي في عدم المؤاخذة موافقة أحدهما : من الطريق أو الواقع؟ احتمالات أشار المصنّف اليها بقوله :

(إنّ العبرة في باب المؤاخذة والعدم) أي : عدم المؤاخذة ، إنّما هي (بموافقة الواقع الذي يعتبر مطابقة العمل له ومخالفته) لأن الواقع هو المحور أخذا وعطاء ولا كلام فيه.

بل الكلام في ان هذا الواقع (هل هو الواقع الأوليّ الثابت في كل واقعة عند المخطّئة) أي : بغض النظر عن الطريق الشرعي ، فان المخطئة وهم الشيعة والمعتزلة يرون ان لكل واقعة حكما عند الله سبحانه وتعالى سواء وصل اليه المجتهد أم لا وان العبرة به؟.

وعليه : (فاذا فرضنا العصير العنبي الذي تناوله الجاهل حراما في الواقع ، وفرض وجود خبر معتبر يعثر عليه بعد الفحص) يدل ذلك الخبر (على الحلية)

٢٨٦

فيعاقب ، ولو عكس الأمر لم يعاقب ، أو العبرة بالطريق الشرعي المعثور عليه بعد الفحص فيعاقب في صورة العكس دون الأصل ، أو يكفي مخالفة أحدهما فيعاقب في الصورتين

______________________________________________________

ففي هذه الصور فيكون معاقبا كما قال : (فيعاقب) هذا الجاهل الشارب لهذا العصير على شربه ، لأنّ العبرة في الحرمة بالواقع ، وقد فرض انه خالف الواقع واما موافقة الطريق فليس بمهم.

(ولو عكس الأمر) بأن كان العصير حلالا في الواقع واقتضى الخبر حرمة العصير (لم يعاقب) الجاهل على شربه ، لأنه قد وافق الواقع في عمله واما مخالفة الطريق فليس بمهم.

(أو العبرة بالطريق الشرعي المعثور عليه بعد الفحص) أي : لا بالواقع الأولي ، فانه ان كان العبرة بالطريق الشرعي مع غض النظر عن الواقع الأولي ، ففي هذه الصورة يكون حكمه كما قال : (فيعاقب في صورة العكس) أي : في صورة كون العصير حلالا في الواقع وحراما بحسب الطريق ، لأن الجاهل بشربه هذا قد خالف الطريق واما موافقة الواقع فلا عبرة به.

(دون الأصل) فانه لا يعاقب على شربه في صورة كون العصير حراما في الواقع وحلالا بحسب الطريق ، لأنه كان حسب هذا الاحتمال مكلفا باتباع الطريق ، والطريق دلّ على الحلية فلا عبرة بمخالفة الواقع.

(أو يكفي) في عقاب الجاهل (مخالفة أحدهما) من الواقع أو الطريق (فيعاقب في الصورتين) أي : في صورة كون العصير حراما في الواقع وان كان حلالا في الظاهر ، وفي صورة كون العصير حراما في الظاهر وان كان حلالا في الواقع ، نعم ، لو فرض موافقة الظاهر مع الواقع في الحلية فحينئذ لا يعاقب على شربه.

٢٨٧

أم يكفي في عدم المؤاخذة موافقة أحدهما ، فلا عقاب في الصورتين ، وجوه :

من أنّ التكليف الأولي إنّما هو بالواقع ، وليس التكليف بالطرق الظاهرية إلّا على من عثر عليها.

______________________________________________________

(أم يكفي في عدم المؤاخذة موافقة أحدهما ، فلا عقاب في الصورتين؟) فاذا كان العصير العنبي في الواقع حلالا ، أو بحسب الطريق حلالا ، لا يعاقب على شربه ، وإنّما يعاقب على شربه في فرض مخالفته للظاهر والواقع معا ، بأن كان العصير في الواقع والظاهر حراما ، وعلى هذا ففي المسألة (وجوه) أربعة.

