حاشية فرائد الأصول - ج ٢

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-089-6
الصفحات: ٥٩٤
الجزء ٢ الجزء ٣

الشبهة في أمثال زماننا الذي لا يمكن استعلام حالها لانسداد باب العلم واختفاء الحجة ، فإن الاحتياط فيها موجب للمشقة الكثيرة فتدبّر.

قوله : فإن أريد بالاحتياط فيه الإفتاء لم ينفع إلخ (١).

يعني أنّ محذور كلا الشقين من الشق الثاني عين المحذور في الشق الأول ، وهو أنّ مورد الخبر من الشبهة الوجوبية التي لا يلزم فيها الاحتياط اتفاقا ، وأنّه في مقام التمكن من استعلام حال الواقعة فالاحتياط فيه غير واجب ، وما نحن فيه ليس مماثلا له.

قوله : لأنّه بمنزلة الأخ الذي هو لك (٢).

كأنه حمل المصنف قوله (عليه‌السلام) «أخوك دينك» على تشبيه الدين بالأخ بناء على كون «أخوك» خبرا مقدما عن دينك ، ولكنه خلاف الظاهر بل الظاهر أنّ الخبر بصدد التوصية على حفظ الأخ وأنه بمنزلة دين الشخص وتقديم الخبر خلاف الأصل ولا دليل عليه هنا ، ولا ينافي ما ذكرنا قوله فيما بعده «فاحتط لدينك» بتوهّم أنّه يفهم منه أنه بصدد التوصية بالدين ، لأنّ هذا نظير أن يقال : زيد أسد فاحفظ نفسك من الأسد يعني من زيد فتدبر.

قوله : وجه الدلالة أنّ الإمام (عليه‌السلام) أوجب طرح الشاذ (٣).

محصّله : أنه يستفاد من المقبولة وجوب ترك الشبهة أعني مشكوك الحرمة بقرائن أربع : الأولى : تعليل وجوب طرح الخبر الشاذ بتثليث الأمور والاستشهاد بتثليث النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ومن المعلوم أن الخبر الشاذ

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٧٩.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٨١.

(٣) فرائد الأصول ٢ : ٨٣.

١٤١

داخل في الأمر المشكل في الأول وفي الشبهات في الثاني ، وصحة التعليل والاستشهاد مبنيان على كون الأمر بترك الشبهة واجبا. الثانية : قوله (عليه‌السلام) «نجى من المحرمات» بناء على كون المراد المحرّمات الفعلية التي يترتب عليها العقاب. الثالثة : قوله (عليه‌السلام) «وقع في المحرمات» على البناء المذكور. الرابعة : قوله (عليه‌السلام) «وهلك من حيث لا يعلم» بناء على أنّ المراد من الهلاك هو العقاب كما هو الظاهر منه.

قوله : ودون هذا في الظهور النبوي المروي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في كلام طويل (١).

لأنّ وجه الظهور في وجوب ترك الشبهة فيه أمر واحد وهو ظهور الأمر في قوله (عليه‌السلام) «ردّه إلى الله ورسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله)» في الوجوب.

قوله : وكذا مرسلة الصدوق (٢).

الانصاف أنه لا ظهور للمرسلة في وجوب ترك الشبهة بنفسها ، بل ظاهرها الاستحباب كما سيجيء في المتن ، ولعل وجه حملها على الوجوب وكذا النبوي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) السابق أن قضية التثليث قضية واحدة قد رويت بطرق متعددة بعبارات متقاربة وقد علمنا أنّ ترك الشبهة فيها واجب بالقرائن المذكورة في المقبولة فهو كذلك في الباقي ، فالمقبولة قرينة على الباقي لظهور اتحاد القضية.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٨٣.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٨٣.

١٤٢

قوله : والجواب عنه ما ذكرنا سابقا من أنّ الأمر بالاجتناب عن الشبهة إرشادي (١).

يمكن أن يجاب بوجهين آخرين : أحدهما أن يقال بأنّ أدلة البراءة أعني الأدلة النقلية منها حاكمة على هذه الأخبار ، لأنّ مدلول هذه الأخبار ردّ حكم الشبهة إلى الله ورسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ولمّا رددنا حكمها إلى الله والرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بيّن لنا في الكتاب والسنّة أن الحكم البراءة.

وفيه أوّلا : أنّ المراد بالرد إلى الله والرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) تحصيل الحكم الواقعي الخاص على العنوان الخاص كحلّية شرب التتن أو حرمته لا حكمه من حيث كونه مشتبها. وثانيا : أنّ هذا الوجه لا يتم في المقبولة لأنّه أمر فيها في الظاهر بطرح الخبر الشاذ وبترك الشبهة فكيف يرجع في مورده إلى أدلة البراءة ويقال إنها حكم الله ورسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

وثانيهما : أن يقال إنّ المراد من قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «من ترك الشبهات نجى من المحرمات ومن ارتكب الشبهات وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم» الترغيب إلى الاحتياط الندبي وبيان بعض حكمه وهو أنّ من ترك الشبهة واحتاط فيها لشدة اعتنائه بما يكرهه الله لا يرتكب المحرمات المعلومة ، ومن ارتكب الشبهة لعدم مبالاته في الدين هان عليه ارتكاب المحرمات المعلومة ويتجرّى على ارتكابها ولا يبالي ، فالأمر بالاحتياط وترك الشبهة مقدمة لحكم وجوب ترك المحرمات المعلومة وإرشاد إليه ، فمحصّل مضمون الروايات على هذا يصير موافقا لقوله (عليه‌السلام) «والمعاصي حمى

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٨٤.

