حاشية فرائد الأصول - ج ٢

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-089-6
الصفحات: ٥٩٤
الجزء ٢ الجزء ٣

بيان ذلك : أنّ معنى الحديث أنّه لا تعاد الصلاة من قبل فقدان جزء أو شرط مما اعتبر في الصلاة في حال النسيان إلّا من خمسة ، ونسبته مع كل واحد من أدلة الأجزاء والشرائط عموم من وجه ، لأنّ دليل الجزء كالسورة مثلا يعمّ صورة العمد والنسيان ، وقوله (عليه‌السلام) : «لا تعاد» يعمّ السورة وغيرها ، لكن الثاني حاكم على الأول ومقدّم عليه على ما فهمه الفقهاء وأفتوا على طبقه ، إلّا أنّ وجه الحكومة يمكن أن يكون من باب رفع الجزئية بأن يقال : يفهم من قوله (عليه‌السلام) : «لا تعاد الصلاة» أنّ الجزئية التي دلّ عليها دليل وجوب السورة قد ارتفعت في حال النسيان ، وأنّ الصلاة بلا سورة تمام المأمور به في تلك الحالة ، فلذلك لا تعاد الصلاة من قبل ترك السورة ، وعلى هذا الوجه يكون محصّل المعنى من مجموع الحاكم والمحكوم أنّ طبيعة الصلاة لها نوعان : نوع مشتمل على السورة وهو تكليف الذاكر لها ، ونوع فاقد للسورة وهو تكليف الناسي لها ، ويمكن أن يكون من باب رفع بعض مقتضيات الجزئية وهو لزوم إعادة الصلاة بتركها في حال النسيان مع بقاء الجزء على وصف الجزئية في تلك الحال أيضا ، ولازمه أنّ الآتي للصلاة بدون ذلك الجزء غير آت بالمأمور به أصلا ، إلّا أنّ الشارع قد اكتفى بذلك عن المأمور به وحكم بصحّته شرعا ورضي بهذا الناقص بدلا عن تمام المأمور به في حال النسيان ، وعلى هذا يكون ذلك قسما آخر من الحكومة غير الأقسام الثلاثة المتقدمة ، وهو الأظهر من مفاد قوله (عليه‌السلام) : «لا تعاد» إذ لا يزيد مفاده على عدم وجوب الإعادة بترك الجزء أو الشرط نسيانا ، وأين هذا من رفع جزئية الجزء وشرطية الشرط ، فإنّ ذلك يحتاج إلى دليل آخر مفقود في المقام ، ولا يبعد أن يكون مفاد قوله (عليه‌السلام) : «رفع عن أمتي تسعة : الخطأ والنسيان وما لا يعلمون» إلخ (١) أيضا

__________________

(١) الوسائل ١٥ : ٣٦٩ / أبواب جهاد النفس ب ٥٦ ح ١.

٢١

ذلك بناء على شموله للأحكام الوضعية كما هو الأظهر.

فإن قلت : كيف يحكم بصحّة الصلاة الفاقدة للجزء أو الشرط مع كونها غير مأمور بها بالفرض والحال أنّ الصحّة بمعنى موافقة المأتي به للمأمور به؟

قلت : إنّ الصحّة العقلية بالمعنى الذي ذكرت لا نقول بها ، بل نقول بالصحة الشرعية بالمعنى الذي ذكرنا وهو اكتفاء الشارع بهذا الناقص عن المأمور به.

وهذا الإشكال بعينه نظير ما أورد على قولهم بأنّ الجاهل مطلقا معذور في مسألة القصر والإتمام والجهر والإخفات ولو كان مقصرا ، فيقال إنّ الجاهل المقصّر بترك الجهر في مقام الجهر مثلا مكلّف بالجهر لا غير ومعاقب على تركه ، فكيف يحكم بصحة صلاته مع الإخفات مع أنّها غير مأمور بها.

وحلّه : أنّه يعقل أن يكون شيء غير المأمور به مشتملا على بعض مصالح المأمور به بحيث لو أتى بذلك الشيء لم يبق محلّ لاستدراك المأمور به فيسقط لذلك ، ولهذا مثال في العقل كما إذا فرضنا أنّ المولى أمر عبده بقتل عدوّه بالسيف ثم قتله العبد بغير السيف فإنّه يصحّ للمولى أن يرضى بهذا من العبد بدلا عن القتل بالسيف ، وإن كان فعله هذا فاقدا لبعض المصالح التي نشأ منها الحكم ، لكن لمّا كان مشتملا على بعض تلك المصالح وقد فات المحل ولا يمكن تدارك مقدار المصلحة الفائتة اكتفى المولى بما فعله العبد وقبله بدلا عن المأمور به ، ولا نعني بالصحة الجعلية والشرعية إلّا هذا المقدار ، فإذا كان هذا المعنى أمرا معقولا وساعد عليه ظاهر الدليل نقول به ، فاندفع الإشكال في المقامين والله أعلم.

وبهذا الوجه تشبّث جماعة من متأخّري المتأخّرين من الأصوليين (قدس الله أرواحهم) في توجيه القول بالإجزاء في الأوامر الظاهرية بالنسبة إلى الواقع ، فراجع وتدبّر.

٢٢

ثم اعلم أنّ الدليل الحاكم قد يكون مخالفا للمحكوم كما في أدلّة الحرج والضرر بالنسبة إلى الأدلة المثبتة للتكاليف عموما ، وكما في الأدلة الاجتهادية المثبتة للتكاليف بالنسبة إلى الأصول العملية النافية ، وقد يكون موافقا للمحكوم كما في الأدلة الاجتهادية النافية للتكليف بالنسبة إلى الأصول النافية ، وكما في الأدلة المثبتة بالنسبة إلى الأصول المثبتة ، وكما في استصحاب طهارة شيء بالنسبة إلى استصحاب حلّيته ، ولا ريب أنّ المتّبع هو الدليل الحاكم في القسم الثاني أيضا وإن كان لا يتفاوت الحكم لكن يثمر في الأمور الأخر كمقام المعارضة وغيره.