لكنا نرى وجها خامسا في المسألة وهو : انه يعاقب على مخالفة الواقع الذي لو فحص وصل إليه ، لا ما إذا فحص لم يصل اليه ، لأنه لا معنى للعقاب على حكم لم يصل إليه المكلّف ، فيشترط حينئذ في العقاب أمران :

الأوّل : كونه مخالفا للواقع.

الثاني : كونه بحيث لو فحص عنه لوصل إلى ذلك الواقع.

أمّا الوجوه الأربعة فقد أشار المصنّف إلى أولها وهو : كون المؤاخذة على مخالفة الواقع بقوله : (من انّ التكليف الأولي) الثابت في كل واقعة بحسب المصالح والمفاسد الواقعية كما دلّ عليه النص والعقل (إنّما هو بالواقع ، وليس التكليف بالطرق الظاهرية إلّا على من عثر عليها).

هذا ، والمفروض : انه لم يعثر على الطريق الظاهري ، فلا يكون مخالفا للطريق الظاهري ، وإنّما إذا كان مخالفا للواقع عوقب ، وإذا كان موافقا للواقع لم يعاقب عليه.

وأشار إلى ثاني الوجوه وهو : كون المؤاخذة على مخالفة الطريق بقوله :

٢٨٨

ومن أن الواقع إذا كان في علم الله سبحانه غير ممكن الوصول إليه وكان هنا طريق مجعول مؤدّاه بدلا عنه ، فالمكلّف به هو : مؤدّى الطريق دون الواقع على ما هو عليه ، فكيف يعاقب الله على شرب العصير من يعلم أنّه لم يعثر بعد الفحص على دليل حرمته.

ومن أنّ كلا من الواقع ومؤدّى الطريق تكليف واقعي ، أمّا إذا كان التكليف ثابتا في الواقع ، فلأنه كان قادرا على موافقة الواقع بالاحتياط ، وعلى إسقاطه

______________________________________________________

(ومن ان الواقع إذا كان في علم الله سبحانه) وتعالى (غير ممكن الوصول إليه) لاختفائه بسبب الاغراض والأطماع السياسية وما أشبه ذلك (وكان هنا) ك (طريق مجعول) أي : جعل (مؤدّاه بدلا عنه) أي : عن الواقع (فالمكلّف به هو : مؤدّى الطريق دون الواقع على ما هو عليه).

وعليه : فاذا كان عمل الجاهل مخالفا للطريق عوقب ، وإذا كان موافقا للطريق لم يعاقب ، سواء وافق الطريق الواقع أم خالفه.

وإنّما لم يكن مناط العقاب الواقع ، لأن المفروض عدم إمكان الوصول إليه (فكيف يعاقب الله على شرب العصير من يعلم انّه لم يعثر بعد الفحص على دليل حرمته؟).

وأشار إلى ثالث الوجوه وهو : كون المؤاخذة على مخالفة أحدهما : من الواقع أو الطريق بقوله : (ومن انّ كلا من الواقع ومؤدّى الطريق تكليف واقعي) اما الواقع فلأنه هو الأصل ، واما مؤدّى الطريق فلأنه بديل عن الواقع ، فيعاقب في الصورتين كما قال : (أمّا) معاقبته على ما (إذا كان التكليف ثابتا في الواقع ، فلأنه كان قادرا على موافقة الواقع بالاحتياط ، و) كان قادرا أيضا (على إسقاطه) أي :

٢٨٩

عن نفسه بالرجوع إلى الطريق الشرعي المفروض دلالته على نفي التكليف ، فاذا لم يفعل شيئا منهما فلا مانع من مؤاخذته ، وأمّا إذا كان التكليف ثابتا بالطريق الشرعي ، فلأنه قد ترك موافقة خطاب مقدور على العلم به ، فانّ أدلة وجوب الرجوع إلى خبر العادل أو فتوى المجتهد يشمل العالم والجاهل القادر على المعرفة.

