الوصائل الى الرسائل - ج ١٠

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل الى الرسائل - ج ١٠

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-10-4
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

وقوله عليه‌السلام : لمن أطال الجلوس في بيت الخلاء لاستماع الغناء : «ما كان أسوأ حالك لو متّ

______________________________________________________

«فعن الفقيه والكافي : قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ان فلانا أصابته جنابة وهو مجدور ، فغسلوه ، فمات ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألا سألوا؟ ألا يمموه؟ ان شفاء العيّ السؤال» (١).

وفي رواية الجعفري عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال : «ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكر له ان رجلا أصابته جنابة على جرح كان به ، فأمر بالغسل فاغتسل فكز فمات؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قتلوه قتلهم الله ، إنّما كان دواء العيّ السؤال» والعيّ هنا هو الجهل ، والسؤال دواؤه.

هذا ، ولا يخفى : ان تشديد النبي والأئمة صلوات الله عليهم أجمعين أحيانا في الكلام كما في الرواية السابقة لبيان أهمية الأمر ، كأهمية العلم والسؤال من أهل العلم من جهة ، ولبيان طريقة الاسلام في تقويم المجتمع واصلاحه من جهة اخرى ، فانهم حيث أرادوا الجمع بين النهي الأكيد عن المنكر لتقويم المجتمع وبين عدم استعمال السيف والسوط والسجن والتعذيب ومصادرة الأموال وما أشبه ذلك مما جرت عليه عادة الحكام غالبا ، شدّدوا في الكلام من باب دوران الأمر بين الأهم والمهم.

(و) مثل (قوله عليه‌السلام : لمن أطال الجلوس في بيت الخلاء لاستماع الغناء) حيث كان جاهلا بحرمة الاستماع فقال له عليه‌السلام : (ما كان أسوأ حالك لو متّ

__________________

(١) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ٤٠ ح ١ وج ٣ (فروع) ص ٦٨ ح ٥ ، تهذيب الاحكام : ج ١ ص ٤٠ ح ١ ، من لا يحضره الفقيه : ج ١ ص ١٠٧ ح ٢١٩ ، وسائل الشيعة : ج ٣ ص ٣٤٦ ب ٥ ح ٣٨٢٤.

٢٠١

على هذه الحالة» ، ثم أمره بالتوبة وغسلها.

وما ورد في تفسير قوله تعالى : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) من أنّه :

______________________________________________________

على هذه الحالة ، ثم أمره بالتوبة وغسلها) (١) أي : غسل التوبة فقد روي عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام ما يلي :

«ان رجلا جاء اليه فقال : ان لي جيرانا لهم جوار يتغنّين ويضربن بالعود فربما دخلت الكنيف فاطيل الجلوس استماعا مني لهن ، فقال له : لا تفعل ، فقال : والله ما هو شيء أتيته برجلي إنّما هو سماع اسمعه باذني فقال عليه‌السلام : أما سمعت الله عزوجل يقول : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) (٢) فقال الرجل : كأني لم أسمع بهذه الآية من كتاب الله عزوجل من عربي ولا عجمي ، لا جرم اني قد تركتها واني أستغفر الله ، فقال له عليه‌السلام قم فاغتسل وصلّ ما بدا لك فلقد كنت مقيما على أمر عظيم ، ما كان أسوأ حالك لو مت على ذلك ، استغفر الله واسأله التوبة من كل ما يكره ، فانه لا يكره إلّا القبيح ، والقبيح دعه لأهله فان لكل أهلا» (٣).

إذن : فالروايات كما عرفت تدل على مؤاخذة الجهال والذم على ما يفعلونه من المعاصي وان كان عن جهل ، وهو يستلزم وجوب تحصيل العلم لما تقدّم من حكم العقل بوجوب التحرز عن مضرة العقاب.

(و) مثل (ما ورد في تفسير قوله تعالى : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) (٤) من أنّه :

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٦ ص ٤٣٢ ح ١٠ ، تهذيب الاحكام : ج ١ ص ١١٦ ب ٥ ح ٣٦ ، من لا يحضره الفقيه : ج ١ ص ٨٠ ح ١٧٧ ، فقه الرضا : ص ٢٨١ ، وسائل الشيعة : ج ٣ ص ٣٣١ ب ١٨.

(٢) ـ سورة الاسراء : الآية ٣٦.

(٣) ـ الكافي (فروع) : ج ٦ ص ٤٣٢ ح ١٠ ، تهذيب الاحكام : ج ١ ص ١١٦ ب ٥ ح ٣٦ ، من لا يحضره الفقيه : ج ١ ص ٨٠ ح ١٧٧ ، وسائل الشيعة : ج ٣ ص ٣٣١ ب ١٨.

(٤) ـ سورة الانعام : الآية ١٤٩.

٢٠٢

«يقال للعبد يوم القيامة : هل علمت؟ فان قال : نعم ، قيل : فهلّا عملت؟ وإن قال : لا ، قيل له : هلّا تعلّمت حتى تعمل»؟.

