الوصائل الى الرسائل - ج ١٠

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل الى الرسائل - ج ١٠

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-10-4
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

فلأنّ المانع من اجراء البراءة عن اللزوم الغيري في كلّ من الفعل والترك ، ليس إلّا لزوم المخالفة القطعية ، وهي غير قادحة ، لأنها لا تتعلق بالعمل ، لأنّ واحدا من فعل ذلك الشيء وتركه ضروريّ مع العبادة ، فلا يلزم من العمل بالأصل في كليهما معصية متيقنة ، كما كان يلزم في طرح المتباينين كالظهر والجمعة.

وبتقرير آخر : إذا أتى بالعبادة مع واحد منهما

______________________________________________________

قلت : صحيح ان البراءة هنا تستلزم المخالفة القطعية ، لكنها مخالفة التزامية وليست عملية حتى تكون قادحة كما قال : (فلانّ المانع من اجراء البراءة عن اللزوم الغيري) المقدمي للمشكوك جزئيته أو شرطيته (في كل من الفعل والترك) الذي تردد المكلّف بينهما (ليس إلّا لزوم المخالفة القطعية ، وهي غير قادحة) في المقام (لانها) أي : المخالفة القطعية إنّما تتعلق بالالتزام و (لا تتعلق بالعمل).

وإنّما لا تتعلق بالعمل (لانّ واحدا من فعل ذلك الشيء وتركه ضروري مع العبادة) لعدم خلو المكلّف من الفعل المطابق لاحتمال الوجوب ، أو الترك المطابق لاحتمال الحرمة (فلا يلزم من العمل بالأصل في كليهما معصية متيقنة) حتى يقال بوجوب التكرار دفعا للعقاب ، وإنّما يلزم منه المخالفة الالتزامية ، والمخالفة الالتزامية غير قادحة كما تقدّم في باب القطع وغيره.

وعليه : فلا يلزم هنا مخالفة قطعية عملية (كما كان يلزم في طرح المتباينين كالظهر والجمعة) لان اجراء الأصل في الظهر والجمعة معا يوجب مخالفة قطعية عملية ولهذا يجب الاتيان بهما ، بينما هنا ليس الأمر كذلك فيجري الأصل فيهما.

(وبتقرير آخر) للمصنف أوضح فيه جريان البراءة عن كلا المحتملين في هذه المسألة ، وهو : انه (إذا أتى) المكلّف (بالعبادة مع واحد منهما) فقد أتى

١٦١

قبح العقاب من جهة اعتبار الآخر في الواقع لو كان معتبرا ، لعدم الدليل عليه وقبح المؤاخذة من دون بيان.

فالأجزاء المعلومة مما يعلم كون تركها منشئا للعقاب ، وأمّا هذا المردّد بين الفعل والترك ، فلا يصح استناد العقاب اليه لعدم العلم به ، وتركهما جميعا غير ممكن ، حتى يقال : إنّ العقاب على تركهما معا ثابت ،

______________________________________________________

بالموافقة الاحتمالية وبقي الطرف الآخر مشكوكا ، وإذا كان مشكوكا (قبح العقاب) عليه ، والعقاب إنّما يكون (من جهة اعتبار) الطرف (الآخر في الواقع ، لو كان معتبرا) فرضا ، فيكون العقاب عليه قبيحا (لعدم الدليل عليه) أي : على اعتبار الطرف الآخر (و) إذا لم يكن دليل عليه دل على نفيه (قبح المؤاخذة من دون بيان).

والحاصل : ان العلم الاجمالي باعتبار وجوب شيء أو عدمه ، لا أثر له بعد عدم تمكن المكلّف من المخالفة العملية القطعية ، لان الأمر دائر بين الفعل والترك ، فلم يبق إلّا الشك في الاعتبار وهو مورد لاصالة البراءة.

إذن : (فالأجزاء المعلومة مما يعلم كون تركها منشئا للعقاب) يؤاخذ على تركها ، فلا يجوز له ان يترك شيئا منها (وامّا هذا) الواجب (المردّد بين الفعل والترك) لفرض ان المكلّف يعلم ان الجهر ـ مثلا اما واجب الفعل أو واجب الترك (فلا يصح استناد العقاب اليه) سواء فعله أو تركه ، وذلك (لعدم العلم به) تفصيلا.

(و) اما (تركهما جميعا) بان يترك الفعل ويترك الترك ، فهو هنا (غير ممكن حتى يقال : انّ العقاب على تركهما معا ثابت) فانه في مكان يمكن تركهما معا

١٦٢

فلا وجه لنفيه عن كلّ منهما.

وأمّا ، بناء على وجوب الاحتياط عند الشكّ في الشرطية والجزئية ،

______________________________________________________

يثبت العقاب على تركهما (فلا وجه لنفيه) أي : لنفي العقاب حينئذ (عن كلّ منهما) بالأصل ، ومعلوم : ان ما نحن فيه ليس كذلك.

نعم ، من يقول بعدم جريان الأصلين في مكان علم ان جريان أحدهما فيه ليس بصحيح ، وذلك لانه يرى عدم شمول دليل الأصل لمثلهما وان لم يستلزم مخالفة عملية فانه يقول بعدم جريان الأصلين هنا أيضا.