ومن عدم التكليف بالواقع لعدم القدرة ،

______________________________________________________

إسقاط الواقع (عن نفسه بالرجوع إلى الطريق الشرعي المفروض دلالته على نفي التكليف ، فاذا لم يفعل شيئا منهما) أي : من الاحتياط ، أو الرجوع إلى الطريق (فلا مانع من مؤاخذته) على مخالفة الواقع.

(وأمّا) معاقبته على مخالفة ما (إذا كان التكليف ثابتا بالطريق الشرعي) بأن لم يكن التكليف حسب الواقع وأمّا كان التكليف حسب الطريق الشرعي ، كما إذا كان العصير ـ مثلا ـ حراما حسب الطريق حلالا حسب الواقع ، فهو معاقب على مخالفة الطريق لما ذكره بقوله : (فلأنه قد ترك موافقة خطاب مقدور على العلم به) والجاهل القادر على تحصيل العلم بالطريق ـ كالعالم ـ يعاقب على مخالفة الطريق ، وذلك لأنه كما قال :

(فانّ أدلة وجوب الرجوع إلى خبر العادل أو فتوى المجتهد يشمل العالم والجاهل القادر على المعرفة) فالخطاب منجّز في حق الجاهل أيضا ، فيكون معاقبا على تركه.

وأشار إلى رابع الوجوه وهو : كون المؤاخذة على مخالفة الواقع والطريق معا ، فلا يكفي في المؤاخذة مخالفة أحدهما بقوله : (ومن عدم التكليف بالواقع لعدم القدرة) على الواقع حسب الفرض ، فلا يكون مكلفا بالواقع ، فاذا خالف الواقع

٢٩٠

وبالطريق الشرعي لكونه ثابتا في حق من اطّلع عليه من باب حرمة التجري ، فالمكلّف به فعلا ، الذي يكون المؤاخذة على مخالفته هو الواجب والحرام الواقعيّان المنصوب عليهما طريق ، فاذا لم يكن وجوب أو تحريم فلا مؤاخذة.

نعم ، لو اطّلع على ما يدلّ ظاهرا على الوجوب أو التحريم الواقعي

______________________________________________________

لم يعاقب على مخالفة الواقع لو وافق الطريق.

(و) من عدم التكليف (بالطريق الشرعي لكونه) أي : لكون الطريق الشرعي (ثابتا في حق من اطّلع عليه) والمفروض : انه لم يفحص حتى يطّلع عليه ، فاذا خالف الطريق لم يعاقب على مخالفة الطريق لو وافق الواقع.

وإنّما قال : بأن الطريق الشرعي ثابت على من اطلع عليه فقط ، لأن ثبوت ذلك عليه (من باب حرمة التجري) وإلّا فهذا الطريق حسب الفرض لم يكن طريقا إلى الواقع ، كما انه لم يكن بنفسه موضوعا للحكم ، فمخالفة الطريق هذا لا يوجب شيئا لو وافق الواقع.

إذن : (فالمكلّف به فعلا ، الذي يكون المؤاخذة على مخالفته هو : الواجب والحرام الواقعيّان المنصوب عليهما طريق) موافق لهما (فاذا) خالفهما الطريق بأن (لم يكن وجوب أو تحريم) في الواقع (فلا مؤاخذة) على مخالفة هذا الطريق.

وان شئت قلت : الواقع ليس بحرام فلا عقوبة على الواقع ، والطريق الذي يقول بالحرمة ليس على السببية ، فلا شأن له في العقاب بالنسبة إلى هذا الجاهل بالطريق.

(نعم ، لو اطّلع على ما يدلّ ظاهرا على الوجوب أو التحريم الواقعي

٢٩١

مع كونه مخالفا للواقع بالفرض ، فالموافقة له لازمة من باب الانقياد ، وتركها تجرّ ، وإذا لم يطّلع على ذلك لتركه الفحص ، فلا تجرّي أيضا. وأمّا إذا كان وجوب واقعي وكان الطريق الظاهري نافيا ، فلأن المفروض عدم التمكّن من الوصول إلى الواقع ، فالمتضمن للتكليف متعذّر الوصول إليه ، والذي يمكن الوصول إليه ناف للتكليف.