وما رواه القمّي في تفسير قوله تعالى : (الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) «نزلت فيمن اعتزل عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ولم يقاتل معه» (قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا : كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) أي : لم نعلم من الحق ،

______________________________________________________

«يقال للعبد يوم القيامة : هل علمت؟ فان قال : نعم ، قيل : فهلّا عملت) وهلّا للتحضيض ، يعني : لما ذا لم تعمل بما علمت؟ (وإن قال : لا ، قيل له : هلّا تعلّمت حتى تعمل؟) (١) مما يدل على ان التعلم واجب.

(و) مثل (ما رواه القمّي في تفسير قوله تعالى : (الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ)) أي : بسبب المعاصي لان الانسان إذا لم يطع الله كان ظالما لنفسه ، فقال القمي («نزلت) هذه الآية والمراد من نزولها : التأويل لا التنزيل كما هو واضح ، فانه قد يطلق على التأويل التنزيل باعتبار انه نزل مرادا به هذه التأويل ، فتأويلها (فيمن اعتزل عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ولم يقاتل معه) الناكثين والقاسطين والمارقين.

وعليه : فالآية تشير إلى ما يجري بين الملائكة واولئك الظالمين الذين تخلّفوا عن أمير المؤمنين عليه‌السلام وذلك أرواحهم وتقول :

(«قالوا :) أي : الملائكة لاولئك الظالمين (فيم كنتم) كناية عن انه لما ذا لم تنصروا الحق وتكونوا بجانب أمير المؤمنين عليه‌السلام ضد أعدائه ((قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) (٢) أي : لم نعلم من) هو (الحق) ومن هو الباطل

__________________

(١) ـ الأمالي للمفيد : ص ٢٩٢ ح ١.

(٢) ـ سورة النساء : الآية ٩٧.

٢٠٣

فقال الله تعالى : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها)؟ أي : دين الله وكتابه واضحا متسعا ، فتنظروا فيه ، فترشدوا وتهتدوا به سبيل الحق.

الرابع : انّ العقل لا يعذر الجاهل القادر على الاستعلام في المقام ، الذي نظيره في العرفيّات ما إذا ورد من يدّعي الرسالة من المولى ، وأتى بطومار يدّعي أنّ الناظر فيه يطلع على صدق دعواه أو كذبها ،

______________________________________________________

(فقال الله تعالى : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) (١)؟ أي : دين الله وكتابه واضحا متسعا) لمن أراد النظر فيهما حتى يعرف الحق من الباطل (فتنظروا فيه فترشدوا وتهتدوا به سبيل الحق») (٢).

إذن : فالحديث هذا وان كان لمكان دلالته أقرب إلى اصول الدين ، إلّا انه لمكان علّته شامل للجاهل بالفروع عن تقصير أيضا فيكون دليلا على ما نحن فيه.

(الرابع : انّ العقل لا يعذر الجاهل القادر على الاستعلام في المقام الذي) نحن فيه من الشبهة الحكمية مع استطاعته من تحصيل العلم بالحكم عن طريق الفحص ، فانه إذا لم يفحص لم يحرز اللابيان ، الذي هو موضوع البراءة ، وإذا لم يتحقق الموضوع لم يثبت الحكم فلا يستقل العقل بقبح عقابه ان أجرى البراءة وخالف الواقع.

هذا ، و (نظيره في العرفيّات ما إذا ورد من يدّعي الرسالة من المولى وأتى) وجاء معه (بطومار) أي : صحيفة وكتاب (يدّعي أنّ الناظر فيه يطلع على صدق دعواه أو كذبها) إلى الطومار ويفحص عن صدقه وكذبه ، فانه إذا كان ذلك المدعي صادقا وكان في طوماره ما يدل على صدقه كان للمولى معاقبة هذا العبد ،

__________________

(١) ـ سورة النساء : الآية ٩٧.

(٢) ـ تفسير القمي : ج ١ ص ١٤٩ (بالمعنى).

٢٠٤

فتأمل.

والنقل الدالّ على البراءة في الشبهة الحكميّة ، معارض بما تقدّم من الأخبار الدالة على وجوب الاحتياط حتى يسأل عن الواقعة ، كما في صحيحة عبد الرحمن المتقدمة ،

______________________________________________________

وليس للعبد الاعتذار بعدم العلم ، لأن العقل لا يعذر الجاهل بما في الطومار مع تمكنه من الفحص عنه والعلم بما فيه.

(فتأمل) ولعله إشارة إلى بيان الفرق بين النظر في الأحكام والنظر في الطومار ، إذ لا يحصل العلم من الأوّل غالبا بل الظن بينما يحصل العلم من الثاني غالبا ، فيقال بعدم معذورية الجاهل المجري للبراءة وهو قادر على الفحص فيما إذا أورث النظر العلم ، ومعذوريته فيما إذا لم يورثه.

لكن الظاهر : ضعف هذا الفرق ، لأن مبنى المسألتين على وجوب دفع الضرر المحتمل ، من دون مدخلية للعلم أو الظن المعتبر في ذلك أصلا.

(و) ان قلت : ان النقل يدل على البراءة ، وذلك لما تقدّم من اخبارها مثل : «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» (١) ومثل : «رفع ما لا يعلمون» (٢) وما أشبه ذلك.

