الوصائل الى الرسائل - ج ١٠

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل الى الرسائل - ج ١٠

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-10-4
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

الآثار ، بمعنى : أنّ شيئا من آثار الشيء المجهول عقابا أو غيره من الآثار المترتبة على ذلك الشيء في حقّ العالم ، لا يرتفع عن الجاهل لأجل جهله.

وقد استثنى الأصحاب من ذلك القصر والاتمام ، والجهر والاخفات ، فحكموا بمعذورية الجاهل في هذين الموضعين.

وظاهر كلامهم إرادتهم العذر من حيث الحكم الوضعي ، وهي الصحة بمعنى : سقوط الفعل ثانيا دون المؤاخذة ، وهو الذي يقتضيه دليل المعذورية في الموضعين أيضا.

______________________________________________________

الآثار) الوضعية كالقضاء والاعادة والكفارة ، فان عدم المعذورية هنا (بمعنى : انّ شيئا من آثار الشيء المجهول عقابا أو غيره) أي : غير العقاب كالقضاء والاعادة (من الآثار المترتبة على ذلك الشيء في حقّ العالم ، لا يرتفع عن الجاهل) ارتفاعا (لأجل جهله) لأن الجهل بالحكم عن تقصير لا يكون عذرا.

(و) لكن (قد استثنى الأصحاب من ذلك) موضعين (القصر والاتمام) بأن صلّى التمام في موضع القصر (والجهر والاخفات) بأن جهر في موضع الاخفات أو أخفت في موضع الجهر (فحكموا بمعذورية الجاهل) بالحكم (في هذين الموضعين) بلا استثناء.

هذا (وظاهر كلامهم : إرادتهم العذر من حيث الحكم الوضعي) أي : ان الصلاة ليست باطلة كما قال : (وهي الصحة بمعنى : سقوط الفعل ثانيا) من حيث القضاء أو الاعادة (دون) العذر من حيث الحكم التكليفي وهي : (المؤاخذة).

وعليه : فانهم وان حكموا بصحة الصلاة لكنهم يقولون باستحقاق العقاب (و) هذا المعنى (هو الذي يقتضيه دليل المعذورية في الموضعين أيضا) فان ظاهر دليل المعذورية هي : المعذورية الوضعية ، لا المعذورية التكليفية فاستحقاق

٣٠١

فحينئذ يقع الاشكال في أنّه إذا لم يكن معذورا من حيث الحكم التكليفي كسائر الأحكام المجهولة للمكلف المقصّر ، فيكون تكليفه بالواقع وهو : القصر بالنسبة إلى المسافر باقيا.

وما يأتي به من الاتمام المحكوم بكونه مسقطا ، إن لم يكن مأمورا به ، فكيف يسقط الواجب ، وإن كان مأمورا به ، فكيف يجتمع الأمر به مع فرض وجود الأمر بالقصر.

______________________________________________________

العقاب إنّما هو للأصل الذي يقول : بأن الجاهل المقصر معاقب.

(فحينئذ) أي : حين قالوا بانفكاك الملازمة بمعنى : استحقاق العقاب وعدم لزوم القضاء أو الاعادة (يقع الاشكال في انّه إذا لم يكن معذورا من حيث الحكم التكليفي) أي : من حيث استحقاقه العقاب على ترك الواقع (كسائر الأحكام المجهولة للمكلف المقصّر) حيث انه يستحق العقاب على تركها مما يستلزم بقاء التكليف بها (فيكون

تكليفه بالواقع وهو : القصر بالنسبة إلى المسافر باقيا) لأن المسافر مكلف من عند الله سبحانه وتعالى واقعا بأن يأتي بالصلاة في السفر قصرا ، وإذا كان تكليفه بالواقع باقيا لزم أحد المحذورين : اما عدم كون ما أتى به مأمورا به فكيف يسقط الواجب واما اجتماع الضدين وهو تناقض كما قال :

(وما يأتي به من الاتمام المحكوم بكونه مسقطا) للقضاء أو الاعادة (ان لم يكن مأمورا به ، فكيف يسقط الواجب) الذي هو القصر؟ (وان كان مأمورا به ، فكيف يجتمع الأمر به مع فرض وجود الأمر بالقصر؟) فان الجمع بين هذين يكون من الجمع بين الضدين.

وإن شئت قلت : ان ثبوت المؤاخذة على ترك الواقع يدل على ثبوت الأمر بالقصر وبقاء الأمر الواقعي ، والحكم بالصحة وعدم وجوب الاعادة يدل على

٣٠٢

ودفع هذا الاشكال ، إمّا بمنع تعلق التكليف فعلا بالواقعي المتروك ، وإمّا بمنع تعلّقه بالمأتي به ، وإمّا بمنع التنافي بينهما.

______________________________________________________

كونه مأمورا بالاتمام ، فيكون معنى ذلك : انه مأمور بالقصر وبالاتمام معا ، وهذا تناقض ظاهر ، وكذلك بالنسبة إلى الجهر والاخفات.

ويمكن الجواب عن ذلك جوابا أوليا : بأن المؤاخذة على ترك الواقع لا يدل على بقاء الأمر الواقعي ، فاذا أمر المولى عبده بأن يأتي إليه بماء عذب ليشربه لأنه قد غصّ بلقمته ، فجائه بماء أجاج فشربه اضطرارا لم يبق الأمر الأوّل ، لأن المولى قد تخلص من اللقمة فلا يحتاج بعدها إلى الماء ومع ذلك فان العبد مستحق للعقاب على عدم إطاعة الأمر الأوّل.