واعلم أيضا أنّ كلا من الدليل الحاكم والمحكوم يمكن أن يكون من الأدلة الاجتهادية ويمكن أن يكون من الأصول العملية فهنا صور أربع :

الأولى : أن يكونا من الأدلة الاجتهادية وذلك كما في أدلة الحرج بالنسبة إلى عمومات التكاليف.

الثانية : أن يكونا من الأصول وذلك كما في حكومة الاستصحاب على سائر الأصول العملية وكما في حكومة الاستصحاب الموضوعي على الحكمي والاستصحاب السببي على المسببي على ما بيّن في محلّه.

الثالثة : أن يكون الحاكم دليلا والمحكوم أصلا ، وذلك كما في الأدلة الاجتهادية بالنسبة إلى الأصول العملية.

الرابعة : أن يكون الحاكم أصلا والمحكوم دليلا وذلك كما في الاستصحابات الجارية في الأجزاء والشرائط بالنسبة إلى نفس أدلة الأجزاء والشرائط بناء على أنّ مؤدّى الأصول أحكام ظاهرية ، مثلا لو تيقّن الطهارة ثم شك فيها واستصحب الطهارة ، فإن قلنا بأنّ الاستصحاب ليس حكما شرعيا بل

٢٣

هو مجرّد عذر للمكلّف فإنّه لا يعارض دليل اشتراط الطهارة في الصلاة كقوله (عليه‌السلام) : «لا صلاة إلّا بطهور» (١) فإن لم يتبيّن الحال فهو معذور وإن تبيّن فإنّه يعيد الصلاة ، نعم تعارض هذا الاستصحاب قاعدة الاشتغال في الظاهر التي هي من الأصول أيضا ، وأما إذا قلنا بأنّ الاستصحاب حكم شرعي ظاهري يفيد الإجزاء فإنه يعارض قوله (عليه‌السلام) : «لا صلاة إلّا بطهور» في صورة كشف الخلاف ، لأنّ مقتضى الشرطية عدم الإجزاء ، ومثل هذا الاستصحاب حاكم على دليل الشرط فيقدّم عليه ، ويرجع ذلك إلى توسيع دائرة حكم الشرطية على ما تقدّم بيانه ، ويصير محصّل مفاد دليل الشرط بضميمة الاستصحاب أنّه يشترط في صحة الصلاة أحد الأمرين من الطهارة أو استصحابها.

ثم اعلم أنّ للمصنف كلامين في ضابطة الحكومة في أول رسالة التراجيح لا يخلو كل منهما عن النظر :

أحدهما : أنه بعد ما بيّن معنى الحكومة وهو أن يكون أحد الدليلين ناظرا إلى الآخر متعرّضا له مفسّرا له وذكر الفرق بين التخصيص والحكومة قال : فهو يعني الحاكم تخصيص بعبارة التفسير.

وفيه : أنه قد مرّ سابقا أنّ الحكومة تعمّ ذلك والتقييد ، وما يرجع إلى التخصيص إذا كان مفاد الحاكم خروج بعض أفراد الموضوع عن الموضوع تنزيلا ، وما إذا كان بلسان توسيع الدائرة ، وما إذا كان بلسان رفع بعض آثار الموضوع فتذكّر ، فالحق كما مرّ سابقا ما ذكره في أواخر رسالة الاستصحاب من قوله : ومعنى الحكومة على ما سيجيء في باب التعادل والتراجيح أن يحكم

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣١٥ / أبواب أحكام الخلوة ب ٩ ح ١.

٢٤

الشارع بوجوب رفع اليد عما يقتضيه الدليل الآخر لو لا هذا الدليل الحاكم ، أو بوجوب العمل في مورد بحكم لا يقتضيه دليله لو لا الدليل الحاكم وسيجيء توضيحه (١) انتهى ، فإنّه ينطبق على جميع الأقسام الأربعة التي ذكرناها سابقا.

نعم يرد عليه أنه أحال بيان هذا المعنى على باب التعادل والتراجيح والحال أنه لم يذكر هناك غير القسم الأول ، وحينئذ فما يقال إنّ الشق الثاني من الترديد من العبارة الواقعة في ذيل الاستصحاب لا معنى له ، وليس ذلك من الحكومة بل من التنزيلات مستشهدا بعدم التعرض له في باب التعادل والتراجيح ، فيه ما لا يخفى.

وثانيهما : أنه ذكر في ضابط الحكومة أنه لو فرض أنّه لم يرد من الشارع حكم بالدليل المحكوم لم يكن مورد للدليل الحاكم وكان لغوا.

وفيه : أنّ ذلك إنما يتم في الحكومة القصدية وأما في الحكومة القهرية كما في حكومة الأدلة الاجتهادية على الأصول العملية وكما في حكومة الاستصحاب السببي على المسببي فليس كذلك جزما ، فإنّه لو لم يرد من الشارع حكم للشك ولم يجعل الأصول بالمرة لكانت الأدلة مثبتة لمؤدّاها كما هي عليه من غير تفاوت ، وكذا الكلام في الاستصحاب الحاكم ، ولعلّه لذلك كلّه قد ضرب على هذه العبارة في بعض النسخ المتأخّرة خط المحو ، هذا.

وقال المصنف هناك أيضا في بيان الفرق بين الحكومة والتخصيص : إنّ كون التخصيص بيانا للعام بحكم العقل الحاكم بعدم جواز إرادة العموم مع العمل بالخاص والحكومة بيان بلفظه للمراد ومفسّر له ، وذكر في بيان الثمرة بين التخصيص والحكومة ما حاصله : أنّ الحاكم يقدّم على المحكوم ولو كان أضعف

__________________

(١) فرائد الأصول ٣ : ٣١٤.

