حاشية فرائد الأصول - ج ٢

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-089-6
الصفحات: ٥٩٤
الجزء ٢ الجزء ٣

والتحقيق في ردّه ما مرّ هناك من منع تعدد عنوان المحرّم في صورة المصادفة بناء على أنّ عنوان المعصية لا يتحقق بمجرّد تحقّق المخالفة وإلّا لتحقق في صورة الجهل والنسيان أيضا ، بل إنما يتحقق بالمخالفة بعنوان التجري وهتك حرمة المولى ، فالعنوان المحرّم في الحقيقة في صورتي المصادفة وعدمها هو التجري أعني الفعل المتجرّى به ، فليس في الصورتين إلّا معصية واحدة وعقاب واحد وهو المطلوب ، وهكذا نقول فيما نحن فيه إنّ الثواب مترتب على الفعل بعنوان الانقياد صادف الواقع أو خالف ، وهذا المعنى لا يتعدّد في صورة المصادفة.

ومما ذكرنا يظهر جواب إيراد آخر يمكن أن يورد هنا على الاستدلال بهذه الأخبار على إثبات الاستحباب الشرعي ، وهو أنه إذا ورد خبر معتبر يفيد وجوب شيء لزم الحكم بوجوبه واستحبابه معا وهذا مما لا يلتزمونه ، أما وجوبه فباعتبار كونه مفاد الخبر المعتبر ، وأما استحبابه فباعتبار ثبوته بأخبار التسامح إذا فعله برجاء إدراك الثواب. ودعوى أنّ أخبار التسامح لا يشمل مورد بلوغ الخبر المعتبر ، بل يختص بموارد الأخبار الضعيفة مجازفة.

توضيح الجواب أنّ المستفاد من هذه الأخبار على مذاق القوم أنّ موارد بلوغ الثواب لا يخلو عن الأمر ، فإن كان الأمر الواقعي الأولي فبها وإلّا فهو مأمور به أيضا ، ولا يلزم أن يكون في مورد ثبوت الأمر الواقعي أمر آخر ندبي حتى يلزم تعدّد الأمر وتعدد الحكم.

بقي شيء : وهو أنّه على تقدير صحة الاستدلال بهذه الأخبار على إثبات الاستحباب هل يشمل ما إذا ورد خبر ضعيف باستحباب شيء أو وجوبه لكنه يحتمل كونه حراما بل يفرض ورود خبر ضعيف بحرمته أيضا أم لا؟ الظاهر

٢٠١

الأول ، وقد يدّعى انصرافها إلى غير هذا الفرض وهو ممنوع ، نعم إن كان منشأ احتمال الحرمة خبر آخر يقع التعارض بين استحباب الفعل واستحباب الترك ، فإما أن يرجّح جانب احتمال الحرمة وإما أن يحكم بالتخيير.

قوله : بل قد يناقش في تسمية ما يستحقه هذا العامل لمجرّد احتمال الأمر ثوابا وإن كان نوعا من الجزاء (١).

لعل المناقشة باعتبار ما اصطلح عليه المتكلّمون من أنه يعتبر في الثواب أن يكون على وجه التبجيل والتعظيم ، واحترزوا بهذا القيد عن التفضل وإلّا فما يفهم من الثواب عرفا ليس إلّا مطلق الأجر والجزاء فتدبّر.

قوله : ولا يترتب عليه رفع الحدث ، فتأمل (٢).

لعل وجه التأمل أنه على تقدير ثبوت الاستحباب الشرعي أيضا لا يترتب عليه رفع الحدث ، لأنّ رفع الحدث إنما يترتب على عنوان الوضوء ، ولا يثبت هذا العنوان بأخبار التسامح ، بل غاية ما يستفاد منها أنّ نفس العمل برجاء إدراك الثواب مستحب أما أنه وضوء فلا ، وقد مرّ بيان ذلك في أوامر الاحتياط على تقدير كونها شرعية لا إرشادية عن قريب ، نعم لو قيل بدلالتها على حجية الخبر الضعيف ثبت عنوان الوضوء أيضا لأنّه مدلول ذلك الخبر.

وينبغي التنبيه على أمور كلها متفرّعة على ثبوت قاعدة التسامح : منها أنّ الظاهر شمول القاعدة لما إذا ورد خبر معتبر بعدم استحباب شيء وورد خبر ضعيف باستحبابه أو وجوبه ، لقيام احتمال الاستحباب واقعا ، فيصح أن يعمل برجاء إدراك الثواب ، ودعوى الانصراف عن مثله ممنوعة.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ١٥٧.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ١٥٨.

٢٠٢

ومنها : أنّ الظاهر عدم شمول القاعدة لمثل الأخبار العاميّة والأخبار الشاذّة المعرض عنها عند الأصحاب ونحوها مما هو بعيد عن الصحة بل مظنون الكذب لانصراف الأخبار عن مثلها ، ومنع الانصراف هنا ليس على ما ينبغي.

ومنها : أنّ الظاهر عدم شمولها لمثل فتوى الفقيه وإن كان المشهور شمولها ، لأنّ ظاهر البلوغ هو البلوغ على وجه الحكاية عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أو الإمام (عليه‌السلام) مثل الروايات والأخبار المتداولة ، وأما فتوى الفقيه فهي من اجتهاده واستنباطاته الظنية بحيث لا يمكن إسنادها إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إلّا مجازا.