والأقوى هو الأوّل ، ويظهر وجهه بالتأمل في الوجوه الأربعة.

______________________________________________________

مع كونه مخالفا للواقع بالفرض) بأن كان الواقع الحلية والطريق على الحرمة (فالموافقة له) أي : للطريق (لازمة من باب الانقياد ، وتركها) أي : ترك الموافقة للطريق مع الاطلاع عليه (تجرّ ، و) اما (إذا لم يطّلع على ذلك) أي : على الطريق (لتركه الفحص ، فلا تجرّي أيضا) لعدم اطلاعه على الطريق ، كما لا عقاب من جهة الواقع لعدم مخالفته للواقع.

(وأمّا إذا كان وجوب واقعي) أو حرمة واقعية (وكان الطريق الظاهري نافيا) للوجوب أو الحرمة (ف) لا عقاب أيضا (لأن المفروض : عدم التمكّن من الوصول إلى الواقع ، فالمتضمن للتكليف متعذّر الوصول إليه) ويقبح عقاب من يتعذر له الوصول إلى الواقع (والذي يمكن الوصول إليه) من الطريق (ناف للتكليف) فلا عقاب لا على الطريق ولا على الواقع.

هذا (والأقوى هو الأوّل) من هذه الوجوه العبرة في المؤاخذة وعدمها موافقة الواقع ومخالفته ، فاذا شرب العصير من غير فحص فان كان في الواقع حراما عوقب عليه ، وان لم يكن حراما لم يعاقب عليه (ويظهر وجهه بالتأمل في الوجوه الأربعة) من الاحتمالات التي ذكرناها.

٢٩٢

وحاصله : أنّ التكليف الثابت في الواقع وإن فرض تعذّر الوصول إليه تفصيلا ، إلّا أنّه لا مانع من العقاب بعد كون المكلّف محتملا له قادرا عليه غير مطّلع على طريق شرعي ينفيه ، ولا واجدا لدليل يؤمّن من العقاب عليه مع بقاء تردّده ، وهو : العقل والنقل الدالّان على براءة الذمة بعد الفحص والعجز عن الوصول ، وإن احتمل التكليف وتردّد فيه.

______________________________________________________

(وحاصله :) أي : حاصل الوجه الأوّل الذي اختاره المصنّف هو : (انّ التكليف الثابت في الواقع وان فرض تعذّر الوصول إليه تفصيلا) لا إجمالا ، لأنه يمكن الوصول إليه إجمالا بسبب الاحتياط (إلّا انّه لا مانع من العقاب) عليه لو كان مخالفا للواقع (بعد كون المكلّف محتملا له) أي : لمخالفة الواقع ، لأنه حسب الغرض جاهل بسيط وليس جاهلا مركبا قاطعا بالخلاف حتى يكون معذورا.

وعليه : فان المفروض كون المكلّف (قادرا عليه) أي : على الوصول إلى الواقع بسبب الاحتياط (غير مطّلع على طريق شرعي ينفيه) أي : ينفي الواقع ، لفرض ان الطريق الشرعي الذي ينفي الواقع لم يصل اليه المكلّف بالفحص.

(ولا واجدا لدليل يؤمّن من العقاب عليه) أي : على الواقع (مع بقاء تردّده ، و) المقصود من الدليل المؤمّن مع بقاء شكه (هو : العقل والنقل الدالّان على براءة الذمة بعد الفحص والعجز عن الوصول) إلى الواقع حتى (وان احتمل) بعد الفحص واجراء البراءة (التكليف وتردّد فيه) أي : في التكليف.

إذن : فالعقل والنقل تدلان على البراءة لكنهما لا يجريان في حق المقصر عن الفحص بل يجريان بعد الفحص واليأس ، فالشك واللاشك ليسا معيارا وانّما المعيار الفحص واللافحص.

