الوصائل الى الرسائل - ج ١٠

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل الى الرسائل - ج ١٠

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-10-4
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

وجب التصفية ، لتحصيل العلم بالمقدار ، أو الاحتياط باخراج ما تيقن معه البراءة.

نعم ، استشكل في التحرير في وجوب ذلك ، وصرّح غير واحد من هؤلاء ـ مع عدم العلم ببلوغ الخالص النصاب ـ بأنّه لا يجب التصفية ، والفرق بين المسألتين مفقود إلّا ما ربما يتوهّم : من أنّ العلم بالتكليف ثابت مع العلم ببلوغ النصاب ،

______________________________________________________

(وجب التصفية) إذا لم يمكن العلم بمقدار الخالص عن طريق آخر ، ووجوب التصفية إنّما هو (لتحصيل العلم بالمقدار) الخالص من الفضة حتى يؤدي زكاته حسب ما بلغ من النصاب.

(أو الاحتياط باخراج ما تيقن معه البراءة) بأن يعطي الزائد على المتيقن.

(نعم ، استشكل في التحرير في وجوب ذلك) أي : في وجوب أحد الأمرين : من الفحص أو الاحتياط ، واحتمل كفاية إخراج ما يتيقن وجوبه ، لا ما يتيقن معه البراءة.

هذا (وصرّح غير واحد من هؤلاء ـ مع عدم العلم ببلوغ الخالص النصاب ـ : بأنّه لا يجب التصفية) بل يجري البراءة عن وجوب أصل الزكاة.

(والفرق بين المسألتين) : عدم العلم بمقدار النصاب ، وعدم العلم ببلوغه النصاب (مفقود) لأن كلا منهما شبهة موضوعية وجوبية ، فامّا ان يجب الفحص فيهما معا أو لا يجب الفحص فيهما معا ، فلا فارق بين المسألتين (إلّا ما ربما يتوهّم : من انّ العلم بالتكليف ثابت) إجمالا (مع العلم ببلوغ النصاب) والشك في مقداره ، فيلزم الخروج عن عهدة التكليف الثابت ، فيكون من الشك في المكلّف به ـ مثلا ـ.

٣٢١

بخلاف ما لم يعلم به.

وفيه : أنّ العلم بالنصاب لا يوجب الاحتياط مع القدر المتيقن ودوران الأمر بين الأقل والأكثر مع كون الزائد على تقدير وجوبه تكليفا مستقلا ، ألا ترى أنّه لو علم بالدين وشك في قدره ، لم يوجب ذلك الاحتياط والفحص ،

______________________________________________________

(بخلاف ما لم يعلم به) أي : ببلوغه النصاب أصلا ، فيكون من الشك في التكليف ـ مثلا ـ فيجري فيه البراءة عن وجوب أصل الزكاة ، لكن قد عرفت ان هذا الفارق المتوهم غير فارق كما قال :

(وفيه) أوّلا : (انّ العلم بالنصاب لا يوجب الاحتياط مع القدر المتيقن) لأنّ المفروض : انه يعلم بلوغ النصاب الأوّل ولا يعلم الزائد عليه ، فاللازم أن يأتي بالقدر المتيقن ويجري البراءة عن الزائد.

(و) فيه ثانيا : ان العلم بالنصاب لا يوجب الاحتياط مع (دوران الأمر بين الأقل والأكثر مع كون الزائد على تقدير وجوبه) أي : تقدير وجوب ذلك الزائد (تكليفا مستقلا) غير ارتباطي.

إذن : فالعلم بالنصاب فيما نحن فيه يكون من قبيل الدّين المردّد بين الدينار والدينارين ، لا من قبيل الصلاة المرددة بين تسعة أجزاء أو عشرة أجزاء ، فانه حتى ولو قلنا بالاحتياط في الأقل والأكثر الارتباطيين ، لا نقول بالاحتياط في الأقل والأكثر الاستقلاليين ، وما نحن فيه من قبيل الاستقلاليين ، فاذا شك في الزائد كان اللازم عليه إعطاء الأقل وإجراء البراءة عن الأكثر.

(ألا ترى انّه لو علم بالدين وشك في قدره ، لم يوجب ذلك الاحتياط والفحص) بل يجري البراءة من الزائد.

لكنّا ذكرنا سابقا : إنّ الاحتياط واجب في هذا المورد أيضا ، لأن الاحتياط

٣٢٢

يمنع من إجراء البراءة قبل الفحص لمنع منها بعده ، إذ العلم الاجمالي لا يجوز معه الرجوع إلى البراءة ولو بعد الفحص.

______________________________________________________

طريق العقلاء في الاطاعة فاذا شك في انه مديون لزيد دينار أو دينارين وهو يتمكن من المراجعة والفحص فهل يقال بالبراءة عن الدينار المشكوك فيه؟ وكذا إذا شك في ان ثلث والده مائة دينار ، أو مائتا دينار ، فهل يقال بالبراءة من المائة المشكوك فيها؟ إلى غيرها من الأمثلة.

وفيه ثالثا : ان العلم بالنصاب هنا لا يلزم منه علم إجمالي معتبر حتى يوجب الاحتياط قبل الفحص الاجمالي غير المعتبر (يمنع من إجراء البراءة قبل الفحص لمنع منها) أي : من البراءة (بعده) أي : بعد الفحص أيضا (إذ العلم الاجمالي) المعتبر (لا يجوز معه الرجوع إلى البراءة ولو بعد الفحص).

