حاشية فرائد الأصول - ج ٢

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-089-6
الصفحات: ٥٩٤
الجزء ٢ الجزء ٣

عذرا صحيحا عند العقل بحيث يكون العقاب معه قبيحا ، ففيما نحن فيه وفي المثال المذكور لمّا كان ارتكاب جميع الأطراف ممنوعا منه غير مرخّص في واحد منها بحسب التكليف الفعلي ولو إرشادا صحّ العقاب على الواقع المجهول لعدم جواز اعتذار المكلف في مخالفته بأني كنت مرخّصا في الارتكاب عقلا أو شرعا ، لأنا فرضنا عدم الرخصة ولو من جهة أخرى ، ولذا رجّحنا جواز المؤاخذة على الواقع فيما إذا اعتقد أنّ هذا الشيء حرام لكونه نجسا وكان حراما لكونه مغصوبا وارتكبه ، فإنّ الجهل بعنوان المحرّم الواقعي لا يصير عذرا له لو علم بحرمته بعنوان آخر والعقل لا يحكم بقبح العقاب على الواقع المجهول في الصورة المفروضة ، ومن هنا تبيّن أنه لو فرض أنه علم بحرمة أحد الثلاثة وعلم بحلّية الآخرين واتفق كون الجميع حراما صحّ العقاب على كل واحد ، فتدبّر.

قوله : أو هو بمعنى لزوم الاحتراز عنه من حيث إنّه مشتبه (١).

استحقاق المؤاخذة على ارتكاب المشتبه بناء على هذا الوجه من كون المشتبه عنوان المحرّم مبني على أن يكون ارتكاب المشتبه محرّما واقعيا ، وإلّا فإن أفاد دليل الاحتياط كونه حراما ظاهريا نظير مستصحب الحرمة وما قامت البيّنة أو الدليل الشرعي على حرمته فالعقاب فيه دائر مدار مخالفة الواقع كما على تقدير الإرشادية على المختار عند المحقّقين ومنهم الماتن ، فلا يتعدّد العقاب على الوجهين من الإرشادية والعنوانية ، نعم يصح على هذا الاحتمال تحرير هذا التنبيه الثاني بوجه آخر وهو أنّ وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين في الشبهة المحصورة هل هو إرشادي حتى لا نحكم فيهما بالحرمة الشرعية أو

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٢٢٩.

٢٨١

مولوي نحكم فيهما بالحرمة الظاهرية كما في مستصحب الحرمة ، وتظهر الثمرة فيما لو ارتكب أحد أطراف الشبهة مثلا فعلى الأول لا نحكم بفسقه لأنا لا نعلم بارتكابه الحرام وعلى الثاني نحكم بفسقه لأنّه أتى بما هو محرّم شرعا ، وأما العقاب فتابع للواقع إن صادف المحرّم.

قوله : ولو ارتكبهما استحق عقابين (١).

ينبغي أن يقول عقابات ثلاثة ، أحدها عقاب المحرّم الواقعي والآخران عقابا عنوان ارتكاب المشتبه ، نعم إن أراد من العقابين ما هو مترتّب على عنوان ارتكاب المشتبه مع قطع النظر عما يترتب على عنوان المحرّم الواقعي فلا بحث.

فإن قلت : يتداخل العقاب في الطرف المصادف للمحرّم الواقعي كما نلتزم بالتداخل في التجرّي بناء على حرمته إذا صادف الحرام الواقعي.

قلت : لا وجه للتداخل إذا كان كلّ من عنوان الواقع وعنوان المشتبه عنوانا مستقلا للحرام ، وما أشرت إليه من التداخل في مسألة التجرّي إنما نقول به بناء على ما اخترناه من اتحاد عنوان الحرام في التجرّي وفي المعصية الحقيقية وهو عنوان هتك حرمة المولى فإنّه قد يكون بالمعصية الحقيقية وقد يكون بالمعصية الحكمية أعني التجرّي ، أما إذا قلنا بحرمة عنوان التجري وعنوان المحرّم الواقعي كشرب الخمر مثلا فلا نسلّم التداخل ، وبهذا أجاب الماتن عما اختاره صاحب الفصول من التداخل في مسألة التجرّي كما سبق تحقيقه وتحقيق أصل المسألة في رسالة القطع.

بقي شيء : وهو أنه حكي عن بعض أن ما ذكره من وحدة العقاب بناء

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٢٢٩.

٢٨٢

على كون وجوب الاجتناب عن الشبهة المحصورة إرشاديا وتعدده بناء على كونه مولويا إنما يتم فيما إذا ارتكب أطراف الشبهة تدريجا ، وأما إذا ارتكبها دفعة فلا عقاب إلّا على الحرام الواقعي قولا واحدا ، فنقول : إن أراد بارتكاب الأطراف دفعة ارتكابها بفعل واحد كما في صورة مزج أحد الإناءين بالآخر وشربه فهو كما ذكره ، لكنّه من جهة تبدّل عنوان المشتبه بالحرام المعلوم تفصيلا ، وإن أراد ارتكابها بأفعال متعددة في زمان واحد فالفرق بينه وبين صورة التدريج لا نعقله.

قوله : والمفروض أنّ الظن في باب الضرر طريق شرعي إليه (١).