٢٩٣

وأمّا إذا لم يكن التكليف ثابتا في الواقع ، فلا مقتضي للعقاب من حيث الخطابات الواقعية ، ولو فرض هنا طريق ظاهري مثبت للتكليف لم يعثر عليه المكلّف ، لم يعاقب عليه ، لأن مؤدّى الطريق الظاهري غير مجعول من حيث هو هو في مقابل الواقع ، وإنّما هو مجعول بعنوان كونه طريقا إليه ، فاذا أخطأ

______________________________________________________

(وأمّا إذا لم يكن التكليف ثابتا في الواقع) بأن لم يكن العصير العنبي ـ مثلا ـ حراما واقعا ، بل كان حلالا فرضا (فلا مقتضي للعقاب) لمن شربه (من حيث الخطابات الواقعية) لأن المفروض عدم حرمته واقعا ، وإذا لم يكن حراما واقعا فانه حتى (ولو فرض هنا طريق ظاهري مثبت للتكليف لم يعثر عليه المكلّف) بأن كان فتوى المجتهد حرمته ، لكن الجاهل لم يفحص عن فتوى مرجعه وشرب العصير ، فانه (لم يعاقب عليه).

وإنّما لم يعاقب عليه (لأن مؤدّى الطريق الظاهري غير مجعول من حيث هو هو في مقابل الواقع) إذ قد تقدّم في باب القطع : ان الطرق الظاهرية ليست مجعولة في مقابل الواقع ، ولا هي من باب السببية ، بل هي من باب الطريقية ، ولذلك فان طابقت الواقع كان الواقع لازما على الانسان ، وان لم تطابق الواقع لم يكن الطريق لازما عليه حتى يعاقب على مخالفة هذا الطريق الذي لم يعثر عليه ، لأن جعل مؤدى الطريق حكما واقعيا للجاهل بحيث يعاقب على مخالفته وان لم يطابق الواقع ، من التصويب الباطل ، وهو خلاف ما ذهب اليه العدلية القائلين بأن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية.

(و) عليه : فان الطريق الشرعي (إنّما هو مجعول بعنوان كونه طريقا إليه) أي : إلى الواقع (فاذا أخطأ) الطريق بأن كان في الواقع حلالا ، لكن الطريق دل على

٢٩٤

لم يترتب عليه شيء ، ولذا لو أدّى عبادة بهذا الطريق ، فتبيّن مخالفتها للواقع ، لم يسقط الأمر ووجب إعادتها.

نعم ، إذا عثر عليه المكلّف لم يجز مخالفته ، لأن المفروض : عدم العلم بمخالفته للواقع ، فيكون معصية ظاهرية من حيث فرض كونه طريقا شرعيا إلى الواقع ، فهو في الحقيقة نوع من التجرّي ، وهذا المعنى مفقود مع عدم الاطلاع على هذا الطريق ،

______________________________________________________

حرمته (لم يترتب عليه) أي : على هذا الخطأ الطريقي (شيء) حتى يعاقب الشارب للعصير على انه خالف الطريق.

(ولذا) أي : لأجل ما ذكرناه : من ان الطريق إذا أخطأ لم يترتب عليه شيء ، فانه (لو أدّى) المكلّف (عبادة) أو معاملة (بهذا الطريق فتبيّن) بعد إتيانه بالعبادة أو المعاملة (مخالفتها) أي : مخالفة تلك العبادة أو المعاملة (للواقع ، لم يسقط الأمر ووجب إعادتها) بالنسبة إلى العبادة ، واما بالنسبة إلى المعاملة ، فلا يترتب عليها أثر.