والحاصل : إنه إذا كان هناك أقل وأكثر ، وكان الأقل متيقنا والزائد مشكوكا ، كان الزائد موردا للبراءة ، لأنه من الشك في التكليف.

وامّا إذا لم يكن هناك قدر متيقن بأن كان الواجب مشتبها بينهما ، كان المورد من الشك في المكلّف به ، فلا يرجع فيه إلى البراءة حتى بعد الفحص ، إذ حال قبل الفحص وبعده سواء ، لأن الفحص ليس له موضوعية ، وإنّما الموضوعية تكون للشك في التكليف أو المكلّف به ، فانه مع العلم بنجاسة أحد الإناءين ـ مثلا ـ الذي هو شك في المكلّف به ، لا يجوز الرجوع إلى البراءة حتى بعد الفحص إذا كان الشك في النجس باقيا على حاله ، بينما الشك في حرمة التتن الذي هو شك في التكليف يرجع فيه بعد الفحص إلى البراءة وان كان الشك فيه باقيا.

إذن : فالحكم بعدم جواز إجراء الأصل قبل الفحص ، وجوازه بعده ، ليس على وتيرة واحدة في مورد العلم الاجمالي.

٣٢٣

وقال في التحرير في باب نصاب الغلات : «ولو شك في البلوغ ، ولا مكيال هنا ولا ميزان ، ولم يوجد سقط الوجوب دون الاستحباب» ، انتهى.

وظاهره : جريان الأصل مع تعذر الفحص وتحصيل العلم.

وبالجملة فما ذكروه من إيجاب تحصيل العلم بالواقع مع التمكّن في

______________________________________________________

هذا ، لكن لا يخفى ان مرادهم من الفحص الذي لا يجوز العمل قبله هو : الفحص الذي يرتفع به الشك في المكلّف به ويتبدل إلى الشك في التكليف بالنسبة إلى الزائد ، امّا إذا بقي الشك على حاله فاللازم الاحتياط كما هو طريق الطاعة.

(وقال في التحرير في باب نصاب الغلات : ولو شك في البلوغ) أي : بلوغ غلّته بقدر يجب فيه الزكاة أم لا (ولا مكيال هنا ، ولا ميزان ، ولم يوجد) بعدها ميزان ولا مكيال حتى يكتشف بهما بلوغ غلته النصاب ، وعدم بلوغها (سقط الوجوب دون الاستحباب» (١) ، انتهى) كلام التحرير.

(وظاهره : جريان الأصل) في الشبهة الموضوعية الوجوبية (مع تعذر الفحص و) تعذر (تحصيل العلم).

لكن يمكن أن يقال في هذا الفرع : بالتنصيف بين مالك الغلة ومستحق الزكاة ، وذلك لقاعدة العدل ان قلنا بأنها طريق امتثال التكليف والطاعة في الامور المالية ، وذلك للفرق بين أن يشك الانسان في انه هل عليه قضاء أم لا؟ أو ان القضاء الذي عليه خمسة أو عشرة؟ حيث يجري البراءة عن أصل القضاء في الأوّل وعن الزائد في الثاني ، وبين ان يشك الانسان في حقوق الناس كما نحن فيه.

(وبالجملة : فما ذكروه من إيجاب تحصيل العلم بالواقع مع التمكّن في

__________________

(١) ـ تحرير الأحكام : ص ٦٢.

٣٢٤

بعض افراد الاشتباه في الموضوع مشكل.

وأشكل منه : فرقهم بين الموارد ، مع ما تقرّر عندهم : من أصالة نفي الزائد عند دوران الأمر بين الأقل والأكثر.

وأمّا ما ذكره صاحب المعالم رحمه‌الله وتبعه عليه المحقق القمي رحمه‌الله : من تقريب الاستدلال بآية التثبّت على ردّ خبر مجهول الحال من جهة تعلق الأمر بالموضوع الواقعي المقتضي وجوب الفحص عن مصاديقه ، وعدم الاقتصار على القدر المعلوم ، فلا يخفى ما فيه ،

______________________________________________________

بعض افراد الاشتباه في الموضوع مشكل) كما في مثل الشك في الاستطاعة ، والشك في الزائد على النصاب الأوّل ـ مثلا ـ ووجه الاشكال هو ما تقدّم : من جريان البراءة في الشبهة الموضوعية الوجوبية لاطلاق أدلتها.

(وأشكل منه : فرقهم بين الموارد) على ما عرفت : من انهم فرّقوا بين الشك في أصل النصاب ، فلم يوجبوا الفحص فيه ، والشك في النصاب الزائد ، فأوجبوا الفحص فيه ، مع انه لا فارق بين المسألتين ، لأن كلتيهما من الشبهة الموضوعية الوجوبية فتفريقهم بينها مشكل (مع ما تقرّر عندهم : من أصالة نفي الزائد عند دوران الأمر بين الأقل والأكثر) خصوصا في غير الارتباطيين.

(وأمّا ما ذكره صاحب المعالم وتبعه عليه المحقق القمي رحمه‌الله : من تقريب الاستدلال بآية التثبّت على ردّ خبر مجهول الحال من جهة تعلق الأمر بالموضوع) الذي هو الفاسق (الواقعي) ذلك التعلق (المقتضي وجوب الفحص عن مصاديقه وعدم الاقتصار على القدر المعلوم) منه ابتداء ، وذلك على ما عرفت تفصيله فيما سبق (١) (فلا يخفى ما فيه).

