الوصائل الى الرسائل - ج ١٠

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل الى الرسائل - ج ١٠

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-10-4
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

الأمر الثاني :

إذا ثبت جزئيّة شيء أو شرطيته في الجملة ، فهل يقتضي الأصل جزئيته وشرطيّته المطلقتين ، حتى إذا تعذّر سقط التكليف بالكلّ أو المشروط

______________________________________________________

بزيادة تكبيرة الاحرام سهوا ، والكلام في المقام طويل جدا مذكور في الفقه اكتفينا هنا بالشرح فقط لتوضيح العبارة.

(الأمر الثاني) من الامور التي ينبغي التنبيه عليها هو : انه إذا تعذر بعض ما له دخل في المأمور به وجودا : كالجزء والشرط ، بأن اضطر ـ مثلا ـ إلى ترك السورة ، أو ترك الاستقبال وعدما : كالمانع والقاطع ، بأن اضطر ـ مثلا ـ إلى الغصب أو الضحك ، ففي سقوط التكليف بأن لا يكلّف بالصلاة أصلا ، وعدم سقوطه بان يكلف بالصلاة مع فقد الجزء أو الشرط أو مع وجود المانع أو القاطع ، قولان بين الفقهاء ، مبنيّان على ثبوت ذلك الجزء والشرط ، أو عدم المانع والقاطع حتى في حال التعذر ، أو اختصاصها بحال التمكن فقط.

إذن : فانّه (إذا ثبت جزئية شيء أو شرطيته في الجملة) بان لم يكن الدليل دالا على الجزئية والشرطية في كل الأحوال ، لأنه إذا دل الدليل على الجزئية والشرطية في كل الأحوال ، فمن المعلوم : انه مع التعذر يسقط التكليف رأسا ، ومن الواضح : ان الكلام ليس في هذا ، وإنّما فيما إذا ثبت في الجملة ، كما أشار اليه المصنّف آنفا.

وعليه : (فهل يقتضي الأصل) الأوّلي (جزئيته وشرطيّته المطلقتين) أي : الشامل لحال التمكن والتعذر ، فمع التعذر لا يجب الاتيان بالباقي كما قال : (حتى إذا تعذّر سقط التكليف بالكلّ) رأسا من حيث تعذّر الأجزاء (أو) سقط (المشروط) رأسا من حيث تعذّر الشروط.

١٠١

أو اختصاص اعتبارهما بحال التمكّن ، فلو تعذر لم يسقط التكليف؟ وجهان ، بل قولان :

للأوّل : أصالة البراءة من الفاقد وعدم ما يصلح لاثبات التكليف به ، كما سنبيّن.

ولا يعارضها استصحاب وجوب الباقي ، لأنّ وجوبه كان مقدمة لوجوب الكلّ ، فينتفي بانتفائه ، وثبوت الوجوب النفسي له مفروض الانتفاء.

______________________________________________________

(أو) يقتضي الأصل الأولي (اختصاص اعتبارهما) أي : الشرط والجزء (بحال التمكّن) فقط ، ومع التعذر يجب الاتيان بالعبادة الفاقدة للجزء والشرط أو الواجدة للمانع والقاطع ، كما قال : (فلو تعذر لم يسقط التكليف) بالباقي؟ فيه (وجهان ، بل قولان) :

استدل (للأوّل) وهو سقوط التكليف رأسا ، بدليل : (اصالة البراءة من الفاقد) لوضوح : انه إذا شك في وجوب الفاقد ، كان شكا في أصل التكليف والشك في أصل التكليف مجرى للبراءة (و) من المعلوم : ان المفروض هنا هو : (عدم) وجود (ما يصلح لاثبات التكليف به) أي : بالفاقد حتى يمنع من جريان البراءة فيه. (كما سنبيّن) بعد قليل تلك الامور التي تقتضي وجوب الباقي وان فقدت الأجزاء والشرائط أو وجدت الموانع والقواطع.

هذا (ولا يعارضها) أي : البراءة (استصحاب وجوب الباقي) بعد تعذّر الشرط والجزء ، أو وجود المانع والقاطع (لانّ وجوبه) أي : وجوب الباقي الفاقد للشرط والجزء ، أو الواجد للمانع والقاطع (كان مقدمة لوجوب الكلّ فينتفي بانتفائه) فلا وجوب مقدمي للباقي (و) أما (ثبوت الوجوب النفسي له) أي : للباقي فهو (مفروض الانتفاء) لانا لا نعلم بالوجوب النفسي للباقي.

١٠٢

نعم ، إذا ورد الأمر بالصلاة ـ مثلا ـ وقلنا بكونها اسما للأعم كان ما دلّ على اعتبار الأجزاء غير المقوّمة فيه من قبيل التقييد ، فاذا لم يكن للمقيّد إطلاق

______________________________________________________

والحاصل : ان الوجوب المقدمي الثابت للباقي حال التمكن من الكل قد ارتفع قطعا ، إذ لا وجوب مقدمي بعد تعذر بعض الأجزاء والشرائط أو بعد وجود بعض الموانع والقواطع ، والوجوب النفسي لم يكن ثابتا للباقي حال التمكن من الأجزاء والشرائط ، وحال التمكن من الفاقد للموانع والقواطع ، بل الوجوب النفسي كان للكل وقد ارتفع بالتعذر ، فلا مجال حينئذ للاستصحاب ، لانه إمّا لا يقين في السابق وإمّا لا شك في اللاحق.