٢٥

منه بمراتب بخلاف الخاص فإنّه لا يقدّم على العام إلّا إذا كان أقوى دلالة من العام.

وفيه : أيضا نظر ، لأنّا لو فرضنا أنّ الدليل الحاكم كان عاما قابلا للتخصيص من حيث مدلوله التفسيري كالمحكوم فلا وجه لتقديمه إلّا من حيث قوة الدلالة كما هو كذلك في قوله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(١) الحاكم على أدلة الأحكام بالفرض ، فإنّه قابل لأن يخصص ويقال إلّا الحج ، وحينئذ لو فرض أنّ عموم دليل وجوب الحج كان أقوى بالنسبة إلى شموله لأفراده الحرجية لغلبتها مثلا من عموم دليل رفع الحرج حتى بملاحظة كونه ناظرا إلى الأدلة كان مقدّما البتّة ، بل نقول إنّ جهة كون الدليل الحاكم ناظرا إلى المحكوم تابع لمدلوله الذي هو بيان أصل الحكم ، فإن كان أصل الحكم عاما فنظره أيضا كذلك ، وإن كان خاصّا فهو أيضا خاص ، فإن كان المحكوم أقوى دلالة من الحاكم بحسب أصل الحكم فيقدّم على مدلول الدليل الحاكم وتتبعه جهة ناظرية الحاكم يعني أنه ناظر بمقدار مدلوله عاما أو خاصا ، وقد تقدّم بيان هذا المطلب عند تعرّضنا لقاعدة الحرج ببيان أوفى في ثالث مقدّمات دليل الانسداد فراجع.

ثم إنّ الحاكم قد يكون أخصّ مطلقا من المحكوم فيكون تقديمه على المحكوم من وجهين كونه خاصا وكونه حاكما كما لو قال : أكرم العلماء ، وقال : لا تكرم فسّاقهم ونحو ذلك ، ويثمر ذلك فيما لو لم تكن جهة الحكومة لم تكن أخصّيته منشأ للتقديم وذلك كما لو قال : أكرم العلماء وقال : لا تكرم زيدا وتردد زيد بين زيد العالم وزيد الجاهل وعلم من السياق أو غيره أنه بصدد شرح العامّ

__________________

(١) الحج ٢٢ : ٧٨.

٢٦

وتفسيره ، فمن حيث حكومة الخاص ونظره يرتفع الإجمال عن الخاص ويعلم أنّ المراد زيد العالم ويخصص به العام ، ولو لم يكن جهة الحكومة كان الأمر بالعكس أعني يحكم برفع إجمال الخاص ببيان العام ، وأنّ المراد من الخاص زيد الجاهل لكي لا يلزم التخصيص على ما حققه المصنف في مواضع عديدة أو يتوقّف كما ذهب إليه آخرون.

إذا تمهّد ذلك فنقول : إنّ في تقديم الأدلة الاجتهادية على الأصول العملية وجوها أشار إليها في المتن : الورود والتخصيص والحكومة ، والتفصيل بين الأصول فالورود في بعض والحكومة في بعض آخر.

واعلم أنّ الحكومة يقرر في المقام بوجوه :

الأول : ما يظهر من المصنف في مواضع وهو أنّ الدليل الاجتهادي بملاحظة الدليل الدال على حجيته حاكم ورافع لموضوع الأصل بنحو من التنزيل ، ومعناه رفع آثار الموضوع والأحكام المجعولة لذلك الموضوع ، مثلا دليل حجية الخبر كقوله (عليه‌السلام) : صدّق العادل رافع لموضوع الأصول المجعولة تنزيلا بمعنى رفع حكمها ، لأنّ معنى تصديق العادل أخذ قوله على أنّه الواقع حقيقة وإلغاء احتمال الخلاف ، بل إلغاء الشك بمعنى إلغاء حكم الشك أي ما كان مجعولا له من مقتضى الاستصحاب أو الاحتياط أو البراءة أو غير ذلك ، فكأنّه قال بقوله : صدّق العادل ، ارفع اليد عن مقتضى الأصول في مورد خبر العادل ، هذا غاية التوجيه لهذا التقرير.

وفيه :

أوّلا : النقض بأنّ من الأصول ما هو كذلك أعني لسان دليله كدليل الأمارة

٢٧

كالاستصحاب فإنّ قوله (عليه‌السلام) : «لا تنقض اليقين» (١) أيضا معناه كن كما أنّك متيقّن باليقين السابق وخذ الاحتمال الموافق له وألغ احتمال خلافه ، ولازمه عدم تقديم الأدلة عليه ويكون معارضا لها.

فإن قلت : فرق بينهما من حيث إنّ الشك مأخوذ في موضوع دليل الاستصحاب بخلاف دليل الأمارة ، ففي دليل الاستصحاب كأنه قال : إذا شككت فابن على الحالة السابقة وكن كأنك متيقّن بها ، وفي دليل الأمارة يقول إنّ مؤداها هو الواقع فلا تشك فيه يعني ألغ حكم الشك كالاستصحاب وغيره ، فكأنه في دليل الأمارة قال لا تعمل بالاستصحاب لأنّه حكم الشاك وأنت مصيب للواقع ، وهذا بخلاف دليل الاستصحاب فإنّه بلسانه لا يقول لا تعمل بالأمارة.

قلت : ليس كذلك بل موضوع الأمارة أيضا الشك ، لأنّ حجية خبر الواحد مثلا ليست للعالم البتّة بل هو حكم الشاك كالاستصحاب ، غاية الأمر أنّه لم يصرّح في دليله بأنّ الموضوع الشك وفي الأصل مصرّح به ، وهذا المقدار لا يوجب الفرق بعد كون الموضوع هو الشاك في اللب والواقع ، وقد اعترف المصنف بذلك حيث وجّه صحّة إطلاق الخاص على الدليل والعام على الأصل.