__________________

(١) ـ انظر معالم الدين : ص ٢٠١.

٣٢٥

لأن ردّ خبر مجهول الحال ليس مبنيّا على وجوب الفحص عند الشك ، وإلّا لجاز الأخذ به ، ولم يجب التبيّن فيه بعد الفحص واليأس عن العلم بحاله ، كما لا يجب الاعطاء في المثال المذكور بعد الفحص عن حال المشكوك وعدم العلم باجتماع الوصفين فيه ،

______________________________________________________

وإنّما قال : لا يخفى ما فيه (لأن ردّ خبر مجهول الحال) وان كان قطعيا ، لكنه (ليس مبنيّا على وجوب الفحص عند الشك) في الموضوع من فسق الخبر وعدمه بل ردّه مبني على اشتراط قبول الخبر بعدالة المخبر.

(وإلّا) بأن كان الرد مبنيا على وجوب الفحص عند الشك في الموضوع (لجاز الأخذ به ، ولم يجب التبيّن فيه بعد الفحص واليأس عن العلم بحاله) أي : بحال المخبر ، وانه فاسق أم لا؟.

(كما لا يجب الاعطاء) للزكاة (في المثال المذكور) من نصاب الغلّات (بعد الفحص عن حال المشكوك) وهو : مقدار الغلّة (وعدم العلم) بحاله فان التكليف بالزكاة ينتفي (باجتماع الوصفين) : الفحص واليأس عند الشك (فيه) أي : في بلوغ الغلّة مقدار النصاب أم لا؟ وحينئذ كما لا يجب الزكاة بعد الفحص هنا كذلك لا يجب التبين في الخبر بعد الفحص هناك.

والحاصل : ان صاحب المعالم يقول : ان الفحص لازم لأن في الآية تعليق ، والمصنّف يقول : ان الفحص لازم ، لأن الأصل عدم الحجية ، فيكون لازم قول المعالم : انه يجوز الأخذ بالخبر وان لم يظهر : بعد الفحص انه عادل بل بقي مجهولا ، بينما لازم قول الشيخ المصنّف : انه لا يجوز الأخذ به إذا لم يظهر بعد الفحص انه عادل ، لأن الأصل عدم الحجية ، فما لم تثبت الحجية لا يجوز الأخذ به.

٣٢٦

بل وجه ردّه قبل الفحص وبعده أنّ وجوب التبيّن شرطي ، ومرجعه إلى اشتراط قبول الخبر في نفسه من دون اشتراط التبيّن فيه بعدالة المخبر.

فاذا شك في عدالته شك في قبول خبره في نفسه ، والمرجع في هذا الشك والمتعيّن فيه عدم القبول ، لأن عدم العلم بحجية شيء كاف في عدم حجيته.

______________________________________________________

وعليه : فان وجه الرد لخبر مجهول الحال ليس هو وجوب الفحص عند الشك في الموضوع حتى يلزم قبوله بعد الفحص واليأس عن معرفة حاله (بل وجه ردّه قبل الفحص وبعده) أي : سواء لم نفحص عن حال المخبر المجهول الحال أم فحصنا عن حاله ولم نعرف انه فاسق أو عادل فانه يجب ردّ خبره.

وأما وجه ردّه فهو : (أنّ وجوب التبيّن) في خبر الفاسق ليس وجوبا نفسيا كوجوب الزكاة حتى ينتفي بعد الفحص واليأس عنه ، بل للتبين وجوب (شرطي ، ومرجعه) أي : مرجع الوجوب الشرطي (إلى اشتراط قبول الخبر في نفسه) أي : (من دون اشتراط التبيّن فيه) فان قبوله مشروط (بعدالة المخبر) فقط.

وعليه : (فاذا شك في عدالته) كان معناه : انه (شك في قبول خبره في نفسه) ومن دون اشتراطه بالتبين (والمرجع في هذا الشك والمتعيّن فيه) عند العمل هو : (عدم القبول) وردّ الخبر سواء فحص عن حال المخبر ولم يصل إلى انه عادل أو فاسق ، أو لم يفحص عنه؟ (لأن عدم العلم بحجية شيء كاف في عدم حجيته).

إذن : فالتبيّن في خبر مجهول الحال وردّه بعد الفحص لو حصل له اليأس عن معرفة حاله قطعي ، إلّا ان وجهه ليس ما ذكره المعالم ، بل هو ما ذكره المصنّف بقوله : «بل وجه ردّه ان وجوب التبين شرطي ..».

٣٢٧

ثمّ الذي يمكن أن يقال في وجوب الفحص ، أنّه إذا كان العلم بالموضوع المنوط به التكليف يتوقف كثيرا على الفحص ، بحيث لو أهمل الفحص لزم الوقوع في مخالفة التكليف كثيرا ، تعيّن هنا بحكم العقلاء : اعتبار الفحص ثم العمل بالبراءة ،

______________________________________________________

(ثم) ان المصنّف لما نقل عن المشهور عدم وجوب الفحص في الشبهة الموضوعية الوجوبية ، ونقل عن المعالم وغيره ما يظهر منهم وجوب الفحص ، فصّل هو في المسألة بين ما يقع المكلّف بسببه في مخالفة التكليف كثيرا فألزم فيه الفحص ، وبين ما ليس كذلك فلم يلزم الفحص فيه فقال :

إن (الذي يمكن ان يقال في وجوب الفحص) في الشبهات الموضوعية الوجوبية هو : (انّه إذا كان العلم بالموضوع المنوط به التكليف يتوقف كثيرا على الفحص ، بحيث لو أهمل الفحص) وأخذ بالبراءة (لزم الوقوع في مخالفة التكليف كثيرا) فحيث انا نعلم بأن الشارع لا يرضى لنا ذلك (تعيّن هنا بحكم العقلاء : اعتبار الفحص) أولا (ثم العمل بالبراءة) إذا لم يؤدّ الفحص إلى العلم به.