قلت : (النقل الدالّ على البراءة في الشبهة الحكميّة ، معارض بما تقدّم من الأخبار الدالة على وجوب الاحتياط حتى يسأل عن الواقعة كما في صحيحة عبد الرحمن المتقدّمة) حيث قال عليه‌السلام : في مسألة الصيد : «إذا أصبتم بمثل هذا

__________________

(١) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ١٦٤ ح ٣ ، التوحيد : ص ٤١٣ ح ٩ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٦٣ ب ١٢ ح ٣٣٤٩٦ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٨٠ ب ٣٣ ح ٤٨.

(٢) ـ تحف العقول : ص ٥٠ ، التوحيد : ص ٣٥٣ ح ٢٤ ، الخصال : ص ٤١٧ ح ٢٧ ، وسائل الشيعة : ج ١٥ ص ٣٦٩ ب ٥٦ ح ٢٠٧٦٩.

٢٠٥

وما دلّ على وجوب التوقف بناء على الجمع بينها وبين أدلة البراءة ، بحملها على صورة التمكّن من ازالة الشبهة.

الخامس :

______________________________________________________

فلم تدروا فعليكم الاحتياط حتى تسألوا وتعلموا» (١).

هذا ، ومن المعلوم : ان هذا الحديث ليس خاصا بمسألة الصيد في هذا المورد الخاص لقوله : «بمثل هذا» والعرف يفهم منه : انه لا فرق بين الشبهة الحكمية في جميع المسائل (وما) أي : ومعارض أيضا بما (دلّ على وجوب التوقف) عند الشبهة (بناء على الجمع بينها) أي : بين اخبار التوقف (وبين أدلة البراءة بحملها) أي : بحمل اخبار التوقف (على صورة التمكّن من ازالة الشبهة) وحمل اخبار البراءة على صورة اليأس من إزالتها.

وإنّما نجمع بهذا بين الطائفتين لأن الاخبار الدالة على مؤاخذة ترك التعلم ، المقتضية لوجوب الفحص ، تعطي الأولوية لاخبار الاحتياط والتوقف على اخبار البراءة ، فيؤخذ بظهور هذه الاخبار الدالة على الاحتياط والتوقف ، ويقيد بها إطلاق حديث الرفع والحجب ونحوهما ، فيكون مورد حديث الرفع ونحوه ، بعد الفحص واليأس عن الظفر بالدليل.

(الخامس :) من أدلة وجوب الفحص : العلم الاجمالي لكل مسلم بوجود تكاليف في الشريعة ، وكما ان العلم الاجمالي بوجوب إتيان الظهر أو الجمعة ، أو اجتناب هذا الاناء أو ذاك ، يمنع عن البراءة ، فكذلك العلم الاجمالي بوجود تكاليف في الشريعة يمنع عن البراءة.

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٤ ص ٣٩١ ح ١ ، تهذيب الاحكام : ج ٥ ص ٤٦٦ ب ١٦ ح ٢٧٧ ، وسائل الشيعة : ج ١٣ ص ٤٦ ب ١٨ ح ١٧٢٠١ وج ٢٧ ص ١٥٤ ب ١٢ ح ٣٣٤٦٤.

٢٠٦

حصول العلم الاجمالي لكلّ أحد قبل الأخذ في استعلام المسائل بوجود واجبات ومحرّمات كثيرة في الشريعة ، ومعه لا يصح التمسك بأصل البراءة ، لما تقدّم : من أنّ مجراه الشك في أصل التكليف ، لا في المكلّف به مع العلم بالتكليف.

فان قلت : هذا يقتضي عدم جواز الرجوع إلى البراءة

______________________________________________________

إذن : فمما يدل على وجوب الفحص هو : (حصول العلم الاجمالي لكلّ أحد) من المسلمين (قبل الأخذ في استعلام المسائل) علما إجماليا (بوجود واجبات ومحرّمات كثيرة في الشريعة) الاسلامية (ومعه) أي : مع العلم الاجمالي (لا يصح التمسك بأصل البراءة) وذلك لأن العلم الاجمالي في المكلّف به يوجب الاحتياط ، إلّا إذا انحل العلم الاجمالي فيه بسبب الفحص.

إذن : فلا يجوز اجراء البراءة قبل الفحص والظفر بالمقدار المعلوم ، لعدم انحلال العلم الاجمالي بسبب الفحص إلى معلوم تفصيلي ، وشك بدوي في باقي المحتملات حتى يكون باقي المحتملات مجرى لأصل البراءة ، وذلك (لما تقدّم : من انّ مجراه) أي : مجرى أصل البراءة هو : (الشك في أصل التكليف) كالشك في باقي المحتملات بعد الفحص والظفر بالمقدار المعلوم ، فان مع الشك في الباقي يكون من الشك في التكليف وهو مجرى البراءة.

(لا في المكلّف به مع العلم بالتكليف) كما فيما نحن فيه قبل الفحص والظفر بالمقدار المعلوم ، حيث إنا نعلم بالتكليف ، لكن نشك في المكلّف به هل هو هذا أو فيه ذاك؟ والشك في المكلّف به مجرى الاحتياط.

(فان قلت : هذا) أي : الوجه الخامس (يقتضي عدم جواز الرجوع إلى البراءة

٢٠٧

ولو بعد الفحص ، لأن الفحص لا يوجب جريان البراءة مع العلم الاجمالي.

فان قلت : إذا علم المكلف تفصيلا بعدّة امور من الواجبات والمحرمات ، يحتمل انحصار التكاليف فيها ، كان الشك بالنسبة إلى مجهولاته شكا في أصل التكليف.