وأيضا يشهد على أنّ موضوع الأصل والأمارة متّحد وهو الشاك ما نقلنا عن المصنف سابقا من قوله : إنه يعتبر في دليلية الدليل أن يكون ناظرا إلى الواقع ، وكان اعتباره بملاحظة كونه ناظرا ، فإن لم يكن المجعول ناظرا إلى الواقع ، أو كان ولم يكن جعله من حيث إنّه ناظرا إلى الواقع يكون أصلا ، فعلى هذا مثل صدّق العادل دليل إن كان اعتباره بملاحظة كشفه عن الواقع ، وأصل إن

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٤٥ / أبواب نواقض الوضوء ب ١ ح ١ وغيره.

٢٨

كان اعتباره لا بهذه الملاحظة ، لا فرق بينهما من غير هذه الجهة لا في الموضوع ولا في غيره.

فإن قلت : سلّمنا أنّ الموضوع واحد لكن الفرق باعتبار الحيثية فيقال : إنّ المستفاد من دليل الأمارة أنّ الأمارة الفلانية مؤدّاها هو الواقع فلا تشك فيه من حيث إنّك مدرك للواقع يعني لا ترتّب أحكام الشك ، والمستفاد من دليل الأصل أنّ مقتضى الأصل الفلاني حكم عملك فلا تشكّ في أنّه كذلك في حكم العمل ، وهذا لا يعارض الأول بل مرتبته متأخّرة عنه ، لأنّ من يعرف الواقع ولو تنزيلا يعرف حكم عمله ولا يشك فيه.

قلت : لو سلّمنا ذلك كله نقول : إنّه يرجع إلى بعض الوجوه الآتية في تقرير الحكومة ولا يكون هذا توجيها لتقرير المصنف كما لا يخفى ، هذا مع أنّه على هذا التقرير أيضا يبقى التعارض كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

وثانيا : بالحل ، بمنع كون خطاب صدّق العادل بصدد بيان إلغاء حكم الشك.

فإن قلت : سلّمنا أنه ليس بصدد بيان إلغاء الشك وحكمه ، وذلك منع للحكومة القصدية لا الحكومة القهرية التي قد سبق توجيهها واختيارها في المقام فإنّها كافية في المطلب ، فيلزم من قوله (عليه‌السلام) : صدّق العادل إلغاء الشك قهرا وإن لم يقصده المتكلم وبقي توجيه الحكومة بحاله.

قلت : نمنع أن يكون لازم قوله (عليه‌السلام) : صدّق العادل ألغ الشك حتى يكون في قوّة ألغ أحكام الشك ، بل إنّما يكون صدّق العادل في مقام تثبيت مؤدى قول العادل ولازمه إلغاء الاحتمال المخالف لقوله لا إلغاء الشك والتردد بين الاحتمالين ليرتفع أحكامه.

٢٩

فإن قلت : إنّ إلغاء احتمال الخلاف يستلزم إلغاء الشك أيضا قهرا ويتمّ به المطلوب.

قلت : إنّ إلغاء الشك بهذا المعنى اللازمي لا يفيد إلّا رفع الأحكام العقلية الثابتة للشك كالتوقف والتخيير والاحتياط والبراءة العقلية ونحوها لا الأحكام التعبدية المجعولة للشك كالاستصحاب والبراءة الشرعية ونحوهما.

فإن قلت : إنّ الحكم بإلغاء الشك الذي يستفاد من قوله (عليه‌السلام) :

صدّق العادل مطلق ، فيكون معناه إلغاء أحكام الشك مطلقا العقلية منها والشرعية فما وجه التخصيص؟

قلت : وجه التخصيص أنّ العموم والخصوص فيما يستتبع مدلول الكلام قهرا تابع لأصل المدلول إن عاما فعام وإن خاصا فخاص ، وهذا نظير ما يقال في جواب من استدلّ على كون الأمر للدوام أو الفور بأنّ الأمر بالشيء يدل على النهي عن ضدّه ، ولمّا كان النهي مفيدا للتكرار والفور يكون الأمر بالنسبة إلى الضد الآخر الذي هو المأمور به أيضا كذلك ، فإنّ ذلك يجاب بأنّ النهي الذي يستفاد من الأمر بالالتزام تابع له إن دائما فدائم وإن في وقت ففي وقت ، فلا يمكن أن يراد من قوله : أزل النجاسة ساعة لا تصلّ دائما بل معناه لا تصلّ ساعة واشتغل تلك الساعة بالإزالة.

وكذلك نقول فيما نحن فيه فإنّ قولنا ألغ الشك المستفاد من قوله : صدّق العادل تابع لمفاد صدّق العادل ، فإذا أخبر عادل بموت زيد فمعنى تصديقه تثبيت قوله وإلغاء احتمال خلافه من حيث كونه تثبيتا لقوله ، وإلغاء أحكام الشك أيضا من حيث كونه تثبيتا له لا من حيث كونه موضوعا لحكم تعبّدي حتى يحكم بارتفاع ذلك الحكم أيضا كاستصحاب الحياة مثلا.

٣٠

الثاني من وجوه تقرير الحكومة : ما حكاه السيد الأستاذ (دام بقاه) عن أستاذه حجة الإسلام الميرزا الشيرازي (طاب ثراه) أنّ دليل حجية الأدلة الاجتهادية ينزّلها منزلة العلم ، فكما أنّه بوجود العلم ينتفي موضوع الأصول تحقيقا كذلك بوجود ما هو منزّل منزلة العلم ينتفي موضوع الأصول تنزيلا ، وهذا هو الحكومة على ما مرّ بيانه.