مثلا : عدم الفحص عن أصل النصاب أو مقداره ، وعن الزيادة في المئونة في باب الخمس وعدمها ، وعن الاستطاعة المالية والبدنية وتخلية السرب في الحج وعدمها ، وغير ذلك توقع كثيرا في مخالفة التكليف.

وكذا عدم الفحص عند الزواج فيما إذا تداول الرضاع بين قبيلة ، فانه يوقع كثيرا من أهل تلك القبيلة في الزواج المحرّم فيجب فيها الفحص ، وهذه الأمثلة للفحص نوعا.

وقد يكون الفحص من جهة الشخص ، كما إذا كان هناك شخص قد تمتع بجملة من نساء القرية بحيث أصبح في كل ثلاث منهنّ متعة ـ فرضا ـ فان

٣٢٨

كبعض الأمثلة المتقدمة.

فانّ إضافة جميع علماء البلد أو أطبّائهم ، لا يمكن للشخص الجاهل إلّا بالفحص ، فاذا حصل العلم ببعض واقتصر على ذلك ، نافيا لوجوب إضافة من عداه بأصالة البراءة من غير تفحص زائد على ما حصّل به المعلومين ، عدّ مستحقا للعقاب والملامة عند انكشاف ترك إضافة من يتمكن من تحصيل العلم به بفحص زائد.

ومن هنا يمكن أن يقال في مثال الحج المتقدم : إنّ العلم بالاستطاعة في أوّل أزمنة حصولها يتوقف غالبا على المحاسبة ،

______________________________________________________

ابن ذلك الشخص إذا أراد أن يتزوج من تلك القرية لزم عليه الفحص حتى لا تكون التي يريد زواجها زوجة أبيه ، و (كبعض الأمثلة المتقدمة).

وعليه : (فانّ إضافة جميع علماء البلد أو أطبّائهم ، لا يمكن للشخص) المأمور بضيافتهم (الجاهل) لهم (إلّا بالفحص ، فاذا حصل العلم ببعض واقتصر على ذلك ، نافيا لوجوب إضافة من عداه بأصالة البراءة من غير تفحص زائد على ما حصّل به المعلومين ، عدّ) هذا الشخص (مستحقا للعقاب والملامة عند انكشاف ترك إضافة من يتمكن من تحصيل العلم به) تمكنا (بفحص زائد).

وإنّما يعدّ مستحقا للعقاب على ذلك لأنه لو فحص لظفر على علماء أو أطباء أكثر مما كان يعلمهم قبل الفحص.

(ومن هنا يمكن أن يقال في مثال الحج المتقدم : إنّ العلم بالاستطاعة في أوّل أزمنة حصولها يتوقف غالبا على المحاسبة) وكذا بالنسبة إلى مثل الخمس والزكاة أصلا ومقدارا.

٣٢٩

فلو بنى الأمر على تركها ونفى وجوب الحج بأصالة البراءة ، لزم تأخير الحج عن أول سنة الاستطاعة بالنسبة إلى كثير من الأشخاص ، لكنّ الشأن في صدق هذه الدعوى.

______________________________________________________

وعليه : (فلو بنى الأمر على تركها) أي : ترك المحاسبة (ونفى وجوب الحج) عنه ، أو نفى الخمس والزكاة ـ مثلا ـ (بأصالة البراءة ، لزم تأخير الحج عن أول سنة الاستطاعة بالنسبة إلى كثير من الأشخاص) ولزم ترك الخمس والزكاة رأسا ، وذلك فيمن لا يعلم هل ربح شيئا أم لا في الخمس؟ أو هل بلغت غلّته مقدار النصاب أم لا في الزكاة؟ ولزم ترك مقدار من الخمس والزكاة فيمن علم الأقل وشك في الأكثر وذلك بالنسبة إلى كثير من الناس.

(لكنّ الشأن) والكلام إنّما هو (في صدق هذه الدعوى) أي : دعوى لزوم تأخير الحج ، وترك الخمس والزكاة وغير ذلك من الواجبات المتوقفة على المحاسبة بالنسبة إلى كثير من الناس ، فان لم تكن الدعوى صادقة ، فهل يعدّ اجراء البراءة في مثلها مخالفة للمولى وخلاف طريقه العقلاء؟ وان كانت الدعوى صادقة ، فلما ذا اشتهر بينهم عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية الوجوبية؟.

هذا إضافة إلى انه ينتفض بمثل «كل شيء حلال» (١) و «كل شيء طاهر» (٢) و «الأشياء كلها على ذلك حتى تستبين أو تقوم به البينة» (٣) و «لم سألت؟» (٤)

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٣١٣ ح ٤٠ ، تهذيب الاحكام : ج ٧ ص ٢٢٦ ب ٢١ ح ٩ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ٨٩ ب ٤ ح ٢٢٠٥٣ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٧٣ ب ٣٣ ح ١٢.

