حاشية فرائد الأصول - ج ٢

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-089-6
الصفحات: ٥٩٤
الجزء ٢ الجزء ٣

قوله : مضافا إلى أنّ الظاهر من قوله (عليه‌السلام) : «حتى تعرف الحرام» إلى آخره (١).

فيه : أوّلا : النقض بورود مثل هذا في الشبهة في الموضوع أيضا التي حملت الرواية عليها ، لأنّه لو فرض علمك بحرمة موضوع آخر غير هذا المشتبه فإنّه لا يمكن أن يكون غاية لحلية هذا الفرد المشتبه ، بل العلم بحرمة كل فرد غاية لحلّية ذلك الفرد بعينه ، فلا بدّ من تصرّف في ظاهر مدلول الخبر كأن يقال إنّ المراد حتى تعرف الحرمة في المشتبه.

وثانيا : الحل بأنّ المعنى أن كل كلي كاللحم مثلا فيه نوعان حلال وحرام في الجملة ، فهو أي ذلك الكلي باعتبار نوعه المشتبه كلحم الحمير حلال حتى تعرف وجود ذلك الحرام الإجمالي فيه.

وبعبارة أخرى حتى تعرف مطلق الحرمة التي علمته في الجملة في كلي اللحم فيه بعينه ، وليس المراد حتى تعلم الحرمة الشخصية التي عرفتها في خصوص لحم الخنزير في المشتبه كي لم يمكن كونها غاية ، وسرّه أنّه أخذ في الموضوع عنوان الحلال والحرام لا عنوان لحم الغنم والخنزير.

قوله : وقد أورد على الاستدلال بلزوم استعمال قوله (عليه‌السلام): «فيه حلال وحرام» في معنيين (٢).

المورد صاحب القوانين (٣) أورد الإشكالين وغيرهما على توجيه شارح الوافية ، وأنت خبير بما فيه ، إذ لو أريد به كل شيء ينقسم إلى الحل والحرمة فعلا

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٤٩.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٤٩.

(٣) القوانين ٢ : ١٩.

١٠١

خرج ما لا يقبل الاتّصاف بهما أيضا ، كما أنه يحصل به المقصود من شموله لما ينقسم إلى الحلّ والحرمة في نفس الأمر أو عندنا.

ولو أبدل المورد هذا الإيراد بأن يقول استعمل فيه حلال وحرام في معنيين : أحدهما ما فيه احتمال الحل والحرمة باعتبار شموله للشبهة الحكمية ، وثانيهما : ما فيه حلال وحرام فعليّ باعتبار شموله للشبهة الموضوعية كان أوجه. لكن فيه أنّه يكفي في شموله للقسمين أن يراد كل شيء سواء كان كليا أو جزئيا فيه احتمال الحرمة والحل وينقسم إليهما بأن يقال : إنّ هذا إما حلال وإما حرام فهو لك حلال.

وأما قوله بلزوم استعمال قوله (عليه‌السلام) «حتى تعرف الحرام منه بعينه» في معنيين ، فجوابه أوضح ، إذ كون سبب العلم والمعرفة في الشبهة الحكمية الأدلة الشرعية وفي الشبهة الموضوعية البيّنة ونحوها لا يوجب استعمال لفظ «تعرف» في معنيين ، بل المراد منه مطلق المعرفة من أي سبب كانت ، وإن كان ذلك استعمال اللفظ في معنيين لزم أن يكون على تقدير اختصاص الخبر بالشبهة الموضوعية أيضا استعمالا في معنيين بل المعاني ، لأنّ معرفة الحرام في الشبهة الموضوعية قد تكون باخبار من يفيد قوله العلم وقد تكون بالحسّ وقد تكون بالبيّنة أو بالقرعة إلى غير ذلك من أسباب المعرفة.

وتحصّل مما ذكرنا : أن الاستدلال بالرواية بالتقريب الثاني حسن لما نحن فيه ولا يرد عليه ما أورد ، نعم يمكن أن يقال إنّ المعنى المذكور للرواية ليس ظاهرا بحيث يعتمد عليه كما قال في الفصول (١) بل لا يبعد ظهور الرواية في حكم خصوص الشبهة المحصورة ، لكنّ الأظهر في النظر ظهوره في الأعم

__________________

(١) الفصول الغروية : ٣٥٣.

١٠٢

منهما فيكون المعنى كل كلي فيه حلال وحرام وكل كل فيه حلال وحرام فهو لك حلال بسبب عموم الشيء المأخوذ في الموضوع ، فمال زيد لو فرض فيه العلم بكونه حلالا مختلطا بالحرام شيء فيه حلال وحرام ، ولعلنا نتكلّم عليه في الشبهة المحصورة فليتأمّل.

قوله : هذه جملة ما استدل به من الأخبار (١).

ويمكن أن يستدل أيضا بأخبار أخر :

منها : ما رواه في البحار عن الكافي بإسناده عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «سمعته (عليه‌السلام) يقول : كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك» الخبر (٢) وقد استدل به الماتن وغيره في الشبهة الموضوعية وسيجيء ، مع أنه يعمّ الشبهة الحكمية بعموم لفظ «كل شيء» ولا تخصصه الأمثلة المذكورة في الرواية للشبهة الموضوعية ، ولعل النكتة في اقتصاره (عليه‌السلام) بأمثلة الشبهة الموضوعية كونها أقرب إلى فهم السائل.

