الوصائل الى الرسائل - ج ١٠

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل الى الرسائل - ج ١٠

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-10-4
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

نعم ، لو شك في اعتبارها ، ولم يقم دليل معتبر من شرع أو عرف حاكم بتحقق الاطاعة بدونها ، كان مقتضى الاحتياط اللازم الحكم بعدم الاكتفاء بعبادة الجاهل ،

______________________________________________________

والحاصل : ان العقل مستقل ، وكذا العقلاء بكفاية الاحتياط غير المستلزم للتكرار قبل الفحص عن وجه الفعل بالنسبة إلى المجتهد القادر على الفحص ، وبكفاية الاحتياط قبل الرجوع إلى المجتهد بالنسبة إلى المقلد ، والشارع لم يغيّر هذه الطريقة العقلية والعقلائية.

(نعم ، لو) فرض تردد العقل في كفاية الاحتياط في مقام امتثال أحكام الشرع ، وذلك بأن (شك في اعتبارها) أي : اعتبار نية الوجه (ولم يقم دليل معتبر من شرع أو عرف حاكم) أي : لا عرف عادي ، بل العرف الذي يكون ميزانا للحكم ثبوتا وسقوطا ، فانه إذا لم يثبت شيء منهما يدل على انه (بتحقق الاطاعة بدونها) أي : بدون نية الوجه والتمييز (كان مقتضى الاحتياط اللازم) بحكم العقل : (الحكم بعدم الاكتفاء بعبادة الجاهل) بنية الوجه سواء كان مجتهدا ولم يفرغ وسعه في الفحص ، أو مقلدا ولم يرجع إلى مجتهده في الحكم.

هذا ، ولا يخفى : ان العرف ميزان وحاكم في ثلاثة امور :

الأوّل : في معنى الموضوع وحدوده.

الثاني : في معنى الحكم وحدوده.

الثالث : في تحقق الامتثال وعدمه.

وعليه : فاذا ورد مثلا : الكلب نجس فاجتنبه ، فانه يرجع إلى العرف في معنى الكلب وحدوده ، وفي معنى النجس وحدوده ، وفي معنى الاجتناب وحدوده ، وهل ان الامتثال يتحقق بالاجتناب عنه مطلقا حتى عن النظر اليه ، أو هو الاجتناب

١٨١

حتى على المختار من اجراء البراءة في الشك في الشرطيّة.

لأن هذا الشرط ليس على حدّ الشروط المأخوذة في المأمور به الواقعة في حيّز الأمر ،

______________________________________________________

بنوع خاص؟ فانه يرجع فيه إلى العرف للحكم بان هذا العمل فعلا كان أم تركا امتثال أو ليس بامتثال ، وذلك فيما إذا شك في انه امتثل أم لا ، من جهة فقد بعض الخصوصيات ، أو زيادة بعض امور لا ترتبط بالتكليف.

هذا ، ولكن الظاهر : ان قوله : «نعم لو شك في اعتبار نية الوجه» ، انه مجرد فرض إذ لا يحصل مثل هذا الشك بعد القطع بحصول الامتثال عقلا وعرفا باتيان المأمور به بقصد أمره الواقعي وان لم يعلم انه واجب أو مستحب ، فيكفي مجرد العلم بتعلق الطلب بالعبادة وان لم يعلم انه على سبيل الوجوب أو على سبيل الاستحباب.

هذا من جهة العقل والعقلاء والعرف ، وامّا من جهة الشرع فانه حيث لم يدل على اعتبار مثل نية الوجه في العبادة دليل مع ان المسألة مما يعمّ بها البلوى وتتكرر الحاجة اليها ليلا ونهارا لكل مكلف ، فهو دليل على عدم اعتبارها ، من باب انه لو كان لبان ، فعدم الدليل في مثل ذلك دليل العدم.

نعم ، لو فرض الشك لزم الاحتياط (حتى على المختار) عند المصنّف : (من اجراء البراءة في الشك في الشرطيّة) كما تجري البراءة في الشك في الجزئية (لان هذا الشرط ليس على حدّ الشروط المأخوذة في المأمور به الواقعة في حيّز الأمر) وداخله ، بأن وقع الأمر عليها ، فان الشرط على قسمين :

الأوّل : شرائط المأمور به التي يقع الأمر عليها مثل : شرط الطهارة والقبلة والستر وما أشبه في الصلاة ، وهذا القسم إذا شك فيه ، فأصل البراءة محكم فيه ،

١٨٢

حتى إذا شك في تعلق الالزام به من الشارع حكم العقل بقبح المؤاخذة المسبّبة عن تركه والنقل بكونه مرفوعا عن المكلّف ، بل هو على تقدير اعتباره شرط لتحقّق الاطاعة ، وسقوط المأمور به ، وخروج المكلّف عن العهدة.

______________________________________________________

وذلك لانه من الشك في التكليف.

الثاني : شرائط الامتثال التي تأتي بعد الأمر مثل : نية الوجه والتمييز وما أشبه في الصلاة ، فانه إذا صدر الأمر بالصلاة ـ مثلا ـ استلزم اتيانها بهذا النحو من النية والتمييز وغير ذلك ، وهذا القسم إذا شك فيه لزم الاتيان به ، لأنه من الشك في المكلّف به والشك في المكلّف به مجرى الاحتياط.

