حاشية فرائد الأصول - ج ٢

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-089-6
الصفحات: ٥٩٤
الجزء ٢ الجزء ٣

قوله : ويمكن أن يستدل على عدم سقوط المشروط بتعذر شرطه برواية عبد الأعلى (١).

قد مرّ سابقا منع استفادة بقاء الأمر بالمركب عند تعذّر شرطه من الرواية ، وأنّ غاية ما يستفاد منها سقوط المعسور وما فيه الحرج دفعا لتوهّم السائل وجوب المسح على البشرة بنزع المرارة فكأنه قال (عليه‌السلام) لا يجب نزع المرارة والمسح على البشرة لأنّه حرج مرفوع بحكم الكتاب ثم أنشأ امسح عليه ، وبه يعلم بقاء الأمر بالوضوء بتمام ما يعتبر فيه ما سوى مباشرة الماسح للممسوح ، نعم لا بأس بالتشبّث بهذه الرواية وأشباهها من أخبار الجبائر في الوضوء والغسل وأمثالها في مقام التأييد لقاعدة الميسور وأنها جارية في الشرائط والتصريح بها في هذه الموارد لأنّها من صغرياتها ، ولعله لذلك قيل أو احتمل أنّ القاعدة ثابتة بالاستقراء أو يشهد بها الاستقراء ، فتأمل.

بقي شيء : وهو أنه قد استشكل على الرواية بأنّ كون أحد أصابع الرجل مغطّى بالمرارة لا يوجب سقوط مباشرة الماسح للممسوح في المسح لإمكان المسح مباشرة على بقية الأصابع ، اللهمّ إلّا على تقدير وجوب المسح على تمام الأصابع وتمام ظهر الرجل ولا نقول بذلك ، وما قيل من أنه يحتمل أن يكون قد انقطع جميع أظفاره بعيد في الغاية ، فالرواية غير مفهومة المراد. ويمكن دفع الإشكال بأنه يحتمل قريبا أنه جعل المرارة على جميع الأصابع لإصلاح الجرح وإن كان الجرح مختصا ببعض الأصابع ، مع أنّ احتمال جراحة جميع الأصابع بالعثرة ليس كل البعيد.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٣٩٧.

٤٦١

قوله : فرعان (١).

هنا فرعان آخران متعلّقان بقاعدة الميسور لا بأس بالإشارة إليهما ، الأول : أنّ القاعدة إنما تجري بالنسبة إلى الأجزاء أو الشرائط الثابتة للمأمور به بالأوامر المولوية نفسية كانت كأوامر الصلاة والزكاة والحج أو غيرية كأوامر الوضوء والغسل والتيمم ، وأما جريانها في غيرها بالنسبة إلى الأحكام الوضعية ففيه إشكال بل منع وإن ورد في موردها أوامر إرشادية ، مثلا لو تعذّر أو تعسّر غسل البول مرّتين لتحصيل الطهارة وأمكن الغسل مرة ، لا يمكن الحكم بحصول الطهارة بالغسل مرة بقاعدة الميسور ، وكذا لو تعذّر التعفير في الإناء الذي ولغ فيه الكلب لا يمكن الاكتفاء بالغسلات الباقية بالماء في حصول الطهارة ، نعم لو قيل بأنّ كل غسلة توجب خفة النجاسة ومرتبة من مراتب الطهارة لا يبعد القول بوجوب تحصيلها لما يشترط فيه الطهارة إذا انحصر الأمر فيه ، وهذا بخلاف ما لو كان جميع البدن أو الثوب نجسا يمكن تطهير بعضه فإنه يمكن إثبات وجوب تطهيره بقاعدة الميسور ، وكذا إذا تعذّر ذبح الحيوان مع جميع ما يعتبر في التذكية من فري الأوداج الأربعة بآلة الحديد مقرونا بالتسمية مستقبل القبلة لا يحكم بحلّية الذبيحة مع فقد بعض تلك الامور مستندا إلى قاعدة الميسور ، وثبوت الحلّية بفقدان بعض ما يعتبر في التذكية في حال الضرورة بالنص أو الإجماع لا ننكره ، وإنما الكلام فيما يمكن إثباته بقاعدة الميسور ، ووجه ما ذكر أنّ أخبار القاعدة بأجمعها ظاهرة فيما كان المركب موردا للتكليف ، أما قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «إذا أمرتكم بشيء فاتوا منه ما استطعتم» (٢) فظاهر ، وأما

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٣٩٨.