(نعم ، إذا عثر عليه المكلّف لم يجز مخالفته ، لأن المفروض : عدم العلم بمخالفته للواقع) بل يحتمل مخالفته ، بل ربما يظن بأن هذا الطريق مطابق للواقع (فيكون معصية ظاهرية من حيث فرض كونه طريقا شرعيا إلى الواقع) فاذا خالفه كان في الظاهر عاص (فهو في الحقيقة نوع من التجرّي) والتجري عصيان ظاهرا وان كنا ذهبنا إلى انه ليس بمعصية في الواقع.

(و) لكن (هذا المعنى مفقود مع عدم الاطلاع على هذا الطريق) لأنه لم يخالف طريقا ظاهريا وان كان متجريا من جهة ترك الفحص عن الدليل مما مرّ بيانه في مسألة عقاب الجاهل.

٢٩٥

ووجوب رجوع العامّي إلى المفتي لأجل إحراز الواجبات ، فاذا رجع وصادف الواقع وجب من حيث الواقع ، وإن لم يصادف الواقع لم يكن الرجوع إليه في هذه الواقعة واجبا في الواقع ، ويترتب عليه آثار الوجوب ظاهرا مشروطة بعدم انكشف الخلاف لا استحقاق العقاب على الترك ، فانّه

______________________________________________________

(و) ان قلت : فلما ذا يجب رجوع العامي إلى المفتي ، مع ان قول المفتي ليس طريقا إلى الواقع دائما ، بل ربما كان طريقا وربما لم يكن طريقا.

قلت : (وجوب رجوع العامّي إلى المفتي) ليس لأجل كون مؤدّى الفتوى مجعولا للمقلد مقابل الواقع ، وإنّما هو محض طريق ربما أخطأ وربما أصاب ، فالرجوع إليه (لأجل إحراز الواجبات) بالطريق العقلائي المتعارف.

وعليه : (فاذا رجع وصادف الواقع وجب من حيث الواقع) لا من حيث انه فتوى المفتي.

(و) لكن (ان لم يصادف الواقع ، لم يكن الرجوع إليه في هذه الواقعة واجبا في الواقع) فلا يترتب عليه آثار الواقع (و) إنّما (يترتب عليه آثار الوجوب ظاهرا مشروطة) تلك الآثار (بعدم انكشف الخلاف) فاذا انكشف الخلاف تبين انه ليس بطريق وإنه لا يجب عليه العمل به.

إذن : فالذي يترتب على الطريق هو آثار الوجوب الظاهري (لا استحقاق العقاب على الترك) فانه لا يترتب على فتوى الفقيه العقاب الأخروي ، بل العقاب الاخروي دائر مدار الواقع وجودا وعدما ، وإنّما يترتب على فتوى الفقيه آثار الوجوب في الظاهر مشروطا بعدم انكشاف الخلاف على ما عرفت.

نعم ، لو لم يرجع إلى فتوى الفقيه وانكشف ان فتوى الفقيه لم يكن مطابقا للواقع لم يكشف ذلك عن عدم استحقاق العقاب (فانّه) أي : استحقاق العقاب

٢٩٦

يثبت واقعا من باب التجرّي.

ومن هنا يظهر : أنّه لا يتعدد العقاب مع مصادفة الواقع من جهة تعدّد التكليف.

نعم ، لو قلنا : بأنّ مؤديات الطرق الشرعية أحكام واقعية ثانوية لزم من ذلك انقلاب التكليف إلى مؤديات تلك الطرق ، وكان أوجه الاحتمالات حينئذ الثاني منها.

______________________________________________________

على ترك الطريق (يثبت واقعا من باب التجرّي) بناء على حرمته ، لكنا ذكرنا في أول الكتاب ان التجري له قبح فاعلي لا فعلي حتى نقول بحرمته.

(ومن هنا) أي : مما ذكرنا : من ان مؤدّى الطريق ليس مجعولا في مقابل الواقع حتى يكون هناك تكليفان : تكليف بالواقع ، وتكليف بالطريق (يظهر : انّه لا يتعدد العقاب مع مصادفة الواقع) بأن كانت الفتوى مصادفة للواقع ، وذلك (من جهة تعدّد التكليف) بأن يقال : انه خالف الواقع فعليه عقاب ، وخالف الطريق فعليه عقاب آخر ، فان الأمر ليس كذلك ، بل انه لو خالف الواقع كان عليه عقاب واحد ، ولو لم يخالف الواقع لم يكن عليه شيء.