(ودفع هذا الاشكال) هو كدفع الاشكال في كل مورد يتوهم فيه التناقض والتضاد ، وذلك بأن يقال : اما ان يكون هذا الضد غير موجود ، أو ذلك الضد غير موجود ، أو ان كليهما موجودان إلّا انه ليس بينهما تناف.

إذن : فالجواب عن هذا الاشكال يكون أولا : (إمّا بمنع تعلق التكليف فعلا) أي : انه بعد إتيان التمام موضع القصر لا تكليف (بالواقعي المتروك) الذي هو القصر ، فالقصر إنّما يجب على المسافر العالم بالحكم ، لا المسافر الجاهل بالحكم.

ثانيا : (وامّا بمنع تعلّقه بالمأتي به) أي : ان الأمر في الواقع قد تعلق بالقصر لا بما أتى به من التمام ، لكن هذا التمام غير المأمور به قد أسقط القصر الذي كان مأمورا به ، كما مثّلنا له بالماء العذب والماء الاجاج.

ثالثا : (وإمّا بمنع التنافي بينهما) أي : انه لا يلزم من الأمر بالتمام والأمر بالقصر ، أمرا بضدين في آن واحد.

٣٠٣

فالأول : إمّا بدعوى كون القصر ـ مثلا ـ واجبا على المسافر العالم ، وكذا الجهر والاخفات.

وإمّا بمعنى معذوريته فيه ، بمعنى : كون الجهل بهذه المسألة كالجهل بالموضوع ، يعذر صاحبه ويحكم عليه ظاهرا ، بخلاف الحكم الواقعي.

______________________________________________________

(فالأول) وهو : منع تعلق التكليف فعلا بالواقعي المتروك فيمكن تقريره بوجوه أربعة :

الوجه الأوّل : ما ذكره بقوله : (امّا بدعوى كون القصر ـ مثلا ـ واجبا على المسافر العالم) لا المسافر الجاهل (وكذا الجهر والاخفات) فكأن الشارع قال : يجب القصر على المسافر العالم بوجوب القصر ، والجهر على المصلي العالم بوجوبه ، وهكذا الاخفات.

ولا يرد على هذا إشكال الدور القائل : بأن العلم قد أخذ تارة في موضوع الحكم واخرى بعد الحكم ، لأنه يمكن تصحيح ذلك بأمرين فيما إذا اختصت مصلحة القصر ـ مثلا ـ بالعالم بوجوب القصر فقط ، فيقول المولى أولا : يجب القصر في السفر ويقول ثانيا : ان مصلحة القصر إنّما هي على العالم بوجوب القصر لا على الجاهل بوجوبه.

الوجه الثاني ما أشار إليه بقوله : (وامّا بمعنى معذرويته) أي : معذورية الجاهل (فيه) أي : في القصر والاتمام ، والجهر والاخفات (بمعنى : كون الجهل بهذه المسألة كالجهل بالموضوع يعذر صاحبه) فان الجاهل بالموضوع ـ كالجاهل بأن هذا المائع خمر ـ معذور وان كان الحكم الواقعي للخمر ثابتا عليه (و) لأجل معذورية هذا الجاهل بالموضوع (يحكم عليه ظاهرا) أي : حكما ظاهريا (بخلاف الحكم الواقعي).

٣٠٤

وهذا الجاهل وإن لم يتوجه إليه خطاب مشتمل على حكم ظاهريّ ، كما في الجاهل بالموضوع ، إلّا أنّه مستغنى عنه باعتقاده لوجوب هذا الشيء عليه في الواقع ، وإمّا من جهة القول بعدم تكليف الغافل

______________________________________________________

إذن : فكما ان الجاهل بكون هذا المائع خمرا يحكم عليه حكما ظاهريا بجواز شربه وان كان الحكم الواقعي للخمر ثابتا عليه ، فكذلك الجاهل بالحكم فيما نحن فيه فانه معذور لكنه لغفلته لم يحكم عليه بحكم ظاهري ، لاستغنائه عن الحكم الظاهري بسبب اعتقاده بوجوب التمام ـ مثلا ـ عليه كما قال :

(وهذا الجاهل وان لم يتوجه إليه خطاب مشتمل على حكم ظاهريّ) لفرض غفلته عن الحكم الظاهري أيضا ، فلا يتوجه هذا الخطاب إليه (كما) كان يتوجه الخطاب المشتمل على حكم ظاهري (في الجاهل بالموضوع) لفرض التفاته إلى الحكم الظاهري لهذا المائع الذي لم يعلم خمريته (إلّا أنّه) أي : الخطاب بالحكم الظاهري بالنسبة إلى هذا الجاهل بالحكم (مستغنى عنه).

إذن : فالشارع لا يخاطبه بالتمام الذي هو حكم ظاهري له لاستغنائه عن هذا الحكم الظاهري (ب) سبب (اعتقاده) أي : اعتقاد هذا الجاهل (لوجوب هذا الشيء عليه) وهو التمام (في الواقع) فان الشارع قد اكتفى منه بما أتى به من التمام في السفر من دون ان يخاطبه به ، وإنّما اوكله إلى ما اعتقده من كون تكليفه التمام.

والفرق بين هذا الوجه والوجه الأوّل هو : ان في الوجه الأوّل لا تكليف بالتمام بالنسبة إلى الجاهل بالحكم ، وفي الوجه الثاني له تكليف شأني لا فعلي ، والجهل بالتكليف الشأني يكون نظير الجهل بالموضوع من حيث المعذورية ويحكم فيه بمقتضى الاصول على خلاف الحكم الواقعي.