إذن : فليس هذا القسم الثاني من الشرط كالقسم الأوّل (حتى إذا شك) المكلّف (في تعلق الالزام به من الشارع حكم العقل بقبح المؤاخذة المسبّبة) تلك المؤاخذة (عن تركه) أي : ترك هذا القسم من الشرط المأخوذ في المأمور به (و) حكم (النقل) أيضا (بكونه مرفوعا عن المكلّف) فانه ليس من شروط المأمور به حتى يحكم العقل والنقل فيه بالبراءة ويجري فيه : «رفع ما لا يعلمون» (١) و «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» (٢).

(بل هو) أي : هذا القسم الثاني من الشرط (على تقدير اعتباره : شرط لتحقّق الاطاعة ، وسقوط المأمور به ، وخروج المكلّف عن العهدة) فهو من شروط الامتثال ، لا من شروط المأمور به.

__________________

(١) ـ تحف العقول ص ٥٠ ، التوحيد : ص ٣٥٣ ح ٢٤ ، الخصال : ص ٤١٧ ح ٢٧ ، وسائل الشيعة : ج ١٥ ص ٣٦٩ ب ٥٦ ح ٢٠٧٦٩.

(٢) ـ التوحيد : ص ٤١٣ ح ٩ ، الكافي (اصول) : ج ١ ص ١٦٤ ح ٣ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٦٣ ب ١٢ ح ٣٣٤٩٦ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٨٠ ب ٣٣ ح ٤٨.

١٨٣

ومن المعلوم : أنّ مع الشك في ذلك لا بد من الاحتياط واتيان المأمور به على وجه يقطع معه بالخروج عن العهدة.

وبالجملة : فحكم الشك في تحقق الاطاعة والخروج عن العهدة بدون الشيء غير حكم الشك في أنّ أمر المولى متعلق بنفس الفعل لا بشرط أو به بشرط كذا.

والمختار في الثاني البراءة ، والمتعيّن في الأوّل الاحتياط.

______________________________________________________

(ومن المعلوم : انّ مع الشك في ذلك) أي : في شرط الامتثال (لا بد من الاحتياط واتيان المأمور به على وجه يقطع معه) أي : من ذلك الوجه (بالخروج عن العهدة) فلا يكون موردا للبراءة حتى إذا لم يأت به يأمن العقاب على تركه.

(وبالجملة : فحكم الشك في تحقق الاطاعة والخروج عن العهدة بدون الشيء) المشكوك مثل : قصد الوجه والتمييز ونحوهما من الامور المترتبة على الأمر ، لا الامور السابقة على الأمر (غير حكم الشك في انّ أمر المولى متعلق بنفس الفعل لا بشرط ، أو به) أي : بالفعل (بشرط كذا) الذي هو من شروط المأمور به وسابق على الأمر حيث يأتي الأمر عليه ، كما مثّلنا له بالطهارة والستر والقبلة وما أشبه.

هذا (والمختار في الثاني) أي : في شروط المأمور به وهو ما ذكره بقوله : الشك في ان أمر المولى متعلق بنفس الفعل لا بشرط ، أو به بشرط كذا ، هو : (البراءة ، والمتعيّن في الأوّل) أي : في شروط الامتثال وهو ما ذكره بقوله : ومن المعلوم : ان مع الشك في ذلك لا بد من الاتيان به ، هو : (الاحتياط) وذلك لما عرفت : من أن باب الاطاعة وعدمها عرفي ، والعرف يوجبون الاحتياط عند الشك في مثل الوجه والتمييز ، ولا دليل من الشرع على عدم لزومه ، فاذا لم يأت

١٨٤

لكن الانصاف : أنّ الشك في تحقق الاطاعة بدون نية الوجه غير متحقق ، لقطع العرف بتحقّقها ، وعدّهم الآتي بالمأمور به بنية الوجه الثابت عليه في الواقع مطيعا وإن لم يعرفه تفصيلا ، بل لا بأس بالاتيان به بقصد القربة المشتركة بين الوجوب والندب من غير أن يقصد الوجه الواقعي المعلوم للفعل اجمالا.

وتفصيل ذلك في «الفقه» ، إلّا أنّ الأحوط عدم اكتفاء الجاهل عن الاجتهاد أو التقليد بالاحتياط ،

______________________________________________________

به لا يكون مأمونا من العقاب.

(لكن الانصاف : انّ الشك في تحقق الاطاعة بدون نية الوجه غير متحقق) فان العرف لا يشكون في تحقق العبادة وان لم ينو المكلّف الوجه فيها ، وذلك (لقطع العرف بتحقّقها ، وعدّهم الآتي بالمأمور به بنية الوجه الثابت عليه في الواقع) بأن ينوي : اني آتي بهذا الشيء على وجهه الواقعي سواء كان واجبا أم مستحبا ، فانه يعدّ (مطيعا وان لم يعرفه تفصيلا) بانه واجب أو مستحب.

(بل لا بأس بالاتيان به بقصد القربة المشتركة بين الوجوب والندب من غير ان يقصد الوجه الواقعي) فانه قد ينوي : اني آتي بهذا العمل على وجهه الواقعي من الوجوب والندب ، وقد ينوي : اني آتي به قربة إلى الله تعالى من دون ان يجعل في نيته انه يأتي به على وجهه الواقعي (المعلوم للفعل إجمالا) من انه اما واجب واما مستحب (وتفصيل ذلك في «الفقه») فلا حاجة إلى تكراره.

(إلّا انّ الأحوط) احتياطا استحبابيا (عدم اكتفاء الجاهل عن الاجتهاد أو التقليد بالاحتياط) وإنّما عليه أن يفحص حتى يعلم هل هو واجب أو مستحب؟ فحصا اجتهاديا بالنسبة إلى المجتهد وتقليديا بالنسبة إلى المقلد.