وأما ثاني القولين في مسألة الشرط والجزء وهو الاحتياط ، فقد قال به جماعة ، ولذلك بدأ المصنّف بشرح كيفية جريان الاحتياط هنا ليبني عليه التخيير ، وقال :

فقال : (وأمّا بناء على وجوب الاحتياط عند الشكّ في الشرطية والجزئية) فان جماعة قالوا بالاحتياط في مسألة الشك في شرطية شيء أو جزئيته ، وبنى المصنّف عليه التخيير هنا.

وإنّما بنى المصنّف على الاحتياط هناك حكم التخيير هنا ، لان الاحتياط هناك إنّما يجب لتدارك ما هو جزء أو شرط واقعا ، وحيث ان تداركه هناك لا يستلزم تكرار العبادة جاز ، لانه لا يضر بالجزم بالنية ، بينما الاحتياط هنا لتدارك ما هو شرط أو مانع واقعا يستلزم تكرار العبادة ، وذلك بأن يصلي مرة بقراءة جهرية ، ويصلي ثانية بقراءة اخفاتية ، وهذا التكرار هنا لا يجوز ، لانه يضر بالجزم بالنية.

وعليه : فيدور الأمر هنا بين بقاء وجوب الجزم بالنية فيحرم التكرار لانه مضر بالجزم في النية ، وبين بقاء وجوب ذلك المشكوك انه شرط أو مانع واقعا فيجب التكرار لاحراز ما هو واجب واقعا.

ومن المعلوم : ان وجوب الاحتياط بالجزم بالنية لتنجزه بسبب العلم به مقدّم

١٦٣

فلأن وجوب الاحتياط فرع بقاء وجوب الشرط الواقعي المردّد بين الفعل والترك ، وايجابه مع الجهل مستلزم لالغاء شرطيّة الجزم بالنية واقتران الواجب الواقعي بنية الاطاعة به بالخصوص مع التمكّن ،

______________________________________________________

على وجوب الاحتياط بالتكرار ، لعدم تنجزه بسبب الجهل بما هو واجب واقعا لتردده بين وجوب فعله أو وجوب تركه ، فيكون المكلّف حينئذ حتى بناء على الاحتياط في تلك المسألة ، مخيّرا هنا بين الجهر والاخفات في القراءة ، فيصلي صلاة واحدة بقراءة جهرية ، أو اخفاتية ـ مثلا ـ ليحرز الجزم بالنية.

وإلى هذا المعنى : من ترتيب حكم التخيير على الاحتياط أشار المصنّف قائلا :

واما حكم التخيير هنا بناء على وجوب الاحتياط هناك (فلان وجوب الاحتياط فرع) ناشئ من الشك في المكلّف به ، والشك في المكلّف به فرع ناشئ من (بقاء وجوب الشرط الواقعي المردّد بين الفعل والترك) كما في مثال القراءة في ظهر الجمعة حيث لا يعلم ان الجهر فيها شرط أو مانع واقعا (وايجابه) أي : ايجاب ما هو شرط أو مانع واقعا (مع الجهل) به لتردده بين الفعل والترك (مستلزم لالغاء شرطيّة الجزم بالنية) لانه مستلزم لتكرار الصلاة مرة مع الجهر ، واخرى مع الاخفات ـ مثلا ـ فلا يمكن الجزم بالنية.

هذا (واقتران الواجب الواقعي بنية الاطاعة به) أي : بذلك الواجب (بالخصوص مع التمكّن) من نية الاطاعة بالخصوص وهو الجزم بالنية يمنع من ايجاب ذلك الشرط المردد بين الفعل والترك على المكلّف ، إذ لو كان واجبا لما تمكن من الجزم بالنية ، فالجزم بالنية إذن مستلزم لالغاء شرطية الشرط الواقعي المردّد بين الفعل والترك.

١٦٤

فيدور الأمر بين مراعاة ذلك الشرط المردّد وبين مراعاة شرط الجزم بالنية.

وبالجملة : فعدم وجوب الاحتياط في المقام لمنع اعتبار ذلك الأمر المردّد بين الفعل والترك في العبادة واقعا في المقام ، نظير

______________________________________________________

وعليه : (فيدور الأمر بين) وجوب (مراعاة ذلك الشرط المردّد) بين الفعل والترك (وبين مراعاة شرط الجزم بالنية) وقد عرفت : ان الجزم بالنية مقدّم على ذلك الشرط المردد بين الفعل والترك فيتخير أحدهما : الفعل أو الترك ليجزم بالنية.

(وبالجملة :) فان الجزم بالنية لما كان منجّزا على المكلّف للعلم باعتبار موجبه ، قدّم على الاحتياط بتكرار العبادة لعدم تنجّزه على المكلّف وذلك للجهل باعتبار موجبه لفرض تردده بين الفعل والترك.

وبعبارة اخرى : يشك المكلّف في ان ذلك الشيء المردد بين الفعل والترك ، هل بقي على وجوبه بعد استلزامه فقد الجزم بالنية ، أم لم يبق على وجوبه؟ والشك في أصل بقاء الوجوب شك في التكليف وهو مجرى البراءة ، لا ان وجوب ذلك الشيء محرز والواجب فيه مردّد بين الفعل والترك ، حتى يكون من الشك في المكلّف به ، والشك في المكلّف به مجرى الاحتياط فيلزم التكرار.

إذن : (فعدم وجوب الاحتياط) المستلزم لتكرار العبادة (في المقام) أي : في مقام مزاحمته للجزم بالنية ، إنّما هو (لمنع) تنجز (اعتبار ذلك الأمر المردّد بين الفعل والترك في العبادة واقعا في المقام) فانه بعد تنجزّ الجزم بالنية ، لم يبق مجال لتنجّز الاحتياط المستلزم لتكرار العبادة.