١٤٣

الله فمن يرتع حول الحمى يوشك أن يدخلها» (١) وقوله (عليه‌السلام) «فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له أترك» (٢) والأخبار بهذا المضمون كثيرة كأكثر الأخبار المذكورة في المتن في آخر المؤيّدات لما اختاره من الجواب.

وفيه : أن هذا الجواب في المقبولة غير صحيح ، إذ علل فيها طرح الخبر الشاذ الذي فيه الريب بأنّه من المشتبهات التي أمر بتركها ، ومن المعلوم أنّ ترك العمل بالخبر الشاذ وجهه ظهور عدم صدوره وكذبه لا أنّ العمل به يوجب التجرّي على المحرّمات المعلومة ، نعم هذا الجواب في باقي أخبار التثليث وجيه بل ظاهرها ذلك.

قوله : فتأمل (٣).

لعلّ وجهه أنّ الظاهر من الاستشهاد أنّ طرح الخبر الشاذ من صغريات الأمر المشتبه المطلوب الترك ، فيكون ترك الشبهة مطلقا واجبا لكي يصحّ التعليل ، لا أنّ الاستشهاد لأجل هذه المناسبة البعيدة عن الذهن ، ويحتمل أن يكون إشارة إلى منع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان في نفسه ، ولو سلّم يمنع من حكمه فيما إذا أخبر الشارع تنجّز الواقع المجهول على ما هو مفاد أخبار التثليث كما سبق تحقيقه غير مرّة ، لكنّ المظنون أنّ هذا الوجه غير مراد المتن بل لعلّه مقطوع به فتدبّر.

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٦١ / أبواب صفات القاضي ب ١٢ ح ٢٧.

(٢) المصدر السابق.

(٣) فرائد الأصول ٢ : ٨٤.

١٤٤

قوله : أحدها عموم الشبهات للشبهة الموضوعية التحريمية (١).

وكذا عمومها للشبهة الوجوبية ، فيجب التخصيص بالنسبة إليها أيضا حكمية وموضوعية ، لاتفاق الأخباريين على عدم وجوب الاحتياط فيهما ، فيزيد التخصيص والاستهجان.

فإن قلت : إنّ ظاهر قوله (عليه‌السلام) «حلال بيّن وحرام بيّن» أنّ الشبهات فيما بين ذلك هي الشبهة التحريمية ، لأنه لا يقال للواجب أنه حلال ولتركه أنّه حرام إلّا بتكلّف.

قلت : نعم لكن الواجبات الغيرية التي تدخل في الأحكام الوضعية يطلق عليها الحلال والحرام شايعا ، يقال يحلّ الصلاة في جلود ما يؤكل لحمه ووبره ويحرم الصلاة في كذا وهكذا ، فالشبهة في أمثالها داخلة في عموم لفظ الشبهات يجب تخصيصها ، إلّا أن يقال إنّ من يقول بالاحتياط في الشبهة البدوية يقول بالاحتياط في مثل الشبهة المذكورة بالأولى ولا يجب التخصيص عنده ، أو يقال إنّ الظاهر من الحلال والحرام الحلال والحرام النفسيين المستقلّين لا مثل ما ذكر.

وكيف كان ، قد يقال بمنع عموم الشبهات للشبهة الموضوعية كي يلزم التخصيص ، إذ الشبهات هي الأمر المشكل الذي يردّ علمه إلى الله ورسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، ومن المعلوم أنّ الشبهات الموضوعية لا يردّ علمها إلى الله ورسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، فهذا قرينة على أنّ المراد من الشبهات الشبهات الحكمية.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٨٥.

١٤٥

ويمكن دفعه بأنّ أصل الاستدلال بالفقرة الأخيرة أعني قوله (عليه‌السلام) «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) حلال بيّن» إلى آخره لا بقوله (عليه‌السلام) «وأمر مشكل يردّ علمه إلى الله ورسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله)» ولا ملازمة بين عموم الشبهات وعموم الأمر المشكل للشبهات الموضوعية ، فيجوز كون التثليث الأول مختصا بالشبهة الحكمية والتثليث الثاني الذي هو بمنزلة التعليل للأول أعمّ منها ومن الشبهة الموضوعية على ما هو شأن التعليل غالبا.

قوله : مع أنه إخراج لأكثر الأفراد (١).

قد يمنع كون ذلك من التخصيص الممنوع عنه لإمكان إخراج أكثر أفراد العام بعنوان واحد إذا كان الباقي تحت العام أنواعا متعدّدة ، فلا يعد ذلك من تخصيص الأكثر المستهجن.

وفيه : أنه إنما يتم فيما إذا كان عموم العام بحسب الأنواع لا في العام الأفرادي فإنّ تخصيص أكثر أفراده ولو بعنوان واحد قبيح ، ألا ترى أنه لو قيل أكلت كلّ رمانة في البستان إلّا الحامض منها ، وفرض أن ثلاثة أو أربعة من رمانات البستان غير حامض وفيه عدة آلاف رمانة حامضة ، يعدّ تخصيصا قبيحا.