يرد عليه أنه على فرض كون الظن طريقا شرعيا إلى الضرر كيف يترتب العقاب عليه على تقدير عدم مصادفة الواقع ، وإنما يناسب ترتب العقاب على مجرّد الظن بالضرر كون ظن الضرر موضوعا للحرمة ، وهكذا في صورة العلم بالضرر لو لم يكن العلم موضوعا بل طريقا لم يكن وجه لترتب العقاب على تقدير عدم مصادفة الواقع ، اللهمّ إلّا أن يحمل هذا الكلام منه على مختار غيره من ترتّب العقاب على مخالفة الطريق لا الواقع كما هو مختاره ، وعليه يحمل قوله كما لو ثبت سائر المحرّمات بالظن المعتبر ، ويشهد لهذا التوجيه قوله وأما حكمهم بوجوب دفع الضرر المظنون إلى آخره ، فإنه نسب الحكم إلى غيره فتأمل. ومحصّل كلامه في الفرق أنّ الحكم بوجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة إرشادي وفي المظنون الضرر مولوي.

ثم إنّ الدليل على اعتبار الظن في باب الضرر على تقدير كونه طريقا بناء العقلاء وظهور الإجماع ، ولكن الأظهر أنّ ظن الضرر بل احتماله الموجب

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٢٣٠.

٢٨٣

للخوف موضوع لحكم العقل بوجوب دفعه وقبح الإقدام عليه ولو اتفق عدم مصادفته للضرر في الواقع ، بل هو كذلك بالنسبة إلى جملة من الأحكام الوضعية كالظن بالضرر بل مطلق خوفه بالنسبة إلى التكليف بالجبيرة في الغسل والوضوء ، وكخوف مطلق استعمال الماء بالنسبة إلى التكليف بالتيمم ، وكخوف الضرر في السفر بالنسبة إلى التكليف بوجوب الإتمام في الصلاة والصوم إلى غير ذلك مما ثبت في الشرع بأدلته المذكورة في محلّها أنّ الحكم معلّق على ظن الضرر أو خوفه ولو لم يكن ضرر في الواقع ، فمن ظن بالضرر باستعمال الماء وتوضأ أو اغتسل فوضوؤه أو غسله باطل ولو كان الظن خطأ ، ولا ينافي ذلك كون نفس الضرر الواقعي أيضا موضوعا آخر لذلك الحكم حتى لو اعتقد عدم الضرر وتوضأ ثم تبين أن الوضوء كان مضرا ، فيحكم ببطلان الوضوء إما من جهة حديث نفي الضرر الحاكم برفع الوضوء الضرري واقعا وإما من جهة لزوم اجتماع الأمر والنهي فإنّ الإقدام على الضرر محرّم شرعا ، فعلى القول بعدم جواز الاجتماع يحكم ببطلان الوضوء.

لكن المصنف (قدس‌سره) أورد على الوجهين في رسالة أفردها في قاعدة الضرر ، أما على الوجه الأول ، فبأنّ قاعدة نفي الضرر لا تشمل المقام من جهتين : الأولى أنّ حديث نفي الضرر وارد في مقام الامتنان ولا امتنان في رفع الحكم في الفرض المذكور ، فإنّ المكلف لجهله بموضوع الضرر قد تكلّف بفعل الوضوء فالمناسب للامتنان أن يحكم بصحّة وضوئه لا بطلانه. والثانية : أن مقتضى حديث نفي الضرر ليس إلّا رفع الحكم الذي يوجب وقوع المكلف في الضرر ، ولكن الذي أوقع المكلف في الضرر في المثال المذكور جهله بموضوع الضرر لا حكم الشارع بالوضوء.

ويرد على الأول : أنّ الامتنان على تقدير صحته استنباطه من الحديث

٢٨٤

حكمة للحكم لا علة يدور الحكم مداره ، وإلّا لزم صحة وضوء من توضأ عالما عامدا بالضرر ، إذ لا امتنان في رفع الحكم عنه والحكم بفساد وضوئه ، ولا يقول به.

وعلى الثاني : أنّ الجاهل بموضوع الضرر لم يوقعه في الضرر سوى اعتقاده بوجوب الوضوء وإلّا لم يكن له داع إلى الوضوء الضرري ، فالحكم بوجوب الوضوء حكم ضرري ينفيه حديث نفي الضرر.

وأما على الوجه الثاني : فبأن النهي عن الإقدام على الضرر في الفرض المزبور ليس فعليا منجّزا لمكان الجهل بالضرر بل هو شأني ، ويجوز اجتماع النهي الشأني مع الأمر الفعلي ، إنما الممتنع اجتماع الأمر والنهي الفعليين على القول به على ما قرروه في مسألة اجتماع الأمر والنهي.

ويرد عليه : أنّ التحقيق عدم جواز الأمر والنهي الشأنيين أيضا على القول بعدم جواز كون الشيء الواحد محبوبا ومبغوضا في نفسه ولو لم يتنجّز التكليف به ، وتمام الكلام في محلّه في مسألة اجتماع الأمر والنهي.

قوله : لو شكّ في هذا الضرر يرجع إلى أصالة الإباحة وعدم الضرر (١).

لا نعرف وجها لأصالة عدم الضرر ، وقد يوجّه بما يرجع إلى أصالة الإباحة ، وفيه ما فيه.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٢٣٠.