وعليه : فيكون المقام (نظير) ما إذا شك في جهة القبلة إلى أربع جهات

١٦٥

القول بعدم وجوب الاحتياط بالصلاة مع اشتباه القبلة ، لمنع شرطيّة الاستقبال مع الجهل ، لا لعدم وجوب الاحتياط في الشك في المكلّف به.

هذا ، وقد يرجّح الثاني ، وإن قلنا بعدم وجوبه في الشك في الشرطية والجزئية ، لأن مرجع الشك هنا

______________________________________________________

حيث يقال بوجوب صلاة واحدة فقط وترك الاحتياط ، لانه إذا أتى بواحدة جزم بالنية فيها ، بخلاف ما إذا أتى بأربع ، فانه لا يتمكن من الجزم بالنية فيها ، والجزم بالنية مقدّم على الاحتياط المستلزم للتكرار ، فيجب الاتيان بواحدة.

إذن : فالقول بعدم وجوب الاحتياط هنا يشبه (القول بعدم وجوب الاحتياط بالصلاة مع اشتباه القبلة) إلى أربع جهات ، فان عدم الوجوب فيها إنّما هو (لمنع شرطيّة الاستقبال مع الجهل) بجهة القبلة (لا لعدم وجوب الاحتياط في الشك في المكلّف به) فان الاحتياط عند الشك في المكلّف به واجب ، لكنه إذا دار الأمر بين التكرار وبين الجزم ، قدّم الجزم على التكرار.

(هذا) هو تمام الكلام في ترجيح الوجه الأوّل من وجهي الأمر الرابع وهو : التخيير فيما لو دار الأمر بين كون الشيء شرطا أو مانعا مع ابتنائه على القولين : البراءة والاحتياط في المسألة المتقدمة عليه من الشك في الشرطية والجزئية.

وأمّا الكلام في الوجه الثاني من وجهي الأمر الرابع وهو الاحتياط فيما لو دار الأمر بين كون الشيء شرطا أو مانعا ، فهو ما أشار اليه بقوله :

(وقد يرجّح الثاني) أي : الاحتياط بأن يأتي بصلاتين ـ مثلا ـ مرة مع فعل الشرط ، واخرى مع تركه ، فانه (وان قلنا بعدم وجوبه) أي : وجوب الاحتياط (في) المسألة المتقدمة عليه وهي مسألة ، (الشك في الشرطية والجزئية) إلّا انا نقول هنا بوجوبه (لان مرجع الشك هنا) أي : فيما دار الأمر بين كون الشيء

١٦٦

لمنع جريان أدلّة نفي الجزئية والشرطية عند الشك في المقام من العقل والنقل.

وما ذكر : من «أنّ إيجاب الأمر الواقعي المردّد بين الفعل والترك ، مستلزم لالغاء الجزم بالنية» ، مدفوع بالتزام ذلك ولا ضير فيه.

ولذا وجب تكرار الصلاة في الثوبين المشتبهين ، وإلى الجهات الأربع ، وتكرار الوضوء بالمائعين عند اشتباه المطلق والمضاف مع وجودهما ،

______________________________________________________

شرطا أو مانعا وليس إلى الأقل والأكثر كما كان في الشك في الشرطية والجزئية حتى نقول فيه بالبراءة.

وإنّما لم نقل بالبراءة هنا كما قلنا بها هناك (لمنع جريان أدلّة نفي الجزئية والشرطية عند الشك في المقام من العقل والنقل) لان الشك في الشرط أو الجزء شك في التكليف ، وفي المقام شك في المكلّف به ، ومن المعلوم : ان الشك في التكليف مجرى البراءة بخلاف الشك في المكلّف به فانه مجرى الاحتياط.

هذا (وما ذكر : «من أنّ إيجاب الأمر الواقعي المردّد بين الفعل والترك ، مستلزم لالغاء الجزم بالنية) والجزم بالنية مقدم على الاحتياط المستلزم لتكرار العبادة ، فيلزم ترك الاحتياط رعاية للجزم بالنية ، فان هذا الذي ذكر (مدفوع بالتزام ذلك) فانا نلتزم القول بالاحتياط هنا وان كان مستلزما لالغاء الجزم بالنية (ولا ضير فيه) أي : في التزامنا هذا ، وذلك لما قد سبق : من انه لو دار الأمر بين الجزم بالنية وبين الاحتياط ـ مثلا ـ لزم ترك الجزم بالنية رعاية للاحتياط.

(ولذا وجب تكرار الصلاة في الثوبين المشتبهين ، وإلى الجهات الأربع ، وتكرار الوضوء بالمائعين عند اشتباه المطلق والمضاف مع وجودهما) بأن كان هناك ماء مطلق وماء مضاف ، ولا نعلم أيهما المطلق وأيهما المضاف؟.

١٦٧

والجمع بين الوضوء والتيمم إذا فقد أحدهما ، مع أنّ ما ذكرنا في نفي كلّ من الشرطية والمانعيّة بالأصل ، فلا يلزم من العمل بالأصل في كليهما معصية متيقّنة ، إنّما يستقيم لو كان كلّ من الفعل والترك توصليّا على تقدير الاعتبار ، وإلّا فيلزم

______________________________________________________

(و) كذا (الجمع بين الوضوء والتيمم إذا فقد أحدهما) أي : أحد الإناءين المردد بين المطلق والمضاف أو كان هناك ماء واحد مردّد بين كونه مطلقا أو مضافا ، أو دار أمره بين الوضوء الناقص أو التيمم التام ، وغير ذلك من الأمثلة التي يستلزم الاحتياط فيها تكرار العبادة ، فان المشهور قالوا بوجوب الاحتياط فيها مع استلزامه فقد الجزم بالنية ، مما يدل على ترجيح القول بالاحتياط وان أدّى إلى سقوط الجزم بالنية.