هذا ، وحيث بيّن المصنّف اصالة عدم الوجوب لفاقد الشرط والجزء ، أو لواجد المانع والقاطع استثنى من عدم الوجوب صورة اطلاق دليل الوجوب مما يشمل فاقد الجزء والشرط ، أو واجد المانع والقاطع ، فقال :

(نعم ، إذا ورد الأمر بالصلاة ـ مثلا ـ) كما في قوله : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) (١) (وقلنا بكونها اسما للأعم) من واجد الأجزاء والشرائط وفاقدهما (كان ما دلّ على اعتبار الأجزاء غير المقوّمة فيه) بأن لم تكن الأجزاء مقوّمة للاسم (من قبيل التقييد) لاطلاق الصلاة ، ومعلوم : ان دليل هذا القيد قد يكون له اطلاق بحيث إذا تعذّر يسقط المقيّد رأسا فلا وجوب للباقي ، وقد لا يكون كذلك بحيث إذا تعذر لم يسقط المقيد رأسا ، فيبقى وجوب الباقي كما قال : (فاذا لم يكن للمقيّد اطلاق

__________________

(١) ـ سورة البقرة : الآيات ٤٣ و ٨٣ و ١١٠ ، سورة النساء : الآية ٧٧ ، سورة الانعام : ٧٢ ، سورة يونس : ٨٧.

١٠٣

بأن قام الاجماع على جزئيته في الجملة أو على وجوب المركب من هذا الجزء في حق القادر عليه ، كان القدر المتيقن منه ثبوت مضمونه بالنسبة إلى القادر.

أمّا العاجز فيبقى على اطلاق الصلاة بالنسبة اليه سليما عن المقيّد ، ومثل ذلك الكلام في الشروط.

نعم ، لو ثبت الجزء والشرط بنفس الأمر بالكل والمشروط ، كما لو قلنا بكون الألفاظ أسامي للصحيح ، لزم من انتفائهما انتفاء الأمر ولا أمر

______________________________________________________

بأن قام الاجماع على جزئيته في الجملة) أي : لا على جزئيته مطلقا عند القدرة وعدم القدرة (أو على وجوب المركب من هذا الجزء في حق القادر عليه) فقط ، كما إذا قال المولى ـ مثلا ـ : صلّ ، وقلنا : بأن الصلاة اسم للأعم من الصحيحة والفاسدة ثم قام الاجماع وهو دليل لبي على اشتراط الصلاة بالقراءة ، فاذا كان كذلك (كان القدر المتيقن منه) أي : من دليل القيد (ثبوت مضمونه بالنسبة إلى القادر) على القراءة فقط.

(أمّا العاجز فيبقى على اطلاق الصلاة) الشاملة للواجدة والفاقدة (بالنسبة اليه) أي : إلى العاجز ، وإذا بقي الاطلاق (سليما عن المقيّد) والمقيّد بصيغة اسم الفاعل أي : ما يقيّد الصلاة بهذا الجزء المتعذّر ، فانه يكفيه الصلاة بلا قراءة مثلا.

(ومثل ذلك الكلام) الذي ذكرناه في الجزء موجود (في الشروط) أيضا ، لان الشرط والجزء كلاهما في الملاك واحد.

(نعم ، لو ثبت الجزء والشرط بنفس الأمر بالكل والمشروط) أي : ثبت الجزء والشرط بعين دليل المركب (كما لو قلنا بكون الألفاظ أسامي للصحيح ، لزم من انتفائهما) أي : الجزء والشرط (انتفاء الأمر) بالكل ، أو بالمشروط رأسا (ولا أمر

١٠٤

آخر بالعاري عن المفقود ، وكذلك لو ثبت أجزاء المركب من أوامر متعددة ، فان كلا منها أمر غيريّ ، إذا ارتفع فيه الأمر بسبب العجز ارتفع الأمر بذي المقدمة ،

______________________________________________________

آخر) غير الأمر بالكل أو بالمشروط يأمرنا (بالعاري عن) الجزء أو الشرط (المفقود) حتى يجب الباقي ، فيسقط التكليف رأسا.

وعليه : فاذا ثبت الجزء أو الشرط بدليل المركب نفسه كما لو قال : صلّ قائما ، أو صلّ متطهرا ، فان الصلاة وان وضعت للأعم على قول الأعمي ، فلم تقيّد الصلاة وضعا بالطهارة ولا بالقيام ، إلّا ان الصلاة قيّدت بهذه القيود حين الأمر بها ، فاذا انتفى القيد انتفى المقيّد رأسا.

وهكذا الحال فيما إذا قلنا بأن أسامي العبادات وضعت للصحيح ، فان التقييد بجميع الشروط والأجزاء يكون دفعة واحدة ، فاذا لم يكن جزء أو شرط لم يصدق على الفاقد الصلاة ، لفرض كون الصلاة موضوعة للصحيح ، والفاقدة ليست بصحيحة.

(وكذلك) يلزم من انتفاء الجزء والشرط انتفاء الأمر رأسا (لو ثبت اجزاء المركب من أوامر متعددة) بأن كان المركب ثابتا بعين دليل الأجزاء (فان كلا منها) أي : من تلك الأوامر المتعلقة بالأجزاء والشرائط (أمر غيريّ ، إذا ارتفع فيه الأمر بسبب العجز ارتفع الأمر بذي المقدمة).