وبتقرير آخر : إن كان استعلام جملة من الواجبات والمحرّمات تفصيلا موجبا لكون الشك في الباقي شكا في أصل التكليف ، فلا مقتضي لوجوب الفحص وعدم الرجوع إلى البراءة ،

______________________________________________________

ولو بعد الفحص) وذلك (لأن الفحص لا يوجب جريان البراءة مع العلم الاجمالي) منا ببقاء واجبات ومحرمات بين الأحكام ، فانه بعد الفحص والظفر بألف حكم ـ مثلا ـ لم ينحل العلم الاجمالي ، لاحتمال ان الأحكام أكثر من ألف ، فاللازم الاحتياط في الباقي أيضا.

هذا ، وفي نسخة اخرى جاء التعبير عن «ان قلت» بما يلي : (فان قلت : إذا علم المكلّف تفصيلا بعدّة امور من الواجبات والمحرمات ، يحتمل انحصار التكاليف فيها) أي : في هذا الذي علمه تفصيلا (كان الشك بالنسبة إلى مجهولاته) الباقية (شكا في أصل التكليف) فيجري فيها البراءة بلا حاجة إلى الفحص فيها ، مما يدل على صحة إجراء البراءة وعدم وجوب الفحص من الأوّل.

(وبتقرير آخر : ان كان استعلام جملة من الواجبات والمحرّمات تفصيلا) بسبب الفحص (موجبا لكون الشك في الباقي شكا في أصل التكليف) والشك في أصل التكليف مجرى البراءة (فلا مقتضي) حينئذ (لوجوب الفحص وعدم الرجوع إلى البراءة) من الأوّل.

٢٠٨

وإلّا لم يجز الرجوع إلى البراءة ولو بعد الفحص ، إذ الشك في المكلّف به لا يرجع فيه إلى البراءة ولو بذل الجهد في الفحص وطلب الحكم الواقعي.

قلت : المعلوم إجمالا قبل الفحص : وجود التكاليف الواقعية في الوقائع التي يقدر على الوصول إلى مداركها ، وإذا تفحّص وعجز عن الوصول إلى مدارك الواقعة خرجت تلك الواقعة عن الوقائع التي علم إجمالا بوجود التكاليف فيها ،

______________________________________________________

(وإلّا لم يجز الرجوع إلى البراءة ولو بعد الفحص) أي : ان لم نقل بجريان البراءة وعدم وجوب الفحص من الأوّل ، يجب أن لا نقول بجريانه حتى بعد الفحص أيضا ، وذلك لأن الشك ـ حسب الفرض ـ في المكلّف به وهو مجرى الاحتياط ، وليس شكا في التكليف حتى يكون مجرى البراءة كما قال : (إذ الشك في المكلّف به لا يرجع فيه إلى البراءة) حتى (ولو بذل الجهد في الفحص وطلب الحكم الواقعي) من مظانّه.

إن قلت ذلك (قلت :) ان الواجب علينا هو : اتباع ما في مداركنا لا أكثر من ذلك ، فاذا ظفرنا بألف حكم في الكتاب والسنّة انحل العلم الاجمالي ، فيكون مثل التتن ومثل الدعاء عند رؤية الهلال ـ مثلا ـ من الشبهة البدوية ويجري حينئذ فيها البراءة كما قال :

فان (المعلوم إجمالا قبل الفحص : وجود التكاليف الواقعية في الوقائع التي يقدر) المكلّف (على الوصول إلى مداركها) من الكتاب والسنة والاجماع والعقل (وإذا تفحّص وعجز عن الوصول إلى مدارك الواقعة) كشرب التتن ، أو الدعاء عند رؤية الهلال (خرجت تلك الواقعة عن الوقائع التي علم إجمالا بوجود التكاليف فيها).

٢٠٩

فيرجع فيها إلى البراءة.

ولكن هذا لا يخلو عن نظر ، لأن العلم الاجمالي إنّما هو بين جميع الوقائع من غير مدخليّة لتمكّن المكلّف من الوصول إلى مدارك التكليف وعجزه عن ذلك.

فدعوى اختصاص أطراف العلم الاجمالي بالوقائع المتمكّن من الوصول إلى مداركها مجازفة.

______________________________________________________

وعليه : فينحل العلم الاجمالي إلى معلوم تفصيلي وهو ألف حكم فرضا ، وشك بدوي وهو الباقي الذي لم يظفر بمدركه مثل : شرب التتن والدعاء عند رؤية الهلال (فيرجع فيها إلى البراءة).

والحاصل : انه بعد الفحص في الأدلة واليأس عن الظفر بحرمة شرب التتن ، وبوجوب الدعاء عند رؤية الهلال تخرج أمثال هذه الامور المشكوكة عن دائرة العلم الاجمالي ، وتدخل في دائرة الشك البدوي ، والشك البدوي مجرى البراءة على ما عرفت في مبحثها.

(ولكن هذا) الجواب (لا يخلو عن نظر) عند المصنّف (لأن العلم الاجمالي إنّما هو بين جميع الوقائع) المتجاوزة عن الألف (من غير مدخليّة لتمكّن المكلّف من الوصول إلى مدارك التكليف) في تلك الوقائع (وعجزه عن ذلك) أي : عن الوصول إلى مدرك التكليف (فدعوى اختصاص أطراف العلم الاجمالي بالوقائع المتمكّن من الوصول إلى مداركها مجازفة).