قوله : فالاستدلال موقوف على إثبات كبرى (٢).

الانصاف أنّ هذه الكبرى تفهم من قوله (عليه‌السلام) «من ارتكب

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٨٥.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٨٥.

١٤٦

الشبهات وقع في المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم» (١) عرفا يعرف ذلك بملاحظة نظائره في الأمثلة العرفية.

قوله : قلت إن أريد من الأدلة ما يوجب العلم بالحكم الواقعي (٢).

يعني لو كان يحصل من الأدلة العلم التفصيلي بالمحرمات الواقعية انطبق المعلوم أوّلا بالعلم الإجمالي عليها قهرا على ما مرّ بيانه سابقا غير مرة ، لكن الأدلة التي بأيدينا لا يحصل منها العلم غالبا.

قوله : وليس الظن التفصيلي بحرمة جملة من الأفعال كالعلم التفصيلي بها (٣).

قد مرّ منا سابقا في مسألة حجية الظواهر من رسالة الظن عند تعرّض المصنف لنظير هذا الإشكال والجواب في ذاك المقام ، وأنّ حال الظن بعد قيام الدليل على اعتباره حال العلم التفصيلي في انطباق المعلوم بالإجمال أوّلا على المظنون ، لأنّه بعد حكم الشارع باعتبار الظن وأنّ مؤدّاه واقع لا بدّ أن ينطبق المعلوم بالإجمال عليه ، إذ لا يزيد العلم التفصيلي على أنّ المعلوم به واقع ، وهذا المعنى حاصل في الظن بعد حكم الشارع باعتباره ، فمؤدّاه واقع تنزيلي ، لكن بعد فرض هذا التنزيل فالانطباق قهري ، ألا ترى أنا بعد ما علمنا إجمالا بأن إحدى الصلاتين من الظهر والجمعة واجبة فإذا قام دليل ظني على وجوب خصوص الظهر مثلا فلا يشك أحد في سقوط التكليف المعلوم بالإتيان بالظهر وعدم وجوب الاحتياط بالجمع بينه وبين الجمعة ، وليس ذلك إلّا من باب

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٥٧ / أبواب صفات القاضي ب ١٢ ح ٩ (مع اختلاف يسير).

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٨٨.

(٣) فرائد الأصول ٢ : ٨٨.

١٤٧

الانطباق القهري فتدبّر. نعم لو كان حجية الأمارات من حيث الموضوعية لا من حيث الطريقية إلى الواقع كان كما ذكره المستدل من عدم الانطباق ، إذ يكون حينئذ معنى حجية الأمارة ترتيب آثار الواقع على مؤداها وإن تخلّف عن الواقع ، وهذا بخلاف ما إذا كان اعتبارها من حيث الطريقية فإنّ معنى حجيتها جعل مؤدّاها واقعا وإلغاء احتمال خلافه ، وحينئذ لا مناص من انطباق المعلوم الإجمالي على موارد الأمارات لأنّها محرمات واقعية بحكم الشارع ، والمعلوم بالإجمال لم يكن إلّا محرّمات واقعية.

ثم لا فرق فيما ذكرنا من الانطباق القهري بين ما إذا كان الزائد على المقدار المعلوم بالإجمال كالعشرة مثلا منفيا بالعلم كمثال الظهر والجمعة الذي تقدم شاهدا على المطلب أو كان منفيا بالأصل كمسألة ما نحن فيه حيث نحتمل وجود محرمات أخرى زائدة على المعلومات بالإجمال ، ولا يتوهم في القسم الثاني أنّ الانطباق مشكوك ، إذ لعلّ ما وجدنا من المحرمات أو بعضها هي المحرمات المحتملة لا المعلومة بالإجمال ، لاندفاعه بأنّه لا يعقل عدم الانطباق على المحرمات المعلومة ، لأنّ المفروض أنّ المحرمات المعلومة بالإجمال لا علامة لها في ظرف العلم ولا خصوصية مميّزة حتى يصح أن يقال إنّ ما وجدنا لعلّه غيرها ، وهذا بعينه كمفهوم النكرة فلو قال مثلا : جئني برجل ، فإن أتيت بزيد امتثالا فلا يعقل أن يكون ما أراده منك غير ما أتيت به ، ولا يمكن أن يقال لعلّ الرجل الذي أراده منك غير زيد بل ينطبق على زيد قهرا فهو عين ما أراده منك ، وبالجملة بعد الانطباق المذكور فالزائد على المقدار المعلوم منفي بالأصل أوّلا قبل مراجعة الأدلة ، وأثر إجراء الأصل بالنسبة إلى الزائد يظهر بعد مراجعة الأدلة والظفر بالمحرمات على مقدار المعلوم فإنّه لا يجب الاحتياط في المشكوكات الباقية ، وكذا تظهر الثمرة فيما لو عصى وارتكب المحتملات

١٤٨

بأجمعها فإنه لا يعاقب على أزيد عن المقدار المعلوم وإن كان المحرّم في الواقع زائدا على المتيقن ، وإن ضايقت عن صحة إجراء الأصل قبل مراجعة الأدلة وقلت إنّ مورد إجراء الأصل لا يكون إلّا أمرا معيّنا في الخارج كهذا الفعل وذاك الفعل لا العنوان الكلي كالزائد على المقدار المعلوم ، نقول لا شك في أنه يصح إجراء الأصل بعد المراجعة إلى الأدلة وتحصيل مقدار المعلوم منها ، فيقال في كلّ من المشكوكات الباقية واحدا واحدا الأصل البراءة منها ، وهذا لا شبهة فيه.