٢٨٥

قوله : استحقاق العقاب على ترك الشكر لمن لم يبلغه دعوة نبي زمانه (١).

الظاهر أنّ التقييد بقوله لمن لم يبلغه دعوة نبي زمانه لبيان أنّ وجوب الشكر عقلي إرشادي لا شرعي مولوي ، وهو من باب وجوب دفع الضرر المحتمل ، والمراد بشكر المنعم هو الثناء عليه لا المعنى الاصطلاحي وهو صرف العبد جميع ما أنعمه الله فيما خلق لأجله كما توهّم ، ويشهد بذلك ما فرّعوا على وجوبه من وجوب معرفة الله على ما بيّنه غير واحد من علمائنا في الاعتقادات.

قوله : أو أحد ثوبين أحدهما نجس بتمامه (٢).

إنما يتمّ هذا لو كان الثوب النجس المعلوم متّحد الحكم مع النجاسة الواقعة على أحدهما كأن يكون متنجسا بالبول في المثال المفروض ، أما إذا كان مختلف الحكم معها كأن كان الثوب المفروض نجسا بغير البول مما يكفي فيه الغسل مرة فهذا العلم الإجمالي بوقوع البول على أحد الثوبين يوجب تكليفا جديدا منجّزا فيدخل في حكم الشبهة المحصورة.

قوله : بل معلّقا على تمكّن المكلّف منه (٣).

يعني أنّ التكليف به مشروط بالتمكّن والقدرة كما هو شأن كل تكليف ، وحينئذ فقبل حصول التمكّن لا تكليف واقعا ، فيدور الأمر في هذه الصورة بين ثبوت التكليف وعدمه كالصورة الأولى ، ويرجع إلى الشبهة البدوية بالنسبة إلى الطرف المقدور وهو واضح ، وعبّر بالمعلّق مقام المشروط مسامحة وقد جرى

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٢٣١.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٢٣٣.

(٣) فرائد الأصول ٢ : ٢٣٣.

٢٨٦

على خلاف الاصطلاح.

قوله : فإنّ التكليف بالاجتناب عن هذا الإناء الآخر المتمكّن عقلا غير منجّز عرفا (١).

الظاهر أنه أراد ثبوت التكليف المعلّق الاصطلاحي بالنسبة إلى هذا الإناء بقرينة قوله فيما بعد نعم يحسن الأمر بالاجتناب عنه مقيدا بقوله إذا اتفق لك الابتلاء إلى آخره ، إذ لو أراد التكليف المشروط رجع إلى الصورة الثانية (٢).

قوله : ولهذا لا يحسن التكليف المنجز بالاجتناب عن الطعام أو الثوب إلخ (٣).

يفهم منه أنّ حقيقة التكليف المنجّز مغايرة للتكليف غير المنجّز فيصحّ التكليف بالنسبة إلى غير محلّ الابتلاء تكليفا غير منجّز ولا يصحّ منجّزا فإنه مستهجن ، وفيه ما مرّ غير مرة من أنّ التكليف من قبل الآمر حقيقة واحدة منشأ بإنشاء واحد ، وإنما يكون التنجّز وعدمه بحكم العقل بالنسبة إلى حالات المكلّف ، فإن كان المكلّف بحيث يصحّ العقاب على مخالفته بأن كان عالما به أو جاهلا مقصّرا يسمى منجّزا ، وإن لم يكن كذلك وكان معذورا بأن كان جاهلا من غير تقصير يسمى غير منجّز ، ولعلك إن لاحظت الخطاب المتعلّق بالجاهل القاصر والمقصّر تجد ما ذكرنا جزما من عدم الفرق بين خطابهما فيما يتعلّق

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٢٣٤.

(٢) أقول : الإنصاف أنّ عبارة المتن ظاهرة في كون التكليف بالنسبة إلى غير محلّ الابتلاء أيضا مشروطا سيّما بملاحظة تعليله بأنّ النواهي المطلوب فيها حمل المكلّف على الترك مختصة بمن يعدّ مبتلى بالواقعة ويعدّ خطاب غيره مستهجنا إلّا على وجه التقييد بصورة الابتلاء.

(٣) فرائد الأصول ٢ : ٢٣٤.

٢٨٧

بإنشاء الآمر ، وحينئذ فعلم المكلّف بأصل الخطاب يكفي في التنجز ولا معنى لقول الماتن فعند الاشتباه لا يعلم المكلّف بتنجّز التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعي ، إذ لا يشترط العلم بالتنجّز في التنجّز بل العلم بأصل التكليف يوجب التنجّز.

قوله : ولذا يعدّ خطاب غيره بالترك مستهجنا إلّا على وجه التقييد (١).