١٨٥

لشهرة القول بذلك بين الأصحاب ، ونقل غير واحد : اتفاق المتكلّمين على وجوب اتيان الواجب والمندوب لوجوبه أو ندبه أو لوجههما.

ونقل السيد الرضي قدس‌سره : اجماع أصحابنا على بطلان صلاة من صلّى صلاة لا يعلم أحكامها ، وتقرير أخيه الأجلّ علم الهدى قدس‌سره له على ذلك في مسألة الجاهل بالقصر.

بل يمكن أن يجعل هذان الاتفاقان المحكيّان من أهل المعقول والمنقول

______________________________________________________

وإنّما قال : الأحوط ترك الاحتياط قبل الفحص (لشهرة القول بذلك) أي : بعدم كفاية العمل الاحتياطي (بين الأصحاب ، ونقل غير واحد : اتفاق المتكلّمين على وجوب اتيان الواجب والمندوب لوجوبه أو ندبه) بان ينوي : اني آتي بصلاة الظهر لوجوبها ، أو آتي بصلاة النافلة لندبها (أو لوجههما) أي : وجه الوجوب ووجه الندب علما بأن الوجه في الوجوب هو المصلحة الملزمة وفي الندب هو المصلحة غير الملزمة.

(ونقل السيد الرضي قدس‌سره : اجماع أصحابنا على بطلان صلاة من صلّى صلاة لا يعلم أحكامها) وإطلاقه يشمل الاحتياط ، كما انه يشمل ما إذا كان العمل الذي أتى به مطابقا للواقع أيضا ، وليس ذلك إلّا لعدم نية الوجه في مثل هذه الصلاة.

(و) كذا (تقرير أخيه الأجلّ علم الهدى قدس‌سره له على ذلك) الاجماع (في مسألة الجاهل بالقصر) فانه إذا جهل بالقصر وصلّى صلاتين : قصرا وتماما لم يكف ، كما إنه إذا جهل بالقصر لكنه صلّى قصرا وكان ما صلّاه مطابقا للواقع لم يكف أيضا ، وما ذلك إلّا للاخلال بنية الوجه.

(بل يمكن أن يجعل هذان الاتفاقان المحكيّان من أهل المعقول) من المتكلمين (والمنقول) عن الرضي والمرتضى حيث ادعيا الاجماع

١٨٦

المعتضدان بالشهرة العظيمة دليلا في المسألة ، فضلا عن كونهما منشئا للشك الملزم للاحتياط ، كما ذكرنا.

وأمّا الثاني : وهو ما يتوقف الاحتياط فيه على تكرار العبادة ، فقد يقوى في النظر أيضا جواز ترك الطريقين فيه إلى الاحتياط بتكرار العبادة ،

______________________________________________________

من الأصحاب (المعتضدان بالشهرة العظيمة) في كتب الفقه (دليلا في المسألة) على لزوم نيّة الوجه (فضلا عن كونهما منشئا للشك) بالنحو (الملزم للاحتياط كما ذكرنا) عند قولنا : «نعم لو شك في اعتبارها» إلى آخره.

ولا يخفى : ان المصنّف يظهر منه : انه متردد في المسألة ، فقد رجح في مبحث القطع جواز العمل بالاحتياط ، بل رجحانه حتى في صورة التمكن من الظن الخاص فضلا عن الظن المطلق في صورة عدم التكرار ، وصرّح هناك : بان شبهة اعتبار نية الوجه ضعيفة ، كما انه صرح بعدم حجية الاجماع المنقول في المسائل التعبدية فكيف في المسائل العقلية؟ وهنا مال إلى الوجوب وجعل الاجماع مستندا.

هذا ، ولعل العمدة في وجه تردده قدس‌سره هو تردّده بين الأدلة الصناعية المقتضية لعدم لزومه ، وبين الشهرة ونقل الاجماع الدالين على لزومه ، والظاهر : ان الأدلة الصناعية مقدمة ، إلّا إذا قيل بالاحتياط الاستحبابي.

(وامّا الثاني : وهو ما يتوقف الاحتياط فيه على تكرار العبادة) سواء كانت العبادة من جنس واحد كالصلاة في ثوبين أحدهما نجس ، أم من جنسين كصلاة الجمعة وصلاة الظهر (فقد يقوى في النظر أيضا جواز ترك الطريقين) : من الاجتهاد والتقليد (فيه) أي : في هذا القسم الثاني (إلى الاحتياط بتكرار العبادة) وذلك لما عرفت : من حصول الطاعة بالاحتياط عرفا إذا لم يكن هناك محذور

١٨٧

بناء على عدم اعتبار نيّة الوجه.

لكن الانصاف عدم العلم بكفاية هذا النحو من الاطاعة الاجماليّة ، وقوة احتمال اعتبار الاطاعة التفصيلية في العبادة ، بأن يعلم المكلّف حين الاشتغال بما يجب عليه أنّه هو الواجب عليه.

______________________________________________________

الوسوسة وما أشبه ذلك من المحاذير التي تقدمت الاشارة اليها.

وإنّما قال : قد يقوى جواز الاحتياط هنا أيضا (بناء على عدم اعتبار نيّة الوجه) على ما ذكرناه آنفا ، لأنه إذا قلنا باعتبار نية الوجه ، فاعتبارها ينافي تكرار العبادة بالنسبة إلى من يقدر على تحصيل الوجه بالاجتهاد أو التقليد.