قوله : والجواب أوّلا : منع تعلّق تكليف غير القادر (١).

قد أجاب الماتن في مسألة حجية الظواهر عن الإشكال بوجه آخر غير الجوابين المذكورين هاهنا ، وهو أنّ أطراف المعلوم بالإجمال منحصرة في مؤديات الطرق ، والشك في غيرها من الشبهة البدوية ، فلا يجب الاحتياط في غير مورد الأمارات.

فإن قلت : إنا نجد قبل مراجعة الأدلة والالتفات إليها العلم الإجمالي المذكور بوجود محرّمات كثيرة في الشريعة أعمّ من موارد الأدلة وغيرها.

قلت : نعم ولكن ذلك من جهة اختلاط أطراف العلم الإجمالي بغيرها من الشبهات البدوية ، وبعد مراجعة الأدلة يمتاز أطراف الشبهة عن غيرها من الشبهات البدوية ، وذلك نظير ما لو كان هناك قطيع غنم بعضها أسود وبعضها أبيض وقد علمنا بوجود شياه محرّمة في الطائفة السود بخصوصها لكن اختلط السود بالبيض في ليلة ظلماء ، فيتخيّل حينئذ أن مجموع القطيع من أطراف العلم الإجمالي سودها وبيضها ، وليس كذلك بل أطرافه منحصرة في السود ، والشبهة

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٨٩.

١٤٩

في البيض بدوية ، ويعرف ذلك بالعرض على ما سبق من ميزان تميز أطراف الشبهة عن غيرها وهو أنّ كل ما يرتفع أو ينقص العلم الإجمالي بعزله وإسقاطه من بين المشتبهات فهو من أطراف العلم وإلّا فالشبهة فيه بدوية ، لكنّ الانصاف عدم تمامية هذا الجواب لأنّ وجداننا لا يساعد على ذلك ، بل نجد أنّ العلم الإجمالي بوجود المحرّمات سار في غير مؤدّيات الأدلة أيضا بعين الميزان المذكور فتدبّر ، هذا.

وكيف كان ، ما ذكر المصنف في الجواب هنا أوّلا ، فيه أوّلا : أنه يرجع إلى أنّ التكليف متعلّق بالواقع مقيدا بتأدية الطرق له ، وهو خلاف مختاره ، وقد أورد على هذه الطريقة ردّا على صاحب الفصول في رسالة الظن بما لا مزيد عليه. وثانيا : سلّمنا ذلك ولكن العلم الإجمالي الذي حصل قبل المراجعة إلى الأدلة طريق يحصل الشرط المذكور به ، ولذا يحكم بوجوب الاحتياط لو لم يحصل العلم ولا الظن المعتبر بالمحرّمات الواقعية ، وإخراج العلم الإجمالي من بين الطرق وتقييد الواقع بغيره من الطرق في تعلّق التكليف كما ترى.

قوله : وثانيا : سلّمنا التكليف الفعلي بالمحرمات الواقعية (١).

لا يخفى أن هذا الجواب لا يتّحد مع الجواب الأول الذي اخترناه كما يتوهّم أو توهم ، لأنّ مبنى الجواب السابق على أنّ المعلوم بالإجمال هو مؤدّى الأمارة بعينه للانطباق القهري على ما مرّ ، وهذا الجواب مبني على كون بعض الأطراف معلوم التكليف أو مظنونه بالأمارة المعتبرة من جهة أخرى غير جهة التكليف المعلوم بالإجمال.

وكيف كان ، فيه أولا : أنّ ما ذكره في حكم الشبهة المحصورة في مثل ما

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٨٩.

١٥٠

نحن فيه مما كان بعض الأطراف معلوم التكليف وأنّ العلم الإجمالي فيه لا يؤثّر وجوب الاحتياط في غيره من الأطراف بل يعمل بالأصل الموجود فيه ، لو سلّم فإنّما يسلّم فيما لو حصل العلم الإجمالي بعد العلم التفصيلي بثبوت التكليف في بعض الأطراف كما إذا علم إجمالا بوقوع قطرة من البول في أحد الإناءين اللذين أحدهما المعيّن بول والآخر ماء ، فيقال إنا لم نعلم بحدوث تكليف آخر لنا من جهة هذا العلم الإجمالي ، وأما في صورة العكس فلا وجه لسقوط حكم العلم الإجمالي بعد تنجّزه بالعلم بحكم بعض الأطراف من جهة أخرى ، ولا ريب أنّ ما نحن فيه من قبيل الثاني.