(نعم ، لو قلنا : بأنّ مؤديات الطرق الشرعية أحكام واقعية ثانوية) وان الشارع يريدها جزما لمصلحة في السلوك ، كما لم يستبعده المصنّف في باب القطع (لزم من ذلك) فيما إذا خالف الطريق الواقع (انقلاب التكليف إلى مؤديات تلك الطرق) فاللازم على العامي حينئذ ان يعمل بتلك الطرق ، فان عمل بها اثيب وان لم يعمل بها عوقب.

(و) عليه : فاذا قلنا بانقلاب التكليف (كان أوجه الاحتمالات) المتقدمة (حينئذ) أي : حين قلنا بالانقلاب : الاحتمال (الثاني منها) أي : من تلك

٢٩٧

.................................................................................................

______________________________________________________

الاحتمالات الأربعة وهو : أن يكون العبرة بموافقة الطريق ومخالفته لا بموافقة الواقع ومخالفته ، فان وافق الطريق أثيب ، وان خالف الطريق عوقب ، من غير فرق بين ان يكون الطريق موافقا للواقع أو مخالفا له.

لكن قد تقدّم في أول الكتاب : ان انقلاب التكليف إلى مؤديات الطرق خلاف المشهور ، بل الظاهر من الأدلة : ان الواقع هو المراد لا غيره ، وإنّما الطريق جعل للوصول إليه.

نعم ، لا إشكال في انه لو وافق الطريق ولم يصادف الواقع ، كان له ثواب الانقياد ، كما انه لو خالف الطريق ولم يكن موافقا للواقع كان عليه عقاب التجري عند من يقول بحرمة التجري ، فمن يرى ان التجري محرما يرى حرمة المخالفة من جهة التجري.

والحاصل : ان ترتيب جميع آثار الوجوب على الطريق مشروط بعدم انكشاف الخلاف ، إلّا أثر العقاب على الترك فانه ثابت من باب التجري بناء على كون التجري حراما موجبا للعقاب ، فاستحقاق العقاب فيه ليس مشروطا بعدم انكشاف الخلاف ، بل هو ثابت مطلقا على القول بكون التجري حراما سواء انكشف الخلاف أم لم ينكشف.

نعم ، لو اخترنا ما ذهب إليه صاحب الفصول : من ان التكليف الفعلي هو مؤدّى الطريق وان الواقع بما هو واقع ليس مكلفا به ، لزم من ذلك أيضا ، كما كان يلزم من القول بالمصلحة السلوكية : انقلاب التكليف إلى مؤدّيات الطرق ، فيكون الأوجه حينئذ أيضا الاحتمال الثاني المذكور في أول العنوان وهو : كون العبرة في باب المؤاخذة موافقة الطريق وعدم موافقته ، لا موافقة الواقع وعدم موافقته.

٢٩٨

الثاني :

______________________________________________________

الأمر (الثاني) من امور الخاتمة المتعلقة بالجاهل العامل قبل الفحص هو : ان المصنّف بعد ان ذكر في الأمر الأوّل الملازمة بين الحكم الوضعي والحكم التكليفي في أعمال الجاهل المقصر ، وانه كلما كان العمل باطلا استحق عليه العقاب ، وكلما كان صحيحا لم يكن عليه عقاب ، تعرض هنا إلى ذكر استثناء للملازمة ، فقد ذكر الأصحاب موارد للاستثناء ، منها في باب الحج حيث ورد فيه : «أيما امرئ ركب أمرا بجهالة فلا شيء عليه» (١).