وكذا قوله (عليه‌السلام) في ذيل الرواية «والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك أو تقوم به البيّنة» لا يدل على التخصيص وإن كان قيام البيّنة مخصوصا بالشبهة الموضوعية لكن قوله (عليه‌السلام) «حتى يستبين لك» أعم كما لا يخفى.

ومنها : قوله (عليه‌السلام) : «كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٥٠.

(٢) الوسائل ١٧ : ٨٩ / أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ٤.

١٠٣

بعينه» (١) والاستدلال به لا غضاضة عليه بعد تسليم السند.

ومنها : ما في البحار عن التهذيب بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه‌السلام) «أنه سئل عن سباع الطير والوحش حتى ذكر له القنافذ والوطواط والحمير والبغال ، فقال (عليه‌السلام) : ليس الحرام إلّا ما حرمه الله في كتابه» الخبر (٢) وكل مشكوك ليس مما حرّمه الله في كتابه ، والفقرة الأخيرة التي هي محل الاستشهاد وهي قوله (عليه‌السلام) : «ليس الحرام إلّا ما حرّمه الله في كتابه» قد رواها في كتاب الوسائل في باب الأطعمة بعدّة طرق.

لكن الاستدلال بهذه الأخبار على البراءة ليس في محلّه ، لأنّها عمومات اجتهادية تدل على الحلية الواقعية في غير المحرّمات الكتابية نظير عموم قوله تعالى : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً)(٣) وقوله : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً) إلى آخره (٤) وأمثال ذلك.

ومنها : قوله (عليه‌السلام) في رواية حفص بن غياث المردد بين ضعيف مجبور أو موثق عند المجلسي (رحمه‌الله) المروية في الفصول المهمة عن كتاب التوحيد للصدوق «من عمل بما علم كفي عمّا لا يعلم» (٥).

وقد يورد على الاستدلال به بأنّ المراد كما في رواية أخرى على ما قيل إن من عمل بما علم علّمه الله ما لا يعلم ، وإن لم يكن ظاهرا فيه فلعله بملاحظة الرواية الأخرى بما عرفت تكون ظاهرة في ذلك ولا أقل من الإجمال المسقط

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٨٩ / أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ٤.

(٢) بحار الأنوار ٢ : ٢٨١.

(٣) البقرة ٢ : ٢٩.

(٤) الأنعام ٦ : ١٤٥.

(٥) التوحيد : ٤١٦.

١٠٤

للاستدلال (١).

وربما يستدل بروايات أخر أيضا أغمضنا عنها لوضوح عدم دلالتها على المدّعى فهو مجرّد تطويل ليس فيه كثير فائدة.

قوله : لكن بعضها غير دال إلّا على عدم وجوب الاحتياط لو لم يرد أمر عام به (٢).

قد عرفت سابقا أنّ الدال من الأخبار المذكورة بل الآيات على تقدير تماميتها تدل على أنّ الجهل بالحكم الواقعي موجب لرفع العقاب عليه لا الجهل بمطلق الحكم أعمّ من الواقعي والظاهري على ما أشار إليه في المتن مرارا ، وحينئذ فجميع الآيات والأخبار يعارض أدلة الاحتياط لو تمّت ، لدلالتها على ثبوت العقاب على الحرام المجهول بناء على ما مرّ في صدر المسألة من أنّ الصحيح في تصوير القول بالاحتياط وتطبيق أدلته عليه هو إثبات العقاب على الواقع المجهول.

نعم ، لو قيل بوجوب الاحتياط تعبدا في المجهولات حتى لو لم يكن حرام واقعي في الواقع في مورده فهو حاكم على أدلة البراءة لا محالة مطلقا

__________________

(١) أقول : ومع الإغماض عن ذلك أيضا لا دلالة فيها على المدّعى وهو نفي استحقاق العقاب على الحرام المجهول ، لأنّ غاية ما يستفاد منها الوعد بالعفو عن الحرام المجهول بشرط العمل بجميع التكاليف المعلومة فتكون نظير قوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ)[النساء ٤ : ٣١] وأين هذا من نفي الاستحقاق ، بل لو قيل بدلالته على ثبوت الاستحقاق حتى يصحّ الوعد بالعفو عند العمل بالمعلومات كان أصوب فتكون من أدلة الخصم ، فليتأمل.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٥٠.

١٠٥

حتى بالنسبة إلى قوله (عليه‌السلام) : «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» (١) لكن الأمر ليس كذلك كما سيتّضح في خلال التكلّم في أدلة الاحتياط وقد مرت الإشارة إليه أيضا في صدر المسألة.