والفرق بينه وبين التقرير الأول أنّ التنزيل في الوجه الأول بالنسبة إلى مؤدّى الأدلة منزلة الواقع ، وفي هذا الوجه نزّل الطريق المجعول منزلة الطريق الواقعي المنجعل ، ولذا لا يحتاج هذا الوجه إلى توسيط مقدمة إلغاء احتمال الخلاف وإلغاء الشك.

فإن قلت : إنّ هذا الوجه في بيان أصل دليل حجية الأدلة الاجتهادية في نفسه فاسد فضلا عن بيان تصحيح وجه الحكومة به ، لأنّ الغرض من جعل الطريق ليس إلّا الأخذ بمؤدّاه من الأحكام الشرعية ، ولا يمكن إثبات الأحكام التي هي مؤدى الأدلة بتنزيل شيء منزلة العلم ، لأنّ ثبوت المؤدّى ليس من الآثار الشرعية للعلم بل من الآثار العقلية ، وقد تقرّر في محلّه أنّه لا يمكن إثبات ما يترتب على المجعولات الشرعية إلّا الآثار الشرعية القابلة للجعل لا الآثار العقلية والعادية غير القابلة للجعل ولا الآثار الشرعية المترتبة عليها ، نعم لو كان العلم موضوعا لحكم أمكن ترتيب ذلك الحكم عليه لأنّه أثره الشرعي ، لكنه غير المؤدّى الذي نتكلّم عليه.

قلت : يمكن أن يجاب عنه بوجهين :

الأول : أنّ أدلة حجية الأدلة تفيد أمرين : أحدهما تنزيل الطريق منزلة العلم والآخر تنزيل المؤدّى منزلة الواقع ، لكن هذا الوجه بعيد.

٣١

الثاني : أن يقال بالتزام إطلاق أدلة حجية الأدلة بالنسبة إلى الآثار العقلية والعادية أيضا كالشرعية ، وبيان ذلك يحتاج إلى تمهيد مقدمة ، وهي أنّ المصنف يقول بعدم حجية الأصول المثبتة من جهة عدم المعقولية ، لأنّ الآثار العقلية والعادية من حيث هما هما غير قابلة للجعل ، وأما الآثار الشرعية المترتبة عليهما بواسطة أو بوسائط فإنّها أيضا لا يمكن ترتيبها ، لأنّها إن ترتّبت بدون ثبوت موضوعها فإنّه لا يمكن ، وإن أريد ترتّبها مع إثبات موضوعها فقد عرفت أنّ الآثار غير الشرعية التي هي موضوعها لا يمكن إثباتها بالجعل.

وهذا الوجه في ردّ الأصول المثبتة غير مرضيّ ، إذ لا مانع من جعل الآثار العقلية والعادية بمعنى إثباتها تنزيلا لغرض ترتيب الآثار الشرعية المترتبة عليها ولو بوسائط ، وهذا بعينه كالاستصحابات الموضوعية كحياة زيد وعدالته ونحو ذلك فإنه لا يمكن إثباتهما تكوينا بل تنزيلا لغرض ترتيب آثارهما الشرعية ، بل نقول : لو لم يمكن ترتيب الآثار العقلية لعدم القابلية لم يمكن ترتيب الآثار الشرعية أيضا ، لأنّ الدليل الدال على إبقاء ما كان مثلا لا يدل على جعل حكم جديد ، بل المراد إبقاء الحكم الأوّلي تنزيلا ، وأما بالنسبة إلى الواقع فهو كما هو عليه لا يتغيّر.

بل الوجه المرضي هو ما أشار إليه المصنف في أواخر أصل البراءة من أنّ أدلة حجية الأصول قاصرة لإثبات الآثار التي لا يترتّب على نفس المورد بل بواسطة ترتّب شيء آخر. وبعبارة أخرى : لا تثبت إلّا الآثار بلا واسطة ، ولا إطلاق لها حتى تثبت الآثار مع الواسطة ، فعدم اعتبار الأصول المثبتة من جهة قصور دليلها عن ذلك لا وجود مانع عنه من جهة عدم المعقولية أو غيره ، وحينئذ نقول : إنّ أدلة حجية الأمارات مطلقة تثبت جميع الآثار الشرعية وغيرها بلا واسطة أو مع الواسطة ، وبهذا يفرّق بين أدلة الأصول والأمارات.

٣٢

فإن قيل : لازم هذا البيان عدم جواز ترتيب الآثار الشرعية المترتبة على الآثار الشرعية أيضا في الأصول لمكان الواسطة.

قلنا : يمكن دفع ذلك ، إما بأن يدّعى انصراف الدليل عن خصوص الآثار المترتبة على الآثار العقلية والعادية دون الشرعية ، وإما بأنّ ذلك من لوازم الحكم المثبت في نفسه قهرا وإن لم يكن الدليل بصدد إثباته ، انتهى ما حكى عنه.

وفيه :

أوّلا : أنّ هذا المعنى الذي ذكر خلاف ظاهر أدلة حجية الأمارات ، فإنّ الظاهر منها اعتبارها من حيث إنّها كاشفة عن الواقع ، يعني أنّ مؤدّاها واقع تنزيلا كما لا يخفى على من راجعها.

وثانيا : أنّ ما ذكره أوّلا في جواب ما أورده على نفسه من تعدد الجعل غير واضح ، لأنّه إن أراد من جعل الدليل وتنزيله منزلة العلم بعد جعل مؤدّاه منزلة الواقع جعل الدليل توصّلا إلى المؤدّى فهو لغو محض ، لأنّ أحد الجعلين مغن عن الآخر ، هذا إن قلنا بأنّ الأحكام الوضعية ومنها الطريقية في المقام مجعولة ، وأما إذا قلنا بالعدم فيلزم تحصيل الحاصل ، إذ لا معنى لجعل الطريق على هذا إلّا جعل المؤدى فتدبّر.