(٢) ـ مستدرك الوسائل : ج ١ ص ١٩٠ ب ٤ ح ٣١٨ ، تهذيب الاحكام : ج ١ ص ٢٨٥ ب ١٢ ح ١١٩.

(٣) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٣١٣ ح ٤٠ ، تهذيب الاحكام : ج ٧ ص ٢٢٦ ب ٢١ ح ٩ ، وسائل الشيعة : ج ٧ ص ٨٩ ب ٤ ح ٢٢٠٥٣ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٧٣ ب ٣٣ ح ١٢.

(٤) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٥٦٩ ح ٥٥ ، وسائل الشيعة : ج ٢٠ ص ٣٠١ ب ٢٥ ح ٢٥٦٧٦.

٣٣٠

وأمّا ما استند إليه المحقق المتقدم : من أنّ الواجبات المشروطة يتوقف وجوبها على وجود الشرط لا العلم بوجوده ، ففيه : أنّه مسلّم ولا يجدي ، لأنّ الشك في وجود الشرط يوجب الشك في وجود المشروط وثبوت التكليف ، والأصل عدمه.

غاية الأمر : الفرق بين اشتراط التكليف بوجود الشيء واشتراطه بالعلم به ، إذ مع عدم العلم في الصورة الثانية يقطع بانتفاء التكليف

______________________________________________________

في النكاح حيث يقع في قلبه انها ذات زوج وغير ذلك ، مع وضوح : انه إذا حكم بالحل والطهارة أدّى إلى مخالفة الواقع كثيرا.

(وأمّا ما استند إليه المحقق المتقدم) أي : القمي قدس‌سره (: من انّ الواجبات المشروطة يتوقّف وجوبها على وجود الشرط) واقعا ، فيلزم الفحص حتى يتبين ان الشرط موجود واقعا أم لا (لا العلم بوجوده) فقط ، فانه لا يكفي العلم بوجود الشرط من دون تحققه واقعا.

(ففيه : انّه مسلّم) لأن الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعية لا المعاني المعلومة للانسان (و) لكن هذا المقدار (لا يجدي) في إيجاب الفحص عند الشك في الشبهة الوجوبية الموضوعية (لأنّ الشك في وجود الشرط) وعدمه واقعا ، لا يوجب الفحص ، بل (يوجب الشك في وجود المشروط و) في (ثبوت التكليف) فانّ الشك في الشرط شك في المشروط. (والأصل عدمه) أي : عدم المشروط وعدم التكليف.

(غاية الأمر : الفرق بين اشتراط التكليف بوجود الشيء) واقعا (واشتراطه بالعلم به) أي : العلم بوجود الشيء فقط ، فان بينهما فرقا (إذ مع عدم العلم في الصورة الثانية) أي : صورة اشتراط الشيء بالعلم به (يقطع بانتفاء التكليف)

٣٣١

من دون حاجة إلى الأصل ، وفي الصورة الاولى يشك فيه ، فينفى بالأصل.

______________________________________________________

لأن العلم لما لم يكن موجودا لم يكن المشروط موجودا (من دون حاجة إلى الأصل) بأن يجري أصل البراءة حتى ينفي بسببه التكليف.

(وفي الصورة الاولى) وهي : اشتراط التكليف بوجود الشيء واقعا ، فانه (يشك فيه) أي : في التكليف فيحتاج في إحراز عدمه إلى إجراء أصل البراءة (فينفى بالأصل).

مثلا : إذا قال المولى : يجب عليك الحج ان علمت الاستطاعة ، بأن كان الشرط : العلم ، فاذا لم يعلم بها قطع بعدم الحج عليه ، لأنه لم يقطع بعدم حصول الشرط ، فيحتاج لاحراز عدم الحج عليه إلى إجراء البراءة حتى يقطع بعدم وجوب الحج عليه.

إذن : فهناك بين الصورتين فرق ، ففي الاولى يعلم بعدم الشرط فيقطع بعدم المشروطة ، وفي الثانية : يشك في عدم الشرط ، وعند الشك يحتاج إلى أصل البراءة.

وممّا ذكرنا : يظهر وجوب الفحص عن البلوغ وعدمه ، وعن الاحتلام في النوم وعدمه ، وعن خروج الدم من بدنه إذا كان فيه قرح أو جرح ، ما أشبه ذلك ، وعن التصاق شيء بموضع وضوئه أو غسله من قير ونحوه إذا كان عمله ـ مثلا ـ يقتضي ذلك ، وعن حصول الحيض والاستحاضة وعدمه ، وعن الحمل وعدمه ، إلى غيرها مما يكون احتمال الامور المذكورة فيها قريبا.

هذا تمام الكلام في أصل وجوب الفحص عن الدليل في الشبهة الحكمية بعد بيان حكم الفحص في الشبهة الموضوعية أيضا.

٣٣٢

وأمّا الكلام في مقدار الفحص

فملخصه : أنّ حدّ الفحص هو اليأس عن وجدان الدليل فيما بأيدينا من الأدلة ، ويختلف ذلك باختلاف الأعصار ، فانّ في زماننا هذا إذا ظنّ المجتهد بعدم

______________________________________________________

(وأمّا الكلام في مقدار الفحص) وانه هل يجب إلى ان يقطع بأنه لا دليل ، أو يظن بذلك أو يطمئن بعدمه؟ احتمالات ثلاثة.