تنبيه :

قد أشرنا سابقا في ذيل الكلام في حديث الرفع أنّه عام يشمل رفع الأحكام الوضعية أيضا ، ونقول هنا إنّ سائر الأخبار المذكورة أيضا كذلك ، إذ لا إشارة في شيء منها إلى أنّ الموضوع خصوص العقاب اللازم للحكم التكليفي ، بل ظاهرها عموم الوضع لمطلق الأحكام الشرعية حتى أنّ قوله (عليه‌السلام) «كل شيء حلال» يراد منه بالنسبة إلى الأحكام الوضعية أنه نافذ ماض كما في قوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(٢) وحينئذ فكلما شك في صحة عبادة أو معاملة من جهة فقدان شرط أو جزء أو وجود مانع يحكم بالصحة بإطلاق هذه الأخبار سواء كانت الشبهة حكمية أو موضوعية ، وحينئذ لو عقد على امرأة تزوجها سابقا في عدّتها بجهالة نحكم بصحة العقد المذكور بدلالة هذه الأخبار برفع المانعية في حال الجهل اللازم منه نفوذ العقد مع الشك فيه من هذه الجهة ، ومن المعلوم أنّ هذا الإطلاق حاكم على أصالة عدم تأثير العقد ، ولا يحتاج في دفع هذا الأصل إلى ما سبق في ذيل رواية عبد الرحمن بن حجاج من حكومة أصالة إباحة تزويج هذه المرأة بالعقد عليه ، لكون الشك في تأثير العقد مسببا عن الشك في إباحة تزويج هذه المرأة ، ولذلك فرّع الإمام (عليه‌السلام) في رواية

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٧٣ / أبواب صفات القاضي ب ١٢ ح ٦٧.

(٢) المائدة ٥ : ١.

١٠٦

مسعدة بن صدقة صحة البيع مع احتمال كون المبيع سرقة وصحة النكاح مع احتمال كون الزوجة أخت زوجها أو رضيعته على عموم قوله (عليه‌السلام) «كل شيء لك حلال حتى تعرف الحرام» فاندفع الاستشكال في الرواية كما سيأتي في المتن من جهة حكمه (عليه‌السلام) بالحل في هذه الأمثلة ، مع أنّ أصالة عدم تأثير العقد فيها حاكمة على أصالة الحل لأنّها أصل موضوعي.

وظهر من هذا أيضا أنّ إطلاق قولهم بأنّ الأصل الموضوعي حاكم على الأصل الحكمي ليس في محلّه بل قد ينعكس كما في المثال المذكور وغيره مما سيأتي إن شاء الله تعالى في محله.

قوله : وأما الإجماع فتقريره على وجهين : الأول دعوى إجماع العلماء كلّهم ، إلى آخره (١).

ظاهر كلامه (رحمه‌الله) يقتضي ارتضاءه لهذا الوجه من الإجماع وأنّه صحيح ، غير أنه لا يعارض أدلة الأخباريين لو تمّت فلا ينفع إلّا بعد إحراز عدم تمامية أدلتهم.

وفيه نظر :

أما أوّلا : فلأنّ هذا نظير الإجماع الذي ادّعاه بعض في إثبات ماهية العبادات بما أدى إليه اجتهاده من الأجزاء والشرائط ، بتقريب أنّ المخالف لو التفت إلى بطلان دليله لرجع عن قوله ووافقنا في الفتوى ، فهو مسلّم لهذه الفتوى على تقدير بطلان دليله ، وهذا التقدير محقق عندي فما أدى إليه اجتهادي إجماعي ، وأورد عليه المحقق القمي (رحمه‌الله) (٢) بأنّ هذا المعنى يمكن أن

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٥٠.

(٢) القوانين ١ : ٥٧.

١٠٧

يدّعيه الخصم أيضا بعينه ويقرّر الإجماع على مذهبه فيصير الإجماع تابعا لآراء المجتهدين ، ولا يخفى شناعته ، فنقول بمثله هاهنا وأنّ للأخباري قلب هذا الإجماع بأنّ يدعي أنّ الأخباريين والأصوليين متفقون على وجوب الاحتياط فيما لا نصّ فيه من الشبهة التحريمية على تقدير عدم تمامية أدلة البراءة عقلها ونقلها ، وهذا التقدير محقق عندي فوجوب الاحتياط إجماعي. وبالجملة لا حجية في الإجماع التقديري على ما بيّن في محلّه مع وجود الخلاف العظيم بالفعل (١).

وأما ثانيا : فلأنّ مثل هذا الإجماع غير كاشف عن رأي المعصوم (عليه‌السلام) عندنا قطعا ، لأنّا نعلم أن سند المجمعين في قولهم هذا ليس إلّا حكم

__________________

(١) أقول : والذي أظن أنّ هذا الإيراد أجنبي عما في المتن من تقرير الإجماع ، إذ مراده ببيان أوفى وأبسط أنّ علماء الإمامية كلهم من الأصوليين والأخباريين مطبقون على قضية واحدة كلية وهي أنّه كل ما لم يرد من الشارع فيه دليل عقلي أو نقلي على حكمه من حيث هو ولم يصل أيضا منه بيان على حكمه من حيث إنه مجهول الحكم فحكمه البراءة ، وإنما وقع النزاع في تحقق مصداق موضوع هذه القضية في الشبهة التحريمة فيما لا نصّ فيه ، فيدعي الأخباري عدم تحقق الموضوع فيها لأنّ البيان قد وصل بالنسبة إلى حكمه من حيث إنه مجهول الحكم يعني أخبار الاحتياط مثلا وينكره الأصولي لعدم تمامية دلالة أخبار الاحتياط فيما أراده الأخباري ، فالمسألة من مصاديق القضية الإجماعية ولا غضاضة في الاستدلال بمثل هذا الإجماع.