هذا (مع انّ ما ذكرنا في) أول وجهي الأمر الرابع عند (نفي كلّ من الشرطية والمانعيّة بالأصل) أي : بأصل البراءة لنرتّب عليه التخيير وذلك في قولنا قبل عدة صفحات : (فلا يلزم من العمل بالأصل في كليهما معصية متيقّنة) أي : مخالفة عملية فان عدم استلزامه ذلك (إنّما يستقيم لو كان كلّ من الفعل والترك توصليّا) لا تعبديا.

كما إذا شككنا في أنّه هل يجب تكفين الرجل بالحرير حيث لا كفن سواه ، حتى يكفّن بالحرير ، أو يحرم حتى يدفن عاريا ، فان فعله (على تقدير الاعتبار) للتكفين ـ مثلا ـ توصلي ، كما ان تركه على تقدير اعتبار ترك التكفين توصلي أيضا ، فينفى كل منهما بالأصل دون أن يلزم منه مخالفة عملية ، وذلك لان فعل التكفين أو تركه توصلي وقد تحقق ، فان تحققه غير مرتبط بقصد القربة.

(وإلّا) بأن لم يكن توصليا ، بل كان تعبديا محتاجا إلى قصد القربة (فيلزم

١٦٨

من العمل بالأصلين مخالفة عمليّة ، كما لا يخفى.

والتحقيق : أنّه لو قلنا بعدم وجوب الاحتياط في الشكّ في الشرطية والجزئية ، وعدم حرمة المخالفة القطعيّة للواقع إذا لم تكن عمليّة ،

______________________________________________________

من العمل بالأصلين مخالفة عمليّة كما لا يخفى) والمخالفة العملية ممنوعة على ما عرفت في مبحث القطع.

اما انه كيف يستلزم منه مخالفة عملية ، فلانه ـ مثلا ـ إذا شك في ان الجهر بالقراءة شرط حتى يجب فعله ، أو زيادة مبطلة حتى يجب تركه ، فانه لا يجري الاصلان فيه ، لان الجهر بالقراءة على تقدير وجوب فعله ، أو وجوب تركه تعبدي ، والتعبدي يحتاج في تحققه إلى قصد القربة ، وقصد القربة متعذر بعد اجراء أصل عدم وجوب فعل الجهر ، وأصل عدم وجوب ترك الجهر ، وحينئذ سواء أتى بالجهر أم تركه فقد علم بالمخالفة العملية ، لانه قد أتى بالجهر أو تركه بلا قصد القربة مع انّ التعبدي لا يتحقق فعله أو تركه إلّا بقصد القربة ، فلا يجري الأصلان إذن في التعبدي ، بل يختص بالتوصلي فقط.

هذا (والتحقيق) في المقام هو القول بالتفصيل ، وهذا قول ثالث بعد القولين :

حيث كان الأوّل يقول بالتخيير هنا في الأمر الرابع مطلقا ، سواء بنينا هناك في الأمر الثالث على البراءة أم الاحتياط ، والقول الثاني يقول بالاحتياط هنا مطلقا ، سواء بنينا هناك على البراءة أم الاحتياط ، وهذا التفصيل هو قول ثالث يقول بالتخيير هنا لو بنينا على البراءة هناك ، وبالاحتياط هنا لو بنينا على الاحتياط هناك ، وذلك كما قال : (انّه لو قلنا بعدم وجوب الاحتياط) هناك أي : (في الشّك في الشرطية والجزئية ، وعدم حرمة المخالفة القطعيّة للواقع إذا لم تكن) مخالفة (عمليّة ،

١٦٩

فالأقوى التخيير هنا ، وإلّا تعيّن الجمع بتكرار العبادة ، ووجهه يظهر ممّا ذكرنا.

المطلب الثالث

في اشتباه الواجب بالحرام

______________________________________________________

فالأقوى التخيير) بين الفعل والترك (هنا) أي : في الشك بين كون الشيء شرطا أو مانعا وكون الشيء جزءا أو زيادة مبطلة.

(وإلّا) بأن قلنا بوجوب الاحتياط هناك (تعيّن الجمع بتكرار العبادة) ووجوب الاحتياط هنا ، وذلك بأن يصلي مرة مع الجهر بالقراءة ، واخرى بدون الجهر بالقراءة.

(ووجهه) أي : وجه هذا التفصيل (يظهر ممّا ذكرنا) سابقا : من ان المسألة هنا مبتنية على المسألة هناك ، فان قلنا بالبراءة هناك ، قلنا بالبراءة هنا أيضا ورتّبنا عليه التخيير ، وان قلنا بالاحتياط هناك ، قلنا بالاحتياط هنا ورتبنا عليه تكرار العبادة مرة بفعله واخرى بتركه.