مثلا : إذا كان هناك عشرة أوامر بالنية ، والتكبيرة ، والقيام ، والركوع ، والسجود ، وغير ذلك ، من دون أمر بالصلاة وانتزع من المجموع أمرا واحدا بالمركب منها ، فانه إذا انتفى بعض الأجزاء أو الشرائط لتعذر أو تعسر ، انتفى الأمر المنتزع منها ، فاذا شككنا في وجود الأوامر الغيرية بالنسبة إلى الأجزاء والشرائط الباقية جرى

١٠٥

فينحصر الحكم بعدم سقوط الباقي في الفرض الأوّل كما ذكرنا.

ولا يلزم فيه استعمال لفظ المطلق في المعنيين ، أعني المجرّد عن ذلك الجزء بالنسبة إلى العاجز ، والمشتمل على ذلك الجزء بالنسبة إلى القادر.

لأنّ المطلق ، كما بيّن في موضعه ، موضوع للماهية المهملة الصادقة

______________________________________________________

فيها البراءة.

وعلى هذا (فينحصر الحكم بعدم سقوط الباقي) بعد تعذّر بعض الاجزاء والشرائط (في الفرض الأوّل كما ذكرنا) وهو ما ذكره المصنّف بقوله : نعم ، إذا ورد الأمر بالصلاة مثلا وقلنا بكونها اسما للأعم.

وإنّما قال في الفرض الأوّل ليكون في مقابل الفرضين الأخيرين الذين أشار إلى أولهما بقوله : نعم لو ثبت الجزء والشرط بنفس الأمر بالكل ، وإلى ثانيهما بقوله : وكذلك لو ثبت أجزاء المركب من أوامر متعددة فان فيهما يسقط التكليف رأسا.

لا يقال : على الفرض الأوّل يستلزم استعمال الصلاة في معنيين المعنى التام للأجزاء والشرائط للقادر ، والمعنى الناقص من الأجزاء والشرائط للعاجز ، واستعمال اللفظ في معنيين غير جائز عقلا كما يقوله الآخوند ، أو ظهورا حيث لم تكن قرينة كما يقوله آخرون.

لأنّه يقال : (ولا يلزم فيه استعمال لفظ المطلق في المعنيين أعني : المجرّد عن ذلك الجزء) أو الشرط (بالنسبة إلى العاجز ، والمشتمل على ذلك الجزء) أو الشرط (بالنسبة إلى القادر) عليهما.

وإنّما لا يلزم ذلك (لانّ المطلق كما بيّن في موضعه موضوع للماهية المهملة) أي : للطبيعة بما هي طبيعة ، فالصلاة ـ مثلا ـ وضعت لطبيعة الصلاة (الصادقة

١٠٦

على المجرّد عن القيد والمقيّد ، كيف ولو كان كذلك كان كثير من المطلقات مستعملا كذلك.

فان الخطاب الوارد بالصلاة قد خوطب به جميع المكلفين الموجودين أو مطلقا ، مع كونهم مختلفين في التمكن من الماء وعدمه ، وفي الحضر والسفر والصحة والمرض ، وغير ذلك ، وكذا غير الصلاة من الواجبات.

______________________________________________________

على المجرد عن القيد ، والمقيّد) بالقيد ، سواء كان القيد جزءا أم شرطا.

(كيف ولو كان كذلك) أي : لو لزم من اطلاق الصلاة على التامة والناقصة ، استعمال اللفظ في معنيين (كان كثير من المطلقات مستعملا كذلك) في معنيين أو أكثر ، لوضوح : ان افراد المطلق مختلفة من حيث الخصوصيات كما قال :

(فان الخطاب الوارد بالصلاة قد خوطب به جميع المكلفين الموجودين) وقت الخطاب (أو مطلقا) ليعمّ الموجودين وغير الموجودين (مع كونهم مختلفين في التمكن من الماء وعدمه ، وفي الحضر والسفر ، والصحة والمرض ، وغير ذلك) كالمتمكن من القراءة وعدم المتمكن منها ، فان الصلاة لم تستعمل في هذه الخصوصيات حتى يقال : بأن الصلاة استعملت في معاني كثيرة ، بل الصلاة استعملت في القدر المشترك بينها وهي الطبيعة السارية في كل تلك الأفراد المختلفة.

(وكذا غير الصلاة من) سائر (الواجبات) كالصوم والحج والاعتكاف والوضوء والغسل وغيرها ، فلكل من هذه الواجبات افراد متشتتة مختلفة زيادة ونقيصة من حيث الكم والكيف ، ومع ذلك فان ألفاظ هذه العبادات لم تستعمل فيها باعتبارها معاني متعددة ، وإنّما استعملت في الطبيعة السارية في جميعها ، كالانسان المستعمل في طبيعة الانسان السارية في زيد وعمرو ، وبكر وخالد ،

١٠٧

وللقول الثاني : استصحاب وجوب الباقي إذا كان المكلّف مسبوقا بالقدرة ، بناء على أنّ المستصحب هو مطلق الوجوب ، بمعنى لزوم الفعل ، من غير التفات إلى كونه لنفسه أو لغيره ،

______________________________________________________

وان كان بعضهم عالما وبعضهم جاهلا ، وبعضهم غنيا وبعضهم فقيرا ، وبعضهم كاملا وبعضهم ناقصا ، إلى غير ذلك من الخصوصيات في الافراد.

هذا تمام الكلام في الاستدلال للقول الأوّل وهو : سقوط التكليف رأسا عند تعذر شرط أو جزء من الواجب المركّب.

(و) استدل (للقول الثاني :) وهو : اختصاص اعتبار الاجزاء والشرائط بحال التمكن ، فلو تعذر لم يسقط التكليف رأسا ، بل يبقى الباقي على وجوبه ، فانه يدل عليه (استصحاب وجوب الباقي) من الاجزاء والشرائط بعد فقد بعض الاجزاء والشرائط.