ولنذكر مثالا لتوضيح صحة الاستدلال بمثل هذا الإجماع وهو أنا نفرض تحقق الإجماع على أنّ الحيوان البحري ميتته طاهرة مطلقا ولو كان ذا نفس سائلة وغير مأكول اللحم ، ولكن المجمعين مع ذلك اختلفوا في طهارة ميتة حيوان يؤتى ببيضته وتدخل في المعاجين الكبار والترياق الفاروق تسمى جندبيدستر لاختلافهم في أنّه بحري أو بري ، فإن أحرزنا أنه بحري نقول بطهارة ميتته تمسكا بالإجماع ، وليس هذا من الإجماع التقديري في شيء ، والاختلاف في تشخيص موضوع القضية الإجماعية لا يكون منشأ لأن تكون المسألة خلافية بالنسبة إلى الفرد المختلف في كونه من مصاديق الموضوع أم لا.

١٠٨

العقل المدعى بقبح العقاب بلا بيان وقوله (عليه‌السلام) : «كل شيء مطلق» إلى آخره ، وأمثال ذلك من الوجوه المذكورة في كلماتهم ، فلو فرضنا عدم تمامية هذه الوجوه لم نقطع البتة بأنّ حكم الإمام (عليه‌السلام) في المسألة هي البراءة بملاحظة أقوالهم وأنهم لم يقولوا بالبراءة إلّا تلقيا من إمامهم وهذا واضح.

قوله : وتحصيل الإجماع بهذا النحو من وجوه الأول (١).

نعم ، هكذا يكون طريق تحصيل كل إجماع بأحد هذه الوجوه الثلاثة ، وإنما الكلام في حصوله فيما نحن فيه ، فادّعاه المصنف بجميع الوجوه الثلاثة كما ترى ، لكن تصديقنا بهذه الدعوى يشبه رمية من غير رام ، فإنّ الماتن لم يزد في تقرير الوجه الأول سوى تحصيله قول خمسة من قدمائنا وخمسة من المتأخرين ، وذلك ـ مع أنّ استظهار القول المذكور من بعض المذكورين محل تأمّل واضح كما سيظهر ـ ليس إجماعا بل ليس اتفاقا بل ولا شهرة بقول مطلق مع مخالفة جمهور الأخباريين ومخالفة جماعة حكى عنهم القول بالاحتياط في المعارج (٢) ، ومع ما يرى من الشيخ (رحمه‌الله) والسيد (رحمه‌الله) وغيرهما من تمسّكهم بالاحتياط في كثير من الموارد كما اعترف به في المتن.

وبالجملة دعوى الكشف القطعي عن رأي الإمام (عليه‌السلام) بملاحظة فتاوى المذكورين مع ما ذكر من موهنات الإجماع المذكور عهدتها على مدّعيها ولا يحصل في أمثاله لنا الكشف المذكور ، فمن حصل له ذلك فقد استراح عن كلفة هذه المسألة ولا كلام معه.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٥١.

(٢) معارج الأصول : ٢٩٨.

١٠٩

قوله : فمنهم ثقة الإسلام الكليني (رحمه‌الله) حيث صرّح ، إلى آخره (١).

استظهار القول بالبراءة فيما لا نصّ فيه في خصوص الشبهة التحريمية من العبارة المحكية غريب ، فإنّ قوله بالتخيير فيما تعارض فيه النصّان الظاهر أنه من باب ترجيح أخبار التخيير الواردة في مسألة التعارض على أخبار الاحتياط لكونها أقوى سندا ودلالة ، بل لم يرد الأخذ بالاحتياط في خصوص المتعارضين إلّا في مرفوعة زرارة وفي سنده من الضعف ما لا يخفى.

وحينئذ فقوله في المتن «ولم يرد نص بوجوب الاحتياط في خصوص ما لا نصّ فيه» لا كرامة فيه ، إذ عموم الأخبار الآمرة بالاحتياط كاف للخصم فلا أولوية ، مضافا إلى ما في هذه الأولوية في استكشاف القول ثم دعوى الإجماع المركب بأنّ من قال بالتخيير والبراءة عن التعيين في مسألة تعارض النصّين قال بالبراءة فيما لا نصّ فيه ، دعوى ظنّية من الأولوية المذكورة أو تخرّص على الغيب.

قوله : ومنهم الصدوق فإنّه قال اعتقادنا ، إلى آخره (٢).

قيل إنّ مراده من هذه العبارة أصالة إباحة الأشياء قبل ورود الشرع وهي غير مسألتنا ، لكن لا يبعد دعوى ظهور كلامه في أصالة الإباحة الفعلية بعد ورود الشرع فتأمّل فيه.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٥١.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٥٢.

١١٠

قوله : الثاني الإجماعات المنقولة والشهرة المحققة (١).