هذا (لكن الانصاف) عدم كفاية الاحتياط بتكرار العبادة قبل الفحص لوجوه ثلاثة ذكرها المصنّف :

الأوّل : (عدم العلم بكفاية هذا النحو من الاطاعة الاجماليّة) لأن الاطاعة الاجمالية تستلزم فقد النية ، والمفروض : اعتبار نية الوجه ، فيقوى بسبب اعتبارها اشتراط الاطاعة التفصيلية كما قال : (وقوة احتمال اعتبار الاطاعة التفصيلية في العبادة) مع التمكن منها.

هذا ، والاطاعة التفصيلية إنّما تحصل (بأن يعلم المكلّف حين الاشتغال بما يجب عليه أنّه هو الواجب عليه) بعينه ، لا انه مردد بين الواجب وغير الواجب.

وفيه : ان المشهور بين الأصحاب جوازه ، لأنه لا دليل على لزوم قصد الوجه مؤيدا ذلك بمكاتبة صفوان بن يحيى ، في الحسن عن أبي الحسن عليه‌السلام : يسأله عن الرجل كان معه ثوبان فأصاب أحدهما بول ولم يدر أيّهما هو؟ وحضرت الصلاة وخاف فوتها وليس عنده ماء كيف يصنع؟ قال : يصلي فيهما جميعا (١).

__________________

(١) ـ تهذيب الاحكام : ج ٢ ص ٢٢٥ ب ٢٣ ح ٩٥ ، من لا يحضره الفقيه : ج ١ ص ٢٤٩ ح ٧٥٦.

١٨٨

ولذا يعدّ تكرار العبادة لاحراز الواقع مع التمكن من العلم التفصيلي به أجنبيا عن سيرة المتشرعة ، بل من أتى بصلوات غير محصورة لاحراز شروط صلاة واحدة ، بأن صلّى في موضع تردّد فيه القبلة بين أربع جهات في خمسة أثواب ، أحدها طاهر ، ساجدا على خمسة أشياء : أحدها ما يصح السجود عليه ، مائة

______________________________________________________

كذا قيل ، لكن ظاهر هذه الرواية : عدم التمكن من العلم التفصيلي ، فهي تصلح في ردّ ابن إدريس الحلي القائل بالصلاة عاريا في مفروض المسألة ، ولا تصلح لرد من يقول بلزوم العلم في صورة التمكن منه.

الثاني : السيرة على عدم كفاية الاطاعة الاجمالية كما قال رحمه‌الله : (ولذا يعدّ تكرار العبادة لاحراز الواقع مع التمكن من العلم التفصيلي به) أو الظن التفصيلي المعتبر به ، كشهادة أهل الخبرة ـ مثلا ـ بالنسبة إلى القبلة ونحوها ، يعدّ (أجنبيا عن سيرة المتشرعة) فان سيرتهم على تحصيل العلم أو الظن المعتبر ، لا الاحتياط.

لكن أورد على السيرة : بعدم الحجية ، إلّا إذا كانت متصلة بزمان المعصوم ، وعلم تقرير المعصوم لها ولو من جهة عدم إنكارها ، وكلا الأمرين في المقام محل نظر.

الثالث : من وجوه عدم كفاية الاحتياط قبل الفحص المستلزم للتكرار : لزوم اللعب بأمر المولى ، كما أشار اليه المصنّف بقوله :

(بل من أتى بصلوات غير محصورة لاحراز شروط صلاة واحدة ، بأن صلّى في موضع تردّد فيه القبلة بين أربع جهات في خمسة أثواب أحدها طاهر ساجدا على خمسة أشياء : أحدها ما يصح السجود عليه) فيكون مجموع ما يصلّيه (مائة)

١٨٩

مع التمكّن من صلاة واحدة يعلم فيها تفصيلا اجتماع الشروط الثلاثة ، يعدّ في الشرع والعرف لاعبا بأمر المولى.

والفرق بين الصلوات الكثيرة وصلاتين لا يرجع إلى محصّل.

______________________________________________________

صلاة مكان صلاة واحدة (مع التمكّن من صلاة واحدة يعلم فيها تفصيلا اجتماع الشروط الثلاثة) من القبلة ، والثوب الطاهر ، وما يصح السجود عليه ، فان المحتاط هذا (يعدّ في الشرع والعرف : لاعبا بأمر المولى) وهو واضح.

(و) ان قلت : هناك فرق بين صورة استلزام الاحتياط : التكرار الكثير ، وعدمه ، فالتكرار في ثوبين مشتبهين ـ مثلا ـ لا يعد لعبا بأمر المولى.

قلت : (الفرق بين الصلوات الكثيرة) كما في مثال الاحتياط بمائة صلاة (وصلاتين) كما في مثال الثوبين المشتبه أحدهما بالنجس (لا يرجع إلى محصّل) لأن المعيار هو : التكرار وعدم التكرار ، فاذا تحقق التكرار فلا فرق فيه بين القليل والكثير.

لكن لا يخفى : وضوح الفرق بينهما عند العرف ، فانه إذا قال المولى : ائتني بكتاب الرسائل فجاء العبد بكتابين أحدهما الرسائل لا يوبّخه العرف ، بينما إذا جاء بمائة كتاب احدها الرسائل ونحوه على انه لما ذا يلعب بأمر المولى ، وذلك على فرض تسليم كونه لعبا بأمر المولى؟.