الوجه الثالث ما أشار إليه بقوله : (وامّا من جهة القول بعدم تكليف الغافل

٣٠٥

بالواقع وكونه مؤاخذا على ترك التعلّم ، فلا يجب عليه القصر ، لغفلته عنه.

نعم ، يعاقب على عدم إزالة الغفلة ، كما تقدّم استظهاره من صاحب المدارك ومن تبعه.

وإمّا من جهة تسليم تكليفه بالواقع ، إلّا أنّ الخطاب بالواقع ينقطع عنه الغفلة لقبح خطاب العاجز ، وان كان العجز بسوء اختياره ، فهو معاقب حين الغفلة على ترك القصر ، لكنه ليس مأمورا به

______________________________________________________

بالواقع ، وكونه مؤاخذا على ترك التعلّم) فالعلم شرط تنجز التكليف ، إلّا انه معاقب من جهة ترك التعلم (فلا يجب عليه القصر) فعلا ، وذلك (لغفلته عنه) أي : عن القصر.

(نعم ، يعاقب على عدم إزالة الغفلة ، كما تقدّم استظهاره من صاحب المدارك ومن تبعه) القائلين بأن العقاب على ترك التعلم ، لا على ترك الحكم ، فيكون الفرق بين هذه الأوجه الثلاثة هو : ان العلم على الوجه الأوّل : شرط شرعي لثبوت الحكم نظير البلوغ والطهارة ، وعلى الثاني : شرط عقلي نظير اشتراط القدرة في ثبوت التكاليف ، وعلى الثالث : واجب نفسي نظير وجوب الصلاة.

الوجه الرابع : ما أشار إليه بقوله : (وإمّا من جهة تسليم تكليفه بالواقع) فالجاهل المقصر مكلف بالواقع والتكليف منجّز عليه (إلّا انّ الخطاب بالواقع ينقطع عند) عروض (الغفلة) عليه وذلك (لقبح خطاب العاجز وان كان العجز بسوء اختياره ، فهو معاقب حين الغفلة على ترك القصر) فليس العقاب على ترك المقدمة ، كما قاله المدارك ومن تبعه ، بل العقاب على ترك الواقع من حين ترك المقدمة ، والمقدمة هي عبارة عن تحصيل العلم.

إذن : فالجاهل المقصر وان كان معاقبا على ترك القصر (لكنه ليس مأمورا به)

٣٠٦

حتى يجتمع مع فرض الأمر بالاتمام.

لكن هذا كله خلاف ظاهر المشهور ، حيث انّ الظاهر منهم كما تقدّم : بقاء التكليف بالواقع المجهول بالنسبة إلى الجاهل.

ولذا يبطلون صلاة الجاهل بحرمة الغصب ، إذ لو لا النهي حين الصلاة لم يكن وجه للبطلان.

والثاني :

______________________________________________________

أي : بالقصر (حتى يجتمع مع فرض الأمر بالاتمام) ويكون هناك أمر بالضدين : أمر بالقصر ، وأمر بالاتمام ، وبواحد من هذه الوجوه الأربعة يتم التخلص من إشكال اجتماع الضدين.

(لكن هذا كله) أي : كل الوجوه الأربعة التي ذكرناها في وجه الجواب الأوّل لدفع إشكال التضاد يكون (خلاف ظاهر المشهور ، حيث انّ الظاهر منهم كما تقدّم : بقاء التكليف بالواقع المجهول بالنسبة إلى الجاهل) المقصّر بينما قال الوجه الأوّل من الوجوه الأربعة بعدم التكليف بالقصر أصلا ، والوجوه الثلاثة الأخر منها بعدم التكليف المنجّز وهو يخالف قول المشهور.

إذن : فالمشهور كيف يجمعون بين التكليف بالقصر والتكليف بالتمام وهو يقولون ببقاء التكليف المنجّز واقعا؟ (ولذا) أي : لأجل قولهم ببقاء التكليف الواقعي (يبطلون صلاة الجاهل بحرمة الغصب ، إذ لو لا النهي حين الصلاة) نهيا واقعيا منجّزا (لم يكن وجه للبطلان) وان كان يمكن أن يكون وجهه : عدم وجود الشرط كما لو جهل المتوضّئ نجاسة الماء ، فهو ليس منهيا عنه مع ان صلاته باطلة.

(والثاني) من الأجوبة التي دفع بها إشكال التضاد هو ما ذكره المصنّف بقوله :

٣٠٧

منع تعلّق الأمر بالمأتي به والتزام أنّ غير الواجب مسقط عن الواجب ، فان قيام ما اعتقد وجوبه مقام الواجب الواقعي غير ممتنع.

نعم ، قد يوجب إتيان غير الواجب فوات الواجب ، فيحرم بناء على دلالة الأمر بالشيء على النهي عن الضد ، كما في آخر الوقت ، حيث يستلزم فعل التمام فوات القصر.

______________________________________________________

وأمّا بمنع تعلقه بالمأتي به يعني : (منع تعلّق الأمر بالمأتي به) فالتمام في السفر لا أمر به إطلاقا ، (والتزام انّ غير الواجب مسقط عن الواجب) فهو لا بأس به (فان قيام ما اعتقد وجوبه مقام الواجب الواقعي غير ممتنع).