وإنّما يدل عليه الاستصحاب فيما (إذا كان المكلّف مسبوقا بالقدرة) لا ما إذا بلغ وهو غير قادر إلّا على بعض الاجزاء والشرائط ، أو أفاق من جنونه وحين افاقته لم يقدر إلّا على البعض ، إذ في هذه الصورة لا يجري الاستصحاب ، وإنّما يجري الاستصحاب في صورة مسبوقية المكلّف بالقدرة.

إن قلت : الوجوب كان في السابق نفسيا ، والآن الوجوب غيري ، والوجوب النفسي غير الوجوب الغيري ، فما كان متيقنا زال يقينا ، وما هو باق لم يكن سابقا.

قلت : إنّا نستصحب كلي الوجوب ، لان الوجوب النفسي والوجوب الغيري لهما جامع هو : كلي اللزوم ، فاذا شككنا في زوال هذا الكلي حتى لا يجب الباقي ، أو عدم زواله حتى يجب الباقي ، استصحبنا بقائه ، لتمامية أركان الاستصحاب ، فيجب الباقي ، وذلك كما قال : (بناء على أنّ المستصحب هو مطلق الوجوب بمعنى : لزوم الفعل من غير التفات إلى كونه لنفسه أو لغيره) أي : نستصحب

١٠٨

أو الوجوب النفسي المتعلق بالموضوع الأعمّ من الجامع لجميع الأجزاء والفاقد لبعضها ، بدعوى صدق الموضوع عرفا على هذا المعنى الأعمّ الموجود في اللاحق ولو مسامحة ، فان أهل العرف يطلقون على من عجز عن السورة بعد قدرته عليها : أنّ الصلاة كانت واجبة عليه حال القدرة على السورة ، ولا يعلم بقاء وجوبها بعد العجز عنها.

______________________________________________________

مطلق الوجوب مجردا عن الخصوصية النفسية أو الغيرية.

(أو) نستصحب (الوجوب النفسي المتعلق بالموضوع ، الأعمّ من الجامع لجميع الأجزاء والفاقد لبعضها) فانه يمكن استصحاب الوجوب النفسي بعناية المسامحة العرفية في الموضوع ، وذلك (بدعوى : صدق الموضوع عرفا على هذا المعنى الأعمّ ، الموجود في) السابق و (اللاحق ولو مسامحة).

وإنّما يصدق الموضوع بالتسامح العرفي ، لان العرف يرى الوحدة بين هذه الصلاة الفاقدة لبعض الاجزاء والشرائط ، وبين تلك الصلاة الواجدة لكل الأجزاء والشرائط مثل : زيد الناقص وزيد الكامل ، فهو من قبيل تبدّل الحالات لا تبدل الموضوعات.

والشاهد على ذلك ما ذكره بقوله : (فان أهل العرف يطلقون على من عجز عن السورة بعد قدرته عليها : انّ الصلاة كانت واجبة عليه حال القدرة على السورة ، و) الأصل الآن بقاء الصلاة على وجوبها ، مع انه (لا يعلم بقاء وجوبها بعد العجز عنها) أي : عن السورة ، مما يكشف ذلك : عن ان الموضوع عند العرف هو الأعم من الصلاة الواجدة للسورة والفاقدة لها.

ومن المعلوم : ان كلامهم هذا يدل على ان الموضوع عندهم في الحال هو الموضوع عندهم سابقا ، وفقد بعض الأجزاء أو فقد بعض الشرائط لا يؤثر

١٠٩

ولو لم يكف هذا المقدار في الاستصحاب لاختلّ جريانه في كثير من الاستصحابات ، مثل : استصحاب كثرة الماء وقلّته ، فان الماء المعيّن الذي أخذ بعضه أو زيد عليه ، يقال إنّه كان كثيرا أو قليلا ، والأصل بقاء ما كان ، مع أنّ هذا الماء الموجود لم يكن متيقّن الكثرة أو القلّة ، وإلّا لم يحتمل الشك فيه ، فليس الموضوع فيه إلّا أعم من هذا الماء

______________________________________________________

في صدق الاسم عندهم.

هذا (ولو لم يكف هذا المقدار) من التسامح العرفي (في الاستصحاب) وصحته (لاختلّ جريانه) أي : جريان الاستصحاب (في كثير من الاستصحابات) لوضوح : ان الشك في البقاء كثيرا ما ينشأ عن حصول تغيّر في الموضوع كما أو كيفا ، وقليلا ما يكون الموضوع هو الموضوع السابق بعينه وإنّما يكون التغيّر في الزمان فقط.

(مثل : استصحاب كثرة الماء وقلّته) مع ان الماء سابقا كان كثيرا ، والحال بعد ان اخذ منه صار قليلا ، أو بالعكس كما قال :

(فان الماء المعيّن) الموجود فعلا في الحوض ـ مثلا ـ (الذي أخذ بعضه ، أو زيد عليه) علما بأنّ الزيادة أيضا تسبب تغيير الموضوع بالدقة العقلية فانه مع ذلك (يقال : انّه كان كثيرا ، أو قليلا ، والأصل بقاء ما كان ، مع انّ هذا الماء الموجود) الآن حين نريد استصحابه (لم يكن متيقّن الكثرة أو القلّة) بل كان سابقا متيقن الكثرة ، أو متيقن القلة ، والآن زيد عليه أو نقص منه.