ومنها : أنّ الظاهر شمولها لما إذا ورد خبر ضعيف مشتمل على طلب شيء وجوبا أو استحبابا من دون ذكر ثواب عليه ، وذلك لأنّ الطلب مطلقا دال على الثواب التزاما ، مضافا إلى أن بعض أخبار الباب ليس فيه ذكر الثواب كقوله (عليه‌السلام) «من بلغه شيء من الخير» إلى آخره.

ومنها : أنّ الظاهر من المشهور شمول القاعدة لما إذا ورد خبر ضعيف على الحرمة أو الكراهة فيحكمون بالكراهة ، وذلك مبني على صدق العمل على الترك كما يصدق على الفعل ، وهو محلّ شك ولا يبعد صدقه في بعض المقامات كالصوم ونحوه ، فتأمل.

ومنها : أنّ الظاهر شمول القاعدة لما إذا ورد خبر ضعيف بتعيين موضوع من الموضوعات يتعلّق به عمل له ثواب كما لو ورد الخبر الضعيف على أنّ في المكان الفلاني قبر نبي من الأنبياء مثلا وقد ثبت من الخارج مثلا استحباب زيارة قبور الأنبياء (عليهم‌السلام) فيحكم باستحباب زيارة ذلك القبر (١).

__________________

(١) أقول : هذا لا يخلو عن تأمل بل منع ، لأنّ ظاهر جميع أخبار الباب أن يكون البالغ

٢٠٣

ومنها : أنّ الظاهر عدم شمول القاعدة للخبر الضعيف من حيث الدلالة ووجهه عدم صدق البلوغ عليه وهذا واضح.

ومنها : أنّه على تقدير ثبوت قاعدة التسامح ليس للفقيه أن يفتي باستحباب الفعل إلّا أن يقيّده بإتيانه بعنوان رجاء الثواب وإدراك الواقع ، إذ لم يثبت مطلوبيته إلّا بهذا العنوان وقد مرّ بيانه سابقا.

قوله : أو عرضيا كالواجب المخير المتعيّن لأجل الانحصار (١).

مثاله ما لو فرضنا الشك في أصل الوجوب التخييري بين إكرام زيد وبين إكرام عمرو وفرضنا تعذّر إكرام زيد اللازم منه تعيّن إكرام عمرو على تقدير ثبوت الوجوب التخييري ، فحينئذ يشك في وجوب إكرام عمرو تعيينا بالعرض ويجري أصل البراءة منه ، ومن هنا تعلم أنه لا إشكال في جريان البراءة لو شك في أصل ثبوت الوجوب التخييري وعدمه ، والمثال المذكور راجع إليه. مثال آخر لو فرض تعلّق الوجوب بإكرام زيد في الجملة مردّدا بين الوجوب التعييني والتخييري بينه وبين إكرام عمرو وفرض تعذّر إكرام زيد ، فإنّ الشك يرجع إلى الشك في وجوب إكرام عمرو معيّنا بالتعيين العرضي وعدمه.

قوله : أما لو شك في الوجوب التخييري والإباحة (٢).

وهذا له صورتان : إحداهما أن يعلم بتعلّق الوجوب في الجملة بإكرام زيد

__________________

هو العمل أو ثواب العمل فيعمله المبلغ إليه برجاء إدراك الثواب ، وفي المثال المذكور قد ثبت استحباب العمل بغير هذا الخبر الضعيف بالفرض لكن كان موضوعه مشتبها أخبر المبلغ به ولا دليل على ثبوته به ، نعم لو قلنا بحجية الخبر الضعيف في المستحبات ثبت المطلوب هنا ، فتأمل جدّا.

(١) فرائد الأصول ٢ : ١٥٩.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ١٥٩.

٢٠٤

وشكّ في كونه واجبا تعيينيا أو تخييريا بينه وبين إكرام عمرو ، فيرجع الشك إلى أنه هل يجب إكرام عمرو تخييرا أم لا. الثانية : أن يعلم بالوجوب التخييري في الجملة لكن لم يعلم أنّ أطراف التخيير اثنان أو ثلاثة ، مثلا نعلم بوجوب إكرام زيد أو عمرو على التخيير في الجملة لكن نشكّ في تعلّق هذا الوجوب بإكرام بكر أيضا حتى يكون أطراف التخيير ثلاثة أو لا. ولا يخفى أنّ الصورة الأولى بل الثانية أيضا كما يظهر بالتأمل داخلة في مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير بل هي عينها ، والمسألة معنونة في أواخر الرسالة ذات قولين يأتي مفصّلا ما قيل فيها أو يمكن أن يقال ، لكن الفرق بين عنوان مقامنا وعنوان المسألة المعروفة أنه في هذا المقام يتكلّم في جريان أصالة البراءة بالنسبة إلى الطرف المشكوك في تعلّق الوجوب به ، وفي تلك المسألة يتكلّم في جريان أصل البراءة من التعيين بالنسبة إلى الطرف المعلوم الوجوب في الجملة ، أو جريان أصالة الاشتغال بالوجوب المتعلّق به حتى يعلم الفراغ منه.

قوله : فلا تجري فيه أدلة البراءة لظهورها إلخ (١).