أقول : لكن لا يبعد الفرق بين الأمر الثالث وبين الأمر الرابع ، فنقول بالبراءة هناك لانه كما عرفت من دوران الأمر بين الأقل والأكثر ، فالشك فيه شك في التكليف وهو مجرى البراءة ، ونقول بالاحتياط هنا ، لانه من دوران الأمر بين المتباينين ، فان الصلاة مع الجهر بالقراءة ـ مثلا ـ صلاة بشرط شيء ، والصلاة بدون الجهر بالقراءة صلاة بشرط لا ، فيكون الشك فيه شكا في المكلّف به وهو مجرى الاحتياط ، فيلزم تكرار العبادة.

(المطلب الثالث) من مطالب الشك في المكلّف به (في اشتباه الواجب بالحرام) فقد تقدّم من المصنّف عند البحث في الشك في المكلّف به مطلبان :

١٧٠

بأن يعلم أنّ أحد الفعلين واجب والآخر محرم واشتبه أحدهما بالآخر.

وأمّا لو علم أنّ واحدا من الفعل والترك واجب والآخر محرّم ، فهو خارج عن هذا المطلب ، لأنّه من دوران الأمر بين الوجوب والحرمة الذي تقدّم حكمه في المطلب الثالث من مطالب الشك في التكليف.

والحكم في ما نحن فيه

______________________________________________________

المطلب الأوّل : في دوران الأمر بين الحرام وغير الواجب.

المطلب الثاني : في دوران الأمر بين الواجب وغير الحرام.

إذن : فلم يبق من أقسام الشك في المكلّف به إلّا دوران الأمر بين الواجب والحرام ، وذلك (بأن يعلم انّ أحد الفعلين واجب والآخر محرم واشتبه أحدهما بالآخر) كما إذا كان لشخص زوجتان فحلف على وطي احداهما وترك وطي الاخرى ، ثم اشتبهتا.

(وأمّا لو علم انّ واحدا من الفعل والترك واجب والآخر محرّم) كما إذا كان لشخص زوجة وحلف ، فلم يعلم انه حلف على وطيها أو على تركه (فهو خارج عن هذا المطلب ، لأنّه من دوران الأمر بين الوجوب والحرمة الذي تقدّم حكمه في المطلب الثالث من مطالب الشك في التكليف).

وعليه : فالدوران هنا فيما نحن فيه في أمرين ، بينما الدوران هناك في أمر واحد ، ففي الأمر الواحد لا يلزم منه لو بنى فيه على الوجوب وفعل ، أو على التحريم وترك ، مخالفة قطعية ولا موافقة قطعية ، بخلاف ما نحن فيه ، فانه لا يجوز ترك وطي المرأتين معا أو وطيهما معا ، لان في كلتا الصورتين مخالفة قطعية لعلمه بان إحداهما محرمة واحداهما واجبة.

(و) لذلك قالوا : ان (الحكم في ما نحن فيه) وهو دوران الأمر بين شيئين

١٧١

وجوب الاتيان بأحدهما وترك الآخر مخيرا في ذلك.

لأنّ الموافقة الاحتمالية في كلا التكليفين أولى من الموافقة القطعية في أحدهما مع المخالفة القطعيّة في الآخر.

ومنشأ ذلك أنّ الاحتياط لدفع الضرر المحتمل لا يحسن بارتكاب الضرر المقطوع ،

______________________________________________________

أحدهما واجب ، والآخر حرام مع اشتباه أحدهما بالآخر هو : (وجوب الاتيان بأحدهما وترك الآخر مخيرا في ذلك) فللمكلف في المثال ان يطأ هندا ويترك وطي دعد ، كما ان له يطأ دعدا ويترك وطي هند.

وإنّما قال : له ان يختار أحدهما ويترك الآخر دون فعلهما معا أو تركهما معا (لأنّ الموافقة الاحتمالية في كلا التكليفين أولى من الموافقة القطعية في أحدهما مع المخالفة القطعيّة في الآخر) فانه إذا أتى بأحدهما وترك الآخر احتمل الموافقة لكلا التكليفين ، بينما إذا أتى بكليهما قطع بالموافقة للواجب والمخالفة للحرام ، وإذا ترك كليهما قطع بالموافقة للحرام والمخالفة للواجب ، فالموافقة الاحتمالية حينئذ تكون أولى.

هذا ، ولكنهم قالوا في درهمي الودعي وما أشبه بالتقسيم ، لا باعطائه كله لأحدهما ، مع انه يحصل من التقسيم العلم بمخالفة قطعية في النصف ، وبموافقة قطعية في النصف الآخر ، امّا اعطائه كله لأحدهما ففيه موافقة احتمالية.

(و) كيف كان : فان (منشأ ذلك) الحكم الذي ذكرناه : من وجوب الموافقة الاحتمالية هو : (انّ الاحتياط لدفع الضرر المحتمل لا يحسن بارتكاب الضرر المقطوع) به ، فانه إذا وطئ كلتيهما قطع بالضرر ، كما انه إذا ترك وطي كلتيهما قطع بالضرر أيضا ، بخلاف ما إذا وطئ احداهما وترك الاخرى ، فانه لا يقطع بالضرر.

١٧٢

والله أعلم.

خاتمة

في ما يعتبر في العمل بالأصل

والكلام تارة في البراءة ، واخرى في الاحتياط.