لا نسلم الاستهجان المذكور ، إذ لا يلزم في كل خطاب بالترك أن يكون موجبا للبعث على الترك حتى يقال إنّ المكلف هنا تارك للمنهي عنه بنفس عدم الابتلاء كيف ولو كان كذلك لزم عدم تعلّق النهي بمن كان له صارف عن المنهي عنه ولا يكاد يرتكبه وقع النهي عنه أو لم يقع ، وكذا في الأمر لو كان للمكلّف داع نفساني إلى فعل المأمور به فيفعله أمر به أو لم يؤمر لزم عدم تعلق الأمر به ، بل يلزم أن لا يكون العاصي بمخالفة الأوامر والنواهي مأمورا ومنهيا ويختصّ التكاليف بمن يمتثلها بعد التكليف ولا داعي له بموافقتها بدون التكليف وهو كما ترى ، ولو سلّم الاستهجان المذكور فإنّما يسلّم فيما إذا خوطب غير المبتلى بالواقعة بخصوصه بخطاب مستقل ، وأما إذا خوطب في ضمن عموم المكلّفين فلا نسلّم الاستهجان فتأمل ، والسرّ في ذلك كلّه أن حسن الخطاب والحكمة فيه ليس منحصرا في إيجاب البعث والزجر في نفس المكلّف بل قد تكون الحكمة مجرّد صحّة العقاب وترتب الثواب وغير ذلك مما يحسن به التكليف ويكون الأمر والنهي مصلحة.

والحاصل أنّ الفرق بين محلّ الابتلاء وغير محلّ الابتلاء بما ذكره

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٢٣٤.

٢٨٨

المصنف لا يرجع إلى محصّل.

نعم يمكن الفرق بوجه آخر : وهو أن يقال إنّ العلم الإجمالي بين محلّ الابتلاء وغيره لا يعدّ علما بالتكليف في العرف والعادة لغاية بعد غير محلّ الابتلاء عن ارتباطه بالمكلّف ، ويقال إنّه لا دخل له بالمكلّف كما نقول بمثله في الشبهة غير المحصورة فإنّ العلم بالحكم في الشبهات غير المحصورة لا يعدّ علما ، هذا غاية ما يمكن أن يقال في إخراج غير محل الابتلاء عن مورد التكليف (١).

قوله : ألا ترى أنّ زوجة شخص لو شكّت في أنها هي المطلقة (٢).

هذا المثال أجنبي عما نحن فيه بل هو من قبيل واجدي المني في الثوب المشترك لأنّ كون الضرّة مطلّقة ليس محلا لتكليف ضرّتها أصلا لا أنه خارج عن الابتلاء فتدبّر.

قوله : إذا لا يخفى أنّ خارج الإناء ـ إلى قوله ـ ليس مما يبتلي به المكلف عادة (٣).

فيه تأمّل بل منع سيّما ظهر الإناء فإنّه من أقوى أفراد محل الابتلاء يعرفه كل أحد بملاحظة استعمالاته للأواني التي يزاولها في بيته في أكله وشربه ووضوئه وسائر استعمالاته.

__________________

(١) أقول : الانصاف أنّ هذا الوجه ضعيف إذ لا فرق في حكم العقل بين هذا العلم الإجمالي وغيره ، والمسامحات العرفية لا يعتنى بها في هذا المقام لأنّ التنجّز وعدم التنجز إنما هو بحكم العقل يدور مداره كما مرّ بيانه.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٢٣٥.

(٣) فرائد الأصول ٢ : ٢٣٦.

٢٨٩

قوله : نعم يمكن أن يقال عند الشك في حسن التكليف التنجيزي (١).

إنما يصحّ إجراء أصالة البراءة في مثل ما نحن فيه من الشبهة المحصورة ، أما إذا شك في حسن التكليف التنجيزي في غير مورد الشبهة كما لو شكّ في تعلّق التكليف التنجيزي بالاجتناب عن إناء زيد المعلوم النجاسة للشك في كونه محلا للابتلاء وعدمه فلا يجري أصل البراءة ، إذ لا أثر للأصل إلّا على تقدير تحقق الابتلاء ، وحينئذ يتنجز التكليف وينتفي الشك الذي هو موضوع الأصل ، وهذا بخلاف مورد الشبهة المحصورة فإنّه لو شك في حسن التكليف التنجيزي لأجل الشكّ في كون أحد الطرفين محلا للابتلاء ينفع إجراء أصالة البراءة بالنسبة إلى الطرف المعلوم الابتلاء.

ويمكن تقرير الأصل بأحد وجهين : الأول أن يقال الأصل براءة الذمة عن تعلّق التكليف المردّد متعلّقه بين الطرفين فيثمر في الطرف المبتلى به.

الثاني : أن يقال إنّ الأصل براءة الذمة عن تكليف متعلّق بالطرف المبتلى به ، ولا يعارضه الأصل في الطرف الآخر المشكوك الابتلاء لعدم جريانه كما عرفت.

قوله : إلّا أنّ هذا ليس بأولى من أن يقال (٢).

كان الأولى أن يعبّر بدله إلّا أن التحقيق أن يقال إلى آخره ، إذ لو كان هناك إطلاق يمكن الرجوع إليه لم يكن وجه للرجوع إلى الأصل ، والإطلاق موجود بزعمه.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٢٣٧.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٢٣٧.

٢٩٠

قوله : والأقوى الجواز فيصير الأصل في المسألة وجوب الاجتناب (١).

فيه نظر أما أولا : فلأنّ المسألة ترجع على ما قرّره إلى الشك في مصداق القيد المعلوم القيدية ، والتمسّك بالعموم أو الإطلاق في الشبهات المصداقية خلاف مختاره وهو واضح.