(٢) عوالي اللآلي ٤ : ٤٨ الحديث ٢٠٦.

٤٦٢

قوله (عليه‌السلام) «الميسور لا يسقط بالمعسور» (١) فلظهور لا يسقط في سقوط التكليف ، وكذا قوله (عليه‌السلام) «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» (٢) فإنّ الظاهر من قوله (عليه‌السلام) «لا يترك» ثبوت التكليف بإتيان البقية المستلزم لثبوت التكليف بالكل أوّلا ، وهذا واضح لمن تدبّر.

الثاني : أنّ قاعدة الميسور هل هي مختصة بالتكاليف الإلهية والمجعولات الشرعية أم تجري في المجعولات الخلقية أيضا كما إذا وجب مركّب بالنذر وأخويه أو بالشرط ، وتعذّر بعض أجزائه؟ وجهان مبنيان على أنّ أخبار الميسور تكون مخصصة لعموم دليل الجزء ومقيّدة لإطلاقه ، ولازم ذلك أنها تكون كاشفة عن أنّ الشارع الجاعل جعل جزئية هذا الجزء المتعسّر مختصة بحال التمكن فقط وفي غير تلك الحالة جعل الواجب المركّب الخالي عن هذا الجزء ، أو تكون دالا على جعل جديد للمركّب الناقص عند تعذّر المركب التام أو تعسّره ، فإن قلنا بالثاني تجري القاعدة في النذر وشبهه أيضا ، لأنّ مفاد الأخبار على هذا أنّ كل واجب مركب تعذر إتيانه بتمام أجزائه وأمكن إتيان بعض أجزائه جعل القدر الممكن منه واجبا مستقلا في تلك الحالة فيعمّ مثل المنذور أيضا.

وإن قلنا بالأول كما هو الظاهر من الأخبار وقد عرفته فيما سبق فلا وجه لشمولها لمثل المنذور ، إذ لا يمكن أن يقال إنّ الأخبار مخصّصة لعموم جزئية الجزء وكاشفة عن كون جزئية الجزء مختصا بحال التمكن ، لأنّ جاعل الجزء إنما هو الناذر والشارط وهو يعلم من نفسه أنه لم يجعل الجزء جزءا في حال

__________________

(١) نفس المصدر الحديث ٢٠٥.

(٢) نفس المصدر الحديث ٢٠٧.

٤٦٣

التمكن فقط بل لم يتعقّل سوى إيجاب تمام المركب على نفسه بجعل واحد والشارع أمضى ذلك وأوجب الوفاء على طبق جعله ، فلا يعقل أن يقول الشارع للناذر إنّك جعلت وجوب المركب بتمامه عند تمكّنك منه وجعلت أيضا وجوب البقية عند تعذّر بعض أجزائه ، ونظير ذلك في الجملة ما لو نذر مثلا أن يقرأ القرآن مع الوضوء فتعذّر الوضوء فلا يصحّ أن يحكم بوجوب القراءة مع التيمم بعموم أدلة بدلية التيمم عن الوضوء ، لأنّ بدلية التيمم إنما هي فيما كان الوضوء شرطا بجعل الشارع في مثل قوله (عليه‌السلام) «لا صلاة إلّا بطهور» (١) بحيث يتحصّل منه ومن دليل بدلية التيمم أنه لا صلاة إلّا بوضوء عند التمكّن منه وبالتيمم عند تعذّره ، ولا يقتضي دليل بدلية التيمم جعل الشرط أحد الأمرين من الوضوء والتيمم عند الناذر.