وإن أراد جعل الطريق منزلة العلم لترتيب آثار العلم وجعل المؤدى منزلة الواقع للأخذ به والعمل عليه ، فهذا وإن لم يلزم منه محذور اللغوية لكنه استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، نعم يمكن تصويره بوجه آخر لا يلزم ذلك بأن يجعل معنى جامعا يشمل الجهتين كأن يقول : نزّل الدليل منزلة العلم في جميع ما يكون حال العلم سواء كان نفس ترتيب المؤدى أو الآثار المترتبة على العلم.

وثالثا : أنّ دعوى إطلاق التنزيل في مثل صدّق العادل بالنسبة إلى آثار

٣٣

العلم وترتيب المؤدى دون مثل لا تنقض اليقين تحكّم ، فكما تقول إنّ معنى صدّق العادل اجعل قول العادل بمنزلة العلم في جميع الآثار ، نقول إنّ معنى لا تنقض اليقين كن متيقّنا بالنسبة إلى جميع آثار اليقين حرفا بحرف إن لم نقل إنّه أظهر في هذا المعنى.

فإن قلت : فرق بينهما من جهة أنّه لا بدّ أن نحمل «لا تنقض اليقين» على معنى لا تنقض المتيقّن أو لا تنقض آثار اليقين ، ضرورة انتقاض اليقين الواقعي بالوجدان ، وهذا بخلاف مثل صدّق العادل.

قلت : لا حاجة إلى هذا التأويل في قوله (عليه‌السلام) : «لا تنقض اليقين» بل المراد عدم نقض نفس اليقين ولكن تنزيلا لا تحقيقا حتى يكون مخالفا للوجدان ، وإن أريد لا تنقض آثار اليقين فالأمر أوضح.

ورابعا : أنّ معنى جعل الطريق وتنزيله منزلة العلم ليس إلّا جعله من حيث إراءة الواقع وأنّ سلوكه موصل إلى الواقع تنزيلا ، لا من حيث إنّه موضوع من الموضوعات ، وحينئذ يرجع هذا التقرير إلى التقرير الأول ويرد عليه ما يرد عليه ، نعم فرق بينهما من جهة أنّ المجعول بالأصالة على التقرير الأول نفس المؤدى منزلة الواقع وعلى التقرير الثاني نفس الطريق للوصول إلى المؤدى ، ولا يتفاوت ذلك فيما نحن بصدده من جهة كيفية الحكومة.

ومما يرد على هذا التقرير : لزوم ترتب جميع الأحكام التي أخذ العلم في موضوعها على الأدلة الاجتهادية ، إذ المفروض أنّها علم في حكم الشارع ، ولا أظن القائل يلتزمه.

التقرير الثالث وهو المختار : أن يقال ـ بعد ما عرفت في صدر المبحث أنّ المراد بالدليل كل ما اعتبره الشارع من حيث إنّه ناظر إلى الواقع وكاشف عنه ،

٣٤

ولو كانت هذه الحيثية أيضا جعلية بتعبّد الشارع على ما مرّ بيانه ، والمراد بالأصل كل ما اعتبره الشارع حكما للعمل من غير نظر إلى الواقع ـ إنّ الدليل بنفسه مع قطع النظر عن لسان دليل اعتباره ناظر بالنظر القهري دون القصدي إلى الأصول العملية ، لأنّ مفاده كون مؤدّاه نفس الواقع واقعا بحكم الشارع ، ومن عمل به عمل بالواقع ومن أدركه فقد أدرك الواقع في حكمه ، ومن أدرك الواقع لا بدّ له أن لا يعمل بالأصل الذي لا يوصل إلى الواقع ، لا أقول إنّ موضوع الأصول هو الشك في الحكم أعمّ من الواقعي الحقيقي أو التنزيلي حتى يرتفع الموضوع بورود الدليل ويكون ذلك من باب الورود ، بل الموضوع هو الشك في الحكم الواقعي الأوّلي كما أنّ موضوع الدليل أيضا هو ذلك ، بل أقول إنّ الدليل الاجتهادي إنّما يرد ناظرا إلى حكم ذلك الموضوع ذاك الحكم الذي جعل لا من حيث كشفه عن الواقع ، فيكون مخصصا لدليل حكم الأصل بلسان الحكومة ، فيصير محصّل مفاد دليل الأصل بعد ملاحظة هذا المطلب أنّ حكم الشاك أن يعمل على كذا إلّا إذا أدرك الواقع التنزيلي بحكم الشارع.

وقد ظهر مما ذكرنا أنّه لا فرق بين ما لو أخذ الشك في موضوع دليل الأصل في لسان الشارع صريحا كأن يقول : إذا شككت فابن على الحالة السابقة مثلا وعدمه ، وكذا بين ما أخذ لفظ الشك في دليل حجية الأدلة كأن يقول : إذا شككت فاعمل بقول العادل وعدمه ، لأنّ المناط أنّ الحاكم ناظر إلى الواقع وكاشف عنه ، وهذا المعنى لا يختلف باختلاف التعبيرات ، ومن هنا نقول إنّ قوله (عليه‌السلام) : «الشاك من الإمام والمأموم يرجع إلى الذاكر منهما» (١) حاكم على قوله (عليه‌السلام) : «إذا شككت فابن على الأكثر» (٢) لأنّ الأول قد

__________________

(١) ورد مضمونه في الوسائل ٨ : ٤٢١ / أبواب الخلل في الصلاة ب ٢٤ ح ٨.

(٢) الوسائل ٨ : ٢١٢ ـ ٢١٣ / أبواب الخلل في الصلاة ب ٨ ح ١ و ٣ (باختلاف يسير).