(وإلّا) بان كان باقيا على حالته السابقة لم ينقص ولم يزد (لم يحتمل الشك فيه) فان الشك ناشئ عن الزيادة أو القلة التي حدثت فيه.

وهكذا بالنسبة إلى التغيير الكيفي كما إذا كان وسخا فصار نظيفا ، أو بالعكس.

إذن : (فليس الموضوع فيه) عند العرف (إلّا أعم من هذا الماء)

١١٠

مسامحة في مدخلية الجزء الناقص أو الزائد في المشار اليه ، ولذا يقال في العرف : هذا الماء كان كذا وشكّ في صيرورته كذا من غير ملاحظة زيادته ونقيصته.

ويدل على المطلب أيضا : النبوي والعلويان المرويان في غوالي اللئالي.

______________________________________________________

الموجود الآن ، والموجود سابقا ، وذلك (مسامحة في مدخلية الجزء الناقص أو الزائد) وكذا في مدخلية الكيف زيادة ونقيصة (في المشار اليه) من الماء أو الصلاة ـ مثلا ـ وهذا المقدار من الزيادة والنقيصة في الجزء ، أو الكيف ، إنّما هو من تبدل الحالات في نظرهم لا من تبدل الموضوع.

(ولذا يقال في العرف : هذا الماء كان كذا) أي : كان كرا ـ مثلا ـ (وشكّ في صيرورته كذا) أي : ناقصا عن الكر ـ مثلا ـ (من غير ملاحظة زيادته ونقيصته) كما ولا زيادته ونقيصته كيفا ، وهكذا يكون الحال في سائر الاستصحابات.

مثلا : إذا استصحبنا بقاء زيد بعد سنة ، فان اجزائه قد تغيرت كلية ، فليس زيد هذا هو نفس زيد السابق من حيث الاجزاء ، ولا هو زيد السابق من حيث الصفات ، فيما إذا تغيرت صفاته كلية.

وهكذا إذا استصحبنا الزمان فان الزمان الثاني ليس هو الزمان الأوّل ، كما انه كذلك يكون استصحاب الليل والنهار ، والدم الجاري من المرأة ، والماء الجاري في النهر ، وغير ذلك من الأمثلة التي حالها حال ماء الكرّ في المثال الذي ذكره المصنّف.

(ويدل على المطلب) الذي قلناه وهو : وجوب الباقي وعدم سقوط التكليف رأسا إذا تعذر بعض الأجزاء والشرائط (أيضا) أي : بالاضافة إلى ما تقدّم من دليل الاستصحاب فانّه يدل عليه : (النبوي والعلويان المرويان في غوالي اللئالي)

١١١

«فعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» ، وعن علي عليه‌السلام : «الميسور لا يسقط بالمعسور». و «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه».

وضعف إسنادها مجبور باشتهار التمسك بها بين الأصحاب في أبواب العبادات ، كما لا يخفى على المتتبّع ، نعم ، قد يناقش في دلالتها :

أمّا الاولى ،

______________________________________________________

على النحو التالي : («فعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» (١) ، وعن علي عليه‌السلام : «الميسور لا يسقط بالمعسور» (٢) و «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» (٣) وضعف إسنادها مجبور باشتهار التمسك بها بين الأصحاب في أبواب العبادات) قديما وحديثا (كما لا يخفى على المتتبّع).

بل يستدلون بها في غير أبواب العبادات أيضا ، كما إذا لم يتمكن إلّا من بعض النفقة الواجبة عليه ، أو من بعض الواجب عليه من معاشرة الزوجة أو الزوج ، وكذا من تربية الأولاد ، ومن صلة الرحم ، ومن الوفاء بالنذر ، أو بالعهد ، أو باليمين ، أو بالشرط ، أو غير ذلك من الامور المذكورة في محلها.

(نعم ، قد يناقش في دلالتها) على المقصود فيما نحن فيه وهو : وجوب الباقي من الشرائط والاجزاء في العبادة بعد تعذر بعضها ، بمناقشات كالتالي :

(أمّا) المناقشة (الاولى :) فهي : إنّ النبوي إنّما يستدل به على وجوب الباقي

__________________

(١) ـ غوالي اللئالي : ج ٤ ، ص ٥٨ ، ح ٢٠٦ (بالمعنى) ، بحار الانوار : ج ٢٢ ص ٣١ ب ٣٧.

(٢) ـ غوالي اللئالي : ج ٤ ، ص ٥٨ ، ح ٢٠٥ (بالمعنى) ، بحار الانوار : ج ٨٤ ص ١٠١ ب ١٢ ح ٢.

(٣) ـ غوالي اللئالي : ج ٤ ، ص ٥٨ ، ح ٢٠٧ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ١٩ ص ٧٥ ب ٢٣٩ ، بحار الانوار : ج ٥٦ ص ٢٨٣ ب ٢٥.

١١٢

فلاحتمال كون «من» بمعنى الباء أو بيانيّا ، و «ما» مصدرية زمانية.