وثانيا : أنّ ما ذكره لو تم فإنّما يتم فيما لو كان عنوان المكلف به المعلوم بالإجمال والمعلوم بالتفصيل متحدا كالنجاسة في المثال المذكور في المتن ، وأما إذا كان العنوانان مختلفين كما إذا علم بأنّ أحد الإناءين خمر ثم وقع قذر في أحدهما المعيّن فلا ريب أنه لا يسقط بذلك حكم الخمر المعلوم بالإجمال ، لأنّ خطاب لا تشرب الخمر كان متوجّها بالفرض وتوجّه أيضا خطاب اجتنب عن النجس فوجب موافقتهما جميعا ولا يكون إلّا بمراعاة الاحتياط ، ولا وجه لسقوط خطاب اجتنب عن الخمر بتوجّه خطاب اجتنب عن النجس ، بل لو كان خطاب اجتنب عن النجس متوجها أوّلا بالنسبة إلى الواحد المعيّن لم يمنع ذلك من توجّه خطاب اجتنب عن الخمر كما لا يخفى.

وثالثا : أن ما أشار إليه إجمالا هنا بقوله : فأصالة الحل في البعض الآخر غير معارضة بالمثل إلى آخره ، وتفصيلا في مبحث الشبهة المحصورة من أنّ وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة لأجل تعارض الأصول الجارية في كل واحد من الأطراف حتى لو فرض عدم تعارضها بأن كان الأصل في بعض الأطراف موافقا للاحتياط ، أو كان بعض الأطراف غير جار فيه أصل

١٥١

من الأصول ، لم يجب الاحتياط بل يعمل بالأصل الجاري ، في محلّ المنع ، لأنّ التحقيق كما حقّقه المصنف أيضا في غير موضع أنّ السر في لزوم الاحتياط هو العلم الإجمالي بالتكليف بضميمة حكم العقل ، وهذا هو العلّة التامة للزوم الاحتياط سواء كان هناك أصل موافق أو مخالف في الأطراف أو بعضها أو لم يكن أصل أصلا.

ورابعا : سلمنا أن وجه لزوم الاحتياط تعارض الأصول في الأطراف ، لكنّ التعارض موجود فيما نحن فيه إذا كان عنوان المعلوم بالإجمال مغايرا لعنوان المعلوم بالتفصيل كما في المثال السابق فإنّ أصالة عدم الخمرية في أحد الإناءين معارضة بأصالة عدم خمرية الآخر ، ولا ينافي ذلك العلم بوقوع قذرة في أحدهما المعيّن ، فإنّ ذلك لا يجعله خمرا ولا يوجب تعلّق تكليف اجتنب عن الخمر به بالخصوص كما لا يخفى ، نعم أصالة عدم النجاسة غير جارية فيه ، ولا منافاة بين عدم جريان الأصل من جهة وجريانه من جهة أخرى.

فتحصّل من جميع ما ذكر أنّ التحقيق في الجواب عن الدليل هو الجواب الأول وهو الانطباق القهري ، ويمكن دعوى صحّة الجواب الثاني أيضا وهو دعوى انحصار أطراف العلم الإجمالي في موارد الأمارات بتقريب أن سبب حصول هذا العلم الإجمالي غالبا وجود هذه الأمارات ، فأطراف العلم لا تتعدى مواردها غالبا ، فبحسب الميزان المذكور يدعى أنّه لو عزلنا المشكوكات التي هي غير مورد الأمارات لا يتفاوت العلم الإجمالي زوالا أو قلة ، ويؤيد هذا الوجه أيضا أن العلم الإجمالي المتعلّق بمحرمات كثيرة في الشرع وإن كان ثابتا لكن العلم بوجود محرّمات متعلّقة بتكليف شخص العالم من حيث كونه رجلا أو امرأة غنيا أو فقيرا حاضرا أو مسافرا وهكذا ليس بهذه الكثرة البتة ، ومن المعلوم أنّ العلم بتكليف غيره لا يوجب عليه احتياطا ، فيمكن دعوى أنّ كل

١٥٢

مكلف بالنسبة إلى تكليف نفسه لا يكون المشكوكات في غير موارد الأمارات من أطراف علمه الإجمالي (١).

قوله : الوجه الثاني أنّ الأصل في الأفعال غير الضرورية الحظر (٢).

استدل لهذا الأصل بوجهين أحدهما : ما أشار إليه وإلى جوابه في المتن وهو حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل. وثانيهما : أنّ الفعل غير الضروري لا مثل التنفّس في الهواء وأكل ما يسدّ به الرمق تصرّف في مال الغير يعني به الباري تعالى عزّ اسمه من غير علم بإذنه ، والعقل يستقلّ بقبح هذا التصرف.

وفيه : ما لا يخفى ، لأنّ التصرّف في مال من هو غني على الإطلاق وكريم على الإطلاق مستجمع لجميع الكمالات منزّه عن جميع النقائص لا يحكم عقولنا بقبحه لو لم نقل بحكم العقل بجوازه والعلم برضا مالكه.