وكيف كان : فقد أجاب عن هذا الاشكال جمع ، منهم صاحب الكفاية حيث قال : وامّا كون التكرار لعبا وعبثا ، فمع انه ربما يكون لداع عقلائي ، كما إذا كان في تحصيل العلم التفصيلي بالامتثال مشقة وكلفة ، أو بذل مال ، أو ذل سؤال ، ونحو ذلك ، إنّما يضر إذا كان لعبا بأمر المولى ، لا في كيفية إطاعته بعد حصول الداعي اليها.

١٩٠

نعم ، لو كان ممن لا يتمكن من العلم التفصيلي ، كان ذلك منه محمودا مشكورا.

وببالي : أنّ صاحب الحدائق قدس‌سره يظهر منه : دعوى الاتفاق على عدم مشروعيّة التكرار مع التمكّن من العلم التفصيلي.

ولقد بالغ الحلّي قدس‌سره في السرائر حتى أسقط اعتبار الشرط المجهول تفصيلا ولم يجوّز التكرار المحرز له ، فأوجب الصلاة عاريا على من عنده ثوبان مشتبهان ، ولم يجوّز تكرار الصلاة فيهما مع ورود النص به ، لكن من طريق الآحاد ،

______________________________________________________

(نعم ، لو كان) العبد (ممن لا يتمكن من العلم التفصيلي) فاحتاط وأتى بالشيء مكررا لتحصيل الواقع (كان ذلك) التكرار (منه محمودا مشكورا) لكن بشرط ان لا يكون فيه عسر أو حرج أو ضرر منهي عنه شرعا.

هذا (وببالي : انّ صاحب الحدائق قدس‌سره يظهر منه : دعوى الاتفاق على عدم مشروعيّة التكرار مع التمكّن من العلم التفصيلي ، ولقد بالغ الحلّي) ابن إدريس (قدس‌سره في السرائر حتى أسقط اعتبار الشرط) كالستر (المجهول تفصيلا ولم يجوّز التكرار المحرز له) أي : لذلك الشرط المعلوم اجمالا.

وعليه : فاذا كان للمكلف ـ مثلا ـ ثوبان اشتبه أحدهما بالنجس ولم يتمكن من تطهيره أو تحصيل الثوب الطاهر (فأوجب الصلاة عاريا) عليه أي : (على من عنده ثوبان مشتبهان ولم يجوّز تكرار الصلاة فيهما مع ورود النص به) وهو النص الذي تقدّم من مكاتبة صفوان بن يحيى.

(لكن) إنّما أسقط الحلي الشرط المجهول ولم يعمل بالنص فيه ، لأن النص قد ثبت (من طريق) الخبر (الآحاد) والحلي لا يعمل بالخبر الواحد ، ولذا يرى

١٩١

مستندا في ذلك إلى وجوب مقارنة الفعل الواجب لوجهه.

وكما لا يجوز الدخول في العمل بانيا على احراز الواقع بالتكرار ، كذا لا يجوز بانيا على الفحص بعد الفراغ ، فان طابق الواقع وإلّا أعاده.

ولو دخل في العبادة بنيّة الجزم ، ثم اتفق له ما يوجب تردّده في الصحة ووجوب الاتمام ، وفي البطلان ووجوب الاستئناف ،

______________________________________________________

لزوم العمل حسب القواعد ، لأن الخبر الواحد ليس بحجة عنده (مستندا في ذلك) أي : في عدم جواز التكرار (إلى وجوب مقارنة الفعل الواجب لوجهه) ومعلوم انّ التكرار ينافي قصد الوجه.

(و) عليه : فانه (كما لا يجوز الدخول في العمل بانيا على احراز الواقع بالتكرار) على رأي المصنّف للوجوه الثلاثة التي ذكرها (كذا لا يجوز) على رأيه الدخول في العمل (بانيا على الفحص بعد الفراغ ، فان طابق الواقع) فهو (وإلّا أعاده).

كما إذا صلى في أحد الثوبين المشتبهين مع تمكنه من ثوب طاهر ، بانيا على الفحص عن هذا الثوب بعد الصلاة ، فان كان طاهرا اكتفى بتلك الصلاة ، وان كان نجسا أعادها في ثوب طاهر ، فانه جعل هذا التكرار الأوّل في عدم الجواز.

وإنّما يكون الحكم هنا مثل حكم التكرار هناك في عدم الجواز ، لأن هذا المصلي قد أخل بقصد الوجه هنا أيضا مع انه قادر على الصلاة مع قصد الوجه.

هذا (ولو دخل في العبادة بنيّة الجزم) بالصحة ، وذلك بأن كان حين الدخول فيه غير متردد في وجه العمل (ثم اتفق له ما يوجب تردّده) بين الصحة والبطلان ، وذلك للشك (في الصحة ووجوب الاتمام ، وفي البطلان ووجوب الاستئناف).

كما إذا علا صوته بالبكاء ، أو تأوّه في الصلاة ، مما جعله يتردد بين الاتمام

١٩٢

ففي جواز الاتمام بانيا على الفحص بعد الفراغ والاعادة مع المخالفة وعدمه ، وجهان : من اشتراط العلم بالصحة حين العمل كما ذكرنا ، ولذا لم يجوّز هذا من أوّل الأمر.