أمّا الاحتياط :

فالظاهر أنّه لا يعتبر في العمل به أمر زائد على تحقق موضوعه ،

______________________________________________________

لكن ربما يقال بالتفصيل : بين ما إذا تساوى الحكمين فيهما : فكما ذكره المصنّف ، وبين ما إذا اختلفا : فاللازم ترجيح الأهم ، فاذا كانت عنده ـ مثلا ـ امرأتان : احداهما زوجته وهي على رأس أربعة أشهر حيث يجب وطيها. والاخرى أجنبية حيث يحرم وطيها فنشك في ان أيتهما الزوجة وأيتهما الأجنبية ، فانه يلزم عليه ترك وطيهما ، إذ وجوب وطي الزوجة مهم ، وحرمة وطي الأجنبية أهم ، فيقدم الأهم على المهم (والله أعلم) بحقايق الأحكام وهو الموفق المستعان.

(خاتمة : في ما يعتبر في العمل بالأصل ، والكلام تارة في البراءة ، واخرى في الاحتياط) وذلك من غير فرق بين أن يكون الاحتياط لازما ، كما في الشك في المكلّف به ، والشك قبل الفحص ، وبين أن يكون راجحا كما في الشك في التكليف ، والشك في الشبهة البدوية ، وفي كل ذلك لا فرق بين الشك في الوجوب أو في الحرمة ، وبين الشك في الموضوع أو في الحكم.

(أمّا الاحتياط : فالظاهر : انّه لا يعتبر في العمل به أمر زائد على تحقق موضوعه) فانه كلما تحقق انه احتياط ، كان العمل به حسنا إذا لم تكن وسوسة

١٧٣

ويكفي في موضوعه إحراز الواقع المشكوك فيه به ، ولو كان على خلافه دليل اجتهادي بالنسبة اليه ، فانّ قيام الخبر الصحيح على عدم وجوب شيء لا يمنع من الاحتياط فيه ، لعموم أدلة رجحان الاحتياط ،

______________________________________________________

وما أشبه كما ذكرناه في أوائل الكتاب.

(ويكفي في موضوعه احراز الواقع المشكوك فيه) احرازا (به) أي : بالاحتياط ، فاذا كان هناك متباينان حصل الاحتياط فيه بالتكرار ، وإذا كان هناك أقل وأكثر سواء كان الأكثر جزءا أو شرطا حصل الاحتياط فيه باتيان الأكثر ، وإذا كان شكا بدويا حصل الاحتياط فيه باتيان المحتمل ، امّا إذا عارض احتياط احتياطا فاللازم الأخذ بأهمهما ، كما إذا دار الأمر بين قراءة السورة وخروج بعض الصلاة من الوقت ، فانه يقدم الاحتياط الأهم على الاحتياط المهم.

وعليه : فانه إذا تحقق موضوع الاحتياط ، فالاحتياط حسن ، حتى (ولو كان على خلافه) أي : على خلاف الاحتياط (دليل اجتهادي بالنسبة اليه) أي : بالنسبة إلى ذلك الاحتياط مثل : وجود ظاهر الكتاب ، وخبر العادل ، وكذا إذا كان هناك أصل عملي على خلافه كالبراءة ـ مثلا ـ فانه يكون حسنا أيضا.

وإنّما يكون الاحتياط حسنا حتى مع الدليل على خلافه ، لانه كما قال : (فانّ قيام الخبر الصحيح على عدم وجوب شيء) من الدعاء عند رؤية الهلال ـ مثلا ـ أو ما أشبه ذلك (لا يمنع من الاحتياط فيه ، لعموم أدلة رجحان الاحتياط) عقلا ونقلا ، مثل قوله عليه‌السلام : «أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت» (١).

__________________

(١) ـ الأمالي للمفيد : ص ٢٨٣ ، الأمالي للطوسي : ص ١١٠ ح ١٦٨ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٦٧ ب ١٢ ح ٣٣٥٠٩.

١٧٤

غاية الأمر عدم وجوب الاحتياط ، وهذا مما لا خلاف فيه ولا اشكال.

إنّما الكلام يقع في بعض الموارد من جهة تحقق موضوع الاحتياط واحراز الواقع ، كما في العبادات المتوقفة صحتها على نيّة الوجه ،

______________________________________________________

(غاية الأمر : عدم وجوب الاحتياط) مع وجود الدليل الاجتهادي ، أو الأصل العملي على خلافه (وهذا مما لا خلاف فيه ولا اشكال) فان الكل متفقون عليه.

(إنّما الكلام يقع في بعض الموارد) وذلك (من جهة تحقق موضوع الاحتياط و) عدم تحققه ، وانه هل يصح (احراز الواقع) فيه بالاحتياط أم لا؟ (كما في العبادات المتوقفة صحتها على نيّة الوجه) فان التوصليات لا تحتاج إلى النية ، ولهذا يصح الاحتياط فيها بدون خلاف ، بينما التعبديات التي تحتاج إلى النية فقد اشترط بعض صحة الاحتياط فيها بان يكون بعد الفحص والتأكد من تحقق موضوع الاحتياط.

بل ربما يقال : بعدم مشروعية الاحتياط في العبادات المتوقفة على النية حتى بعد الفحص ، كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق ، فلا يجوز ـ مثلا ـ لمن يتمكن من الصلاة الواحدة في ثوب طاهر ان يأتي بصلاتين في ثوبين قد اشتبه أحدهما بالنجس ، وهكذا بالنسبة إلى القبلة وسائر الخصوصيات.

ومن الواضح : ان الكلام في التعبديات ليس في الكبرى فان الاحتياط حسن على كل حال ، وإنّما الكلام في الصغرى وهو : انه هل يتحقق الاحتياط فيها قبل الفحص أم لا؟.