أقول : ولا يخفى ما فيه ، فانه لا شك في انا لسنا مكلفين بأكثر مما في المدرك ، وإلّا بان كان تكليفنا أكثر منه ، فاما أن نكون مكلفين بالواقع وهو محال ، أو بالاحتياط في جميع الأطراف المحتملة وهو مرفوع لاستلزامه العسر والحرج ،

٢١٠

مع أنّ هذا الدليل إنّما يوجب الفحص قبل استعلام جملة من التكاليف يحتمل انحصار المعلوم إجمالا فيها ، فتأمل ، وراجع ما ذكرنا في ردّ استدلال الأخباريين على وجوب الاحتياط

______________________________________________________

إضافة إلى انه لو كنا مكلفين بالاحتياط ، لكان على الشارع بيان ذلك والتأكيد عليه حتى يصبح الاحتياط أمرا ضروريا عند المتشرعة ، ومن المعلوم : انه لا بيان كذلك ، مضافا إلى السيرة القطعية على اجراء البراءة فيما إذا لم يظفر المكلّف بمدرك الحكم المحتمل.

(مع انّ هذا الدليل) ان تمّ بأن كان الفحص لازما لمكان العلم الاجمالي ، فانه يدل على وجوب الفحص قبل انحلال العلم الاجمالي لا بعده ، فاذا فرض الانحلال بأن علم حرمة امور يحتمل انحصار المحرمات فيها وشك في وجود حرام آخر غيرها ، لم يجب الفحص بعد ذلك ، مع ان الفحص واجب في كل ما شك فيه ولو بعد فرض الانحلال.

وعليه : فهذا الدليل أخص من المدعى ، لأنه (إنّما يوجب الفحص قبل استعلام جملة من التكاليف يحتمل انحصار المعلوم إجمالا فيها) واما بعد الاستعلام فلا يوجب الفحص ، وقد عرفت : ان الفحص واجب على كل حال.

مثلا : إذا علمنا بوجود محرمات وفحصنا فظفرنا بألف محرم ، ثم شككنا في حرمة التتن فانه يلزم على هذا الدليل إجراء البراءة في التتن من غير فحص ، بينما لا شك في لزوم الفحص عن حرمة التتن أيضا ، فاذا حصل اليأس من الظفر بحرمته كان مجرى للبراءة ، فلا تجري البراءة قبل الفحص.

(فتأمل وراجع ما ذكرنا في ردّ استدلال الأخباريين على وجوب الاحتياط

٢١١

في الشبهة التحريمية بالعلم الاجمالي.

وكيف كان : فالأولى ما ذكر في «الوجه الرابع» من أنّ العقل لا يعذر الجاهل القادر على الفحص ، كما لا يعذر الجاهل بالمكلف به العالم به إجمالا ،

______________________________________________________

في الشبهة التحريمية بالعلم الاجمالي) فانهم استدلوا هناك على وجوب الاحتياط بالعلم الاجمالي بوجود محرمات في الشريعة ، وردهم المصنّف : بانحلال العلم الاجمالي الكبير بعد العلم بجملة من المحرمات الى علم اجمالي صغير ، حيث يلزم الفحص بعد ذلك بقدر هذا الصغير ، فاذا ظفر بقدر العلم الاجمالي الصغير كان الخارج عنه مجرى للبراءة.

أمّا التتن ، فبدون الفحص عن حكمه لا ينحل العلم الاجمالي الصغير ولا يخرج عنه إلّا بعد الفحص واليأس عن الظفر بدليله ، فاذا فحصنا عنه ولم نظفر بدليله خرج ، فكان مجرى للبراءة.

وبهذا ظهر : عدم تمامية إشكال الكفاية على هذا الدليل مما حاصله : ان موجب الفحص لو كان هو العلم الاجمالي ، لزم جواز الرجوع إلى البراءة قبل الفحص بعد انحلاله بالظفر على المقدار المعلوم بالاجمال ، مع انه غير جائز قطعا ، فلا بد من أن يكون المدرك أمرا آخر غير العلم المزبور.

(وكيف كان) : الأمر بالنسبة إلى الوجه الخامس وما فيه (فالأولى) أن يكون الاستدلال بدليل خال عن الاشكال وهو : (ما ذكر في «الوجه الرابع» من أنّ العقل لا يعذر الجاهل القادر على الفحص) في مورد الشك في التكليف (كما لا يعذر الجاهل بالمكلف به العالم به إجمالا) إذا لم ينحل علمه الاجمالي فيه ، وذلك مثل : دوران الأمر بين المتباينين كالظهر والجمعة ، فانه لا ينحل العلم الاجمالي

٢١٢

ومناط عدم المعذوريّة في المقامين هو : عدم قبح مؤاخذة الجاهل فيهما ، فاحتمال الضرر بارتكاب الشبهة غير مندفع بما يأمن معه من ترتب الضرر.

ألا ترى أنّهم حكموا باستقلال العقل ، بوجوب النظر في معجزة مدّعي النبوّة وعدم معذوريته في تركه ، مستندين في ذلك إلى وجوب دفع الضرر المحتمل ،

______________________________________________________

فيه ، حتى بعد الفحص ، بخلاف ما إذا انحل العلم الاجمالي فيه بعد الفحص كالشك بين الأقل والأكثر ولو الارتباطيين منهما.