ليس في شيء مما نقله دعوى الإجماع ، فإنّ قول الصدوق اعتقادنا (٢) أظهر العبارات المذكورة في دعوى الإجماع ، وظهوره موهون بأنّه كثيرا ما يعبّر بهذه العبارة فيما اختاره في المسائل الخلافية المعروفة ، مضافا إلى ضعف ظهوره في نفسه في دعوى الإجماع. وأما عبارة الحلي (٣) فإنّها لا تزيد عن دعوى كون البراءة مذهب المحققين الباحثين وغايته حكاية الشهرة. وأما المحقق (٤) فلم يزد عن دعوى إطباق العلماء في معارجه وهي غير دعوى الإجماع كما لا يخفى. وقوله من أصلنا العمل بالأصل في مسائله المصرية لا يخلو عن إشعار بالاتفاق. وكيف كان حصول الكشف القطعي من أمثال هذه الحكايات في غاية البعد كما عرفت في الوجه الأول وأول الوجوه الثلاثة من الوجه الثاني فليتأمل. نعم دعوى الشهرة المحققة في محلّها على الظاهر.

قوله : الثالث الإجماع العملي الكاشف (٥).

قد عرفت في الجواب عن الوجوه المتقدمة عدم كشف مثل هذا الإجماع العملي أيضا عن رأي المعصوم (عليه‌السلام) بعد القطع أو احتمال أنّ مستند جميع المجمعين أو بعضهم حكم عقلهم بقبح العقاب بلا بيان.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٥٤.

(٢) الاعتقادات (مصنفات الشيخ المفيد ٥) : ١١٤.

(٣) السرائر ١ : ٤٦.

(٤) معارج الأصول : ٢٨٧.

(٥) فرائد الأصول ٢ : ٥٥.

١١١

قوله : أقول : إن كان الغرض مما ذكر من عدم التخطئة (١).

ليس غرض المحقق هذا ولا ذاك ، بل مراده دعوى الإجماع العملي من أهل جميع الشرائع طرا على البراءة كما ادّعاه المصنف في المتن وعدم تخطئة أهل الشرائع من بادر إلى شيء من المشتبهات إلى آخر ما ذكره الظاهر في أنّ عدم تخطئتهم هذا من حيث كونهم من أهل الشرع لا من حيث إنّهم عقلاء من آثار إجماعهم على البراءة كما لا يخفى.

قوله : فهو مبني على عدم وجوب دفع الضرر المحتمل وسيجيء الكلام فيه إن شاء الله تعالى (٢).

لا يخفى أنّ المحقق (٣) قد ادعى أنّ أهل الشرائع يجوّزون ارتكاب المشتبه فعلا من غير توقف ، ولا يمكن أن يكون ذلك مبنيا على أمر مشكوك التحقق مختلف فيه ، وإن أبيت إلّا عن أنّ بناء العقلاء في حكمهم على البراءة مبني على عدم وجوب دفع الضرر المحتمل نحن نستكشف من حكمهم فعلا بالبراءة تحقق المبنى وصحته.

قوله : الرابع من الأدلة حكم العقل بقبح العقاب على شيء من دون بيان (٤).

قد مرّ منا غير مرة أنّ المسلّم من حكم العقل بقبح العقاب ما إذا علم العبد عدم البيان واقعا مع عدم مانع من البيان أيضا من تقية ونحوها ، أما لو علم أو

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٥٦.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٥٦.

(٣) معارج الأصول : ٢٨٥.

(٤) فرائد الأصول ٢ : ٥٦.

١١٢

احتمل البيان من المولى وما وصل إلى العبد بإخفاء المخفين وتقصير المقصّرين ونحوهما أو كان للمولى مانع من البيان من تقية ونحوها فالإنصاف أنّ العقل لا يحكم حينئذ بقبح العقاب على الواقع المجهول.

وبعبارة أخرى العقل والعقلاء يجعلون الجهل في الصورة الأولى عذرا للعبد في تركه الواقع المجهول بخلاف الصورة الثانية فإنّهم لا يحكمون بمعذوريته بل يحتملون العقاب على الواقع المجهول والحال هذه ، فيدخل ذلك في موضوع مسألة حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل ، وقد عرفت سابقا في رسالة الظن صحة حكم العقل بدفع الضرر المحتمل إذا كان الضرر عظيما خطيرا سيما مثل العقاب الأخروي الذي يسيره كثير ، ومن الواضح أنّ محلّ كلامنا من القسم الثاني الذي لا يحكم العقل بقبح العقاب لأنّا نعلم بخفاء أحكام كثيرة قد بيّنها الشارع ولم يصل إلينا أو لم يبيّنها من جهة التقية فكيف نقطع حينئذ بالبراءة وقبح العقاب على الواقع المجهول ، وما استشهد في المتن به من حكم العقلاء بقبح مؤاخذة المولى عبده على فعل ما اعترف بعدم إعلامه أصلا بتحريمه مسلّم فيما إذا علم العبد عدم الإعلام باليقين مع علمه بأنّه لم يكن مانع للمولى بالإعلام من تقية ونحوها وإلّا نمنع قبح المؤاخذة كما إذا احتمل العبد أنّ عدم البيان من المولى لعله من خوفه من عدوّه الفلاني الحاضر عنده ، وكما لو فرض أنّ المولى كتب طومارا مشتملا على جميع ما يريد من العبد فعلا وتركا ثم ضاع بعض أوراق ذلك الطومار بسبب من الأسباب ولو بغير تقصير العبد ، فلو عاقب المولى عبده في الفرضين على ما لم يصل إلى العبد من حكمه لم نقطع بقبحه كما يشهد به وجدان أصحاب الأذهان المستقيمة.