__________________

(١) أقول : الدعوى المذكورة مع التأييد المزبور عهدتهما على مدّعيهما ، فإنّ هذه الدعوى تصح ممن عيّن مقدار معلومه الإجمالي تحقيقا وعيّن موارد الأمارات من بين المشكوكات ووازن بينهما وعيّن بالميزان المذكور أنّ ما عدا مورد الأمارات خارجة عن أطراف ذلك العلم الإجمالي ، ولا أظن أحدا يحصل له هذه الإحاطة بمقدار معلوماته الإجمالية واستحضار جميع موارد الأمارات وغيرها من المشكوكات في جميع الفقه والموازنة والمقايسة حتى يعيّن أطراف علمه في خصوص موارد الأمارات فتدبر. ثم لا يخفى أنّ الدليل العقلي المذكور لو تم كان مقدّما على جميع أدلة البراءة عقلها ونقلها ووجهه واضح ، لأنّ المسألة حينئذ من جزئيات مسألة الشبهة المحصورة ، فكل من يقول بالاحتياط فيها يقول بمحكومية أدلة البراءة بالنسبة إلى دليل الاحتياط في الشبهة المحصورة بالبيان المذكور في محلّه.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٩٠.

١٥٣

قوله : لكونه من باب الشبهة الموضوعية (١).

قد يقال إنّ كونه من باب الشبهة الموضوعية مبنيّ على كون المحرّم العقلي ارتكاب الضرر ، لكنّا ندعي أن العقل يحكم بقبح ارتكاب محتمل الضرر ، فاحتمال الضرر هو موضوع حكمه وهو متحقق لا نفس الضرر حتى يكون الشك في تحققه.

وقد يجاب بأنّ حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل مسلّم لكن إرشادا ، إذ لا قبح في ارتكابه إلّا من جهة أدائه أحيانا إلى الوقوع في نفس الضرر ، فرجع الأمر إلى أنّ القبيح والمحرّم الواقعي ارتكاب نفس المضرّ ، فعاد محتمل الضرر إلى كونه شبهة موضوعية.

والتحقيق أن يقال : إنّ هذا الوجوب الإرشادي كاف في المطلوب من وجوب الاحتياط ، وما ذكره في المتن من أنّ الشبهة الموضوعية لا يجب الاجتناب عنها باتفاق الأخباريين ، فيه أنّ عدم وجوب الاجتناب عن مثل هذه الشبهة الموضوعية أول الكلام عند الأخباريين أيضا ، بل القدر المسلّم من مورده هو الأحكام الشرعية التعبدية كشرب الخمر مثلا ، لأنّ العقاب فيه ليس دائرا مدار الخمر الواقعي حتى يكون احتمال كونه شرب الخمر مساوقا لاحتمال العقاب ، بل حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان يدفع احتمال العقاب ، وأما فيما نحن فيه فقد فرضت أنّ عنوان المضرّ واجب التحرز فاحتمال الضرر مساوق لاحتمال وجوب التحرّز واحتمال حرمة الارتكاب ، فتحقق موضوع حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل بمعنى العقاب ، وهذا بخلاف سائر الشبهات الموضوعية في الأحكام الشرعية ، إذ احتمال الحرمة الواقعية فيها لا

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٩١.

١٥٤

يستلزم احتمال العقاب كما مرّ بيانه.

وأيضا يرد على الجواب المذكور في المتن : أنّه لم يستوف أقسام محتمل الضرر ، لأنّ الضرر المحتمل إما عقاب أخروي أو ضرر دنيوي وهما مذكوران في المتن ، وإمّا مفسدة أخروية غير العقاب ، والمصنف تعرّض للاحتمالين الأولين وبقي الثالث فلا يجري فيه حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، إذ المفروض أنّ الضرر المحتمل غير العقاب وليست الشبهة موضوعية ، فباعتبار هذا الاحتمال نحكم بوجوب الاحتياط ، اللهمّ إلّا أن يقال إنّ العقل كما هو حاكم بقبح العقاب بلا بيان يحكم بعدم ترتّب المفسدة الأخروية مطلقا أيضا بلا بيان ، لأنّ ما لا طريق للعقل إلى التوصّل به وكان بيانه من وظيفة الشارع يجب على الله تعالى بيانه ، فلو لم يبيّن ذلك كشف عن عدم ترتّب المفسدة الواقعية لو كانت من غير تدارك من الشارع ، وهذا بعينه وجه جعل الأصول والأمارات المحتملة لتخلّفها عن الواقع ، وقد مرّ في محلّه بيان ذلك مستوفى فراجع.

ثم لا يخفى أن كلمات الماتن في حكم العقل بوجوب دفع الضرر مختلفة مضطربة ، فيظهر من كلامه هاهنا منع ذلك بالنسبة إلى الضرر الدنيوي بل منعه في الضرر المقطوع الدنيوي أيضا ، ويظهر مما ذكره في ذيل الدليل العقلي على حجية مطلق الظن في السابق الجزم بحكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل فضلا عن المظنون أو المقطوع ، بل يظهر مما ذكره في ذيل الدليل العقلي على البراءة أنّ محتمل الضرر محرّم الارتكاب من باب الموضوعية حتى فيما إذا لم يصادف الحرام الواقعي ، لكن على فرض تسليم حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل ، إلّا أنه لم يعترف هناك بحكم العقل بل أرسله على ضرب من التردد ، ويظهر مما ذكره في ذيل مسألة الشبهة الموضوعية التحريمية كما سيجيء أنّ الانصاف يقتضي أن يقال إنّ العقل حاكم بوجوب دفع الضرر المحتمل الدنيوي ،

١٥٥

لكن الشارع قد رخّص لنا عدم التحرّز عنه كما رخّص بل أمر بالإقدام على المضار المعلومة كتعريض النفس للجهاد ونحوه لمصلحة وحكمة غالبة كالمثوبات الأخروية ، ثم ذكر وجها آخر لوجوب دفع الضرر المحتمل شرعا وهو أنّ الضرر المظنون دفعه واجب جزما بحكم العقل فيجب شرعا بقاعدة الملازمة ، ولم يفرّق أحد بين الضرر المظنون بالظن غير المعتبر والضرر المحتمل ، فيجب دفع الضرر المحتمل بالاحتياط لعدم القول بالفصل.