هذا (ومناط عدم المعذوريّة في المقامين) أي : في مقام الشك في التكليف قبل الفحص ، والشك في المكلّف به بعد الفحص ، وعدم الانحلال (هو : عدم قبح مؤاخذة الجاهل فيهما) عقلا.

وعليه : (فاحتمال الضرر) وهو العقاب (بارتكاب الشبهة ، غير مندفع) إذا لم يفحص في الشبهة في التكليف ، ولم يحتط في الشبهة في المكلّف به (بما) أي : بشيء (يأمن معه من ترتب الضرر) وقوله : بما متعلق بمندفع فيكون المعنى : انه لا شيء يدفع الضرر المحتمل إذا لم يفحص في الشبهة في التكليف ، ولم يحتط في الشبهة في المكلّف به.

(ألا ترى انّهم) أي : المتكلمون (حكموا باستقلال العقل بوجوب النظر في معجزة مدّعي النبوّة) إذا احتمل صدقه ، لا مثل مدعي النبوة بعد خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وعدم معذوريته في تركه) أي : ترك النظر ، فانه إذا ترك النظر في معجزته لم يكن معذورا إذا كان نبيا في الواقع (مستندين في ذلك) أي : في وجوب النظر (إلى وجوب دفع الضرر المحتمل) الذي يحتمله الانسان القادر

٢١٣

لا إلى أنّه شك في المكلّف به.

هذا كلّه مع أنّ في الوجه الأوّل وهو الاجماع القطعي كفاية.

ثم إنّ في حكم أصل البراءة كل أصل عملي خالف الاحتياط.

______________________________________________________

على الفحص.

وعليه : فانهم يستندون في وجوب الفحص وعدم معذورية الجاهل إلى وجوب دفع الضرر (لا إلى أنّه شك في المكلّف به) من جهة العلم بوجود أنبياء في هؤلاء الذين يدعون النبوة ، كما كان هو مقتضى الوجه الخامس : فالوجه الخامس وان كان غير كاف لاثبات وجوب الفحص ، إلّا ان الوجه الرابع كاف لاثبات ذلك.

هذا ، ولا يخفى ان الضرر المحتمل إنّما يجب دفعه إذا كان كثيرا ، كما في المقام ، وكما في صورة احتمال صدق مدعي النبوة ، وإلّا فالضرر القليل لا يلزم دفعه حتى إذا كان متيقنا.

(هذا كلّه) أي : ما ذكرناه من الوجوه الخمسة يكون دليلا على وجوب الفحص (مع أنّ في الوجه الأوّل وهو الاجماع القطعي كفاية) في الدلالة عليه ، إذ لا مخالف في المسألة إطلاقا.

(ثم إنّ في حكم أصل البراءة) من حيث وجوب الفحص قبل اجرائه (كل أصل عملي خالف الاحتياط) سواء كان تخييرا كما في الدوران بين المحذورين ، أم استصحابا يدل على التكليف ، أو على عدم التكليف ، كما في الامور التي لها حالة سابقة ، فانه يجب الفحص قبل اجرائها ان احتملنا ان يكون هناك تكليف آخر.

مثلا : إذا كان الاستصحاب يدل على وجوب الظهر واحتملنا وجود دليل يدل على وجوب الجمعة ، فانه لا يجوز اجراء الاستصحاب إلّا بعد الفحص واليأس عن دليله ، وكذا التخيير.

٢١٤

بقي الكلام في حكم الأخذ بالبراءة مع ترك الفحص ، والكلام فيه إمّا في استحقاقه العقاب ، وإمّا في صحة العمل الذي اخذ فيه بالبراءة.

أمّا العقاب

______________________________________________________

وحيث أنهى المصنّف الكلام في عدم جواز العمل بالبراءة في الشبهات الحكمية إلّا بعد الفحص واليأس عن الظفر بما يخالفها ، قال : (بقي الكلام في حكم الأخذ بالبراءة مع ترك الفحص ، والكلام فيه) يكون في مقامين :

الأوّل : (إمّا في استحقاقه العقاب) وعدم استحقاقه لو ترك الفحص خالف الواقع أم وافق الواقع.

الثاني : (وإمّا في صحة العمل الذي اخذ فيه بالبراءة) من دون فحص وعدم صحته.

(أمّا) الكلام في المقام الأوّل : وهو استحقاق (العقاب) وعدمه ، فقد اختلف الفقهاء فيه على ثلاثة أقوال :

القول الأوّل : ما نسب إلى صاحب المدارك : من استحقاق العقوبة على ترك الفحص والتعلم مطلقا ، سواء صادف عمله الواقع أم خالفه.

القول الثاني : ما اختاره المشهور : من استحقاق العقوبة على مخالفة الواقع لو اتفقت ، لا على ترك التعلم والفحص ، فاذا شرب الانسان العصير العنبي من غير فحص عن حكمه ، فانه يستحق العقوبة ان اتفق مع الحرام واقعا ، وان لم يتفق كونه حراما واقعا ، فلا عقاب إلّا عند من يرى حرمة التجري كالشيخ وأبو المكارم ، فالعقوبة عندهما على التجري.