فاتّضح من ذلك كلّه صحة دعوى أنّ حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل بيان عقلي ، لأنّ البيان المأخوذ في موضوع حكم العقل بقبح العقاب

١١٣

أعم من البيان للحكم الظاهري المجعول بالنسبة إلى خصوص حال الجهل. ومن العجب أنّ المصنف يقول بثبوت حكم العقل بقبح العقاب في الشبهات الموضوعية التي ليست بيانها من وظيفة الشارع. وأعجب من ذلك أنه تفطّن لهذا الإيراد فأورده على نفسه وأجاب عنه بوجه تعرف ضعفه بمراجعة كلامه في الشبهة الموضوعية.

قوله : مدفوعة بأنّ الحكم المذكور ـ إلى قوله ـ فلا تصلح القاعدة لورودها على قاعدة القبح المذكور (١).

يعني أنّ قاعدة القبح ناظرة إلى قبح العقاب على الواقع المجهول على تقدير مصادفة ما ارتكبه الجاهل للحرام الواقعي ، وقاعدة دفع الضرر ناظرة إلى حكم العقل باستحقاق العقاب على ارتكاب المشتبه من حيث إنّه مشتبه ولو لم يكن حراما واقعيا ، فالعقاب الذي تنفيه القاعدة الأولى لا تثبته القاعدة الثانية وما تثبته القاعدة الثانية لا تنفيه القاعدة الأولى ، فكيف تحصل المنافاة بين القاعدتين والحال هذه؟

وفيه نظر :

أما أوّلا : فلأنّ حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل ليس إلّا من جهة احتمال الضرر الواقعي وخوف الوقوع فيه ، وهو احتياط حكم بلزومه العقل فرارا عن ذلك الضرر المحتمل ليس إلّا ، لا أنّ احتمال الضرر الواقعي موضوع للحرمة الظاهرية مطلقا ولو لم يكن ضرر في الواقع حتى يلزم أن يحكم بعقابين لو صادف الاحتمال المحرّم الواقعي فإنّ ذلك لم يقل به أحد في الشبهة المحصورة ونحوها مما هو مورد للقاعدة جزما ، ولا تجري قاعدة قبح العقاب

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٥٦ ـ ٥٧.

١١٤

بلا بيان على التحقيق والمشهور حتى أنّ الماتن بنفسه قد اختار في أواخر أصل البراءة في مسألة معذورية الجاهل بأنّ قاعدة دفع الضرر إرشاد إلى التحرّز عن الضرر الواقعي على ما يستفاد من كلامه فراجع.

وأيضا قد صرّح هنا بعد سطرين أنّ مورد قاعدة دفع العقاب المحتمل هو ما ثبت العقاب فيه ببيان الشارع للتكليف ، فتردد المكلف به بين أمرين كما في الشبهة المحصورة وما يشبهها ، ومن المعلوم كما صرّح به هو بنفسه في الشبهة المحصورة أنه لو ارتكب أحد أطراف الشبهة المحصورة لم يفعل حراما لو لم يصادف الحرام الواقعي. نعم ربما يعدّ ذلك من أقسام التجرّي وما يدعى من حكم العقل بقبح ارتكاب المحتمل مطلقا لأجل ذلك أيضا ، والمصنف لا يقول بحرمته من هذه الجهة أيضا فلا يكون ارتكاب المحتمل من حيث هو كذلك حراما بوجه من الوجوه. نعم حكم ما احتمل فيه الضرر الدنيوي الحرمة مطلقا صادف الضرر أو لم يصادف ، لكنه شرعي لا عقلي بمعنى قيام الدليل الشرعي على أنّ موضوع الحرمة التعبديّة احتمال الضرر أو ظنّه ، فتأمل جيدا كي لا يلتبس الأمر.

وأما ثانيا : فلأنّه لو سلّمنا كون احتمال الضرر موضوعا لحكم العقل بحرمة المحتمل مطلقا كما أراده المصنف ، فإنّ ذلك أيضا وارد على قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، لأنّه يكون بيانا للحكم الظاهري وأنه يترتّب العقاب على المشكوك مطلقا فكيف لا يصلح ذلك لوروده على قاعدة القبح ، وكيف يمكن الفتوى بجواز شرب التتن فعلا مع ثبوت هذه الحرمة الظاهرية له وترتب العقاب عليه بالفرض ، فقوله إنّ الحكم المذكور على تقدير ثبوته لا يكون بيانا للتكليف المجهول المعاقب عليه ، منظور فيه ، لأنّ عدم البيان الذي أخذ في موضوع حكم العقل لقبح العقاب أعم من البيان الظاهري ، ومن هنا يقال ونقول إنّه لو تم أدلة

١١٥

الأخباري على إثبات الحرمة الظاهرية التي هي أحد الوجوه الأربعة المسندة إلى الأخباريين كفى في ردّ الأصولي القائل بالبراءة وإثبات الاحتياط الذي يدّعيه الخصم.