وأما ثانيا : فلأنّ التقييد بالابتلاء المفروض إنما هو في مرحلة تنجيز الخطاب لا أصله على ما بيّنه في المتن ، وتنجيز الخطاب وان سلّمنا أنه من مراتب الأمر ويسند إلى الآمر على خلاف التحقيق السابق ، لكن لا ريب أنه بحكم العقل وليس مدلولا للفظ الخطاب قطعا ، وحينئذ نقول ليس الإطلاق متكفّلا لبيان حال هذا الحكم العقلي حتى لو شكّ في تقييده يرجع إلى إطلاق الخطاب ، وإنما ينفع الإطلاق بالنسبة إلى الشك في تقييد مدلول مادة الأمر والنهي بكون المأمور به مقيدا مثلا أو تقييد مدلول الهيئة بكون الوجوب مشروطا أو مطلقا على إشكال في الأخير عند المصنف محرّر في مبحث تحقيق معنى الواجب المشروط ، وأما الشك في تقييد ما استفيد من العقل في الحكم بالتنجيز فلا ربط له بمدلول الخطاب لا مادة ولا هيئة فكيف يتمسّك بإطلاقه بالنسبة إليه ، وهذا نظير ما حقّقه المصنف في مسألة أنّ الأصل في الأوامر التعبدية أو التوصلية ردا على من تمسك بإطلاق الأمر على التوصّلية من أنّ القربة مأخوذة في طريق الامتثال الذي هو بحكم العقل ، وليست من قيود المأمور به حتى يتمسك في نفيها بإطلاق الأمر فتدبّر.

نعم يمكن توجيه مدّعى الماتن بوجه آخر مبني على دعوى كون التنجّز

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٢٣٨.

٢٩١

مشروطا بالابتلاء على حدّ كون أصل التكليف مشروطا بالقدرة على التحقيق عندنا ، وبيان ذلك أنّه لا ريب في كون التكليف مشروطا بالقدرة الواقعية على حدّ سائر شرائط التكليف ، إلّا أنّ للقدرة من بين شرائط التكليف خصوصية وهو أنّه لا يجب إحرازها في مقام وجوب الإقدام على موافقة المأمور به ، بل يجب الإقدام مع الشك في القدرة حتى يتبين العجز ، وهذا بخلاف سائر الشرائط ، مثلا لو شك في الاستطاعة التي هي من شرائط وجوب الحج فيحكم بعدم الوجوب ظاهرا ولا يجب التعرض لهذا التكليف بوجه من الوجوه ، وأما لو شك في القدرة العقلية فيحكم بوجوب الإقدام على الفعل فإن قدر عليه فهو وكان مكلّفا واقعا ، وإن تبيّن العجز عنه تبيّن أنه لم يكن مكلّفا ، فالقدرة وإن كانت شرطا واقعيا كسائر شرائط التكليف إلّا أنّ للعقل هنا حكما آخر ظاهريا بوجوب الإقدام على مشكوك المقدورية حتى يتبيّن العجز ، فلو ترك الإقدام عند الشك في القدرة وكان الفعل مقدورا في الواقع ليس معذورا عند العقل ، وتمام البيان في محلّه.

وحينئذ نقول يمكن دعوى أنّ تنجّز التكليف مشروط بالابتلاء على حسب مشروطية أصل التكليف بالقدرة فيقال يحكم بتنجّز التكليف عند الشك في الابتلاء حتى يعلم أنه خارج عن محل الابتلاء ، ولازم ذلك أن يحكم فيما نحن فيه أيضا بتنجّز التكليف ظاهرا لكي يثمر وجوب الاجتناب عن الطرف المعلوم الابتلاء ، فليتأمّل جيدا.

قوله : إلّا أن يقال إنّ المستفاد من صحيحة علي بن جعفر (١).

الانصاف أنّ الصحيحة ظاهرة فيما فهمه الشيخ من العفو عما لا يدركه

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٢٣٨.

٢٩٢

الطرف من الدم ، وحملها على ما ذكره من الشبهة المحصورة أو غيره بعد فرض عدم العمل بظاهرها للإجماع أو غيره لا يجعلها ظاهرة فيما ذكر بحيث تكون دليلا على المسألة فضلا عن أن تكون ضابطة وميزانا لتشخيص موارد محل الابتلاء وغيره ، إذ لا شك أنّ المعنى المذكور معنى تأويلي.

قوله : أما سائر الآثار الشرعية المترتبة على ذلك الحرام (١).

وذلك كالضمان إذا أتلف أحد المالين اللذين يعلم إجمالا بكون أحدهما مال الغير وكوجوب النزح إذا وقع في البئر أحد المشتبهين بالنجس وكالحرمة المؤبدة إذا عقد على إحدى المرأتين المشتبهتين بالمعتدّة ، وكوجوب الكفارة في ارتكاب أحد المشتبهين بما يوجب الكفارة في الصوم والإحرام ونحوهما ، وكوجوب الحدّ على من شرب أحد المشتبهين بالخمر وهو مذكور في المتن فلا يترتب الآثار المذكورة على أحد طرفي الشبهة ما دام مشتبها ، نعم لو انكشف بعد ذلك كونه الحرام أو النجس الواقعي ترتّب عليه كل حكم له غير معلّق بالعلم.

قوله : لعدم جريان باب المقدمة فيها (٢).