هذا ، لكن المصنّف اكتفى بذكر موردين من موارد انفكاك الملازمة بين الحكم الوضعي والحكم التكليفي ، والانفكاك بمعنى : أن يكون العمل صحيحا مع استحقاق العقاب عليه ، والموردان هما : مواد القصر والاتمام ، ومورد الجهر والاخفات ، فمن جهر بالقراءة في موضع الاخفات وان كان جهله بالحكم عن تقصير ، صحت صلاته ، وكذلك العكس ، وكذا من أتم صلاته في موضع القصر صحت صلاته وان كان جهله بالحكم عن تقصير ، دون العكس غير انه يكون مستحقا للعقاب في الموردين.

أمّا استحقاق العقاب : فلتسالم الأصحاب عليه ، واما صحة الصلاة : فلانه بالاضافة إلى وجود الاجماع وجود أخبار صحيحة تدل على ذلك.

مثلا : في صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم «قالا : قلنا لأبي جعفر عليه‌السلام فيمن صلّى في السفر أربعا : أيعيد أم لا؟ قال عليه‌السلام : ان قرئت عليه آية التقصير وصلى

__________________

(١) ـ تهذيب الاحكام : ج ٥ ص ٧٢ ح ٤٧ ب ١ وفيه (رجل) ، وسائل الشيعة : ج ٨ ص ٢٤٨ ب ٣٠ ح ١٠٥٥٨ وج ١٢ ص ٤٨٩ ب ٤٥ ح ١٦٨٦١ وج ١٣ ص ١٥٨ ب ٨ ح ١٧٤٧٤.

٢٩٩

قد عرفت : أنّ الجاهل العامل بما يوافق البراءة مع قدرته على الفحص واستبانة الحال ، غير معذور ، لا من حيث العقاب ، ولا من جهة سائر

______________________________________________________

أربعا أعاد ، وان لم يكن قرئت عليه ولم يعلمها فلا إعادة عليه» وزاد في بعضها : «وفسرت له» (١) عقيب قوله : «ان كانت قرئت عليه آية التقصير».

وفي صحيحة أخرى لزرارة أيضا : «قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : رجل جهر بالقراءة فيما لا ينبغي أن يجهر فيه ، أو أخفى فيما لا ينبغي الاخفاء فيه؟ فقال عليه‌السلام : أي ذلك فعل متعمدا فقد نقض صلاته وعليه الاعادة ، وان فعل ذلك ناسيا أو ساهيا أو لا يدري ، فلا شيء عليه فقد تمت صلاته» (٢).

هذا ، وقد أشكل بعض على صحة الصلاة مع وجود العقاب بما سيذكره المصنّف قريبا ان شاء الله تعالى ، والظاهر : ان أول من أشكل بذلك هو السيد الرضي ، حيث اعترض على أخيه السيد المرتضى قائلا : بأن الصحة لا تجامع مع ما أجمعنا عليه من بطلان صلاة من لا يعرف أحكامها ، والجهل بأعداد الركعات جهل بأحكامها ، فلا تكون الصلاة صحيحة مجزية.

وكيف كان : فانه (قد عرفت : انّ الجاهل العامل بما يوافق البراءة مع قدرته على الفحص واستبانة الحال ، غير معذور) لأنه جاهل مقصّر والجاهل المقصّر معاقب ، وإذا كان معاقبا كان لازمه بطلان عمله.

إذن : فالجاهل المقصر غير معذور (لا من حيث العقاب ، ولا من جهة سائر

__________________

(١) ـ تهذيب الاحكام : ج ٣ ص ٢٢٦ ب ١٣ ح ٨٠ ، من لا يحضره الفقيه : ج ١ ص ٤٣٥ ح ١٢٦٥ ، وسائل الشيعة : ج ٨ ص ٥٠٧ ب ١٧ ح ١١٣٠٠.

(٢) ـ تهذيب الاحكام : ج ٢ ص ١٦٢ ب ٢٣ ح ٩٣ ، وسائل الشيعة : ج ٦ ب ٢٦ ص ٨٦ ح ٧٤١٢.

٣٠٠