٣٥

اعتبر من حيث كشفه عن الواقع بخلاف الثاني فإنّه مجرد حكم العمل كما فهمه الفقهاء وأفتوا به.

فإن قلت : هذا التقرير أيضا لا ينفع ، لأنّ دليل حجية الأمارة يعارض دليل اعتبار الأصل في عرض واحد ، فإنّ دليل اعتبار الأصل يقول مثلا : إذا شككت فاعمل بالحالة السابقة ودليل حجية الأمارة يقول : إذا شككت فحصّل الواقع بقول العادل أو البيّنة ، فلا جرم يتعارضان ويناسبه الحكم بالتخيير.

قلت : ليس كذلك ، بل دليل حجية الأمارة يقول : إنّ الواقع في حكمي هو قول العادل ، وإن كنت شاكّا بحسب الوجدان فلست بشاك في حكمي بل أنت مدرك للواقع بقول العادل ، فهو حكمك لا حكم الشاك ، وبهذا يحصل الحكومة.

وكيف كان ، فقد عرفت أنّ الصحيح من تقرير حكومة الأدلة الاجتهادية على الأصول العملية هو التقرير الثالث السالم عما يرد على التقريرين الأوّلين ، ولا يبعد أن يكون التقرير الأول وهو مختار المصنف راجعا إلى الثالث بنحو من التمحل ، فليتأمّل.

وأما تقرير الورود فهو أيضا يمكن بوجوه :

الأول : أن يقال إنّ الشك الذي هو موضوع للأصول الشرعية أعم من الشك بالنسبة إلى الحكم الواقعي أو الحكم الظاهري ، مثلا قوله (عليه‌السلام) : إذا شككت فابن على الحالة السابقة معناه أنّه إذا شككت في مطلق الحكم الشرعي أعم من الواقعي أو الظاهري فابن على الحالة السابقة ، وبعبارة أخرى إذا تحيّرت في أحكام الشارع وانسدّ الطريق عليك بكلّ وجه فاعمل بالحالة السابقة ، كما أنّ الشك الذي هو موضوع الأصول العقلية كأصالة البراءة العقلية وأصالة التخيير والاحتياط كذلك جزما كما لا يخفى ، ومن المعلوم أنّه بعد ورود

٣٦

الدليل الظنّي يزول الشك بهذا المعنى ويرتفع التحيّر الذي هو موضوع الأصل تحقيقا.

الثاني : أن يقال إنّ العلم الذي جعل في أدلة الأصول غاية لحكم الشك أعمّ من العلم الوجداني والعلم الشرعي التنزيلي الحاصل من الأدلة الظنية ، وهذا التقرير قريب من الأول لأنّ لازم كون الشك المأخوذ في الموضوع أعمّ كون العلم المأخوذ غاية أيضا أعم وبالعكس ، نعم يفرّق بينهما بأولية الاعتبار وثانويته ، فإن جعلت الموضوع أعم تتبعه أعميّة الغاية ، وإن جعلت الغاية أعم تتبعه أعمية الشك المأخوذ موضوعا.

ومما يشهد للتقرير الثاني بل الأول أيضا لرجوعه إليه ، أنّ اليقين المأخوذ غاية في الاستصحاب أعم من اليقين الحقيقي بدليل أنّ اليقين المستصحب أعم ، فإنّ من حكم بطهارة هذا الماء أو الثوب مثلا بقول البيّنة ثم شك بعد ذلك في عروض النجاسة له يجري الاستصحاب أعني استصحاب الطهارة مع أنه لم يكن متيقّنا باليقين الوجداني ، ويبعد كلّ البعد أن يكون اليقين الذي جعل غاية بمعنى آخر سيّما بملاحظة قوله (عليه‌السلام) : لا تنقض اليقين إلّا بيقين مثله (١) فلا جرم يكون اليقين الثاني مماثلا لليقين الأول في العموم والخصوص.

الثالث : أن يقال إنّ دليل اعتبار الأصول قاصر الشمول لمورد وجود دليل اجتهادي على خلافه أو وفاقه ، ولا إطلاق له بحيث يحتاج في الخروج عنه إلى دليل ، وذلك بدعوى أنّ في طريقة العقلاء في أحكام الموالي والعبيد أنّهم إذا جعلوا حكما للعمل في مقام الشك يريدون به حكم صورة فقد الأمارات المنصوبة لتحصيل الواقع ، وحينئذ نقول إنّ الشارع أيضا يجري مجرى العقلاء

__________________

(١) ورد مضمونه في الوسائل ١ : ٢٤٥ / أبواب نواقض الوضوء ب ١ ح ١ وغيره.

٣٧

في طريقتهم في الجعل ويتكلّم بلسانهم وليس له طريقة خاصة في جعله وإلّا لبيّنها ونبّه عليها ، فإذا كان دليل اعتبار الأصول قاصر الشمول لمورد الأدلة لا جرم تقدّم الأدلة عليها لتأخّر مرتبتها عن الأدلة ، ومثل هذا الورود قد يوجد في بعض الأدلة بالنسبة إلى بعض آخر كما أشار إليه المصنف في رسالة الاستصحاب في حجية الغلبة أو الاستصحاب بناء على حجيته من باب الظن ، فإنّهما دليلان حيث لا دليل غيرهما ولا يعارضان سائر الأدلة (١).

ويؤيد هذا الوجه أعني وجه الورود دون التخصيص والحكومة جملة من أخبار أدلة الأصول :

منها : رواية مسعدة بن صدقة : «كل شيء لك حلال حتى تعرف أنّه حرام ـ إلى قوله (عليه‌السلام) ـ والأشياء كلها على هذا حتى يستبين غير هذا أو تقوم به البينة» (٢) حيث جعل الغاية أحد الأمرين من الاستبانة أو قيام البيّنة ، فإن لم نقل بكون الاستبانة أعم من الاستبانة بالعلم أو بالدليل المعتبر فعطف قيام البيّنة عليه كاف في المطلوب.