توضيح مراده : أنّ أدلة البراءة عقلها ونقلها غير جارية فيما نحن فيه ، أما العقل فلأنّ غاية ما يثبت به نفي العقاب المحتمل لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، وهذا المعنى لا يجري في الشك في الوجوب التخييري ، لأنّه لو كان الوجوب التخييري متيقّنا أيضا لم يكن في ترك إكرام عمرو في المثال المذكور في الحاشية السابقة عقاب ، لجواز إتيان المكلّف الطرف الآخر من التخيير وهو إكرام زيد ، ففي صورة الشك في وجوب إكرام عمرو كيف يحتمل العقاب والحال هذه حتى يحكم بنفيه بحكم العقل على البراءة.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ١٥٩.

٢٠٥

وأما النقل فلأنّ المستفاد من مجموع الآيات والأخبار المستدلّ بها على البراءة نفي الكلفة الزائدة على المقدار المعلوم من التكاليف وأنّ الناس في سعة ما لا يعلمون ، وكون إكرام عمرو واجبا بالوجوب التخييري في المثال المذكور ليس من الكلفة في شيء بل هو عين التوسعة في عدم لزوم إكرام زيد على التعيين ، فلا تدلّ هذه الأدلة على نفيه ، وهذا معنى قوله في المتن لظهورها في عدم تعيين الشيء المجهول على المكلف بحيث يلتزم به ويعاقب عليه.

وفيه نظر ، أما أوّلا : فلأنّه على مذهب المشهور في الواجب التخييري من أنّ الواجب هو جميع الأطراف ويسقط بفعل بعضها يجب القول بترتّب العقاب على كل واحد من الأطراف على تقدير ترك الكل ، فيتعدّد العقابات على هذا التقدير ، كما أنّ ترك الكل في الواجب الكفائي أعني ترك جميع المخاطبين يوجب عقاب الكلّ ، وحينئذ نقول الشك في تعلّق الوجوب بإكرام عمرو في المثال المذكور تخييرا يرجع إلى الشك في ترتّب العقاب على تركه في صورة ترك الكلّ أعني ترك إكرام زيد وعمرو ، فلا ضير في أن يحكم برفع العقاب المحتمل على ترك إكرام عمرو لو كان واجبا في الواقع تخييرا.

وأما ثانيا : فلأنّ حكم العقل بالبراءة لا يختص بصورة احتمال العقاب ، بل لو علم بعدم العقاب على مخالفة المولى يحكم بوجوب إطاعة المولى وقبح التكليف بلا بيان ، ولا شكّ فيما نحن فيه أنه لو كان إكرام زيد واجبا ولو تخييرا فهو تكليف بغير بيان يرفع بحكم العقل ، ومجرّد وجود المندوحة للمكلّف باختياره للطرف الآخر المبرئ للذمّة قطعا لا ينافي حكم العقل وجريان البراءة بالنسبة إلى الطرف المشكوك ، ألا ترى أنه لو شكّ في وجوب صوم غد مثلا يجري حكم العقل بالبراءة مع إمكان اختيار السفر الشرعي المسقط للوجوب على تقديره حتى يتيقّن بعدم المخالفة ، فمجرّد هذه المندوحة لا ينافي حكم

٢٠٦

العقل بالبراءة على تقدير عدم اختياره تلك المندوحة.

وأما ثالثا : فلأنّ كلفة كل شيء بحسبه ، فإنّ في الواجب التعييني نوعا من الكلفة وفي الكفائي نوعا منها وفي التخييري نوعا منها ، ولا ريب في أنا نجد الفرق بين كون إكرام عمرو في المثال مباحا للمكلف أو طرفا للواجب التخييري ، فإنّه في الأول مطلق العنان إن شاء فعل وإن شاء ترك ، بخلاف الثاني فإنّه في ضيق منه في الجملة ولا يجوز تركه إلّا إلى بدل ، فما مرّ من أنه ليس كلفة وضيقا يرفع حكمه بالأدلة السمعية بل هو نحو من التوسعة ، فيه ما فيه ، ومن هنا تعرف جريان أدلة البراءة بالنسبة إلى المستحبات والمكروهات أيضا فإنّ فيها أيضا نوعا من الكلفة والضيق بالقياس إلى المباح.

قوله : إذ ليس هنا إلّا وجوب واحد مردّد بين الكلي والفرد (١).

توضيحه : أنه في هذا الفرض أصل الوجوب ثابت بالعلم وإنما الشك في متعلّقه وأنه الكلي الشامل للمعيّن وغيره أو خصوص الفرد المعيّن ، فأصالة عدم وجوب غير المعيّن مرجعها إلى أصالة عدم تعلّق الوجوب بالكلي ، وهي معارضة بأصالة عدم تعلّقه بالمعيّن ، مثلا علمنا إجمالا بوجوب العتق وشككنا في تعلّقه بمطلق الرقبة أو خصوص المؤمنة فأصالة عدم وجوب عتق الكافرة التي مرجعها إلى أصالة عدم تعلّق الوجوب بعتق مطلق الرقبة معارضة بأصالة عدم تعلّقه بعتق خصوص المؤمنة فلا أصل ، هذا.

ولكن التحقيق جريان أصل عدم وجوب عتق الكافرة بتقريب آخر ، وهو أن يقال إنّا نعلم في المثال بوجوب عتق المؤمنة في الجملة إما عينا وإما لكونها فردا للمطلق ، فإنّ الوجوب العارض للطبيعة عارض لأفرادها بالعرض لسريان

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ١٥٩.