وقد أضاف المصنف على ما في المتن في الحاشية على ما في بعض النسخ وجها آخر لدفع معارضة قاعدة القبح بقاعدة دفع الضرر وهو لزوم الدور ، ومحصّل بيانه : أنّ إبطال قاعدة قبح العقاب بلا بيان موقوف على تمامية قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ، وتمامية هذه القاعدة موقوفة على تحقق موضوعه أعني احتمال الضرر ، واحتمال الضرر موقوف على إبطال قاعدة القبح ، فإبطالها موقوف على إبطالها.

وفيه :

أوّلا : أنّه يمكن العكس وتقرير الدور من جانب قاعدة دفع الضرر لينتج سقوط القاعدتين بأن يقال : إبطال قاعدة دفع الضرر موقوف على تمامية قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وتمامية هذه القاعدة موقوفة على تحقق موضوعه أعني عدم ثبوت البيان ، وهو موقوف على إبطال قاعدة دفع الضرر ليتحقق عدم البيان وإلّا فإنّه بيان ظاهري كما عرفت.

وثانيا : أنا نمنع توقّف تحقق موضوع قاعدة دفع الضرر أعني احتمال الضرر على إبطال قاعدة قبح العقاب ، بل نحكم بتحقق موضوعه حيث لا يكون الجهل بالضرر عذرا في إدراك العقل ، وتوضيح ذلك يعرف من شرح :

١١٦

قوله : فلا تصلح القاعدة ـ إلى قوله : ولا احتمال بعد حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان (١).

قد جعل المصنف (رحمه‌الله) هذا الكلام تتمة لما أجاب عن الاعتراض من أن قاعدة دفع الضرر قاعدة ظاهرية ، والأولى جعله جوابا مستقلا وهو حق الجواب ، تقريره : أنا لا نحتمل الضرر في مورد مسألتنا بعد حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان حتى يعارض بقاعدة دفع الضرر المحتمل لعدم موضوعه وهو احتمال الضرر.

لا يقال : إنّ جريان كل من القاعدتين رافع لموضوع الأخرى ، ولا وجه لترجيح تقديم جريان القاعدة الأولى لارتفاع موضوع القاعدة الثانية فإنّه ليس بأولى من العكس ، فالتعارض بعد بحاله.

لأنّا نقول : إنّ التعارض في الأحكام العقلية غير معقول للزوم التناقض واقعا ، وإنّما يقع التعارض في الأحكام الشرعية بملاحظة أدلّتها المعهودة التي لا يتميّز عند العقل صحيحها من سقيمها وحقّها من باطلها ، فيتعارض فردان من الدليل الكذائي لتساويهما من حيث دليليتهما الظاهرية وتصادقهما في موضوع واحد بحسب ما يظهر لنا من موضوع الدليلين ، وهذا بخلاف الأدلة العقلية فإنّ موضوعاتها ممتازة لا يمكن صدق موضوع حكمين منها على أمر واحد كي يحصل التعارض ، بل المورد إما من مصاديق هذا الحكم دون ذاك أو من مصاديق ذاك دون هذا ، وما يتخيّل من التصادق كما فيما نحن فيه إنّما هو بالنظر الجلي وأما بالنظر الدقيق فيعرف دخوله في أحدهما وخروجه عن الآخر.

ففيما نحن فيه نقول : إنّ العقل بعد دقة النظر يحكم بأنّ المشتبه بالشبهة

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٥٧.

١١٧

البدوية موضوع لحكمه بقبح العقاب عليه ، لأنّه يجعل مثل هذا الجهل عذرا للمكلّف ، كما أنّه يحكم بأنّ المشتبه بالشبهة المحصورة موضوع لقاعدة دفع الضرر ، إذ لا يحكم بكون مثل هذا الجهل عذرا للمكلّف ولذا يحتمل الضرر ويحكم بوجوب دفعه بما يتمكن من الاحتياط.

قوله : وإن أريد بها مضرة أخرى غير العقاب التي لا يتوقّف ترتّبها على العلم (١).

يعني إن أريد بالضرر الذي يكون احتماله موضوعا لحكم العقل بوجوب دفعه مضرة أخرى غير العقاب ، سواء كان مضرة أخروية لازمة لذات الفعل من قبيل خواص الأشياء المترتبة عليها علمت أم لم تعلم ، أو كان مضرة دنيوية كذلك لا يدركها عقولنا إلّا أنها محتملة ، ولا يرتفع احتمالها بقبح العقاب بلا بيان لعدم كونها مجازاة للعمل القبيح من حيث القبح الفاعلي المصحّح للعقاب ، فلا ريب أنّ الشبهة من هذه الجهة موضوعية ، لأنّ العقل إنما يحكم بالقضية الكلية القائلة : بأنّ المضر حرام لا يجوز الإقدام عليه ، أما أنّ هذا الشيء أو هذا الفعل مضر أم لا لا مدخل للعقل ولا الشرع في تشخيصه.

وكيف كان ، لا يجب فيها الاحتياط باعتراف الأخباريين فلو جرت قاعدة وجوب دفع الضرر فيها ورد الإشكال على الفريقين ويطالبان بالجواب ، فلا بد على كلا القولين إما من منع وجوب الدفع ، إلى آخر ما ذكر في المتن.