١٧٥

فانّ المشهور أنّ الاحتياط فيها غير متحقق إلّا بعد فحص المجتهد من الطرق الشرعية المثبتة لوجه الفعل وعدم عثوره على طريق منها ، لأن نيّة الوجه حينئذ ساقطة قطعا.

فاذا شك في وجوب غسل الجمعة واستحبابه أو في وجوب السورة واستحبابها ، فلا يصح له الاحتياط باتيان الفعل قبل الفحص عن الطرق الشرعية ، لأنه يتمكن من الفعل بنية الوجه ،

______________________________________________________

وعليه : (فانّ المشهور) قالوا في التعبديات : (انّ الاحتياط فيها غير متحقق إلّا بعد فحص المجتهد من الطرق الشرعية المثبتة لوجه الفعل) وذلك بان يفحص المجتهد ـ مثلا ـ عن صلاة الجمعة هل هي الواجبة يوم الجمعة أو صلاة الظهر ، ليأتي بها بنية الوجه؟ وكذا حال البسملة في الركعتين الأخيرتين وانه هل يجب الجهر فيها أو الاخفات؟ وهكذا ، فانه بعد الفحص (وعدم عثوره على طريق منها) أي : من الطرق الشرعية المثبتة لوجه الفعل يجوز له الاحتياط.

وإنّما يجوز له الاحتياط بعد ذلك مع ان الاحتياط يستلزم ترك نية الوجه (لانّ نيّة الوجه حينئذ) أي : حين الفحص وعدم العثور على طريق اجتهادي يثبتها (ساقطة قطعا) كما سبق الالماع اليه.

وعليه : (فاذا شك في وجوب غسل الجمعة واستحبابه) وهذا من الشك في التكليف المستقل (أو في وجوب السورة واستحبابها) وهذا من الشك في التكليف الضمني (فلا يصح له الاحتياط باتيان الفعل قبل الفحص عن الطرق الشرعية) وذلك بان يأتي بغسل الجمعة وبالسورة احتياطا دون ان ينوي الوجه فيهما.

وإنّما لا يصح له الاحتياط قبل الفحص (لانه يتمكن من الفعل بنية الوجه)

١٧٦

والفعل بدونها غير مجد ، بناء على اعتبار نية الوجه لفقد الشرط ، فلا يتحقق قبل الفحص احراز الواقع.

فاذا تفحّص ، فان عثر على دليل الوجوب أو الاستحباب ، أتى بالفعل ناويا لوجوبه واستحبابه ، وإن لم يعثر عليه ، فله أن يعمل بالاحتياط ، لأنّ المفروض سقوط نيّة الوجه ، لعدم تمكّنه منها ، وكذا لا يجوز للمقلّد الاحتياط قبل الفحص عن مذهب مجتهده.

______________________________________________________

بأن يفحص حتى يعلم ان غسل الجمعة واجب أو مستحب ، فيأتي به بنية وجوبه أو استحبابه ، وهكذا بالنسبة إلى السورة ، وغير ذلك.

(و) من المعلوم : ان (الفعل بدونها) أي : بدون نية الوجه ، بأن لم يعلم انّ ما يأتي به واجب أو مستحب ـ مثلا ـ (غير مجد ، بناء على اعتبار نية الوجه) في العبادات.

وإنّما لم يكن مجديا بدون نية الوجه (لفقد الشرط) الذي هو قصد الوجه في العبادة (فلا يتحقق قبل الفحص احراز الواقع) لو أتى بها احتياطا.

وعليه : (فاذا تفحّص فان عثر على دليل الوجوب أو الاستحباب ، أتى بالفعل ناويا لوجوبه أو استحبابه ، وان لم يعثر عليه ، فله ان يعمل بالاحتياط) بان يأتي بغسل الجمعة بما يريده الله سبحانه وتعالى من الوجوب أو الاستحباب ، وكذلك بالنسبة إلى السورة (لأنّ المفروض سقوط نيّة الوجه لعدم تمكّنه منها) فانه إنّما يشترط نية الوجه لو كان متمكنا منها والمفروض : ان المجتهد لم يتمكن منها في هذه الصورة.

هذا بالنسبة إلى المجتهد (وكذا) بالنسبة إلى المقلد ، فانه (لا يجوز للمقلّد الاحتياط) في العبادات (قبل الفحص عن مذهب مجتهده) الذي يجب عليه تقليده.

١٧٧

نعم ، يجوز له بعد الفحص ، ومن هنا اشتهر بين أصحابنا : «أنّ عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد ، غير صحيحة وإن علم إجمالا بمطابقتها للواقع ، بل يجب أخذ أحكام العبادات عن اجتهاد أو تقليد».

ثم إنّ هذه المسألة ، أعني بطلان عبادة تارك الطريقين ، يقع الكلام فيها في مقامين ، لأن العامل التارك في عمله بطريقي : الاجتهاد والتقليد ، إمّا أن يكون حين العمل بانيا على الاحتياط واحراز الواقع ،

______________________________________________________

(نعم ، يجوز له بعد الفحص) وعدم عثوره على فتواه ان يأتي بالشيء المشكوك بين الوجوب والاستحباب بقصد الاحتياط.