الظاهر هو : الثالث كما قال : (فملخصه : أنّ حدّ الفحص هو اليأس عن وجدان الدليل فيما بأيدينا من الأدلة) واليأس يحصل بالاطمينان بالعدم.

هذا (ويختلف ذلك) اليأس (باختلاف الأعصار ، فانّ في) زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مقدار الفحص عن الحكم بالنسبة إلى من كان عند الرسول حضور مجلسه والسؤال عنه ، وبالنسبة إلى من كان في البلاد البعيدة عن الرسول كالبحرين واليمن وما أشبه الرجوع إلى نائبه.

وكذا في إعصار الأئمة عليه‌السلام ، فان على معاصريهم الرجوع اليهم والسؤال عنهم ، أو السؤال عن الوسائط المعتبرة الذين أمروا عليهم‌السلام بالرجوع إليهم حيث قالوا : «لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنا ثقاتنا» (١) أو الرجوع إلى الكتب المعتمدة كالاصول الأربعمائة التي كتبت في زمانهم عليهم‌السلام.

إذن : فحال اولئك حال العوام في زماننا حيث انهم مأمورون بالسؤال عن الفقيه ، أو من يعرف فتواه وهو ثقة ، أو الرجوع إلى رسالته العملية.

وأمّا في (زماننا هذا) بالنسبة لمن يريد الاجتهاد ، فانه (إذا ظنّ المجتهد بعدم

__________________

(١) ـ وسائل الشيعة : ج ١ ص ٣٨ ب ٢ ح ٦١ وج ٢٧ ص ١٥٠ ب ١١ ح ٣٣٤٥٥ ، رجال الكشي : ص ٥٣٦ ، بحار الانوار : ج ٥ ص ٣١٨ ب ٤ ح ١٥.

٣٣٣

وجود دليل التكليف في الكتب الأربعة وغيرها من الكتب المعتبرة في الحديث التي يسهل تناولها على نوع أهل العصر ، على وجه صار ميئوسا ، كفى ذلك منه في اجراء البراءة.

______________________________________________________

وجود دليل التكليف في الكتب الأربعة وغيرها من الكتب المعتبرة في الحديث) كعيون أخبار الرضا ، وكمال الدين ، وأمالي الصدوق ، وغيرها من الكتب (التي يسهل تناولها على نوع أهل العصر) فان المجتهد إذا راجعها وظن ظنا اطمينانيا بعدم الدليل (على وجه صار ميئوسا) من الدليل (كفى ذلك منه في اجراء البراءة) لكن مع إضافة كتب الفتوى في كل زمان اليها.

وإنّما قلنا مع إضافة كتب الفتوى حتى يعلم ان الخبر ـ مثلا ـ مشهور ، أو معرض عنه ، أو مجمع عليه ، أو مجمع على خلافه ، وغير ذلك مما هو موجود في أمثال كتب الشيخ وابن إدريس والفاضلين والشهيدين ومن إليهم ، وفي زماننا أمثال الجواهر والحدائق والمستند وما إلى ذلك أيضا ، ويضاف عليه معرفة الرجال بقدر الحاجة ، فان اللازم هو الفحص بقدر ما يراه العقلاء لازما ، والعقلاء لا يرون اللزوم بأكثر من هذا.

لا يقال : لا شك في ان الأحكام ما كانت بالقدر الكافي في زمانهم عليهم‌السلام ، كما لا تحصل بالقدر الكافي بالنسبة إلى كثير من الناس حتى في زماننا هذا ، خصوصا بالنسبة إلى أهل القرى والأرياف.

لأنّه يقال : ان الله سبحانه جعل الأحكام حسب المصالح والمفاسد ، ولذا كان لكل شيء حكم ، امّا من لا يقدر على تحصيله بالطرق المتعارفة فهو معذور ، كما انه ليس على المجتهد أكثر من الاطمينان.

ومنه يظهر جواب انه لما ذا كان الاجتهاد سهلا بالنسبة إلى زمان الشيخ

٣٣٤

وأمّا عدم وجوب الزائد ، فللزوم الحرج وتعطيل استعلام سائر التكاليف ، لأن انتهاء الفحص في واقعة إلى حدّ يحصل العلم بعدم وجود دليل التكليف يوجب الحرمان من الاطلاع على دليل التكليف في غيرها من الوقائع ،

______________________________________________________

وما بعده ، صعبا بالنسبة إلى زماننا؟ فان جوابه : ان الاطمينان كان يحصل بالشيء القليل في ذلك الزمان ، ولا يحصل بمثله في هذا الزمان حيث توسع فيه الفقه والاصول والرجال وما أشبه ، فيكون مثله مثل شخصين : أحدهما في البلد والآخر في القرية حيث يحصل الاطمينان لمن في القرية بطبيب القرية ، بينما لا يحصل الاطمينان لمن في البلد بطيب القرية.

والحاصل : ان حكم الله لم يتغير بالنسبة إلى الناس ، وإنّما الذي يتغير هو الامكانات ، سواء بالنسبة إلى المجتهد أم المقلد ، وهذا جار في كل شيء حتى في العاديات ، فان ضيافة الشخص الكريم في الصحراء لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه ضيافة نفس ذلك الشخص في البلد.

(وامّا عدم وجوب الزائد) ما ذكرناه من مقدار الفحص وهو : كفاية حصول الاطمينان وعدم وجوب تحصيل العلم بعدم الدليل (فللزوم الحرج) من ذل أولا وهو واضح (وتعطيل استعلام سائر التكاليف) ثانيا.