وإنّما نلتزم بذلك لأنه من الممكن ان يكون غير الواجب مسقطا عن الواجب كالوضوء قبل الوقت حيث انه يسقط الواجب الذي هو الوضوء بعد الوقت ، فوجوب القصر منجّز على الجاهل المقصّر وهو مؤاخذ به ، لكن الاتمام مسقط للاعادة أو القضاء مع انه لم يكن مأمورا به ، فلا يلزم حينئذ الأمر بالضدين.

(نعم) كون التمام مسقطا للاعادة أو القضاء إنّما يصح إذا أتى به قبل تضيّق الوقت ، وامّا إذا أتى به عند تضيّق الوقت كان فعل التمام مضادا لفعل القصر المأمور به واقعا ، والمفروض : ان الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده ، فيكون التمام حراما باطلا لأنه عبادة منهي عنها ، والحرام الباطل لا يكون مسقطا.

وعليه : فانه (قد يوجب إتيان غير الواجب فوات الواجب ، فيحرم) هذا الذي هو غير واجب ، وذلك (بناء على دلالة الأمر بالشيء على النهي عن الضد) ومثال تفويته يكون (كما في آخر الوقت حيث يستلزم فعل التمام فوات القصر) وكذلك بالنسبة إلى الجهر والاخفات في آخر الوقت حيث يستلزم فعل الجهر فوت الاخفات ، وفعل الاخفات فوت الجهر.

٣٠٨

ويردّ هذا الوجه : أن الظاهر من الأدلة : كون المأتيّ به مأمورا به في حقه ، مثل قوله عليه‌السلام : في الجهر والاخفات : «تمت صلاته» ، ونحو ذلك.

والموارد التي قام فيها غير الواجب مقام الواجب يمنع عدم وجوب البدل ، بل الظاهر في تلك الموارد سقوط الأمر الواقعي وثبوت الأمر بالبدل ، فتأمّل.

______________________________________________________

(ويردّ هذا الوجه : ان الظاهر من الأدلة : كون المأتيّ به مأمورا به في حقه) وليس المأتي به مجرد المسقط حتى يكون كالماء الاجاج الذي مثّلنا له بإسقاطه الاتيان بالماء العذب ، وأمّا الأدلة : فهي (مثل قوله عليه‌السلام : في الجهر والاخفات :

تمت صلاته (١) ، ونحو ذلك) فان ظاهر تمت : انه مأمور به لا انه مجرد المسقط ، وإلّا كان الامام عليه الصلاة والسلام يقول : سقط عنه التكليف وما أشبه ذلك ، فلا يرتفع إذن إشكال الجمع بين الضدين ، لأنه مأمور بالقصر ومأمور بالتمام في وقت واحد.

هذا (والموارد التي قام فيها غير الواجب مقام الواجب يمنع عدم وجوب البدل ، بل الظاهر في تلك الموارد : سقوط الأمر الواقعي وثبوت الأمر بالبدل) فالكبرى الكلية عبارة عن ان وجوب البدل مسقط لوجوب المبدل ، لكن المقام ليس من هذه الكبرى ، لأن الاتمام على الوجه الثاني من أجوبة دفع إشكال التضاد ليس بواجب ومع ذلك يسقط الواجب الذي هو القصر.

(فتأمّل) ولعله إشارة إلى ان الكبرى ليست تامة ، إذ من الممكن إسقاط غير الواجب للواجب ، كما في مثال الوضوء قبل الوقت فانه مسقط للوضوء بعد الوقت ، ومن الممكن إسقاط الحرام للواجب ، كما في مثال الاتيان بالماء الأجاج

__________________

(١) ـ تهذيب الاحكام : ج ٢ ص ١٦٢ ب ٤٣ ح ٩٣ ، وسائل الشيعة : ج ٦ ص ٨٦ ب ٢٦ ح ٧٤١٢.

٣٠٩

الثالث : ما ذكره كاشف الغطاء رحمه‌الله من أنّ التكليف بالاتمام مترتب على معصيته للشارع بترك القصر ، فقد كلّفه بالقصر والاتمام على تقدير معصيته في التكليف بالقصر.

______________________________________________________

مكان الاتيان بالماء العذب ، فانه مسقط له لكنه معاقب عليه.

وأمّا (الثالث) من الأجوبة التي دفع بها إشكال التضاد وهو ما ذكره المصنّف بقوله : وامّا بمنع التنافي بينهما فهو (ما ذكره كاشف الغطاء رحمه‌الله) والمحقق الكركي ، وسلطان العلماء ، وغيرهم (من أنّ التكليف بالاتمام مترتب على معصيته للشارع بترك القصر).

ولا يخفى : ان تقرير الترتب في المقام يكون على ما قالوا عبارة عن : ان وجوب كل من القصر والتمام غير جائز إذا كان على وجه التقارن بأن يوجبهما الشارع متقارنين ، وجائز إذا كان على وجه الترتب بأن يكون التكليف بالاتمام مترتبا على معصيته بالقصر ، فانه لا يمتنع عند العقل ان يقول المولى الحكيم لعبده أوجبت عليك الحضور في المدرسة ولكن لو عصيتني فيه أوجبت عليك الحضور في المسجد ، فان الأمر الثاني لا يناقض الأمر الأوّل بل هو مترتب على مخالفة الأمر الأوّل كما قال : (فقد كلّفه) الشارع أولا (بالقصر) حيث قال سبحانه : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) (١) (و) بعد عصيانه للقصر كلفه وأوجب عليه (الاتمام) فالأمر بالاتمام مترتب (على تقدير معصيته في التكليف بالقصر) وكذلك يكون الحال بالنسبة إلى الجهر والاخفات.

__________________

(١) ـ سورة النساء : الآية ١٠١.