٢٠٧

الكلي في أفراده ، وأما وجوب عتق الكافرة فمشكوك فيستصحب عدمه ، ولا يقدح فيه كون شكّه ناشئا عن الشك في تعلّق الوجوب بالمطلق ، ولا يجري الأصل في الشك السببي لمكان معارضته بأصل عدم تعلّق الوجوب بالمقيّد ، وذلك لما تقرر عند المصنف وغيره في محلّه من أنّه لو لم يجر الأصل بالنسبة إلى الشك في السبب لا مانع من جريان الأصل في الشك في المسبب ، نعم لو جرى الأصل بالنسبة إلى السبب لم يبق محلّ لجريان الأصل في المسبب على ما بيّن في محلّه.

قوله : وأما إذا كان الشك في إيجابه بالخصوص جرى أصالة عدم الوجوب (١).

مثل ما علمنا بوجوب إكرام إجمالا وشككنا في أنه متعلّق بزيد بالخصوص أو متعلّق بزيد أو عمرو تخييرا ، فإنّه يجري هنا أصالة عدم وجوب إكرام عمرو ، والفرق بينه وبين الصورة الأولى التي حكم المصنف بعدم جريان الأصل فيها أنّ متعلّق الوجوب في الصورة السابقة كان مردّدا بين الكلي والفرد وهما متباينان ، فأصالة عدم تعلّقه بكل منهما معارضة بالآخر ، وفي الصورة الثانية مردّد بين الفرد والفردين فتعلّقه بأحد الفردين معلوم إما معينا أو مخيرا ، وفي الآخر مشكوك منفي بالأصل.

ثم لا يخفى أنه بعد جريان أصالة عدم الوجوب وأصالة عدم المسقطية يجب العمل موافقا للتعيين وإن لم نقل بالاشتغال في مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير وأجرينا أصالة عدم التعيين ، وليس ذلك من إثبات أحد الحادثين بنفي الآخر ، لأنّ وجوب العمل على طبق التعيين غير الحكم بأنّه

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ١٥٩.

٢٠٨

الواجب معيّنا ، فإذن لا منافاة بين أصالة البراءة من التعيين في تلك المسألة وأصالة البراءة من الوجوب ، أو أصالة عدم الوجوب وعدم المسقطية في مسألتنا ، وليس أحدهما حاكما على الآخر ، لأنّ الشك فيهما مسبب عن شيء ثالث وهو إجمال الخطاب أو التكليف.

ويمكن أن يقال : إنه بمقتضى إجراء أصل البراءة من التعيين يكفي الإتيان بالآخر وتحصل البراءة من التكليف المعلوم ، إذ المقدار المعلوم بالإجمال ليس أزيد من أنّ ترك الأمرين موجب لترتّب العقاب ، وبعد إتيان أحدهما لا يتيقّن العقاب ، ولا ينافي ذلك أصالة عدم وجوب المأتي به ، إذ غاية ما يلزم منه أنه غير واجب مسقط عن الواجب ، نعم أصالة عدم المسقطية مناف له لكنها محكومة بالنسبة إلى أصالة البراءة عن التعيين ، لأنّ الشك في الإسقاط ناش عن الشك في التعيين وعدمه ، فافهم ذلك فإنّه دقيق.

قوله : أو مباحا مسقطا (١).

أو مستحبا مسقطا أو مكروها مسقطا ، فإنّ الوجه في الجميع واحد ، ولا تجري أصالة عدم المسقطية وتجري أصالة عدم الوجوب التخييري ، وكذا أصالة البراءة على ما قررنا في الصورة الأولى.

قوله : وربما يتخيّل من هذا القبيل ما لو شك في وجوب الايتمام إلخ (٢).

ظاهر كلام المتخيّل أنه فرض الشك في أنّ صلاة الجماعة للعاجز بالايتمام فرد للواجب التخييري أو مستحبة مسقطة للفريضة ، ولذا أورد عليه

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ١٦٠.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ١٦٠.

٢٠٩

المصنف بأنّ صلاة الجماعة فرد لا محالة متّصفة بالوجوب واستحبابها من باب أفضل فردي الواجب.

لكن قد يوجّه كلامه بأنّه ناظر إلى حال نفس القراءة ، ويكون الشك في أنّ القراءة واجبة مطلقا في كل صلاة ، ويكون قراءة الإمام في الجماعة بدلا عن قراءة المأموم فكأنه قرأ بنائبه ، أو أنها واجبة إلّا في حق المأموم ، فإنّ الصلاة تصحّ منه بلا قراءة ، فإن كان الأول يكون الواجب مخيرا فيه بين المباشرة وتحصيل البدل بالايتمام ، وفي الثاني ليس الواجب إلّا القراءة مباشرة ، وأما الايتمام فإنه مسقط لها ، إذ لا قراءة على المؤتمّ بالفرض ، فاختيار الايتمام كاختيار السفر المسقط للصوم ، فكما أنّ المسافر أخرج نفسه عن موضوع حكم وجوب الصوم وهو الحاضر وأدخلها في موضوع حكم وجوب الإفطار وليس من التخيير في الواجب في شيء ، فكذلك المأموم إذا أدخل نفسه في موضوع المؤتم الذي لا قراءة عليه سقط عنه القراءة وليس من التخيير ، وحينئذ فلو شك في الوجهين كان من قبيل ما نحن فيه ويكون مطابقا لما ذكره فخر الدين في ذيل كلامه المحكي في المتن من قوله : والمنشأ أنّ قراءة الإمام بدل أو مسقط انتهى. لكن لا يخفى أنّ ذلك كله لا يفيد المطلوب ، لأنّا لا نشكّ في كون الصلاة جماعة فردا للواجب تخييرا ، ولا يتفاوت الحال بين كونها صلاة بلا قراءة أو مع قراءة يباشرها الإمام ، فالعاجز عن القراءة بنفسه يجب عليه اختيارها لأنه أحد فردي الواجب المخيّر ، هذا.