(ومن هنا) أي : بناء على اعتبار نية الوجه في العبادة ، وعدم جواز العمل بالاحتياط قبل الفحص (اشتهر بين أصحابنا : «أنّ عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد ، غير صحيحة وإن) عمل بالاحتياط ولم يكن في الاحتياط محذور ، و (علم اجمالا بمطابقتها للواقع) وذلك لأنه وان علم ان غسل الجمعة مراد لله سبحانه وتعالى ، لكنه لا يعلم هل انه مراد على نحو المنع من النقيض ، أو لا على نحو المنع من النقيض؟ فلا يمكنه نيّة الوجه فيه مع قدرته على العلم بالوجه عن طريق الاجتهاد أو التقليد ، ولذلك قالوا :

(بل يجب أخذ أحكام العبادات عن اجتهاد أو تقليد») فيما إذا تمكن المجتهد من الاجتهاد في المسألة ، والمقلد من التقليد فيها.

(ثم إنّ هذه المسألة ، أعني : بطلان عبادة تارك الطريقين) : الاجتهاد والتقليد (يقع الكلام فيها في مقامين ، لان العامل التارك في عمله بطريقي : الاجتهاد والتقليد) لا يخلو من أحد وجهين :

الوجه الأوّل : (امّا أن يكون حين العمل بانيا على الاحتياط واحراز الواقع)

١٧٨

وإمّا أن لا يكون كذلك ، فالمتعلق بما نحن فيه هو الاول ، وأمّا الثاني : فسيجيء الكلام فيه في شروط البراءة ، فنقول : إنّ الجاهل التارك للطريقين الباني على الاحتياط على قسمين : لأن احرازه للواقع تارة لا يحتاج إلى تكرار العمل ، كالآتي بالسورة في صلاته احتياطا ، وغير ذلك من موارد الشك في الشرطية والجزئية ؛

______________________________________________________

وذلك بأن يأتي بالشيء المشكوك احتياطا ليحرز الواقع عن طريقه.

الوجه الثاني : (وامّا ان لا يكون كذلك) بل كان بانيا على البراءة عند الشك في التكليف ، ومكتفيا ببعض المحتملات عند الشك في المكلّف به.

هذا ، ومن المعلوم : ان كلامنا الآن في الاحتياط لا في البراءة كما قال : (فالمتعلق بما نحن فيه هو الاول ، وامّا الثاني : فسيجيء الكلام فيه في شروط البراءة) لانه من مبحث البراءة ـ كما هو واضح ـ.

ومن المعلوم أيضا : ان الكلام في الاحتياط إنّما هو في العبادات ، اما المعاملات ، فلا اشكال عند المشهور في جواز الاحتياط فيها ، بل ربما ادعي عليه الاجماع ، كما ان المراد بالعبادات : العبادات التي تتحقق بالايجاد ، امّا العبادات التي تتحقق بالترك ، كتروك الاحرام والصوم ، فلا كلام فيها أيضا إلّا بناء على اعتبار نية الوجه والتمييز وهو غير معتبر كما عرفت.

وعليه : (فنقول : انّ الجاهل التارك للطريقين الباني على الاحتياط) في عباداته يكون (على قسمين : لأن احرازه للواقع تارة لا يحتاج إلى تكرار العمل) كما في غير المتباينين مثل الدعاء عند رؤية الهلال ، والصلاة على النبي عند ذكره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وكذا في مثل الشك بين الأقل والأكثر (كالآتي بالسورة في صلاته احتياطا ، وغير ذلك من موارد الشك في الشرطية والجزئية) حيث ان المحتاط يأتي بهما

١٧٩

واخرى يحتاج إلى التكرار ، كما في المتباينين ، كالجاهل بوجوب القصر والاتمام في مسيرة أربعة فراسخ والجاهل بوجوب الظهر أو الجمعة عليه.

أمّا الاوّل ، فالأقوى فيه الصحة ، بناء على عدم اعتبار نية الوجه في العمل ، والكلام في ذلك قد حرّرناه في «الفقه» في نيّة الوضوء.

______________________________________________________

في أثناء العبادة ، لا مستقلا.

(واخرى يحتاج إلى التكرار ، كما في المتباينين ، كالجاهل بوجوب القصر والاتمام في مسيرة أربعة فراسخ) ذهابا وإيابا ، فان فيه خلافا ما ، اما انه إذا قصد ثمانية فراسخ ، فلا اشكال في وجوب القصر عليه ، كما انه إذا قصد دون الثمانية مستقيما أو ملفقا ، فلا اشكال أيضا في وجوب الاتمام عليه.

(و) كذا مثل (الجاهل بوجوب الظهر أو الجمعة عليه) في ظهر يوم الجمعة ـ وغير ذلك ـ مما يحتاج الاحتياط فيه إلى التكرار ، فيكرره احتياطا لادراك الواقع.

(أمّا الاوّل) وهو ما لا يحتاج الاحتياط فيه إلى التكرار : (فالأقوى فيه الصحة) لأن العقل يحكم بحصول الامتثال بالاحتياط ، وكذلك العقلاء ، لكن بشرط ان لم يكن محتاجا إلى التكرار ، ولم يثبت من الشارع منع عنه ، ولم يكن المقام من احتمال اللعب بأمر المولى ، أو من احتمال الوسوسة ، كما يحتمل ذلك في التكرار.

نعم ، قد يعارض الاحتياط احتياط آخر ، فيقدّم الأقوى منهما إذا كان أحدهما أقوى ، ومع التساوي يكون مخيرا.

وإنّما يكون الأقوى في هذا القسم من الاحتياط هو الصحة (بناء على عدم اعتبار نية الوجه) والتمييز (في العمل) على ما سبق الالماع اليه (و) حيث ان (الكلام في ذلك قد حرّرناه في «الفقه» في نيّة الوضوء) فلا حاجة إلى تكراره هنا.

١٨٠