وبعبارة اخرى : الجزم بالنية معتبر في الاستدامة كالابتداء ، ومن أنّ المضيّ في العمل ولو مترددا بانيا على استكشاف حاله بعد الفراغ ، محافظة على عدم إبطال العمل المحتمل حرمته واقعا

______________________________________________________

أو الاستيناف (ففي جواز الاتمام بانيا على الفحص بعد الفراغ والاعادة مع المخالفة) ان ظهر مخالفة ما أتى به للواقع (وعدمه) أي : عدم جواز الاتمام لأنه فقد الجزم بالوجه (وجهان) :

أشار المصنّف إلى أول الوجهين وهو : وجه البطلان بقوله : (من اشتراط العلم بالصحة حين العمل كما ذكرنا) آنفا من يعلم اعتبار قصد الوجه والتمييز (ولذا لم يجوّز هذا) أي : التردد في الصحة (من أوّل الأمر) أي : قبل الدخول في العمل ، فاذا أراد الدخول في الصلاة ولم يعلم ان هذه الصلاة صحيحة أو ليست بصحيحة لم يجز الدخول فيها ، كذلك إذا تردد في الأثناء لم يجز اتمامها.

(وبعبارة اخرى : الجزم بالنية معتبر في الاستدامة كالابتداء) فكما انه لا يصح الدخول في الصلاة بلا جزم بالنية ابتداء ، كذلك لا يصح البقاء في الصلاة بلا جزم بالنية استدامة.

وأشار إلى ثاني الوجهين وهو : وجه الصحة بقوله : (ومن انّ المضيّ في العمل ولو مترددا بانيا على استكشاف حاله) أي : حال العمل (بعد الفراغ) منه ، وذلك البناء (محافظة على عدم إبطال العمل المحتمل حرمته) أي : حرمة إبطاله (واقعا

١٩٣

على تقدير صحته ، ليس بأدون من الاطاعة التفصيليّة ولا يأباه العرف ولا سيرة المتشرّعة.

وبالجملة : فما اعتمد عليه في عدم جواز الدخول في العمل متردّدا من السيرة العرفية والشرعية غير جار في المقام.

ويمكن التفصيل بين كون الحادث الموجب

______________________________________________________

على تقدير صحته ، ليس بادون) وأنزل (من الاطاعة التفصيليّة) حتى نقول بابطال صلاته ، واستئناف صلاة جديدة.

هذا (ولا يأباه) أي : المضي في العمل والبناء على السؤال (العرف) الذين هم المخاطبون بالاحكام الشرعية فتلقيهم كاشف عن ارادة الشارع.

(ولا) يأباه أيضا (سيرة المتشرّعة) في أمثال هذه الامور ، فانهم إذا ترددوا في صحة الصلاة وعدمه أثناء الصلاة أتموها بانين على السؤال بعد ذلك.

(وبالجملة : فما اعتمد عليه في عدم جواز الدخول في العمل متردّدا من السيرة العرفية والشرعية غير جار في المقام) وهو ما إذا حصل التردد في أثناء العمل.

وأولى بالمضي ما إذا تردد في أثناء صوم شهر رمضان ، أو الحج ، أو صوم الاعتكاف في اليوم الثالث ، أو ما أشبه ذلك ، لأنه إذا كان صحيحا كان واجبا عليه إتمامه قطعا ، وإذا وجب عليه إتمامه حرم قطعه يقينا بخلاف ما إذا رفع يده عن الصلاة ، فان وجوب الاتمام في الصلاة ليس مقطوعا به بمثل القطع بوجوب إتمام صوم شهر رمضان وإتمام الحج وما أشبههما.

(ويمكن التفصيل) هنا وهذا وجه ثالث في المسألة ، ويبدو انه مختار المصنّف كما يظهر من عدم ردّه له وهو : التفصيل (بين كون الحادث الموجب

١٩٤

للتردّد في الصحة ممّا وجب على المكلّف تعلّم حكمه قبل الدخول في الصلاة لعموم البلوى ، كأحكام الخلل الشائع وقوعها وابتلاء المكلّف بها.

فلا يجوز لتارك معرفتها إذا حصل له التردّد في الأثناء ، المضي والبناء على الاستكشاف بعد الفراغ ، لأنّ التردّد حصل من سوء اختياره ، فهو في مقام الاطاعة كالداخل في العمل مترددا ، وبين كونه ممّا لا يتفق إلّا نادرا.

ولأجل ذلك لا يجب تعلّم حكمه قبل الدخول ، للوثوق بعدم الابتلاء غالبا ،

______________________________________________________

للتردّد في الصحة ممّا وجب على المكلّف تعلّم حكمه قبل الدخول في الصلاة) ووجوب تعلم حكمه (لعموم البلوى) وكثرة الابتلاء به (كأحكام الخلل الشائع وقوعها) مثل الشك بين الاثنتين والثلاث وما أشبه ذلك (وابتلاء المكلّف بها) كثيرا ، فان عموم البلوى موجب للتعلم ، وذلك لاطلاق أدلة التعلم.

وعليه : فاذا كان الحادث الموجب للتردد من هذا القبيل (فلا يجوز لتارك معرفتها إذا حصل له التردّد في الأثناء ، المضي والبناء على الاستكشاف بعد الفراغ).

وإنّما لا يجوز المضي (لأنّ التردّد حصل من سوء اختياره) حيث لم يتعلم قبل الصلاة مع وجوب التعلم عليه (فهو في مقام الاطاعة كالداخل في العمل مترددا) وكما لا يجوز الدخول في العمل مترددا كذلك لا يجوز استدامة العمل مترددا.

إذن : فالتفصيل بين عموم البلوى فلا يجوز المضي (وبين كونه ممّا لا يتفق إلّا نادرا) مثل : انقاذ الغريق ، واطفاء الحريق ، وما أشبه ذلك (ولأجل ذلك) أي : ندرة وقوعه (لا يجب تعلّم حكمه قبل الدخول) في الصلاة ، وعدم وجوب تعلم حكمه إنّما هو (للوثوق بعدم الابتلاء غالبا) به ، فلا يشمله أدلة التعليم والتعلم.