وإنّما يستلزم الفحص الزائد تعطيل معرفة بقية الأحكام (لأن انتهاء الفحص في واقعة إلى حدّ يحصل العلم بعدم وجود دليل التكليف) أي : بأن لا نكتفي بالمقدار الذي يحصل منه الاطمينان بعدم الدليل في تلك الواقعة بل نوجب تحصيل العلم في كل واقعة ، فانه (يوجب الحرمان من الاطلاع على دليل التكليف في غيرها من الوقائع).

٣٣٥

فيجب فيها إمّا الاحتياط ، وهو يؤدي إلى العسر ، وإمّا لزوم التقليد لمن بذل فيها جهده على وجه علم بعدم دليل التكليف فيه.

وجواز ممنوع ، لأنّ هذا المجتهد المتفحّص ربما يخطئ ذلك المجتهد في كثير من مقدمات استنباطه للمسألة.

نعم ، لو كان جميع مقدماته مما يرتضيها هذا المجتهد وكان

______________________________________________________

وعليه : فيلزم من ذلك ان يتجزأ المجتهد في اجتهاده ، وذلك بأن يجتهد في واقعة واحدة كالطهارة ـ مثلا ـ فقط ، أو الصلاة فقط ، وهكذا ، وأما في سائر الوقائع التي حرم من الاطلاع على أدلتها (فيجب فيها) أي : في تلك الوقائع عليه أحد أمرين :

(امّا الاحتياط ، وهو يؤدي إلى العسر) والحرج وهو خلاف سيرة المتشرعة ، بل خلاف سيرة جميع أهل الأديان.

(وامّا لزوم التقليد لمن بذل فيها جهده على وجه علم بعدم دليل التكليف فيه) فيلزم على المجتهد العظيم مثل الشيخ المرتضى الذي اجتهد في المكاسب فقط ـ مثلا ـ ان يقلد مجتهدا من الدرجة الثانية في غيرها (وجواز ممنوع).

وإنّما قال بمنع جوازه (لأن هذا المجتهد المتفحّص) في واقعة واحدة عن دقة واستقصاء ، كالشيخ في المثال (ربما يخطّئ ذلك المجتهد) الذي يريد تقليده (في كثير من مقدمات استنباطه للمسألة) فان من المعلوم : ان الشيخ المرتضى أعلم في الاصول وسائر أدلة الاستنباط من المجتهد الذي هو من الدرجة الثانية ، فكيف يطمئن الشيخ بتقليد ذلك المجتهد؟ أم كيف يؤمر شرعا بأن يقلّد الشيخ مثل هذا المجتهد؟.

(نعم ، لو كان جميع مقدماته مما يرتضيها هذا المجتهد) فرضا (وكان

٣٣٦

التفاوت بينهما أنّه اطّلع على ما لم يطّلع هذا ، أمكن أن يكون قوله : حجة في حقّه.

لكن اللازم أن يتفحص حينئذ في جميع المسائل ، إلى حيث يحصل الظن بعدم وجود دليل التكليف ، ثم الرجوع إلى هذا المجتهد ، فان كان مذهبه مطابقا للبراءة ،

______________________________________________________

التفاوت بينهما انّه اطّلع على ما لم يطّلع هذا) أي : الشيخ مثلا عليه (أمكن ان يكون قوله : حجة في حقّه).

لكنه أيضا محل تأمل ، لأن حجية قول مجتهد لمجتهد آخر ، وخبير لخبير آخر ، هو خلاف بناء العقلاء بالنسبة إلى المجتهدين والخبراء سواء في مسائل الدين كأحكام الصلاة والصيام ، والخمس والزكاة ، والحج والجهاد ، وغيرها ، أم مسائل الدنيا كمسائل الحساب والهندسة ، والتاريخ والجغرافيا ، والاقتصاد والسياسة ، وغيرها ، ولعله من أجل هذا قال الشيخ أمكن ولم يقل لزم؟.

(لكن اللازم ان يتفحص) هذا المجتهد الذي يريد الرجوع إلى مجتهد آخر (حينئذ في جميع المسائل ، إلى حيث يحصل الظن بعدم وجود دليل التكليف ، ثم) انه إذا فحص بهذا المقدار كان له بعدها (الرجوع إلى هذا المجتهد) الذي فرضنا انه من الدرجة الثانية.

وإنّما يلزم عليه الفحص أولا ثم الرجوع إلى مجتهد آخر على فرض جوازه لأن الرجوع إلى مجتهد آخر إنّما هو للاضطرار ، والمتيقن منه هو صورة الفحص بنفسه إلى حد اليأس.

ثم إنّ هذا المجتهد الذي فحص حتى ظن بعدم الدليل في تلك الوقائع ورجع فيها إلى مجتهد آخر (فان كان مذهبه) أي المجتهد الثاني (مطابقا للبراءة ،

٣٣٧

كان مؤيّدا لما ظنه من عدم الدليل ، وإن كان مذهبه مخالفا للبراءة ، كان شاهد عدل على وجود دليل التكليف ، فان لم يحتمل في حقه الاعتماد على الاستنباطات الحدسيّة أو العقلية من الأخبار ، أخذ بقوله في وجود دليل وجعل فتواه كروايته.

ومن هذا القبيل ما حكاه غير واحد ، من أنّ القدماء كانوا يعملون برسالة الشيخ أبي الحسن علي بن بابويه عند اعواز النصوص.