وبقي الكلام في المبنى وهو أنّ قراءة الإمام بدل أو مسقط وإن لم يثمر فيما نحن بصدده فلعلّه يثمر في غير المقام فنقول : إنّ تعبيرات أخبار الباب

٢١٠

مختلفة ففي جملة منها «لا تقرأ خلف إمام تأتم به» (١) وفي غير واحد منها «يجزيك قراءة الإمام» (٢) وفي بعضها «إنّ الإمام ضامن لقراءة من خلفه» (٣) ولا يبعد دعوى ظهور الأخيرين في البدلية سيّما الثاني منهما ، وفيه تأمّل.

قوله : لكن يمكن منع تحقق العجز فيما نحن فيه فإنّه يتمكن من الصلاة منفردا بلا قراءة (٤).

أو مع قراءة ما يحسنه منها أو من غيرها من القرآن أو الذكر بالترتيب المعروف في محله ومحصله : أنّ صلاة العاجز بلا قراءة أو مع ما تيسّر له بدل عن الصلاة التامة للقارئ ، فكما أنّ صلاة القارئ مع القراءة في عرض الصلاة جماعة إحدى فردي الواجب التخييري ، فكذا الصلاة بلا قراءة أو مع قراءة ما تيسر فرد للواجب المخيّر بينه وبين الايتمام ، والدليل على ذلك إطلاق أدلة بدلية الصلاة بلا قراءة أو مع ما تيسّر ، فإن فهم منها الإطلاق حتى تشمل ما لو قدر على الايتمام أيضا كما اختاره صاحب الجواهر (٥) فالأمر كما ذكره في المتن ، فيصير بمقتضى الإطلاق صلاة العاجز بلا قراءة في عرض الايتمام بدلا اختياريا يتخير المكلف بينهما ، وإن منع الإطلاق أو شكّ فيه فالمتعيّن وجوب اختيار الايتمام لأنّه فرد من الواجب تعيّن بتعذّر فرده الآخر فتدبّر ، ولهذه المسألة نظائر في الفقه منها : ما ورد في بدلية صوم ثمانية عشر عن صوم شهرين لمن عجز عنهما في الكفارة المخيّرة بين صوم شهرين وغيره ، فإن فهم منه

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٣٥٥ / أبواب صلاة الجماعة ب ٣١ ح ١ وغيره.

(٢) نفس المصدر ح ١٥ (نقل بالمضمون).

(٣) الوسائل ٨ : ٣٥٣ / أبواب صلاة الجماعة ب ٣٠ ح ١ ، ٣.

(٤) فرائد الأصول ٢ : ١٦٠.

(٥) جواهر الكلام ٩ : ٣٠٢.

٢١١

إطلاق البدلية يكتفى به ولو قدر على العتق مثلا ، وإلّا تعيّن البدل الاختياري ، ومنها : ما ورد في بدلية إمرار الموسى على الرأس عن الحلق المخير بينه وبين التقصير في أفعال منى لمن لم يكن رأسه ذا شعر بالذات أو بالحلق فيما قبله حال الإحرام عصيانا مع تمكّنه من التقصير ، إلى غير ذلك مما يظفر به المتتبع.

تنبيه :

لو شكّ في الواجب الكفائي كما لو سلّم المسلّم على جماعة هو منهم وهو في الصلاة فيشكّ في تعلّق الوجوب الكفائي بردّ السلام به وعدمه ، فالحق جريان أصالة البراءة بناء على ما مرّ سابقا من أنّ المستفاد من أدلة البراءة نفي مطلق الكلفة الزائدة التي منها الوجوب الكفائي ، ولعل المصنف لا يقول بجريانها فيها ، لما ذكرنا في توجيه عدم جريانها في الواجب التخييري عنده وذكرنا ما فيه ، وأما أصالة عدم الوجوب فهي جارية بلا ريب حتى عند المصنف ظاهرا.

قوله : المسألة الثانية فيما اشتبه حكمه الشرعي من جهة إجمال اللفظ (١).

ويلحق بإجمال اللفظ اختلاف النسخة كما لو وجد في بعض النسخ يجب كذا وفي بعضها يستحب بدله ، والوجه واضح ، ولا فرق بين أن يكون الإجمال من لفظ الأمر كمثال المتن أو يكون من بعض ألفاظ متعلّقات الأمر كما في قوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً)(٢) لو قيل بإجمال لفظ الصعيد ، وكما لو شك في أنّ وقت تعلّق زكاة التمر والزبيب هو انعقاد الحبّ أو الاحمرار أو

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ١٦٢.

(٢) المائدة ٥ : ٦.