قوله : الأول لو دار الأمر بين ترك الجزء وترك الشرط (٢).

الأولى تعميم العنوان بأن يقال لو دار الأمر بين ترك جزء وترك جزء آخر أو بين ترك شرط وشرط آخر أو بين ترك جزء وترك شرط ، وأمثلة الأقسام كثيرة في الشرع معنونة في كلام الفقهاء : منها ما إذا دار الأمر بين ترك القراءة في الصلاة وترك ذكر الركوع أو السجود مثلا ، وما لو دار الأمر بين ترك القيام في أول الصلاة أو في آخرها ، وأول الركعة أو آخرها ، قالوا بوجوب مراعاة الجزء أو الشرط في أول الصلاة حتى يحصل العجز منه فيسقط. ومنها : ما لو وجد الماء لأحد أغسال الميّت الثلاثة فيجب صرف الماء في الغسل الأول منها أي الغسل بالسدر أو يتخيّر ، وكذا لو وجد ثوب يكفي لأحد أثواب كفن الميت قالوا بتقديم

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٦٥ / أبواب الوضوء ب ١ ح ١.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٣٩٨.

٤٦٤

الازار على المئزر وإن كان المئزر مقدما بحسب الترتيب الواجب وهكذا.

والتحقيق أن يقال : إنه قد يكون الجزءان أو الشرطان المتعذر أحدهما في عرض واحد لا تقدم لأحدهما على الآخر في الوجود في جعل الشارع ، وقد يكونان مترتبين في جعله فإنه جعل الركعة الثانية من الصلاة مترتبة على الأولى وآخر الركعة مترتبة على أولها ، فإن كان من القسم الأول كما لو وجب قراءة سورتين من القرآن مثلا من غير اعتبار ترتيب بينهما وتعذّر إحداهما فالظاهر التخيير بينهما من غير إشكال ، إلّا أن يكون أحدهما أهم بوجه من الوجوه فيجب ترجيح ذلك الأهم ، وإن كان من القسم الثاني فيمكن أن يقال بوجوب مراعاة السابق من الجزءين أو الشرطين في الوجود كما اختاره في مسألة دوران الأمر بين القيام في أول الصلاة والقيام فيما بعده كل من تعرّض للمسألة فيما وجدنا ، فيقوم أول الصلاة إلى أن يحصل العجز فيجلس ، ووجهه أنه في أول الصلاة يصدق أنه قادر على إحراز شرط القيام بناء على كونه شرطا في التكبير والقراءة والركوع وقادر على فعل القيام بناء على كونه جزءا من أجزاء الصلاة ، فلا وجه لسقوطه إلى أن يحصل العجز عنه.

ويمكن أن يقال بالتخيير بين مراعاة السابق واللاحق لو فرض تعلّق التكليف بهما جميعا عند إتيان الجزء السابق كما في مثال القيام المذكور فإنّ التكليف بمجموع الصلاة ثابت في أول الصلاة بعد دخول الوقت ، ووجهه أنه يصدق أنه مكلف بأربع ركعات قائما وهو عاجز عن قيام ركعة منها مثلا ، فالعقل يحكم بتخييره بين الجلوس في الركعة الأولى أو إحدى البواقي ، وكأن الوجه الأول مبني على توهّم أنّ التكليف بأجزاء الصلاة يحدث جزءا فجزءا ، فإذا كلف بالجزء الأول يأتي به قائما ، وكذا في الجزء الثاني وهكذا إلى أن يحصل العجز ، وقد عرفت أنه ليس كذلك بل يحدث التكليف بمجموع الصلاة دفعة بعد