توضيحه أنّ ترتّب الآثار المذكورة فرع تحقق موضوعها وهو مشكوك ، وليس هناك علم إجمالي بالنسبة إلى هذه الآثار حتى يجري حكم المقدمة ، وهذا بخلاف الحكم التكليفي فإنّ العلم بأنّ أحد المائعين خمر يكفي في تنجّز التكليف بالاجتناب ، وأما وجوب الحدّ فهو مترتّب على شرب الخمر وهو مشكوك فيه عند شرب أحد المائعين.

فإن قلت : إنه أحد طرفي الشبهة بالنسبة إلى حكم وجوب الحدّ كما أنه

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٢٣٩.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٢٣٩.

٢٩٣

أحد طرفي الشبهة بالنسبة إلى حكم الحرمة ، غاية الأمر أنّ الحد واجب مشروط بكون المشروب خمرا ، إذ كل واجب مشروط بموضوعه وحكم الحرمة مطلق ، ولا فرق بين العلم الإجمالي بالتكليف المطلق والمشروط.

قلت : الواجب المشروط ما لم يحصل الشرط ليس بتكليف ، والشك في حصول الشرط يوجب الشك في تحقق التكليف المشروط به ويجري فيه أصالة عدمه ، فلا يساوي الوجوب المطلق المعلوم تحققه إجمالا.

فإن قلت : أصالة عدم موجبية الحدّ فيما ارتكبه معارضة بأصالة عدم كون الآخر موجبا للحدّ فيتساقطان وإن لم يثبت بذلك ثبوت الحدّ أيضا ، فتكون المسألة موردا للتوقف لا الحكم بنفي الحد بالأصل.

قلت : لا يجري الأصل بالنسبة إلى الطرف الذي لم يرتكبه حتى يعارض الأصل فيما ارتكبه ، توضيحه : أنه قبل ارتكاب أحد المشتبهين لا يجري الأصل في واحد من الطرفين جزما للعلم بنفي ثبوت الحد فلا يحتاج إلى الأصل ، بل لا معنى لإجرائه ، وبعد ارتكاب أحدهما يشك في ثبوت الحد فيكون محلا للأصل ، وأما الطرف الآخر الذي لم يرتكبه فإنه باق بعد على حاله من العلم بعدم كونه موجبا لثبوت الحدّ فعلا فلا يجري فيه الأصل ، والسرّ أنّ الحكم فيه مشروط بشرط غير حاصل كما مرّت إليه الإشارة ، هذا كلّه حال ارتكاب أحد طرفي الشبهة مع عدم تبيّن الواقع.

وأما إذا ارتكبهما تدريجا عمدا أو تبيّن بعد ارتكاب أحدهما أنه المحرم أو النجس الواقعيان ففي مثل الضمان ووجوب النزح من الأمثلة المذكورة يترتب الأثر جزما للعلم بأنّ الأثر مترتّب شرعا على الاتلاف الواقعي والنجس الواقعي ، وفي مثل الكفارة والحرمة المؤبّدة وثبوت الحدّ الظاهر أنه كذلك.

٢٩٤

وقد يتخيّل عدمه بدعوى أنّ الآثار مترتبة على الفعل بشرط العلم التفصيلي بعنوان المحرّم حين الارتكاب لا عند الجهل بالعنوان. وفيه : منع الدعوى بل الآثار مترتبة على الفعل ما لم يكن المكلّف معذورا فيه كما هو كذلك بالنسبة إلى الحكم التكليفي بعينه ، والجهل التفصيلي مع العلم الإجمالي ليس بعذر عقلا بل ولا شرعا على ما سبق من المصنف ومبنى البحث عليه ، بل الجهل في الشبهة البدوية أيضا لو لم يكن المكلّف معذورا فيه لا يوجب منع ترتّب مثل الآثار المذكورة مثل ما لو وجب الفحص فيه وإن كانت الشبهة موضوعية كما لو اشتبه مؤمن بكافر مهدور الدم فقتل أحدهما وتبيّن أنه مؤمن فيقتصّ منه لأنّه غير معذور فيه ، إذ الأصل في الدماء الحرمة.

وقد يفصّل بين ما لو كان من الأول بانيا على ارتكاب الحرام في البين بارتكابهما ثم ارتكبهما أو ارتكب أحدهما وبدا له في عدم ارتكاب الآخر وتبيّن أنّ ما ارتكبه كان حراما ، وبين ما لم يكن بانيا على ذلك أوّلا فارتكب أحدهما وتبيّن أنّه الحرام أو بدا له فارتكب الآخر أيضا ، فيحكم بترتّب الأثر في الأول دون الثاني ، وكأن المفصّل جعل العزم على فعل المحرّم حين ارتكابه مأخوذا في موضوع الحكم بالآثار.

وفيه : ما مرّ من أنّ الموضوع نفس ارتكاب المحرّم مع عدم عذر شرعي فلا وجه للتفصيل.

قوله : وهل يحكم بتنجّس ملاقيه؟ وجهان (١).

الأولى أن يكون التعبير هكذا وهل يحكم بوجوب الاجتناب عن ملاقيه؟ وجهان إلى آخره ، لأنّه لا يحكم بنجاسة الملاقى بالفتح وإنما يحكم بوجوب

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٢٣٩.