٢١٢

الاصفرار وصدق الاسم ، وفرضنا أن المالك حين الانعقاد غير المالك حين صدق الاسم ببيعه له ، فبناء على تعلّق الزكاة بالذمة تجري أصالة البراءة بالنسبة إلى البائع والمشتري ، وأما بناء على تعلّقها بالعين فيجري الأصل بالنسبة إلى البائع دون المشتري ، لأنّه بعد صدق الاسم يعلم بكون العين مشتركة بينه وبين أهل الزكاة غاية الأمر أنه لا يعلم وقت حدوث الشركة هل كان عنده أو عند البائع فافهم.

قوله : نعم الأخبار المتقدمة في من بلغه الثواب لا يجري هنا (١).

يعني بالقياس إلى هذا الخبر المجمل ، وأما بالقياس إلى ورود خبر آخر ضعيف لو فرض فيجري أخبار التسامح كما لا يخفى.

قوله : المسألة الرابعة دوران الأمر بين الوجوب وغيره من جهة الاشتباه في موضوع الحكم (٢).

وذلك كما لو شك في أنه مديون لزيد باستدانته منه أو إتلاف ماله أم لا ، وكما لو شك في وجوب الحج عليه أم لا لعدم العلم بمقدار ماله أو عدم العلم بكفاية هذا المقدار لمئونة الحج فيجري أصالة البراءة بعد الفحص والمحاسبة إن أوجبناه وإلّا فمن أوّل الأمر ، وكما لو شك في وجوب الزكاة عليه لعدم العلم ببلوغ ماله النصاب بعد الفحص بالمحاسبة أو من أول الأمر ، وكما لو شكّ في أنّ دينه من زيد مثلا تسعة أو عشرة فتجري البراءة بالنسبة إلى الزائد عن المتيقّن ، وكما لو شك في أنّ قيمة ما أتلفه على مالكه أو تلف في ضمانه تسعة أو عشرة مثلا فالأصل البراءة عن الزائد على المتيقن ، لكن هذا إنما يتم على مذهب

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ١٦٤.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ١٦٩.

٢١٣

المشهور من اشتغال الذمة في القيميات بالقيمة عند تلفها فيشكّ في اشتغالها بالأقلّ أو الأكثر ، فتجري أصالة البراءة عن الزائد كما أنه تجري أصالة عدم وجوبه أيضا ، وأما إذا قلنا بأنّ العين في عهدة الضامن في القيميات إلى زمان التأدية ، وتفريغ العهدة يحصل بأداء بدله وقيمته لتعذّر أداء العين كما هو المختار المحقّق في محلّه ، فليس المسألة حينئذ من موارد أصل البراءة ، بل مورد أصل الاشتغال ، لأنّ اشتغال الذمة بعهدة العين معلوم ، وإنما الشك في البراءة منه وأنها تحصل بأداء الأقل أو الأكثر ، فيجري استصحاب الاشتغال إلى أن يعلم بالفراغ بأداء الأكثر.

قوله : وتقدم أيضا اندفاع توهّم أن التكليف إلخ (١).

قد تقدّم منا هناك أنّ مقتضى حكم العقل ما ذكره المتوهّم وأنّ حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان لا يجري هنا ، إذ ليس بيان الموضوعات من وظيفة الشارع ، والشك إنما هو في الموضوع الخارجي وما يجب أن ينبّه الشارع فهو مبيّن بالفرض ، نعم الأدلة الشرعية لإثبات البراءة تجري في الشبهات الموضوعية كجريانها في الشبهة الحكمية.

قوله : ولكنّ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) بل المقطوع به من المفيد إلى الشهيد الثاني (٢).

أقوال المسألة ترتقي إلى ستة ، الأول : وجوب القضاء حتى يظن الفراغ وهو المشهور كما في المتن. الثاني : وجوبه حتى يعلم الفراغ وهو ظاهر ما نسب

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ١٦٩.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ١٧٠.

٢١٤

إلى الشهيدين (١). الثالث : وجوبه حتى يحصل العلم إلّا أن يكون مستلزما للحرج فيكتفى حينئذ بظن الفراغ. الرابع : الاكتفاء بظن الفراغ مع تعيين صلاة الفائتة كيفية وترديدها عددا ، ووجوب تحصيل العلم مع عدم التعيين كمّا وكيفا وهو المنسوب إلى العلّامة في إرشاده (٢) ويحتمله عبارة الشرائع (٣). الخامس : التفصيل بين ما لو علم بكلّ من الفوائت بعد فوتها ثم طرأ نسيان عددها فالاحتياط ، وبين ما لو شكّ في عدد الفوائت ابتداء بعد العلم الإجمالي باشتغال ذمّته بفوائت فالبراءة وهو الذي حكاه في المتن عن بعض المحقّقين وهو الوحيد البهبهاني في شرح المفاتيح (٤) على ما حكي عنه. السادس : الاكتفاء بقضاء المقدار المتيقّن وهو الأقل وإجراء أصالة البراءة من الزائد وهو المحكي عن الأردبيلي (٥) وصاحب الكفاية (٦) والذخيرة (٧) وقوّاه في الجواهر (٨) في آخر كلامه وكذا صاحب المستند (٩) والماتن ، وهو الموافق للتحقيق وبيانه مذكور في المتن.

__________________

(١) الذكرى ٢ : ٤٣٧ ـ ٤٣٨ ، المقاصد العلية : ٢١٧.

(٢) إرشاد الأذهان ١ : ٢٧١.