القول الثالث : ما اختاره المصنّف : من استحقاق العقوبة على ترك الفحص

٢١٥

فالمشهور : أنّه على مخالفة الواقع لو اتفقت ، فاذا شرب العصير العنبي من غير فحص عن حكمه ، فان لم يتفق كونه حراما واقعا فلا عقاب ، ولو اتفقت حرمته كان العقاب على شرب العصير ، لا على ترك التعلّم.

أمّا الأوّل : فلعدم المقتضي للمؤاخذة

______________________________________________________

والتعلم من حين تركه لكن لا مطلقا ، بل إذا أدّى إلى مخالفة الواقع.

ولا يخفى : ان منشأ هذا الخلاف هو الخلاف في وجوب التعلم المستفاد من العمومات الدالة على وجوب التفقه والتعلم ، كما سيأتي الكلام في ذلك ان شاء الله تعالى.

وإلى ما ذكرناه من الأقوال الثلاثة في استحقاق تارك الفحص العقاب وعدمه أشار المصنّف حيث قال : (فالمشهور : انّه) أي : العقاب (على مخالفة الواقع لو اتفقت) المخالفة (فاذا شرب العصير العنبي من غير فحص عن حكمه) أي :

عن حكم العصير فشربه هذا ، لا يخلو من أحد وجهين : اما انه يتفق مع الحرام ، واما لا (فان لم يتفق كونه حراما واقعا فلا عقاب ، ولو اتفقت حرمته كان العقاب على شرب العصير لا على ترك التعلّم) خلافا للمدارك واستاذه حيث ذكرا : ان العقاب على ترك التعلم ، فالكلام إذن في أمرين : المصادفة وعدم المصادفة.

(أمّا الأوّل :) وهو ما لو أجرى البراءة وشرب العصير ـ مثلا ـ من دون فحص ولم يصادف الحرام واقعا فلا عقاب.

أما انه لا عقاب (فلعدم المقتضي للمؤاخذة) لأنه لم يفعل حراما حتى يكون مؤاخذا ، وان كان قد يتخيل المؤاخذة وذلك على ترك التعلم ، أو على التجري ، لكنه ليس تاما كما قال :

٢١٦

عدا ما يتخيل من ظهور أدلة وجوب الفحص وطلب تحصيل العلم في الوجوب النفسي.

وهو مدفوع : بأن المستفاد من أدلته بعد التأمل إنّما هو وجوب الفحص لئلا يقع في مخالفة الواقع ، كما لا يخفى ، أو ما يتخيل من قبح التجرّي بناء على أنّ الاقدام على ما لا يؤمن كونه مضرّة ، كالاقدام على ما يعلم كونه كذلك ، كما صرح به جماعة ، منهم : الشيخ في العدّة ، وأبو المكارم في الغنية.

______________________________________________________

(عدا ما يتخيل من ظهور أدلة وجوب الفحص وطلب تحصيل العلم في الوجوب النفسي) فيكون العقاب على ترك التعلم ، على شرب العصير الحلال واقعا ، فالتعلم واجب نفسي على هذا القول.

(و) لكن (هو) أي : هذا التخيل (مدفوع : بأن المستفاد من أدلته) أي : أدلة وجوب التعلم (بعد التأمل) فيها لمعرفة ما يستظهره العرف منها (إنّما هو وجوب الفحص) من باب المقدمة (لئلا يقع في مخالفة الواقع) والمفروض : انه لم يخالف الواقع لأن الواقع حلّية العصير لا حرمته (كما لا يخفى) هذا المعنى لمن راجع العرف.

(أو) عدا (ما يتخيل من قبح التجرّي بناء على انّ الاقدام على ما لا يؤمن كونه مضرّة) مثل الاقدام على محتمل الحرمة من دون فحص هو (كالاقدام على ما يعلم كونه كذلك) أي : كونه ضارا (كما صرح به جماعة ، منهم : الشيخ في العدّة ، وأبو المكارم في الغنية).

وعليه : فان الشيخ الطوسي وأبو المكارم ومن تبعهما لا يقولون بالفرق بين محتمل الضرر ومقطوع الضرر من جهة استحقاق العقاب لمن أقدم عليهما ،

٢١٧

لكنه قد أسلفنا الكلام في صغرى وكبرى هذا الدليل.

وأمّا الثاني : فلوجود المقتضي ، وهو الخطاب الواقعي

______________________________________________________

أمّا في مقطوع الضرر فلكونه مخالفة ، واما في محتمل الضرر فلكونه تجريا.

(لكنه قد أسلفنا الكلام في صغرى وكبرى هذا الدليل) فانه يتشكل من قياس صغراه : الاقدام على ما لا يؤمن كونه مضرة تجرّ ، وكبراه : وكل تجرّ حرام ، فالاقدام على محتمل الضرر حرام.

ومن المعلوم : ان الرجوع إلى الأصل قبل الفحص الذي هو محل بحثنا جزئي من جزئيات الاقدام المذكور فيكون حراما.

وفيه : اما صغرى : فانه ان اريد بالضرر : الضرر الدنيوي ، فنقول : لا يجب عدم الاقدام ، ولذا يقدم العقلاء على الأضرار الدنيوية لمصالح في نظرهم ، كما في ركوب البحر للتجارة وغير ذلك.