٣١٠

وسلك هذا الطريق في مسألة الضدّ في تصحيح فعل غير الأهم من الواجبين المضيّقين ، إذا ترك المكلّف الامتثال بالأهمّ.

ويردّه : أنّا لا نعقل الترتب في المقامين ،

______________________________________________________

(و) عليه : فان كاشف الغطاء قد (سلك هذا الطريق) وهو طريق الترتب (في مسألة الضّد) بناء على ان الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده ، كما في تصحيح فعل غير المضيّق من الواجبين المضيّق أحدهما كالصلاة والازالة.

وعلى هذا : فمن جاء إلى المسجد وهو يريد الصلاة في وقت موسّع ورأى في المسجد نجاسة ، كان مخاطبا أولا بالازالة لأن وقتها مضيّق ، ثم بالصلاة لأن وقتها موسّع فاذا ترك الازالة وصلى ، اقتضى الأمر بالازالة النهي عن الصلاة ، فتكون الصلاة باطلة ، فصححها كاشف الغطاء بطريق الترتب وذلك بأن يخاطبه الشارع بقوله : أزل النجاسة عن المسجد فان عصيت فصلّ.

وقد سلك هذا الطريق أيضا (في تصحيح فعل غير الأهم من الواجبين المضيّقين إذا ترك المكلّف الامتثال بالأهم) فاذا كان هناك واجبان مضيّقان أحدهما أهم كصلاة الظهرين في آخر الوقت ، والآخر مهم كصلاة الآيات ، كان مخاطبا بالظهرين أولا ثم بالآيات.

وعليه : فاذا ترك الظهرين وأتى بالآيات ، اقتضى الأمر بالظهرين النهي عن الآيات ، فتكون الآيات باطلة ، فصححها كاشف الغطاء بطريق الترتب ، وذلك بأن يخاطبه الشارع بقوله : صلّ الظهرين ، فان عصيت فصلّ صلاة الآيات.

(ويردّه) أي : يردّ هذا الوجه وهو الوجه الثالث من الأجوبة المذكورة لتصحيح القصر والاتمام ، والجهر والاخفات ، قولنا : (انّا لا نعقل الترتب في المقامين) لا في المقام الذي نحن فيه من القصر والاتمام ، أو الجهر والاخفات ،

٣١١

وإنّما يعقل ذلك فيما إذا حدث التكليف الثاني بعد تحقق معصيته الأوّل ، كمن عصى بترك الصلاة مع الطهارة المائية ، فكلّف لضيق الوقت بالترابية.

______________________________________________________

ولا في مقام مسألة الضد من الواجبين المضيّقين أحدهما أهم ، أو أحدهما موسّع دون الآخر.

وإنّما لا نعقل الترتب فيهما ، لأن الأمر الثاني فيهما وان لم يصعد إلى مرتبة الأوّل إلّا ان الأمر الأوّل ينزل إلى مرتبة الأمر الثاني ، لأن المولى يريد الأمر الأوّل مطلقا ، امّا الأمر الثاني فلا يريده إلّا في حال عصيان الأمر الأوّل.

مثلا : إذا كان المولى ضامئا وسقط طفل له البئر ، فانه يقول لعبده : انقذ الطفل ، فاذا عصاه العبد في أمره هذا قال له : إذن جئني بالماء ، فانّ أمر المولى بانقاذ الطفل مطلق شامل لوقت إتيان العبد بالماء أيضا وان كان الأمر باتيان الماء لا يصعد إلى وقت إنقاذ الطفل.

هذا ، وقول المولى له : جئني بالماء إنّما هو ليخفف عنه عقابه ، وإلّا فالمولى يعاقب العبد على ترك الانقاذ سواء أتى بالماء أم لم يأت به.

إذن : فالترتب لا يعقل في المقامين (وإنّما يعقل ذلك) الترتب (فيما إذا حدث التكليف الثاني بعد تحقق معصيته) للأمر (الأوّل) وذلك بأن لم يبق للأمر الأوّل مجال إطلاقا.

وذلك أمّا مثاله فهو : (كمن عصى بترك الصلاة مع الطهارة المائية ، فكلّف لضيق الوقت بالترابية) فان في هذه الصورة لا تكليف بالماء إطلاقا ، لسقوطه بسبب العصيان ، فالمولى يأمره حينئذ بالتراب وان كان يعاقبه على تفويته مصلحة الماء ، ومثل هذا الترتب لا يستلزم الأمر بالضدين بخلاف الترتب في المقامين

٣١٢

الثالث :

أنّ وجوب الفحص إنّما هو في إجراء الأصل في الشبهة الحكمية الناشئة من عدم النص ، أو إجمال بعض ألفاظه ، أو تعارض النصوص.

أمّا اجراء الأصل في الشبهة الموضوعية ، فان كانت الشبهة في التحريم ، فلا إشكال ولا خلاف ظاهرا في عدم وجوب الفحص.

ويدل عليه إطلاق الأخبار ، مثل

______________________________________________________

السابقين فانه من الأمر بالضدين.

الأمر (الثالث) من أمور الخاتمة المتعلقة بالجاهل العامل قبل الفحص هو : ان المصنّف بعد ان ذكر في الأمرين السابقين حكم الجاهل المقصر في الشبهة الحكمية ، تعرّض هنا لذكر حكمه في الشبهة الموضوعية وانه هل يجب عليه الفحص في الشبهة الموضوعية التحريمية والوجوبية أم لا؟ فقال :

(انّ وجوب الفحص إنّما هو في إجراء الأصل في الشبهة الحكمية الناشئة من عدم النص ، أو إجمال بعض ألفاظه ، أو تعارض النصوص) وذلك لما تقدّم : من انه يلزم الفحص في الشبهة الحكمية قبل العمل ، فان ظفر بحكم شرعي عمل به وإلّا أجرى الأصول الممكنة : من الاستصحاب ، أو البراءة ، أو غير ذلك.