٤٦٥

دخول الوقت ، غاية الأمر أنه يجب أن يأتي بأجزائها على ترتيب خاص وكيفية خاصة ، فإذن لا يخلو الوجه الثاني عن قوّة ، وما ذكروه من تقديم مراعاة الأسبق أحوط لكونه جامعا بين القولين ، إلّا إذا فرض كون مراعاة المتأخر أهمّ كما لو دار الأمر بين القيام في أول الصلاة مقدار ركعة أو أقلّ والجلوس في الباقي وبين عكسه ، فإنّ مراعاة إحراز القيام في ثلاث ركعات أرجح فيتعيّن فلا احتياط هنا اللهمّ إلّا بالتكرار لو أمكن ، ولعله من ملاحظة ما ذكر في الوجه الثاني اختلفوا في مسألة الغسل السابقة بل حكموا بتقديم المتأخّر في مسألة الكفن أي الإزار ، ويحتمل أن يكون وجه التقديم في مسألة الكفن شيئا آخر ويقال إن جعل الثوب الميسور إزارا لا يدل على وجوب تقديم الجزء المتأخر بل لعله مئزر في شكل الازار ، لأنّه يجوز اختيار تبديل كل من المئزر والقميص بالازار ويكفّنه في أزر ثلاثة ، ويكون وجه تعيين كيفية المئزر هنا في صورة الازار أنه أقرب من الغرض في ستر بدن الميت بالكفن ، والحاصل أنّ الأقوى في القسم الثاني أيضا التخيير أو تقديم الأهم لو كان أهم في البين.

ومما ذكرنا يظهر حال الدوران بين ترك الجزء وترك الشرط ، فإنّ الأقوى فيه أيضا هو التخيير إذا لم يكن أهمّ في البين ، ولعل ما ذكره في المتن من أنّ فوات الوصف أولى من فوات الموصوف ناظر إلى أهمية مراعاة الجزء من الشرط ، وهو بإطلاقه محلّ منع إذ قد يكون الشرط عظيم الخطر ويكون كالركن مثل القبلة ، فيكون أهم من مراعاة جزء يسير كترك ذكر أو بعض الذكر مثلا ، فليتأمل.

٤٦٦

قوله : الثاني لو جعل الشارع للكل بدلا اضطراريا كالتيمم ، إلخ (١).

أما لو جعل للكل بدلا اختياريا كخصال الكفارة مثلا لو عجز المكلف عن صوم شهرين متتابعين لكنه قادر على أقل من شهرين بيوم أو أكثر ، أو أنه قادر على صوم شهرين من دون التتابع وقادر على باقي الخصال أيضا من العتق والإطعام ، فهل تجري قاعدة الميسور حينئذ حتى يتحصل منها ومن أصل دليل التخيير بين الخصال أنه مخيّر بين صوم شهرين وأحد الباقيين عند التمكن وبين صوم ما يقدر من الشهرين وأحد الباقيين عند العجز عن صوم شهرين أو لا يجري القاعدة إلّا عند تعذر صوم شهرين وتعذر ما في عرضه من العتق والصدقة ، نظرا إلى أنه يمكن إدراك أصل المكلف به الأولي وأنه غير معسور ولا ينتقل إلى بدله إلّا إذا لم يمكن إدراكه ولو ببدله الاختياري؟ وجهان.

قد يقال أو قيل بتعيّن الوجه الثاني في نظير المسألة وهو أنه قد ورد أنّ صوم ثمانية عشر يوما بدل عن صوم شهرين لمن عجز عن صومهما ، فيحكم بأنّ من قدر على العتق أو إطعام الستين لا يجوز له أن يكتفي بصوم ثمانية عشر ، والتحقيق أن يقال إنه قد يكون دليل جعل البدل عاما أو مطلقا بحيث يشمل بعمومه أو إطلاقه صورة التمكن من باقي أفراد التخيير ، فالحق هو الوجه الأول حينئذ لا محالة ، وكان مرجع ذلك إلى أنّ كل من تعلّق به التكليف بصوم شهرين متتابعين سواء كان على نحو التعيين أو على نحو التخيير وعجز عنه فصوم ثمانية عشر بدله ، ومن هذا القبيل على الظاهر ما ورد من أنّ من لم يحسن القراءة فليقرأ ما تيسّر ، فإنّ إطلاقه يشمل ما لو تمكن عن البدل الاختياري وهو الصلاة جماعة ، وقد يكون دليل جعل البدل مهملا مجملا من هذه الجهة ، أو

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٣٩٨.