(٣) شرائع الإسلام ١ : ١٢٢.

(٤) مصابيح الظلام في شرح مفاتيح الشرائع ٩ : ٤٤٣ ـ ٤٤٨.

(٥) مجمع الفائدة ٣ : ٢٣١.

(٦) كفاية الفقه ١ : ١٣٥.

(٧) الذخيرة : ٣٨٤.

(٨) جواهر الكلام ١٣ : ١٢٩.

(٩) مستند الشيعة ٧ : ٣١٠ ـ ٣١١.

٢١٥

قوله : وبمجرد عروض النسيان كيف يرفع الحكم الثابت من الإطلاقات والاستصحاب بل الإجماع (١).

غاية ما يقال في توجيهه أنّه بعد ما علم بفوات الفريضة فقد تنجّز التكليف بوجوب القضاء فيجب عليه الفراغ اليقيني بالاحتياط.

وجوابه : أن عدد الفوائت الكذائية مشكوك بالفرض حين إرادة القضاء فينفى الزائد على المقدار المعلوم بالأصل ، هذا حال الإطلاقات.

وأما الاستصحاب فتوجيهه أنه قد تيقّن بفوت كل واحد واحد من الفرائض قبل زمان الشكّ فيستصحب.

وفيه أوّلا : أنّ ذلك لو تم جرى فيما لو علم بالفوائت وشكّ في عددها في ذلك الزمان لا في زمان لاحق من زمان العلم ، فإنّه لا يعتبر في ميزان مورد الاستصحاب أن يكون زمان اليقين سابقا على زمان الشكّ كما حقق في محلّه ، بل يكفي تقدّم زمان المتيقّن على زمان الشكّ وهو حاصل.

وثانيا : أنّ المتيقّن السابق بعد انحلاله إلى معلوم بالتفصيل والمشكوك رأسا لا يبقى معه مجال للاستصحاب ، إذ القدر المعلوم متيقّن في الحال أيضا والزائد المشكوك فيه ليس متيقّنا في السابق حتى يستصحب.

وأما الإجماع فلم نتحقّقه مع هذا الاختلاف ولم نجد سوى الشهرة ولا حجّية فيها ، نعم يمكن أن يوجّه الاشتغال في بعض صور المسألة وهو ما لو علم أنّ تركه أداء الفريضة مهما كان كان عن عصيان لا عن عذر ، فيقال إنّ العقل يحكم بوجوب الاحتياط بقضائه الزائد المحتمل ، لأنّ العصيان المتحقق في

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ١٧٢.

٢١٦

محلّه لا يرفعه النسيان بعده ، وأصالة البراءة من وجوب القضاء الزائد لا تصلح لأن ترفع حكم العصيان السابق المحقق واقعا بأن يرتفع عقاب ترك الواجب عمدا بها ، ونظيره يجري فيما لو علم باشتغال ذمّته بدين الناس مرددا بين الأقل والأكثر لكن عن غصب ومعصية ، فإنّ أصالة البراءة عن الزائد على المتيقن لا تنفع في رفع عقاب معصية الغصب السابق لو كان ، فيجب بحكم العقل المستقل أداء الأكثر حتى يحصل العلم بفراغ ذمّته عن الدين واقعا ، وهكذا نقول بالنسبة إلى وجوب التوبة فإنّ احتمال تحقق المعصية كاف في حكم العقل بوجوب التوبة ، وأصالة البراءة عن وجوب التوبة وإن كانت جارية في حدّ نفسها لكن لا يترتب عليها رفع حكم المعصية السابقة بالضرورة لو كانت ، فيجب التوبة ، ولازم هذا الوجه أن نقول بلزوم تحصيل العلم بفراغ الذمة عن القضاء وعن الدين في الشبهة البدوية أيضا لو احتمل أنه كان الترك أو الغصب عصيانا ولا يقولون به ، وهكذا يلزم وجوب التوبة في كل معصية محتملة والظاهر التزامهم به.

ولا يخفى أنّ هذا التوجيه مبنيّ على أن يكون القضاء تداركا للأداء يفيد فائدته بدلا عنه حتى كأنّه ما فات ، وكذا يكون الغرامة تداركا للدين السابق تجعله كالعدم ، وأما إذا قلنا بأنّ التكليف بالقضاء والغرامة تكليف مستقل في موضوع من فاته الأداء أو أتلف مال الغير فلا يحكم العقل بالاشتغال لأنّه عصى في التكليف الأولي وهو أمره بأداء الفريضة ونهيه عن الغصب ، ولا ترتفع تلك المعصية إلّا بالتوبة ، وأما التكليف الجديد بالقضاء والغرامة فمشكوك ينفيه الأصل ، إلّا أن يوجّه بوجه آخر وهو أن يقال إنّ صحة التوبة مشروطة بعدم اشتغال ذمّته بحق لله أو للناس واقعا فيجب الاحتياط في القضاء أو الغرامة مقدمة لامتثال أمر التوبة ، إلّا أن يمنع اشتراط التوبة إلّا بتفريغ الذمة عما علم اشتغالها به ، وأما الاشتغال المحتمل فمنفي بالأصل والأصل عدم اشتراط قبول

٢١٧

التوبة به.