(أمّا اجراء الأصل في الشبهة الموضوعية ، فان كانت الشبهة في التحريم فلا إشكال) عند المصنّف (ولا خلاف ظاهرا في عدم وجوب الفحص) فيها ، لكن كونه لا خلاف فيه ، محل تأمل ، بل أشكل بعض الفقهاء في أن يكون هناك إجماع في المسألة غير ان المصنّف يرى عدم وجوب الفحص كما هو المشهور أيضا.

(ويدل عليه) أي : على هذا المشهور (إطلاق الأخبار) والروايات (مثل

٣١٣

قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء لك حلال حتى تعلم» ، وقوله : «حتى يستبين لك غير هذا ، أو تقوم به البيّنة» ، وقوله : «حتى يجيئك شاهدان يشهدان : أنّ فيه الميتة» ، وغير ذلك ، السالم عمّا يصلح لتقييدها.

______________________________________________________

قوله) عليه‌السلام : («كلّ شيء لك حلال حتى تعلم») إنه حرام بعينه (١) (وقوله) عليه‌السلام : («حتى يستبين لك غير هذا ، أو تقوم به البيّنة» (٢) ، وقوله) عليه‌السلام : («حتى يجيئك شاهدان يشهدان : أنّ فيه الميتة» (٣)) ومثل قوله عليه‌السلام في النكاح : «لم سألت؟» (٤) أي : عن كونها خلية أو متزوجة (وغير ذلك) مما هي ظاهر في عدم وجوب الفحص.

وإنّما يقول المشهور بعدم وجوب الفحص هنا لاطلاق الروايات (السالم عمّا يصلح لتقييدها) من الأخبار الدالة على وجوب الفحص ، فان الأدلة التي سبقت في وجوب الفحص ـ كما عرفت ـ مختصة بالشبهة الحكمية.

لكن يمكن أن يقال : ان الأدلة المذكورة لوجوب الفحص في الشبهة الحكمية تجري في الشبهة الموضوعية أيضا ، وما يجاب به عن أدلة الحل بالنسبة إلى الشبهة الحكمية يجاب به بالنسبة إلى الشبهة الموضوعية أيضا.

مثلا : قد يجاب عنها : بأن ما خرج عن دليل الفحص يحكم بعدم إرادة الفحص فيه ، كالطهارة والنجاسة ، والحلية والحرمة في الجملة ، وإلّا فالأصل

__________________

(١) ـ الكافي : ج ٥ ص ٣١٣ ح ٤٠ ، تهذيب الاحكام : ج ٧ ص ٢٢٦ ب ٢١ ح ٩ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ٨٩ ب ٤ ح ٢٢٠٥٣ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٧٣ ب ٣٣ ح ١٢.

(٢) ـ الكافي : ج ٥ ص ٣١٣ ح ٤٠ ، تهذيب الاحكام : ج ٧ ص ٢٢٦ ب ٢١ ح ٩ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ٨٩ ب ٤ ح ٢٢٠٥٣ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٧٣ ب ٣٣ ح ١٢.

(٣) ـ الكافي (فروع) : ج ٦ ص ٣٣٩ ح ٢ ، وسائل الشيعة : ج ٢٥ ص ١١٨ ب ٦١ ح ٣١٣٧٧ ، بحار الانوار : ج ٦٥ ص ١٥٦ ح ٣٠.

(٤) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٥٦٩ ح ٥٥ ، وسائل الشيعة : ج ٢٠ ص ٣٠١ ب ٢٥ ح ٢٥٦٧٦.

٣١٤

وإن كانت الشبهة وجوبية ، فمقتضى أدلة البراءة حتى العقل ، كبعض كلمات العلماء : عدم وجوب الفحص أيضا ،

______________________________________________________

وجوب الفحص ، لأنه طريق العقلاء في إطاعة الموالي.

ألا ترى : ان من يعلم ان الخمر والخنزير والميتة محرمات ، يلزم عليه الفحص حتى يعرف ما هي الخمر؟ وما هو الخنزير؟ وما هي الميتة؟.

وكذا من يعلم ان الأمّ والاخت والمرضعة محرمات ، فانه يلزم عليه الفحص حتى يعلم ان أيّة هذه النساء أمه؟ وأيهن اخته؟ وأيهن مرضعته؟.

وهكذا بالنسبة إلى من يعلم ان الغيبة والنميمة والقذف محرمات ، إلى غير ذلك.

ولا يخفى : ان بناء الفقهاء إنّما هو على وجوب الفحص في بعض فروع النكاح وغيره مما هو في الشبهة الموضوعية التحريمية على ما ذكروه في محله.

هذا هو تمام الكلام في الشبهة التحريمية الموضوعية.