١٩٥

فيجوز هنا المضيّ في العمل على الوجه المذكور ، هذا بعض الكلام في الاحتياط.

وأمّا البراءة

فان كان الشك الموجب للرجوع اليها من جهة الشبهة في الموضوع ، فقد تقدّم أنّها غير مشروطة بالفحص عن الدليل المزيل لها ،

______________________________________________________

وعليه : (فيجوز هنا) فيما إذا تردد في الأثناء (المضيّ في العمل على الوجه المذكور) بأن يمضي في العمل ويبني على الفحص والسؤال بعد الاتمام ، فان صح فهو وإلّا أعاده (هذا بعض الكلام في الاحتياط).

ولا يخفى : ان المصنّف ذكر في هذا المبحث ان الكلام تارة في الاحتياط ، واخرى في البراءة ، وأهمل ذكر التخيير في المقام مع انه من الاصول أيضا ، ولعله لاتحاد حكم التخيير مع البراءة ، مضافا إلى أنه صرّح بعد ذلك بعدم الفرق بينهما حيث قال : ثم أن في حكم أصل البراءة كل أصل عملي خالف الاحتياط ، وقوله : هذا يشمل التخيير والاستصحاب ، وان كان لو أبدل قوله : خالف الاحتياط بقوله : غير الاحتياط لكان أولى ، كما ألمع اليه الآشتياني.

(وأمّا) الكلام في (البراءة : فان كان الشك الموجب للرجوع اليها من جهة الشبهة في الموضوع) كما إذا شك في ان هذا الماء نجس أم لا ، أو ان هذا المائع خمر أم لا ، إلى غير ذلك من الشبهات الموضوعية التي يستطرق فيها باب العرف من غير مدخلية للشرع فيها (فقد تقدّم انّها) أي : البراءة (غير مشروطة بالفحص عن الدليل) فلا يلزم سؤال أهل الخبرة وما أشبه ذلك (المزيل لها) أي :

لهذه الشبهة.

١٩٦

وإن كان من جهة الشبهة في الحكم الشرعي.

______________________________________________________

هذا ، ولكنا ذكرنا سابقا كما عرفت وذكرنا في الفقه أيضا : ان الواجب هو الفحص ، إلّا فيما علم من الشارع عدم لزوم الفحص فيه ، كالشك في الطهارة والنجاسة ، والشك في المرأة التي يريد أن يتزوجها بأن لها زوج أم لا ، وغير ذلك مما صرح الشارع بعدم لزوم الفحص فيه.

وإنّما نقول بالفحص في الشبهات الموضوعية أيضا إلّا ما استثنى ، لأن الفحص في الموضوعات أيضا كالأحكام ، هو طريق الطاعة عرفا ، وعليه بناء العقلاء والسيرة المستمرة من المتشرعة ، ولذا اشتهر بينهم فتوى أو احتياطا : الفحص عن بلوغ النصاب في الزكاة ، والزيادة عن المئونة في الخمس ، وحصول الاستطاعة في الحج ، وغير ذلك.

نعم ، ورد عدم الفحص في بعض مسائل الحلال والحرام ، لكنه يحتمل ان يكون ذلك من جهة الاصول المصححة مثل : السوق ونحوه ، فقد جاء في ذيل رواية مسعدة بن صدقة : «والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير هذا ، أو تقوم به البينة» (١) وقوله عليه‌السلام : «حتى يجيئك شاهدان يشهدان ان فيه الميتة» (٢) إلى ما يشبههما ممّا تعرضوا له في الفقه.

(وإن كان) الشك الموجب للرجوع إلى البراءة (من جهة الشبهة في الحكم الشرعي) وجوبا : كوجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، أو حرمة : كحرمة شرب

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٣١٣ ح ٤٠ ، تهذيب الاحكام : ج ٧ ص ٢٢٦ ب ٢١ ح ٩ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ٨٩ ب ٤ ح ٢٢٠٥٣ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٧٣ ب ٣٣ ح ١٢.

(٢) ـ الكافي (فروع) : ج ٦ ص ٣٣٩ ح ٢ ، وسائل الشيعة : ج ٢٥ ص ١١٨ ب ٦١ ح ٣١٣٧٧ ، بحار الانوار : ج ٦٥ ص ١٥٦ ح ٣٠.

١٩٧

فالتحقيق : أنه ليس لها إلّا شرط واحد ، وهو : الفحص عن الأدلة الشرعية.

والكلام يقع تارة في أصل الفحص ، واخرى في مقداره.

أمّا وجوب أصل الفحص

وحاصله : عدم معذوريّة الجاهل المقصّر في التعلّم ، فيدل عليه وجوه :

الأوّل : الاجماع القطعي على عدم جواز العمل بأصل البراءة قبل استفراغ الوسع في الأدلة.

______________________________________________________

التتن (فالتحقيق انه ليس لها) أي : للبراءة (إلّا شرط واحد ، وهو : الفحص عن الأدلة الشرعية) في مضامينها ، غير انه ربما يتوهم ان هناك شرطا آخر للبراءة ، لكن سيأتي الكلام في عدم تماميته.

هذا (والكلام) هنا في وجوب الفحص قبل اجراء البراءة (يقع تارة في أصل الفحص ، واخرى في مقداره) أي : في مقدار الفحص.