ومنها : مرسلة الصدوق : «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» (٣) ، فإنّ ورود النهي أعمّ من الورود العلمي أو ما هو بمنزلة العلم في الاعتبار فكأنّه قال (عليه‌السلام) : كل شيء مطلق حتى يرد فيه دليل معتبر.

ومنها : غير ذلك مما جعل الغاية مجيء شاهدين.

__________________

(١) أقول : في الحقيقة يرجع هذا الوجه إلى الوجه الأول لأنّه يصير على هذا موضوع الأصل كل شكّ لم يقم على أحد طرفي احتماله دليل تعبدي من قبل المولى أو الشارع ، ولو جعل هذا الوجه بيانا للوجه الأول كان أنسب فتدبّر.

(٢) الوسائل ١٧ : ٨٩ / أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ٤ (مع اختلاف يسير).

(٣) الوسائل ٢٧ : ١٧٣ / أبواب صفات القاضي ب ١٢ ح ٦٧.

٣٨

وأما تقرير التخصيص فبوجهين : بيان أوّلهما يحتاج إلى تمهيد مقدمة ، وهي أنّ المعارضة التي تلاحظ بين الأدلة والأصول إنّما هي بين نفس الدليل ودليل الأصل لا بين دليل الدليل ودليل الأصل ولا بين نفس الدليل ونفس الأصل ، ووجه ذلك أما أنّ في جانب الأصول يلاحظ دليلها فلأنّه على التحقيق ليس الأصل إلّا القاعدة المستفادة من دليله ، والأصول الجزئية الجارية في مواردها مصاديق تلك القاعدة مثلا تقول : إنّ الاستصحاب الذي نجعله دليلا لحكم العمل في الموارد هو عين مفاد لا تنقض اليقين والاستصحابات الجزئية مصاديقه ، لا أنّ الاستصحاب دليل وقوله (عليه‌السلام) : «لا تنقض» دليل الدليل وهذا واضح.

وأما في جانب الأدلة فنفس الدليل كقول العادل مثلا يجب كذا ويحرم كذا يعارض ما يقابله من الأصول لا دليله مثل صدّق العادل ، كيف ولو كان كذلك لزم أن يكون صدّق العادل باعتبار شموله لخبر «لا تنقض اليقين» وخبر «كل شيء حلال» معارضا لنفسه باعتبار شموله للأخبار المثبتة للأحكام.

إذا تمهّد ذلك فنقول : إذا لاحظنا عمومات أدلة أصالة البراءة والاستصحاب والاحتياط مع كل واحد واحد من الأدلة الخاصة الواردة في إثبات أحكام خاصة في موارد خاصة مثل وجوب كذا وحرمة كذا نجد أنّ موارد الأدلة أخصّ مطلقا من موارد الأصول فنخصصها بموارد الأدلة ، لكن هذا الوجه لا يتم كلية ، إذ قد يكون مورد الدليل أيضا أعم من مورد الأصل من وجه كما إذا قال : أكرم العلماء وكان بعضهم محرّم الإكرام في السابق دون بعض ، ففي المثال يكون إكرام العلماء أعم من دليل الاستصحاب من جهة شموله لغير الفرد الذي يجري فيه الاستصحاب ، كما أنّ الاستصحاب أعم من هذا الدليل لشموله سائر الموارد ، ولا يمكن أن يقال بتتميم المطلب بالإجماع المركّب فإنّه لم

٣٩

يفصّل أحد بين موارد العموم المطلق ومن وجه في تقديم الأدلة على الأصول ، لأنّا لا نشك في تقديم الأدلة على الأصول وإنّما الإشكال في وجه التقديم وسرّه وإلّا فأصل التقديم إجماعي والإجماع المركّب لا تعرّض له لسرّ التقديم كما لا يخفى.

الثاني من وجهي التخصيص : أن يقال : سلمنا أنّ النسبة بين عموم الأصول وعموم الأدلة عموم من وجه من جهة فرض التعارض بين أدلة الأصول وأدلة الأدلة ، لكن مع ذلك يجب تخصيص أدلة الأصول بالأدلة ، إذ لا يجوز العكس من جهة لزوم اللغوية في جعل الدليل حجة على تقديره.

بيان ذلك : أنّه لو خصصنا عموم أدلة الأصول بغير مورد وجود الدليل لكان ذلك تخصيصا مقبولا ، وأما لو خصّصنا حجية الأدلة بغير موارد الأصول المخالفة لها لكان العام المتكفّل لحجية الأدلة لغوا ، لأنّ ما يبقى تحت العام بعد التخصيص إما أن يكون موافقا لأحد الأصول الثلاثة من البراءة أو الاستصحاب أو الاحتياط أو يكون في موارد التخيير ، ففي الأول لا حاجة إلى الدليل لإمكان الغنى عنه بجعل الأصول ، وموارد التخيير وإن لم يكن جعل الدليل في تلك الموارد لغوا إلّا أنّها في غاية الندرة ولقلّتها في حكم العدم ، لا يخرج إيراد العام عن اللغوية لأجلها.

فإن قلت : لم لا نقول بجريان حكم التعارض بينهما فتارة نقدّم الأصل على الدليل لمرجّح وتارة بالعكس لمرجّح آخر ، ويندفع بهذا محذور اللغوية.

قلت : لا وجه للترجيح الذي ذكرت لعدم إمكان الترجيح بالمرجّحات السندية ، لأنّا قد أخذنا بالسندين لمكان غير مورد تعارضهما وفرض عدم المرجّحات الدلالية ، فانحصر الأمر بالترجيح بالظنّ ، ولا يمكن أن يكون الظن

٤٠