______________________________________________________

اذا قدّرنا فيه «من» تبعيضية ، و «ما» موصولة ، فيكون المعنى : ائتوا ببعضه المقدور إذا كان ذلك البعض يصدق عليه : انه بعضه عرفا ، لا مثل ما إذا أمره بالمرق فقدر على مائه فقط ، فانه لا يسمى : المقدور من المرق ، فالاستدلال بالنبوي إنّما يكون لو كان على هذا التقدير ، وهذا التقدير غير ثابت حتى يستدل به على وجوب الباقي ، فالمناقشة فيه إذن لوجود تقادير واحتمالات أخر فيه كما قال : (فلاحتمال كون «من» بمعنى الباء) التي هي للتعدية (أو بيانيّا ، و) على الاحتمالين تكون («ما» مصدرية زمانية) فيكون المعنى : ائتوا بالمأمور به زمان استطاعتكم ، أو : ائتوا الذي هو واجب عليكم زمان استطاعتكم ، وعلى هذين التقديرين لا يدل النبوي على وجوب الباقي وإنّما يدل على ان تنجّز المأمور به مشروط بالاستطاعة فاذا لم يستطع من الصوم ـ مثلا ـ حال الشيخوخة ، أو من القيام بحقوق الزوجية في بعض الأزمان ـ مثلا ـ فانه لا يجب عليه ذلك.

ويؤيد هذا المعنى : مورد الحديث ، فقد روي في دعائم الاسلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انه خطب فقال : «ان الله كتب عليكم الحج ، فقام عكاشة بن محصن ويروى سراقة بن مالك فقال : أفي كل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه حتى عاد مرتين أو ثلاثا ، فقال : ويحك وما يؤمنك أن أقول : نعم ، والله ولو قلت : نعم لوجبت ، ولو وجبت ما استطعتم ، ولو تركتم لكفرتم فاتركوني ما تركتكم ، وإنّما هلك من هلك قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم إلى أنبيائهم ، فاذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» (١).

__________________

(١) ـ بحار الانوار : ج ٢٢ ص ٣١ ب ٣٧.

١١٣

وفيه : أنّ كون «من» بمعنى الباء مطلقا وبيانيّة في خصوصية المقام مخالف للظاهر بعيد ، كما لا يخفى على العارف بأساليب الكلام.

والعجب معارضة هذا الظاهر بلزوم تقييد الشيء بناء على المعنى المشهور بما كان له اجزاء حتى يصحّ الأمر باتيان ما استطيع منه ، ثم تقييده بصورة تعذّر إتيان جميعه ، ثم ارتكاب التخصيص فيه باخراج ما لا يجري فيه هذه القاعدة اتفاقا ،

______________________________________________________

(وفيه : انّ كون «من» بمعنى الباء) للتعدية (مطلقا ، وبيانيّة في خصوصية المقام ، مخالف للظاهر بعيد ، كما لا يخفى على العارف بأساليب الكلام) عند العرب ، فان كون «من» بمعنى الباء خلاف الموضوع له ، فليس من معاني «من» الباء ، وامّا كون «من» بيانا : فانه وان كان من جملة معاني «من» ـ كما ذكره الأدباء ـ إلّا انه إنّما يستعمل للبيان فيما إذا كان هناك كلام مبهم ، وليس في المقام مبهم حتى يبيّنه «من».

(والعجب معارضة هذا الظاهر) من صاحب الفصول (بلزوم تقييد الشيء بناء على المعنى المشهور) وهو : كون «من» تبعيضية (بما كان له اجزاء حتى يصحّ الأمر باتيان ما استطيع منه ، ثم تقييده بصورة تعذّر اتيان جميعه) لتعذر بعضه (ثم ارتكاب التخصيص فيه باخراج ما لا يجري فيه هذه القاعدة اتفاقا) فان صاحب الفصول وان سلّم ظهور الحديث في المعنى المشهور ، إلّا انه ضعّفه بلزوم كثرة التقييدات فيه ، لانه كما تصوّر يلزم تقدير الحديث هكذا :

إذا أمرتكم بشيء ذي اجزاء ولم تقدروا على اتيان جميعه فأتوا ببعضه المقدور.

وهذا كما لا يخفى مخصص أيضا بجملة امور : كالصوم إذا تمكن ان يصوم

١١٤

كما في كثير من المواضع ، إذ لا يخفى أنّ التقييدين الأوّلين يستفادان من قوله : «فأتوا منه» ، إلى آخره ، وظهوره حاكم عليهما.

نعم ، اخراج كثير من الموارد لازم ، ولا بأس به في مقابل ذلك المجاز البعيد.

______________________________________________________

بعض النهار دون بعض ، وكالحج إذا تمكن ان يأتي ببعض الأعمال دون بعض ، وكالصلاة إذا تمكن ان يصلّي الظهر ثلاث ركعات دون أربع ، وكالاعتكاف إذا تمكن ان يصوم يومين ونصف دون ثلاثة أيام ـ مثلا ـ ، وهكذا (كما في كثير من المواضع).

وعليه : فحيث يستلزم المعنى المشهور للنبوي بنظر الفصول المحذورات المذكورة ، قال : نحمل «من» فيه على معنى الباء ، أو التبيين.

وانّما كان كلام الفصول هذا موجبا للتعجب (إذ لا يخفى : انّ التقييدين الأوّلين) من الفصول للنبوي بكونه ذا أجزاء ، وتعذر بعضه (يستفادان من قوله :

«فأتوا منه» إلى آخره) لوضوح : ان وجوب البعض المقدور لا يعقل إلّا في شيء ذي أجزاء تعذر بعضه وتمكن المكلّف من بعضه الآخر بشرط أن يكون البعض الباقي مقوّما لذلك الشيء ، لا مثل الماء بالنسبة إلى المرق كما مرّ في المثال السابق.