وفيه نظر بيّن ، لأنّ الشبهة الموضوعية التي لا يجب فيها الاحتياط بتسليم من الأخباري ما كان منشأ الاشتباه فيها أمورا خارجية لا ترتبط بالشارع ولا يكون رفعها من وظيفته ككون هذا الإناء خمرا أم خلا. أما مثل هذه الشبهة

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٥٧.

١١٨

الموضوعية التي لا يمكن معرفتها إلّا بتشخيص الشارع وتعيينه فهو ملحق بالشبهة الحكمية ، فيجب على الشارع الحكيم البيان كنفس الأحكام من غير تفاوت ، ففيما نحن فيه تقتضي الحكمة البالغة بيان ما فيه المضرة الدنيوية التي لا يدركها العقول فضلا عن المضرة الأخروية ، فلمّا لم يبيّنها بالفرض يحكم العقل بعدم ترتبها وإلّا لزم الإخلال بالحكمة القبيح ، كيف ولو كان الحكم بالبراءة مسلما عند الأخباريين في مثل هذه الشبهة الموضوعية لم يحتج الأصولي إلى إتعاب النفس في جوابه بهذا البحث الطويل الذيل ، بل كان له أن يجيب بكلمة واحدة وهي أنّ مسألة شرب التتن من الشبهات الموضوعية فلا يجب فيها الاحتياط ، لأنّا قد علمنا بالعقل والنقل أنّ المحرمات الواقعية يجب تركها وإنما الشك في أنّ شرب التتن هل هو من المحرمات الواقعية أم لا ، فالشبهة فيه موضوعية ومجرى للبراءة بالاتفاق ، وأيضا كلمات الأخباريين وأدلّتهم على البراءة في الشبهة الموضوعية لا تساعد على أن تشمل مثل هذه الشبهة الموضوعية.

ومن الكلمات الصريحة في عدم إرادة مثل هذه الشبهة من الشبهة الموضوعية كلام المحدّث البحراني في الحدائق (١) وسينقله الماتن في الشبهة الموضوعية في أول تنبيهات المسألة ، فإنّه قال في ذيل كلام طويل لبيان الفرق بين الشبهة الحكمية والموضوعية وأنّ الاولى مجرى للاحتياط والثانية مجرى للبراءة قال : ومنها أن الشبهة في نفس الحكم يسأل عنها الإمام (عليه‌السلام) بخلاف الشبهة في طريق الحكم يعني الشبهة الموضوعية لعدم وجوب السؤال عنه (عليه‌السلام) ، بل علمهم (عليهم‌السلام) بجميع أفراده غير معلوم أو معلوم

__________________

(١) [الظاهر أنه من سهو القلم ، إذ الذي ينقل عنه المصنف في فرائد الأصول ٢ : ١٣٣ هو الحر العاملي].

١١٩

العدم لأنّه من علم الغيب فلا يعلمه إلّا الله وإن كانوا يعلمون منه ما يحتاجون إليه وإذا شاءوا أن يعلموا شيئا علموه (١) انتهى موضع الحاجة فتدبّر.

وربما يتفطّن هاهنا لورود إشكال على القائل بالبراءة مطلقا حتى في الشبهة الوجوبية بل الموضوعية ، وينبغي للفطن الخبير أن يعرف جوابه مما ذكرنا وسنشير إليه توضيحا.

أما الإشكال فهو أن يقال : إنّ قاعدة البراءة تنافي ما تقرّر من مذهب العدلية في أنّ الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد النفس الأمرية ، لأنّ قاعدة البراءة إنما تنفي العقاب على الفعل أي العذاب الذي يستحقه العبد بمخالفته للتكاليف المعلومة ، ويجوز أن يتحقق ذلك العذاب في الآخرة بعدله تعالى ويجوز أن يعفو عنه بفضله تعالى. وأما المفاسد الكامنة في الشيء الذاتية النفس الأمرية كما في المحرّمات وفوات المصالح الملزمة النفس الأمرية كما في الواجبات التي لا يتوقّف ترتّبها على العلم لأنّها ذاتية لا يتفاوت فيها العلم والجهل ، فلا ريب أنّ العقل لا يأمن منها في موارد الشبهة ويحتملها ، فيجب بحكم العقل المستقل دفعها بالعمل بما يكون مأمونا من الوقوع في تلك المفاسد ، ولا يكون ذلك إلّا بالاحتياط ، نعم لو ثبت في الشرع عدم وجوب الاحتياط في شيء منها بالخصوص علمنا من ذلك أنّ الله تعالى يتدارك تلك المفسدة بشيء يعلمه ، وأما فيما لم يثبت ذلك فلا مفرّ من الاحتياط بحكم العقل.

فإن قلت : إنما يتم هذا الإشكال على القول بأنّ حسن التكليف تابع لحسن المأمور به والمنهي عنه كما يسند إلى المشهور ، وأما على القول بتبعيته لحسن الأمر والنهي كما هو مختار صاحب الفصول فلا يلزم أن يكون نفس

__________________

(١) الفوائد الطوسية : ٥١٩ ـ ٥٢٠.

١٢٠