______________________________________________________

كان مؤيّدا لما ظنه) المجتهد الأوّل (من عدم الدليل) على تلك الوقائع (وان كان مذهبه مخالفا للبراءة ، كان) المجتهد الثاني (شاهد عدل على وجود دليل التكليف) فيها.

وعليه : (فان لم يحتمل) المجتهد الأوّل (في حقه) أي : في حق المجتهد الثاني (الاعتماد على الاستنباطات الحدسيّة أو العقلية من الأخبار) وإنّما اعتمد على الأخبار بنصوصها مثل الشيخ في نهايته ، والمفيد في مقنعته ، والصدوق في مقنعه ، ومن أشبههم من الذين كانوا يفتون حسب نصوص الروايات (أخذ بقوله في وجود دليل ، وجعل فتواه كروايته).

وحينئذ : لا يكون رجوع الشيخ المرتضى ـ مثلا ـ إلى نهاية الشيخ الطوسي من قبيل رجوع العامي إلى رسالة المجتهد ، إذ النهاية نصوص ، بخلاف رسالة المجتهد ، فانها خليط من النص والاجتهاد.

(ومن هذا القبيل) أي : من قبيل رجوع المجتهد إلى كتب القدماء التي هي نصوص منقولة بالمعنى ومحذوف منها الاسناد (ما حكاه غير واحد ، من أنّ القدماء كانوا يعملون برسالة الشيخ أبي الحسن علي بن بابويه عند اعواز النصوص) وهكذا كان حال رجوعهم إلى المقنع ، والمقنعة ،

٣٣٨

والتقييد باعواز النصوص مبني على ترجيح النصّ المنقول بلفظه على الفتوى التي يحتمل الخطأ في النقل بالمعنى ، وإن احتمل في حقّه ابتناء فتواه على الحدس والعقل ، لم يكن دليل على اعتباره في حقّه وتعيّن العمل بالبراءة.

______________________________________________________

وما أشبه ذلك.

(والتقييد باعواز النصوص مبني على ترجيح النصّ المنقول بلفظه على الفتوى التي يحتمل الخطأ في النقل بالمعنى) فان مع وجود الروايات المنصوصة المنقولة باللفظ ، لا يرجع إلى الروايات الفتوائية المنقولة بالمعنى.

وإنّما لا يرجع إلى هذه مع وجود تلك ، لأن في الروايات الفتوائية قد تدخل الاجتهاد أيضا حيث صار التقطيع فأوجب اختفاء القرائن كثيرا ، وحذف رجال الاسناد وغير ذلك ، ولهذا يقدّم الرجوع إلى نصوص الروايات الموجودة في كتب الأحاديث على الرجوع إلى هذه الكتب الفتوائية.

هذا كله فيما لو لم يحتمل المجتهد الأوّل اعتماد المجتهد الثاني على الحدس والعقل (وان احتمل في حقّه ابتناء فتواه على الحدس والعقل) فحينئذ (لم يكن دليل على اعتباره في حقّه) أي : في حق هذا المجتهد كالشيخ المرتضى الذي يريد الرجوع إلى شيخ الطائفة في فتواه ـ مثلا ـ (وتعيّن العمل بالبراءة) في حقه.

وإنّما لا يجوز له الرجوع إليه ، لأن ذلك من رجوع العالم إلى العالم وهو غير جائز ، وليس من رجوع الجاهل إلى العالم الذي هو واجب عقلا وشرعا.

٣٣٩

تذنيب :

ذكر الفاضل التوني لأصل البراءة شروطا :

الأوّل : أن لا يكون إعمال الأصل موجبا لثبوت حكم شرعي من جهة اخرى ، مثل أن يقال ، في أحد الإناءين المشتبهين : الأصل عدم وجوب الاجتناب عنه ، فانّه يوجب الحكم بوجوب الاجتناب عن الآخر أو عدم بلوغ الملاقي للنجاسة كرّا ،

______________________________________________________

(تذنيب : ذكر الفاضل التوني لأصل البراءة شروطا) ولغير أصل البراءة أيضا ، فانه قال فيما حكي عنه : واعلم ان لجواز التمسك بأصالة براءة الذمة ، وبأصالة العدم ، وبأصالة عدم تقدّم الحادث ، شروطا :

(الأوّل : ان لا يكون إعمال الأصل موجبا لثبوت حكم شرعي من جهة اخرى) فان أصل البراءة إنّما هو لنفي الحكم ، فاذا اريد به إثبات حكم آخر ، فلا يجري مثل هذا الأصل.

أما مثاله : فهو كما قال (مثل ان يقال في أحد الإناءين المشتبهين : الأصل عدم وجوب الاجتناب عنه ، فانّه) أي : جريان هذا الأصل غير صحيح ، لأنه (يوجب الحكم بوجوب الاجتناب عن الآخر) بل يلزم في الإناءين المشتبهين العمل على قاعدة الشبهة المحصورة وهو الاجتناب عن كليهما.

(أو) مثل أصل (عدم بلوغ الملاقي للنجاسة كرّا) وذلك كما إذا كان عندنا ماء قليل فزدنا عليه مقدارا من الماء حتى شككنا في كريته ، فاذا لاقى هذا الماء نجسا ، فانه لا يصح لنا اجراء أصالة عدم بلوغ هذا الماء كرا حتى يقول بنجاسته ووجوب اجتنابه ، بل نجري في هذا الماء أصالة الطهارة.

٣٤٠