٢٩٥

الاجتناب عنه من باب المقدمة العلمية أو وجه آخر تعبدي كما قيل فكيف يمكن الحكم بتنجس الملاقي بالكسر ، وهكذا في قوله مبنيان على أنّ تنجس الملاقي وغيره مما يعبّر المصنف بتنجّس الملاقي يراد منه وجوب الاجتناب ، وقد سامح (رحمه‌الله) في التعبير أو سهو من قلم النسّاخ فافهم.

ثم اعلم أنّ الحق هو القول الأول وهو القول بوجوب الاجتناب عن الملاقي لا من جهة الوجوه المذكورة في المتن مع جوابها أو الوجوه التي تمسك بها بعض وسنشير إليها ، بل لما أشار إليه المصنف فيما سيأتي فيما أورده على نفسه بقوله : فإن قلت وجوب الاجتناب عن ملاقي المشتبه إلى آخره ، وحاصله : أنه كما نعلم إجمالا بنجاسة واحد من الإناءين فيحكم بمقتضى المقدمية بوجوب الاجتناب عنهما ، كذلك نعلم بنجاسة واحد من الملاقي والطرف الآخر فيجري حكم المقدمية ، أو يقال نعلم إجمالا بنجاسة الملاقي والملاقى معا أو الطرف الآخر ، وذلك للعلم باتحاد حكم الملاقي والملاقى شرعا طهارة ونجاسة ، وبالجملة كون الملاقي طرفا للعلم الإجمالي وجداني لا يمكن إنكاره ، إلّا أنه أجاب عنه المصنف (قدس‌سره) بما سيأتي ما فيه فانتظر.

قوله : بناء على أن الاجتناب عن النجس يراد به ما يعمّ الاجتناب عن ملاقيه (١).

يرد عليه ـ مضافا إلى ما أورد عليه في المتن من منع الدلالة المذكورة من مجرّد الاجتناب عن الشيء وإلّا لدلّ الاجتناب عن الغصب ونحوه على الاجتناب عن ملاقيه ، وإنما يحكم بوجوب اجتناب ملاقي خصوص النجس من جهة الدليل القائم على سراية نجاسة الشيء إلى ملاقيه مع الرطوبة ، فيصير

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٢٣٩.

٢٩٦

الملاقي بذلك نجسا فيشمله دليل وجوب الاجتناب عن النجس ـ أنّ ما ذكر لو سلّم إنما يسلّم بالنسبة إلى ملاقي النجس فيقال إنّ وجوب الاجتناب عن النجس يراد به الاجتناب عنه وعن ملاقيه ولو بوسائط ، لا بالنسبة إلى ملاقي المشتبه المحتمل كونه طاهرا ، فخطاب اجتنب عن النجس كيف يدلّ على وجوب الاجتناب عن ملاقي طرف الشبهة مع أنّه لا يدلّ على وجوب الاجتناب عن نفس الملاقى بالفتح ، وإنما يحكم بوجوب اجتنابه بحكم العقل من باب المقدمة ، اللهمّ إلّا أن يدّعى أنّ الاجتناب عن الشيء ولو من باب المقدمة لا يحصل إلّا بالاجتناب عن ملاقيه أيضا مطلقا ، وعهدة هذه الدعوى على مدّعيها ، وبمثل ما ذكر بعينه يجاب عما استشهد على الدعوى بكلام الغنية وبرواية عمرو بن شمر ، مضافا إلى ما أورد عليهما في المتن ، فتدبّر.

قوله : أما أولا : فلما ذكر إلخ (١).

وكأنه (رحمه‌الله) نسي أن يضيف إليه ثانيه ، فافهم.

قوله : قد يدلّ بواسطة بعض الأمارات الخارجية (٢).

يعني قد يدلّ بعض الأمارات الخارجية على وجوب الاجتناب عن مشكوك النجاسة في مورد خاصّ وهجره هجر ملاقيه كما استفيد ذلك في البلل المشتبه من حكم الشارع بأنه ناقض فليتأمل فإنه استدراك بارد خصوصا مع تعليله بأنّ الشارع قد حكم في البلل المشتبه بأنه بول بتقديم الظاهر على الأصل فإنّه يصير حينئذ في عرض سائر النجاسات حكمه حكمها فمن أين فهم في خصوص المورد هجر الملاقي دون سائر الموارد ، وقد ظهر بما ذكرنا أيضا

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٢٤٠.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٢٤١.

٢٩٧

ضعف الاستدلال بما دلّ على ناقضية البلل المشتبه على وجوب الاجتناب عن الملاقي للشبهة بتقريب أنّ البلل المشتبه بالبول قد أعطي حكم النجس أي البول فينجس ملاقيه فكذا ملاقي الشبهة فيما نحن فيه لعدم الفرق ، وهو كما ترى في غاية الضعف كضعف الاستدلال بخبرين آخرين :

أحدهما : ما ورد في الإناءين المشتبهين من قوله (عليه‌السلام) «يهريقهما ويتيمم» (١) بتقريب أنّ الأمر بالإراقة لأجل أنّ ملاقيهما واجب الاجتناب فإذا أريقا لا يبتلي المكلف بما يلاقيهما ، والغرض من الأمر بالإراقة هو الإرشاد إلى ذلك.