(وان كانت الشبهة) موضوعية (وجوبية ، فمقتضى أدلة البراءة حتى العقل ، كبعض كلمات العلماء : عدم وجوب الفحص أيضا) أي : كما في الشبهة الموضوعية التحريمية ، وقد بيّن الأوثق وجه قوله : حتى العقل بما هو محل تأمل حيث قال :

«لعل الوجه فيه : ان عدم حكم العقل بالبراءة قبل الفحص في الشبهات الحكمية ، إنّما هو من جهة كون العمل بها قبل الفحص عن دليل الواقعة ـ مع احتمال وجوده في الواقع وإمكان الوصول إليه بالفحص ـ نوع تجرّ على مخالفة الشارع ، نعم ، بعد الفحص والعجز عن الوصول إليه ، يحكم بعدم تنجز التكليف بالواقع لو كان ، لأجل قبح التكليف بلا بيان ، وهذا الوجه غير جار في الشبهات

٣١٥

وهو مقتضى حكم العقلاء في بعض الموارد ، مثل قول المولى لعبده : «أكرم العلماء أو المؤمنين» ، فانه لا يجب الفحص في المشكوك حاله في المثالين ، إلّا أنّه قد يتراءى : أنّ بناء العقلاء في بعض الموارد على الفحص والاحتياط ، كما إذا أمر المولى باحضار علماء البلد ، أو أطبائها ، أو اضافتهم ، أو اعطاء كل واحد منهم دينارا ، فانّه قد يدّعى أنّ بنائهم على الفحص عن اولئك وعدم الاقتصار على المعلوم ابتداء

______________________________________________________

الموضوعية بناء على ما حقق في الشبهة التحريمية الموضوعية : من عدم كون الخطابات الواقعية دليلا على الشبهات الخارجية في نظر أهل العرف ، فوجود هذه الخطابات لا يمنع من العمل بأصالة البراءة في المصاديق الخارجية المشتبهة» (١).

(و) كيف كان : فان عدم وجوب الفحص في الشبهة الموضوعية الوجوبية (هو مقتضى حكم العقلاء في بعض الموارد ، مثل قول المولى لعبده : «اكرم العلماء أو المؤمنين» ، فانه لا يجب الفحص في المشكوك حاله في المثالين).

ولا يخفى ما فيه : فان المولى إذا أعطى لعبده مالا وقال له : اعطه لكل علماء قم المقدّسة ، لزم عليه الفحص عنهم حتى إنه إذا لم يعط أحدهم كان معاقبا عند المولى.

هذا (إلّا انّه قد يتراءى : انّ بناء العقلاء في بعض الموارد على الفحص والاحتياط ، كما إذا أمر المولى باحضار علماء البلد ، أو أطبائها ، أو اضافتهم ، أو اعطاء كل واحد منهم دينارا ، فانّه قد يدّعى انّ بنائهم على الفحص عن اولئك وعدم الاقتصار على المعلوم ابتداء) من دون أن يفحص عن واحد واحد

__________________

(١) ـ أوثق الوسائل : ص ٤٠٩ وجوب الفحص في اجراء الأصل في الشبهات الحكمية وعدمه.

٣١٦

مع احتمال وجود غيرهم في البلد.

قال في المعالم : في مقام الاستدلال على وجوب التبيّن في خبر مجهول الحال بآية التثبّت في خبر الفاسق : «ان وجوب التثبّت فيها متعلق بنفس الوصف ، لا بما تقدّم العلم به منه.

ومقتضى ذلك

______________________________________________________

منهم (مع احتمال وجود غيرهم) أي : غير المعلوم لديه (في البلد) ابتداء.

وكذلك إذا قال المولى لعبده وهو في المعركة : جهّز كل مسلم قتل في المعركة ، فاشتبه المسلم بالكافر ، فان عليه الفحص عن المسلم منهم للقيام بتجهيزه ودفنه ، وليس له أن يجري البراءة قبل الفحص مقتصرا على المعلوم منهم ابتداء.

ثم إنّ المصنّف ذكر كلام صاحب المعالم وصاحب القوانين دليلا على وجوب الفحص في الشبهة الموضوعية الوجوبية فقال :

(قال في المعالم في مقام الاستدلال على وجوب التبيّن في خبر مجهول الحال بآية التثبّت في خبر الفاسق) فان الآية تقول : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) (١) فاذا علمنا ان زيدا فاسق ، وعمروا عادل ، وشككنا في خالد هل هو عادل أو فاسق؟ وجب الفحص في خبر خالد ، لا أن نتركه بلا فحص لاحتمال فسقه ، ولا أن نعمل به بلا فحص لاحتمال عدالته.

قال : («ان وجوب التثبّت فيها) أي : في الآية المباركة (متعلق بنفس الوصف) أي : بالفاسق الواقعي ، فالفاسق الواقعي يتثبّت في خبره (لا بما تقدّم العلم به منه) أي : لا بالفاسق الذي علم المكلّف بأنه كان فاسقا فقط.

(ومقتضى ذلك) أي : مقتضى تعلّق التثبت بالفاسق الواقعي لا بمن علم انه

__________________

(١) ـ سورة الحجرات : الآية ٦.

٣١٧

إرادة الفحص والبحث عن حصوله وعدمه» ، ألا ترى أنّ قول القائل : «أعط كل بالغ رشيد من هذه الجماعة ـ مثلا ـ درهما» يقتضي إرادة السؤال والفحص عمّن جمع الوصفين ، لا الاقتصار على من سبق العلم باجتماعهما فيه» ، انتهى.

وأيّد ذلك المحقق القمي قدس‌سره في القوانين ب «أن الواجبات المشروطة بوجود شيء

______________________________________________________

فاسق (إرادة الفحص والبحث عن حصوله) أي : حصول وصف الفسق فيه (وعدمه») أي : عدم حصول وصف الفسق فيه واقعا ، وذلك لأن الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعية لا للمعلومة ، فاذا علّق المولى الحكم على لفظ وجب أن نفحص عن مصاديق ذلك اللفظ.