هذا (وظهوره) أي : ظهور النبوي في المعنى المشهور (حاكم عليهما) أي : على ذينك القيدين لوضوح : ان الاحتياج إلى القيدين موقوف على عدم ظهور «من» في التبعيض ، فاذا كان «من» ظاهرا في التبعيض لم يحتج إلى تقدير القيدين ، بل الكلام بنفسه يدل على القيدين المذكورين.

(نعم ، اخراج كثير من الموارد لازم ، ولا بأس به في مقابل ذلك المجاز البعيد) الذي ارتكبه صاحب الفصول : من حمل «من» على معنى الباء أو التبيين.

هذا اضافة إلى ان التخصيص ليس كثيرا ، بل كل من الصلاة والحج والخمس

١١٥

والحاصل : أنّ المناقشة في ظهور الرواية من اعوجاج الطريقة في فهم الخطابات العرفيّة.

______________________________________________________

والزكاة والكفارات وسائر الواجبات يؤتى بها بقدر المستطاع ، فما يبقى على وجوبه من الواجبات بعد تعذّر بعض الأجزاء والشرائط أكثر مما يسقط منها لتعذر بعض الأجزاء والشرائط إلّا في مثل الصوم فانه على الأغلب لا يبعّض في غير ذي العطاش ، ومن يفطر عند الغروب تقية ، وما أشبه ذلك.

(والحاصل : إنّ المناقشة في ظهور الرواية) في المعنى المشهور (من اعوجاج الطريقة في فهم الخطابات العرفيّة) والمحاورات المتداولة عند أهل اللسان.

ثم انه إذا قلنا : بان «ما استطعتم» أعمّ من الزماني والاجزائي ، شمل الحديث كليهما ، فيكون المعنى : ائتوا بالحج قدر الاستطاعة الزمانية وقدر الاستطاعة الاجزائية.

لا يقال : إنّ الحج لا يجب على الانسان كل عام حتى يجب الاتيان به قدر الاستطاعة الزمانية.

لانّه يقال : الحج على جميع المسلمين من حيث المجموع واجب كل عام ، إذ يجب ان لا يترك الحج في عام من الأعوام ـ كما ذكره الفقهاء ـ حتى انه إذا لم يكن في بعض الأعوام مستطيع ، وجب على الوالي إرسال جماعة من المسلمين على نفقة بيت المال إلى «الحج» حتى لا تبقى تلك المشاهد المكرمة خالية عن الحاج والزائرين (١).

__________________

(١) ـ وقد ذكر الشارح بعض اقتراحاته لتطوير مناسك هذا الركن الاساسي من أركان الاسلام في كتابه «لكي يستوعب الحج عشرة ملايين» وكتابه «الحج بين الأمس واليوم والغد» وكتابه «ليحج خمسون مليونا كلّ عام».

١١٦

وأمّا الثانية : فلما قيل : من أنّ معناه أنّ الحكم الثابت للميسور لا يسقط بسبب سقوط المعسور ، ولا كلام في ذلك ؛ لانّ سقوط حكم شيء

______________________________________________________

(وأمّا) المناقشة (الثانية) فهي : ان الاستدلال برواية الميسور لوجوب الباقي إنّما يكون لو حملنا الميسور والمعسور في الرواية على اجزاء المركب ، فيكون المعنى : ان وجوب ما تيسر من اجزاء المركب ، لا يسقط بسقوط وجوب ما تعذر منه ، ومن المعلوم : ان هذا ليس بصحيح إذ وجوب الاجزاء الميسورة من المركب غيري تابع لوجوب المركب ، فاذا تعذر المركب سقط وجوب الاجزاء ، فلا وجوب حتى يتمسك به لوجوب الباقي فيلزم حينئذ حمل الميسور والمعسور في الرواية على الأمور المستقلة كما قال :

أما المناقشة في رواية الميسور (فلما قيل : من إنّ معناه : ان الحكم الثابت للميسور) المستقل لا الميسور من اجزاء المركب (لا يسقط بسبب سقوط المعسور) المستقل دون المعسور من اجزاء المركب فانه يسقط بسقوطه ، وذلك لأن اجزاء المركب وجوبها غيري تابع لوجوب المركب ، فاذا تعذر المركب سقط وجوب الاجزاء ، فلا وجوب للباقي الميسور كما عرفت.

وحاصل المناقشة : ان وجوب الباقي إنّما يكون في العموم الافرادي دون الاجزائي ، فاذا كان هناك عموم له افراد وكان وجوب بعضها مستقلا عن وجوب بعض ولم يتمكن المكلّف من بعضها ، سقط ذلك البعض ووجب الباقي ، كما إذا وجب عليه صيام شهر رمضان فلم يتمكن من صوم بعض الأيام فانه يصوم الباقي منه ، وهكذا بالنسبة إلى النفقات الواجبة ، والأخماس ، والزكوات ونحوها مما لها افراد مستقلة.

(ولا كلام في ذلك) المعنى الذي ذكرناه (لانّ سقوط حكم شيء) مستقل

١١٧

لا يوجب لنفسه سقوط الحكم الثابت للآخر.

فتحمل الرواية على دفع توهّم السقوط في الأحكام المستقلة التي يجمعها دليل واحد كما في أكرم العلماء.

وفيه : أولا ، أنّ عدم السقوط محمول على نفس الميسور لا على حكمه.

______________________________________________________

(لا يوجب لنفسه سقوط الحكم الثابت للآخر) المستقل وهو واضح.