والتحقيق أن يقال : إنّ العقل حاكم بوجوب دفع الضرر المحتمل وإن كان دنيويا ، لكن حكمه هذا بالوجوب إرشادي لا يترتب على مخالفته سوى الوقوع في ذلك الضرر لو صادفه الاحتمال لا الوجوب الذي يترتب على مخالفته العقاب ، وبيان ذلك أنّ حكم العقل على قسمين : قسم يحكم بالوجوب أو الحرمة بحيث يترتب على مخالفته استحقاق الذم والعقاب كحكمه بقبح الظلم وحرمته ، وقسم يحكم بالوجوب لكن لا بحيث يترتب على مخالفته شيء سوى الوقوع في الضرر الذي أقدم المكلف عليه كحكمه بوجوب التحرّز عن العقاب الأخروي فإنّه لا يترتب على مخالفته إلّا الوقوع في ذلك العقاب الذي لم يتحرّز عنه ولا يستحق على هذه المخالفة عقابا آخر من جهة هذا الوجوب العقلي وإلّا تسلسل.

فنقول : إنّ حكم العقل بوجوب دفع المضار الدنيوية من قبيل الثاني ، فلا يستلزم حكما شرعيا بالوجوب بحيث يكون على مخالفته عقاب أخروي كما هو المطلوب هنا بوجوب الاحتياط كما يدّعيه الأخباري (١).

__________________

(١) أقول : الانصاف أنّ العقل يحكم بقبح تعريض النفس للضرر بحيث يلام عليه ويستحق الذم الأكيد ويعدّ عند العقلاء سفيها أو متسفّها ، فهو نظير الظلم المتسالم عليه بقبحه وحرمته فليتأمل.

١٥٦

ثم لو فرض تشبث الخصم أعني الأخباري بالأدلة الشرعية على وجوب دفع الضرر المظنون بل المحتمل الدنيوي مثل قوله تعالى (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(١) أو الإجماع المدعى أو نحو ذلك ، ويثبت بذلك وجوب الاحتياط بالدليل الشرعي ، أمكن أن يجاب عنه مضافا إلى منع دلالة الأدلة المذكورة على عموم وجوب التحرّز عن احتمال المضار الدنيوية ، بأنّ الضرر الدنيوي لو كان مظنونا أو محتملا في نفسه مع قطع النظر عن احتمال الحرمة التعبدية نقول بوجوب التحرز عنه كاحتمال كون هذا المائع سمّا قاتلا مثلا ، ولا يمنع ذلك من إجراء أصالة البراءة في غيره من المشتبهات ، وإن كان احتمال الضرر الدنيوي من جهة احتمال الحرمة التابعة للمفسدة النفس الأمرية بناء على مذاق العدلية من أنّ الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد النفس الأمرية ، نمنع هذا الاحتمال في أغلب الموارد فإنّ المحرّمات المعلومة في الأغلب نعلم بعدم اشتمالها على المضرة الدنيوية ، مثلا نعلم أنّ ألف كرّ من الجلّاب لو لاقاه رأس إبرة من النجاسة سيّما النجاسة الحكمية لا يحدث به مضرة دنيوية موجبة لوجوب الاجتناب عن جميعها ، ألا ترى أن الكفار والمنافقين والعصاة من المؤمنين وهم أغلب الناس لا يصيبهم المضار الدنيوية بارتكاب المحرمات أزيد من المؤمنين المجتنبين عن المحرمات ، هذا ثم لا يخفى أنّ الدليل العقلي المذكور بهذا التقرير لو تمّ لا يعارض أدلة البراءة لو تمّت كما هو كذلك ، لأنّه أصل عند عدم الدليل على البراءة وهو واضح.

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٩٥.

١٥٧

قوله : وذكر في المعارج على ما حكي عنه (١).

لم يظهر لي بعد وجه توهم استفادة التفصيل بين ما يعمّ به البلوى وغيره من كلام المعارج بوجه.

قوله : أقول المراد بالدليل المصحح للتكليف (٢).

حاصله : أنّ الدليل على البراءة إن كان هو حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان فلا يتفاوت الأمر بين عامّ البلوى وغيره ، إذ مناطه عدم وصول البيان بأيّ وجه كان ، وإن كان هو الأخبار فكذلك أيضا ، لأنّ موضوع حكم البراءة فيها هو عدم العلم والجهل بالواقع وهذا المعنى مشترك بين القسمين ، نعم لو قيل بأنّ دليلها الإجماع فلا يبعد أن يقال إنه دليل لبّي والقدر المتيقن منه هو فيما يعمّ به البلوى.