وان اريد بالضرر : الضرر الاخروي فنقول : هو واجب عقلا ، إلّا ان الشارع قد أذن فيه هنا ، كما أذن في الشبهة الموضوعية والشبهة الوجوبية حتى عند الاخباريين.

وامّا كبرى : فانه قد سبق في بحث القطع : ان التجري ليس بحرام ، وإنّما فيه قبح فاعلي لا فعلي ، حتى يكون محرّما في عداد سائر المحرّمات مثل شرب الخمر ، وقتل النفس ، وما أشبه.

(وأمّا الثاني :) وهو ما لو أجرى البراءة وشرب العصير ـ مثلا ـ من دون فحص ، فصادف الحرام واقعا ، فالعقاب ، لكن لا على ترك التعلم والفحص ، بل على شرب العصير ، وقد ذكر المصنّف لذلك وجوها ثلاثة :

الأوّل ما أشار اليه بقوله : (فلوجود المقتضي) للعقاب (وهو الخطاب الواقعي

٢١٨

الدالّ على وجوب شيء وتحريمه ، ولا مانع منه عدا ما يتخيل من جهل المكلّف به ، وهو غير قابل للمنع عقلا ولا شرعا.

أمّا العقل : فلا يقبّح مؤاخذة الجاهل التارك للواجب إذا علم أنّ بناء الشارع على تبليغ الأحكام على النحو المعتاد المستلزم لاختفاء بعضها لبعض الدواعي

______________________________________________________

الدالّ على وجوب شيء وتحريمه) فالشبهة الوجوبية كالدعاء عند رؤية الهلال والشبهة التحريمية ، كشرب العصير العنبي ، وذلك لو فرضنا وجود الدليل على هذا الواجب وهذا الحرام واقعا.

(ولا مانع منه) أي : من العقاب ، فانه إذا وجد المقتضي ، وفقد المانع كان العقاب مقطوعا به (عدا ما يتخيل من جهل المكلّف به) أي : بالتكليف (وهو) أي : الجهل بالتكليف مع القدرة على الفحص (غير قابل للمنع) عن العقاب ، لا (عقلا ولا شرعا) وذلك بالتفصيل التالي :

(أمّا العقل : فلا يقبّح مؤاخذة الجاهل التارك للواجب إذا علم أنّ بناء الشارع على تبليغ الأحكام على النحو المعتاد) لا على نحو الاعجاز ، والنحو المعتاد هو (المستلزم لاختفاء بعضها) أي : بعض تلك الأحكام (لبعض الدواعي) والمراد ببعض الأحكام : ما عدا الضروريات.

ومن المعلوم : ان اعتماد الشارع في إيصال أحكامه على النحو المتعارف ، يستلزم اختفاء ما عدا الضروريات من الأحكام في بطون الكتب ، فيحتاج الظفر بها إلى الفحص ، بخلاف ما إذا كان الشارع يوصل أحكامه عن طريق الاعجاز ، فانه حينئذ لا يخفى شيء منه على أحد حتى يحتاج إلى الفحص ، بل يكون اختفاؤه وعدم وصوله دليل على عدم وجوده رأسا.

٢١٩

وكان قادرا على إزالة الجهل عن نفسه.

وأما النقل فقد تقدّم : عدم دلالته على ذلك ، وانّ الظاهر منها ولو بعد ملاحظة ما تقدّم من أدلّة الاحتياط ، الاختصاص بالعاجز.

مضافا إلى ما تقدّم في بعض الأخبار المتقدمة في «الوجه الثالث»

______________________________________________________

وعليه : فان العقل لا يمنع من عقاب الجاهل الذي ترك الفحص (وكان قادرا على إزالة الجهل عن نفسه) بسبب الفحص ، لأن الحكم واصل وإنّما اختفى في بطون الكتب فيحتاج في حصوله إلى الفحص ، فلا عذر إذن لمن ترك الفحص وخالف.

(وأمّا النقل) فهو أيضا لا يمنع من عقاب الجاهل بالتكليف ، القادر على الفحص وذلك كما قال : (فقد تقدّم : عدم دلالته على ذلك) أي : عدم دلالة النقل على معذورية الجاهل إذا ترك الفحص وخالف الواقع (وانّ الظاهر منها) أي : من أدلة البراءة النقلية (ولو بعد ملاحظة) تعارضه مع (ما تقدّم من أدلة الاحتياط) وأدلة التوقف هو : (الاختصاص) أي : اختصاص البراءة (بالعاجز) عن التعلّم ، وذلك جمعا بين أدلة البراءة وأدلة الاحتياط.

إذن : فأدلة الاحتياط قبل الفحص خاصة بالقادر على التعلّم ، وأدلة البراءة خاصة بالعاجز عن التعلم والفحص.

الثاني من وجوه الاستدلال على ان الجاهل القادر على الفحص لو أجرى البراءة وشرب العصير من دون فحص ـ مثلا ـ فاتفق مخالفته للواقع ، كان العقاب على مخالفة الواقع ، لا على ترك التعلم ، هو : ما أشار اليه بقوله :

(مضافا إلى ما تقدّم في بعض الأخبار المتقدمة في «الوجه الثالث») حيث قال المصنّف : الثالث : ما دل على مؤاخذة الجهال والذم بفعل المعاصي المجهولة ،

٢٢٠