وعليه : (فتحمل الرواية على دفع توهّم السقوط في الأحكام المستقلة التي يجمعها دليل واحد كما في اكرم العلماء) فانه إذا لم يتمكن من اكرام بعض العلماء وجب عليه اكرام الباقي ، إذ وجوب افراد الاكرام بالنسبة إلى افراد العلماء واجبات مستقلة لا يرتبط بعضها ببعض ، فاذا لم يتمكن من بعضها وتمكن من الباقي ، وجب الباقي.

ولا يخفى : ان هذه المناقشة وهي المناقشة الثانية محكية عن صاحبي الفصول والعوائد وهي تفيد ، أمرين :

الأوّل : ان المراد من الميسور والمعسور في الرواية ليس هو نفس الميسور والمعسور ، بل حكمها ، لان شأن الشارع بيان الأحكام لا بيان الموضوعات.

الثاني : ان المراد من الرواية الأفراد لا الأجزاء.

وعلى هذا لا يكون الحديث دليلا على وجوب الباقي بعد تعذر بعض الأجزاء أو الشرائط.

(وفيه : أولا ، ان عدم السقوط محمول على نفس الميسور لا على حكمه) لأن الامام عليه‌السلام لم يقل حكم الميسور لا يسقط بسبب حكم المعسور حتى يقال : بأن هذا إنّما يتم في الأفعال المستقلة لان حكمها نفسي ، دون الأجزاء ، لانّ الأجزاء حكمها مقدمي يسقط بسقوط ذي المقدمة فلا بد ان يكون الظاهر من الرواية :

١١٨

فالمراد به عدم سقوط الفعل الميسور بسبب المعسور ، يعني : أنّ الفعل الميسور إذا لم يسقط عند عدم تعسّر شيء فلا يسقط بسبب تعسره.

وبعبارة اخرى ما وجب عند التمكّن من شيء آخر ، فلا يسقط عند تعذره.

وهذا الكلام إنّما يقال في مقام يكون ارتباط وجوب الشيء بالتّمكن

______________________________________________________

الأحكام النفسية لا المقدمية ، فانه ليس كذلك حتى يقال بذلك.

إذن : (فالمراد به) أي : بعدم السقوط في الرواية هو : (عدم سقوط) نفس (الفعل الميسور) من الصوم والصلاة والخمس والزكاة ، وما أشبه ذلك (بسبب) سقوط الفعل (المعسور) منها (يعني : أنّ الفعل الميسور) نفسه سواء كان اجزاء أم افرادا (إذا لم يسقط عند عدم تعسّر شيء ، فلا يسقط بسبب تعسره) أي : تعسر ذلك الشيء ، فكأن الشارع قال : الميسور باق ، وحيث كان كلامه إنشاء لا إخبارا كان معناه : أبقه على حالته السابقة ، فأت به سواء كان ميسور الأجزاء أم ميسور الافراد.

(وبعبارة اخرى : ما وجب عند التمكّن من شيء آخر ، فلا يسقط عند تعذره) أي : عند تعذر الشيء الآخر ، فالاجزاء التسعة من الصلاة ـ مثلا ـ كانت واجبة عند تيسر الجزء العاشر ، فلا تسقط هذه التسعة عن الوجوب عند تعذر الجزء العاشر ، وكذا اكرام خمسة من العلماء كان واجبا عند التمكن من اكرام كل العلماء ، فلا يسقط اكرام هذه الخمسة عن الوجوب عند تعذر اكرام سائر العلماء.

(وهذا الكلام) أي : الميسور لا يسقط بالمعسور (إنّما يقال في مقام يكون ارتباط وجوب الشيء) كالجزء والشرط الميسورين (بالتمكّن

١١٩

من ذلك الشيء الآخر محققا ثابتا من دليله كما في الأمر بالكلّ ، أو متوهّما كما في الأمر بما له عموم أفراديّ.

وثانيا : أنّ ما ذكر من عدم سقوط الحكم الثابت للميسور بسبب سقوط

______________________________________________________

من ذلك الشيء الآخر) من الجزء والشرط المعسورين (محققا ثابتا من دليله) أي : دليل الوجوب (كما في الأمر بالكلّ) مثل : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) (١) فان وجوب اجزاء الصلاة وشرائطها مرتبط بعضها ببعض ارتباطا محققا في الخارج ، لان وجوب الكل مرتبط بالتمكن من الاجزاء والشرائط ، ووجوب الاجزاء والشرائط المتمكن منهما مرتبط بوجوب الكل.

(أو) يكون ارتباط وجوب الشيء (متوهّما) بان لم يكن الارتباط متحققا في الخارج ، بل الارتباط متوهم (كما في الأمر بما له عموم افراديّ) مثل : اكرم العلماء ، فان كل فرد من افراد الاكرام وان كان موضوعا مستقلا للوجوب ، إلّا ان وحدة دليل اكرم يوجب توهم كون المجموع موضوعا واحدا للوجوب.

وعليه : ففي مقام يكون الارتباط محققا أو متوهما ، إذا تعذّر شيء منها لزم ان ينتفي الكل ويسقط وجوب الباقي ، في مثل هذا المقام تقول الرواية بوجوب الباقي ، وإذا تعذر البعض لم يسقط الكل بسبب تعذر ذلك البعض ، فيكون الميسور سواء من الأجزاء والشرائط ، أم من الجزئي والافراد باقيا على حكمه السابق من الوجوب بعد تعذر المعسور وسقوط وجوبه بسبب العسر ، فيجب على المكلّف الاتيان بالباقي.

(و) فيه (ثانيا : انّ ما ذكر) في المناقشة الثانية : (من عدم سقوط

__________________

(١) ـ سورة البقرة : الآية ٤٣.

١٢٠