والتحقيق أن يقال إنّ هنا جهتين : إحداهما جهة التكليف وعصيانه فهو دائر مدار الواقع لا يرفعه إلّا التوبة ، والأخرى جهة الوضع واشتغال الذمّة بمثل الفائت أو التالف وهذا منفي بالأصل ، ودعوى اشتراط صحة التوبة بعدم هذا الاشتغال واقعا ولو كان المكلّف جاهلا به قد عرفت منعها فتدبّر.

ثم لا يخفى أنه إن قلنا بكون القضاء تابعا للأداء وأنّ الأمر الأول يقتضي وجوب القضاء فحكم الاشتغال في المسألة واضح في جميع صورها بنفس أمر الأداء المتيقّن الثبوت ، والمخالفة إنما حصلت في فوات الوقت وهو تكليف آخر مستقل لا أصل الواجب ، ولكن التحقيق أن القضاء بفرض جديد ، ولا يخفى أيضا أن هذا كله مع الإغماض عما يدل من النص على عدم وجوب قضاء ما شكّ في فوته بعد خروج الوقت أو انصرافه إلى الشكّ البدوي كما أشار إليه في المتن.

قوله : كما يكشف عن ذلك تعلّق أمر الأداء بنفس الفعل وأمر القضاء به بوصف الفوت (١).

يعني لو كان أصل الفعل واجبا مطلقا غير مقيّد بالوقت لما كان لصدق الفوت عليه بالنسبة إلى ما بعد الوقت معنى ، وأيضا يدل عليه إطلاق القضاء فإنّه تدارك العمل بعد خروج وقته ، فلو كان نفس العمل واجبا مطلقا لم يصدق على فعله في خارج الوقت التدارك بل كان نفس الواجب ، اللهمّ إلّا أن يحمل لفظ القضاء على معناه اللغوي وهو مطلق الفعل ، وهو كما ترى تكلّف بعيد عن إطلاقات الأخبار.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ١٧٥.

٢١٨

قوله : وأما ثالثا فلأنّه لو تم ذلك جرى فيما يقضيه عن أبويه (١).

إنما يجري هذا النقض بالنسبة إلى التوجيه الأول أعني الاستصحاب فيقال يعلم الولي بشغل ذمة الميت بالصلاة في الوقت والأصل عدم الاتيان به ، فيتحقق موضوع تكليف الولي بوجوب قضاء كل ما فات عن أبويه ، وأما بالنسبة إلى قاعدة الاشتغال فلا يجري التوجيه المذكور.

أما أوّلا : فلأنّ الشغل إن لوحظ بالنسبة إلى الولي فهو مشكوك لا يوجب الفراغ ، وإن لوحظ بالنسبة إلى الميت فهو وإن كان متيقنا في السابق ومشكوك الآن إلّا أن شكّ الولي في أداء الميت ما وجب عليه لا يثبت به شغل ذمّة الولي ولا الميّت ، ولعل الميت كان متيقّنا بالبراءة بإتيان الواجب ، نعم لو فرضنا أنّ الولي علم بأنّ الميت كان شاكا في البراءة ووجب عليه الاحتياط بقاعدة الشغل ولازمه وجوب القضاء على الولي بدليله ، كان له وجه كما أشار إليه في المتن ، لكن هذا مطلب آخر لا كلام فيه.

وأما ثانيا : فلأنّ إجراء قاعدة الاشتغال على ما بيّنه المصنف موقوف على كشف دليل القضاء عن استمرار مطلوبية الصلاة على سبيل تعدد المطلوب ، ولازم هذا البيان بالنسبة إلى قضاء الولي أن يلتزم باستكشاف كون المطلوب وجوب الصلاة على أعم من الميت ووليه ، وكون الواجب مباشرة الميت مطلوبا آخر وقد فات المطلوب الثاني وبقي الأول ، وهو كما ترى في غاية البعد لم يحتمله أحد ، وهذا بخلاف التزام اشتغال ذمّة الشخص بالصلاة مطلقا غير مقيّد بالوقت وخارجه ثم تكليف آخر بالإتيان في الوقت ، فإنّ هذا قريب من مساق الأدلة وقد اختاره جماعة ، وإن كان التحقيق خلافه ، هذا كله ما يقتضيه النظر

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ١٧٦.

٢١٩

الجلي.

وأما ما يقتضيه النظر الدقيق فهو أنه لا وجه لجريان هذا النقض أصلا حتى بالنسبة إلى الاستصحاب أيضا فضلا عن قاعدة الاشتغال ، لأنّ أخبار قضاء الولي لا تدل على أزيد من قضائه ما وجب على الميّت واشتغل ذمة الميت فعلا به كما هو ظاهر قوله (عليه‌السلام) «وعليه صلاة وصوم» (١) في عدة أخبار ، فلا يجب القضاء على الولي إلّا إذا علم بأنّ على الميت صلاة وصوما ، ولا يجري استصحاب اشتغال ذمة الميت ليترتب عليه وجوب قضاء الولي عنه ، لما عرفت من أنّ الشاك هو الولي ولا يمكن أن يثبت بإجرائه الأصل تكليف لغيره ، نعم لو كان متيقنا بتكليف نفسه ثم شك جرى الاستصحاب وأثبت الاشتغال ، وليس فليس.

قوله : فتأمل (٢).

لعلّ وجهه أنّ الأولوية ليست مقطوعة فلا حجية فيها.

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٣٣٠ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ٢٣ ح ٥ وغيره.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ١٧٦.

٢٢٠