أقول : لا يخفى أنه بناء على ما مرّ منّا في تحقيق حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان لا بدّ من الفرق بين القسمين ، لأنّ عدم وجدان الدليل فيما يعمّ به البلوى مما يعلم به عدم البيان واقعا ومع فرض عدم المانع عن البيان لا شك أنّ العقل يحكم بقبح العقاب على الواقع المجهول ، وأما في غير ما يعمّ به البلوى فعدم وصول البيان فيه لا يكشف عن عدم البيان واقعا ولعلّه بيّن واختفى فلا يحكم العقل بقبح العقاب على الواقع ، كما أنّه فيما يعمّ به البلوى أيضا لو احتمل مانع عن البيان من تقيّة ونحوها لا حكم للعقل بقبح العقاب على ما مرّ بيانه في أول المسألة.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٩٤.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٩٥.

١٥٨

قوله : ومن هنا يعلم أنّ تغاير القسمين الأولين من الاستصحاب باعتبار كيفية الاستدلال (١).

الانصاف أنّ التغاير ليس بهذا الاعتبار بل باعتبار أنّ القسم الأول منهما هو أصالة البراءة المصطلحة عندنا المتكفّلة لحكم العمل من غير نظر إلى الواقع ، وأما القسم الثاني وهو عدم الدليل دليل العدم فهو ناظر إلى الحكم الواقعي ، وقوله : وهذا يصحّ فيما يعلم أنه لو كان هنا دليل لظفر به أما لا مع ذلك فيجب التوقف إلى آخره ، كالصريح في ذلك ، لأنّ التوقف لا يعقل في الحكم الظاهري في مقام العمل ، وحينئذ فما فهمه المحدّث من كلامه من الفرق بين ما يعمّ به البلوى وغيره في محلّه ، لكن لا في مورد أصالة البراءة المصطلحة ، وكيف كان لا تخلو عبارة المحقق عن الاختلاط ، ولعله أشار في القسم الثاني إلى اعتبار أصالة البراءة من باب الظنّ بالواقع أيضا فليتأمل ، فإن جعله من أقسام الاستصحاب غير مناسب كما لا يخفى.

قوله : وهل الأوامر الشرعية للاستحباب فيثاب عليه إلخ (٢).

وبعبارة أخرى هل هي نفسية بدعوى أنّ كون الاحتياط موجبا لإدراك الواقع حكمة ومصلحة تقتضي حسن الفعل أو الترك نفسا حتى في صورة عدم إدراك الواقع به لمكان أنّه في معرض إدراك الواقع ، أو غيرية ليس فيها سوى مصلحة الواقع لو صادفته. وبعبارة أخرى هل هي إرشادية أو مولوية. وبعبارة أخرى هل للاحتياط موضوعية من حيث عنوانه أو ليس فيه سوى الطريقية إلى إدراك الواقع.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٩٧.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ١٠١.

١٥٩

ثم على تقدير الموضوعية وأنه مطلوب نفسي في عرض الواقع الأولي هل يثبت به عنوان الواقع الأولي أو يحكم بمطلوبيته بدون ذلك العنوان ، مثلا لو احتاط بإعادة صلاته لاحتمال خلل في الصلاة التي صلّاها وقلنا بأنّ هذا الاحتياط مأمور به بأمر نفسي يثاب عليه فهل يحرز به عنوان الصلاة حتى يجوز الاقتداء به نظير الصلاة المعادة ، أو لا يثبت إلّا مطلوبية هذه الأفعال التي هي في صورة الصلاة ، وكونها صلاة دائر مدار الواقع فلا يجوز الاقتداء به لعدم العلم بأنّها صلاة كما في صورة الإرشادية؟ وجهان يأتي تحقيقه إن شاء الله.

ثم إنّه قد يكون كيفية الأمر المتعلّق بالاحتياط لإدراك المطلوب الواقعي الأولي موافقة للأمر المتعلّق بذلك المطلوب في الوجوب والندب كما في الشبهة المحصورة في مثل الظهر والجمعة أو الإناءين المشتبهين ، فإنّ المطلوب الأوّلي على نحو الإلزام وكذا الأمر بالاحتياط فيها ، وقد تكون مخالفة له كما فيما نحن فيه فإنّ طلب ترك شرب التتن على تقدير تحققه في الواقع إلزامي والأمر المتعلق بالاحتياط فيه ندبيّ ، فليكن ذلك على ذكر منك لعله يتفاوت به بعض المقامات الآتية.

ثم على تقدير كون أوامر الاحتياط إرشادية يقع الإشكال في أنّ المرشد إليه ما هو ، فإن كان العقاب أو المفسدة الأخروية غير العقاب فكلّ منهما مأمون منه بحكم العقل بالفرض ، وإن كان المفسدة الدنيوية فيلزم عدم رجحان الاحتياط عند عدم احتمال المفسدة الدنيوية كما هو الغالب.

قوله : من ظاهر الأمر بعد فرض عدم إرادة الوجوب (١).

وذلك لما تقرر في محلّه من أنّ الأمر سواء كان وجوبيا أو ندبيا ظاهر في

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ١٠١.

١٦٠