ثانيهما : ما ورد من غسل جميع ناحية الثوب الذي أصاب النجس بعض اطراف الناحية بتقريب أنّ الغرض من الأمر بغسل جميع الناحية عدم الابتلاء بالاجتناب عما يلاقي بعض جوانبها ، هذه جملة الوجوه التي استدل بها على وجوب الاجتناب عن الملاقي.

وأما الوجوه التي استدل بها على عدم وجوب الاجتناب فمنها : ما في المتن من التمسك بأصالة الإباحة وأصالة الطهارة ، وهو أقوى الوجوه وقد شيّده في المتن بما لا مزيد عليه وإن كان يرد عليه ما سنذكره.

ومنها : ما يستفاد من الجواهر (٢) من التمسّك باستصحاب الطهارة ، وفرّق بين الملاقي والملاقى في صحة إجراء الاستصحاب في الملاقي بالكسر دون الملاقى بالفتح بأنّ موضوع الاستصحاب في الأول منقح بخلاف الثاني فإنّ ترجيح إجراء الاستصحاب في أحد الإناءين دون الآخر ترجيح من غير

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٥ / أبواب الماء المطلق ب ٨ ح ١٤.

(٢) جواهر الكلام ١ : ٢٩٠ وما بعدها.

٢٩٨

مرجّح. ولا يخفى أنّ هذا الكلام مضطرب مختلّ النظام ، ولعله أراد ما في المتن من أنّ الأصل في كل من الإناءين معارض بالأصل في الآخر بخلاف الأصل في الملاقي.

ومنها : ما في الجواهر أيضا من أنّ عمومات البراءة حاكمة بعدم وجوب الاجتناب عن الملاقي لأنّه مجهول وشيء حجب الله علمه علينا. لا يقال إنها شاملة لكل من الإناءين أيضا ، لأنا نقول إعراض الأصحاب عن الحكم بعدم وجوب الاجتناب في الإناءين كما هو المشهور أوجب الشك في شمول العمومات لنفس الشبهة المحصورة بخلاف الملاقي فإنّ المشهور طهارته فهو داخل تحت العموم ، وهذا محصّل كلامه بعد الاعتراف بأنّ القاعدة العقلية من باب المقدمة تقتضي وجوب الاجتناب عن الملاقي كالملاقى.

ولا يخفى ما فيه ، فإنّ عمومات البراءة إما أن نقول بحكومتها على القاعدة كما يظهر من كلامه فلا فرق بين الملاقي والملاقى ، أو نقول بالعكس فلا فرق أيضا ، وما ذكره في الفرق من إعراض الأصحاب عن الفتوى بمقتضاها في نفس الشبهة دون ملاقيها ضعيف ، لما تقرر في محلّه من أنّ إعراض الأصحاب لا يكون موهنا للدلالة بما يرجع إلى التخصيص ، وإن كان مؤثرا فهو بالنسبة إلى السند هذا ، مضافا إلى أنّ الأصحاب لم يعلم كونهم ناظرين إلى هذه العمومات في الحكم بطهارة الملاقي وعدم حكمهم في نفس الشبهة ، فتأمل.

ومنها : ما يستفاد من الجواهر أيضا من أنّ الشبهة في الملاقي راجعة إلى الشبهة غير المحصورة ثم قال بعد ذلك ما لفظه : وكيف مع أنه لو صدر الاحتمال من وجوب المجتنب على اليقين لما وجب الاجتناب فهذا أولى ، مثلا لو كان الإناءان النجس منهما معلوم ووقعت قطرة لا تعلمها من أي الإناءين فإنه لا شك

٢٩٩

في عدم نجاسة الثوب بها ، انتهى.

ولا يخفى ما فيه أيضا ، فإنّ إرجاع المسألة إلى الشبهة غير المحصورة لم نتعقّله ، وكذا استشهاده بما إذا وقعت قطرة من أحد الإناءين المعلوم طاهرهما من نجسهما على الثوب مع الشك في أنّ القطرة من أي الإناءين أيضا في غير محلّه ، لوضوح الفرق بينه وبين مسألة الملاقي ، فإنّ الشبهة فيه بدوية صرفة بخلاف مسألة الملاقي فإنّ الملاقي يصير بالملاقاة من أطراف العلم الإجمالي كما اعترف به.

قوله : فإن قلت وجوب الاجتناب عن ملاقي المشتبه (١).

قد مرّ تقرير هذا السؤال في صدر المبحث ونقول أيضا إما أن يحصل علم إجمالي آخر بين الملاقي والطرف الآخر وجدانا ، أو يتبدّل العلم الأول بين الإناءين بالعلم الإجمالي بين الملاقي والملاقى وبين الطرف الآخر ، وبعبارة أخرى يكون الملاقي أيضا مما تعلّق به العلم الإجمالي بضميمة العلم باتّحاد حكم الملاقي والملاقى.

ثم لا يخفى أنه لا فرق في كون الملاقي طرفا للعلم بالوجه المذكور بين أن يحصل العلم الإجمالي بالنجاسة بعد العلم بالملاقاة أو قبله أو يحصلا معا ، وكذا لا فرق على التقادير الثلاثة بين خروج الملاقى بالفتح عن محل الابتلاء بسبب الفقدان ونحوه وبين غيره ، نعم يحصل الفرق بين بعض هذه الأقسام الستة مع بعض في الجواب عن السؤال وسيظهر لك وجهه.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٢٤٢.

٣٠٠