(ألا ترى انّ قول القائل : «أعط كل بالغ رشيد من هذه الجماعة ـ مثلا ـ درهما يقتضي إرادة) هذا القائل (السؤال والفحص عمّن جمع الوصفين) البلوغ والرشد ، سواء علم المكلّف بهما حال الأمر ، أم لم يعلم بهما؟.

(لا الاقتصار على من سبق العلم باجتماعهما) أي : باجتماع الوصفين (فيه» (١) ، انتهى) كلام المعالم.

(وأيّد ذلك) أي : أيد وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية الوجوبية (المحقق القمي قدس‌سره في القوانين) مستدلا عليه : (بأن الواجبات المشروطة بوجود شيء) مثل وجوب التبين للنبإ المشروط بفسق المنبئ ، ومثل وجوب الحج المشروط بالاستطاعة ، ومثل وجوب الخمس والزكاة المشروطين بالزيادة عن المئونة والنصاب ، إلى غيرها من الأمثلة ، فانه قال :

__________________

(١) ـ معالم الدين : ص ٢٠١.

٣١٨

إنّما يتوقف وجوبها على وجود الشرط لا على العلم بوجوده ، فبالنسبة إلى العلم مطلق لا مشروط ، مثل أنّ من شكّ في كون ماله بمقدار استطاعة الحج ، لعدم علمه بمقدار المال ، لا يمكنه أن يقول : إنّي لا أعلم أنّي مستطيع ولا يجب عليّ شيء ، بل يجب عليه محاسبة ماله ليعلم أنّه واجد للاستطاعة أو فاقد لها.

______________________________________________________

(إنّما يتوقف وجوبها) أي : وجوب تلك الواجبات المشروطة (على وجود الشرط) واقعا (لا على العلم بوجوده) حتى يأتي المكلّف بما علم وجود الشرط فيه ، ويترك ما لم يعلم وجود الشرط فيه من الافراد المشكوكة.

إذن : (ف) الواجب المشروط (بالنسبة إلى العلم مطلق لا مشروط) لأن الشارع قال : حج إن استطعت ، ولم يقل حج ان علمت بالاستطاعة ، فالواجب على المكلّف حينئذ الفحص حتى يعلم هل انه مستطيع أو ليس بمستطيع؟ وذلك كما قال :

(مثل انّ من شكّ في كون ماله بمقدار استطاعة الحج لعدم علمه بمقدار المال لا يمكنه أن يقول : انّي لا أعلم انّي مستطيع ولا يجب عليّ شيء) فيترك الحج لشكه هذا (بل يجب عليه محاسبة ماله ليعلم انّه واجد للاستطاعة أو فاقد لها).

كذلك حال من لا يعلم هل ان بدنه يتحمّل هذا السفر الطويل أم لا؟ فاللازم الفحص عن ذلك ، كما انه يجب الفحص بالنسبة إلى الصحة البدنية في باب الصوم وكذا بالنسبة إلى تخلية السرب وأمن الطريق في الحج ، وذلك فيما لم يكن له حالة سابقة ، كما في توارد الحالتين ، فاذا تواردت حالتان : من الأمن والخوف في الطريق ـ مثلا ـ وجب الفحص إذ لا حالة سابقة حتى تستصحب ، فان مع توارد الحالتين لا استصحاب.

٣١٩

نعم ، لو شك بعد المحاسبة في أنّ هذا المال هل يكفيه في الاستطاعة أم لا؟ فالأصل عدم الوجوب حينئذ».

ثم ذكر المثال المذكور في المعالم بالتقريب المتقدم عنه.

وأمّا كلمات الفقهاء فمختلفة في فروع هذه المسألة ، فقد أفتى جماعة منهم ، كالشيخ والفاضلين وغيرهم ، بأنّه لو كان فضة مغشوشة بغيرها وعلم بلوغ الخالص نصابا وشك في مقداره

______________________________________________________

ثم قال القوانين : (نعم ، لو شك بعد المحاسبة في انّ هذا المال هل يكفيه في الاستطاعة أم لا؟ فالأصل عدم الوجوب حينئذ» (١)).

لكن لا يخفى : ان هذا أيضا محل تأمل ، فان من اللازم الفحص لتحصيل العلم بأن هذا المقدار من المال كمائة دينار ـ مثلا ـ هل يكفي للحج أو لا يكفي؟ فلا وجه للتفصيل بين الفحصين.

(ثم ذكر) القوانين (المثال المذكور في المعالم) وهو : مثال التثبت في الآية المباركة (بالتقريب المتقدم عنه (٢)) أي : عن المعالم.

(وأمّا كلمات الفقهاء) بالنسبة إلى وجوب الفحص وعدمه في الشبهة الموضوعية الوجوبية (فمختلفة في فروع هذه المسألة) في مختلف أبواب الفقه.

(فقد أفتى جماعة منهم ، كالشيخ والفاضلين وغيرهم : بأنّه لو كان فضة مغشوشة بغيرها) أي : بغير الفضة بحيث كان الخلط زائدا على المتعارف ، إذ هناك قدر متعارف يحتاج اليه الدينار والدرهم ، امّا إذا كان زائدا على المتعارف (وعلم بلوغ الخالص نصابا) زكويا (وشك في مقداره) بأنه هل بلغ النصاب الثاني أو الثالث أم لا؟ وجب عليه أحد أمرين كما قال :

__________________

(١) ـ معالم الدين : ٢٠١.

(٢) ـ القوانين المحكمة : ص ٢٢٤.

٣٢٠