(أمّا وجوب أصل الفحص) عن الدليل حتى يجوز له اجراء البراءة إذا لم يظفر بدليل (وحاصله : عدم معذوريّة الجاهل المقصّر في التعلّم) إذا خالف الواقع (فيدل عليه وجوه) خمسة :

(الأوّل : الاجماع القطعي على عدم جواز العمل بأصل البراءة قبل استفراغ الوسع في الأدلة) اللهم إلّا أن يقال : ان هذا الاجماع محتمل الاستناد ، والاجماع المحتمل الاستناد ليس بحجة ، كما تقدّم الكلام في ذلك في باب الاجماع ، فلا يكون حينئذ كاشفا عن قول المعصوم حتى يكون دليلا على المطلب.

١٩٨

الثاني : الأدلة الدالّة على وجوب تحصيل العلم ، مثل آيتي : النفر للتفقّه وسؤال أهل الذكر ، والأخبار الدالّة على وجوب تحصيل العلم ، وتحصيل التفقه ، والذمّ على ترك السؤال.

______________________________________________________

(الثاني : الأدلّة الدالة على وجوب تحصيل العلم) من الآيات والروايات (مثل آيتي : النفر للتفقّه ، وسؤال أهل الذكر) فقد قال سبحانه : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) (١) وقال سبحانه : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٢).

(والأخبار الدالّة على وجوب تحصيل العلم ، وتحصيل التفقه ، والذّم على ترك السؤال) مثل : ما روي عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام ، انه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «طلب العلم فريضة على كل مسلم» (٣) وفي بعض الروايات : «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة» (٤).

وفي رواية اخرى عنه عليه‌السلام أيضا انه قال لحمران بن أعين : «إنّما يهلك الناس لأنهم لا يسألون» (٥) فان إيجاب التعلم يدل على عدم جواز اجراء البراءة قبل الفحص.

ثم لا يخفى : انّ الظاهر من العلم الواجب في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «طلب العلم

__________________

(١) ـ سورة التوبة : الآية ١٢٢.

(٢) ـ سورة النحل : الآية ٤٣ ، سورة الانبياء : الآية ٧.

(٣) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ٣٠ ح ١ ، الأمالي للمفيد : ص ٢٨ ، دعائم الاسلام : ج ١ ص ٨٣ ، مجموعة ورام : ج ٢ ص ١٤ ، روضة الواعظين : ص ١٠ ، ارشاد القلوب : ص ١٦٥ ، بصائر الدرجات : ص ٢ ، المحاسن : ص ٢٢٥ ، اعلام الدين : ص ٨١ ، مشكاة الانوار : ص ١٣٣ ، منية المريد : ص ٩٩.

(٤) ـ مجموعة ورام : ج ٢ ص ١٧٦ ، غوالي اللئالي : ج ٤ ص ٧٠ ح ٣٦ ، كنز الفوائد : ج ٢ ص ١٠٧ ، مشكاة الانوار : ص ١٣٣ ، عدة الداعي : ص ٧٢ ، مصباح الشريعة : ص ٢٢.

(٥) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ٤٠ ح ٢.

١٩٩

الثالث : ما دلّ على مؤاخذة الجهّال والذمّ بفعل المعاصي المجهولة ، المستلزم لوجوب تحصيل العلم ، لحكم العقل بوجوب التحرّز عن مضرّة العقاب.

مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيمن غسل مجدورا أصابته جنابة ، فكزّ ، فمات : «قتلوه ، قتلهم الله ، ألّا سألوا ، ألا يمّموه»؟.

______________________________________________________

فريضة» هو : علم اصول الدين ، وعلم الفروع التي هي محل الابتلاء ، وعلم ما يتوقف عليه نظام المعاش والمعاد : من سياسة ، واقتصاد ، وطب ، وهندسة ، وصناعة ، واجتماع ، وزراعة ، وعمارة ، وغيرها مما يتوقف عليها نظام المعاش والمعاد توقفا أوليا ، أو بحيث لا يغلب بسببها أهل الباطل أهل الحق فيكون توقفه عليه توقفا ثانويا.

هذا ، ومن الواضح : انه حتى إذا لم يكن في الحديث كلمة : «أو مسلمة» كان قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فريضة على كل مسلم» شامل للصنفين أيضا.

(الثالث : ما دلّ على مؤاخذة الجهّال والذّم بفعل المعاصي المجهولة) كونها معصية (المستلزم) ذلك (لوجوب تحصيل العلم) إذ لو لا وجوبه لما ذم عليه.

إذن : فالاخبار هذه تستلزم وجوب تحصيل العلم ، وذلك (لحكم العقل بوجوب التحرّز عن مضرّة العقاب) ومعلوم : ان التحرز لا يكون إلّا بالعلم ، فيجب تحصيله.

أما تلك الأخبار فهي (مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيمن غسل مجدورا) وهو المبتلى بالجدري حيث (اصابته جنابة ، فكزّ) والكزّ : داء أو رعدة متولدة من شدة البرد ، فغسله (فمات) فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : («قتلوه قتلهم الله ، ألّا سألوا؟ ألّا يمّموه؟) (١).

__________________

(١) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ٤٠ ح ١ والكافي (فروع) : ج ٣ ص ٦٨ ح ٥ ، تهذيب الاحكام : ج ١ ص ١٨٤ ب ٨ ح ٣ ، من لا يحضره الفقيه : ج ١ ص ١٠٧ ح ٢١٩ ، مستدرك الوسائل : ج ٢ ص ٥٢٨ ب ٤ ح ٢٦٣١.

٢٠٠