٤٦٧

يكون ظاهرا في أنّ من عجز عن صوم شهرين بحيث لم يتمكن من الخروج عن عهدته بوجه ، ولازمه سقوط أصل التكليف لو لم يجعل هذا البدل يكون صوم ثمانية عشر بدلا عن صوم الشهرين ، فالحق حينئذ هو الوجه الثاني ، فلا بدّ من ملاحظة دليل جعل البدل وأنه من أيّ القسمين ، وهكذا يكون الأمر فيما نحن فيه فقد يدّعى أنّ مفاد أخبار الميسور أنّ كل مركب تعلّق به التكليف بوجه فعند تعذّر كلّه يكون بعضه بدلا عنه ، وقد يدعى أنّ مفادها أنّ بعض المركب بدل عن كله لو لم يتمكن المكلف من إدراك الكلّ بمعنى إدراك مصلحته ولو ببدله الاختياري ، ويدور أمره بين فوات مصلحة المأمور به وبين إدراك مصلحة بعض المأمور به بإدراك بعضه ، ولا يخفى أنّ الأظهر بحسب لفظ الأخبار والجمود عليه هو الأول ، وبحسب سياقها والذوق والحكمة العقلية هو الثاني ، فليتدبّر.

قوله : ففي تقديمه على الناقص وجهان من أنّ مقتضى البدلية ، إلخ (١).

الأولى تبديل تحرير العنوان ووجهي المسألة أيضا كما سيظهر وجه الأولوية ويقال فهل يتعيّن تقديم الناقص أم لا بل يكون مخيرا بينه وبين التيمم أو يلاحظ الترجيح بين دليليهما دلالة ثم سندا وعند التكافؤ فالتخيير؟ وجهان مبنيان على ما مرّ في بعض الفروع السابقة من أنّ أخبار الميسور مخصّصة لعموم أدلة الأجزاء والشرائط وكاشفة عن كون اعتبارها مختصّا بصورة التمكن منها ، وفي صورة تعذّر الجزء كالفاتحة في الصلاة مثلا ليس جزءا لها ، فيكون للصلاة فردان كل منهما صلاة وأحدهما تكليف القادر على الفاتحة والآخر تكليف العاجز عنها ، نظير القصر والإتمام للمسافر والحاضر ، فيتعيّن تقديم

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٣٩٨.

٤٦٨

الناقص لأنه تام في هذا الحال وليس بدل التام ، فهو قادر على المبدل ، ولم يثبت بدلية التيمم إلّا عند العجز عن المبدل لأنه بدل اضطراري بالفرض ، أو أنها دالة على تشريع بدل وجعل جديد لبعض المركب حتى أنّ بعض الوضوء أو الصلاة الذي وجب بهذه الأخبار ليس بوضوء ولا صلاة بل هو بدل عن الوضوء والصلاة وجب بأمر آخر ، فإن قلنا بالأول كما هو الأظهر يتعين وجوب ميسور الوضوء ولا وجه للانتقال إلى التيمم ، لأنّ الوضوء الناقص وضوء تام في هذا الحال ، وإن قلنا بالثاني فمقتضى القاعدة هو الجمع بين الوضوء الناقص والتيمم ، إلّا أنّ الإجماع قائم على الظاهر على عدم لزوم الجمع ، وحينئذ يحصل التعارض بين أخبار الميسور وأدلة التيمم والنسبة عموم من وجه ، لأنّ أدلة الميسور أعم من مورد الوضوء والغسل والصلاة والحج إلى غير ذلك من المركبات ، وأدلة التيمم لا تشمل ما سوى مورد الوضوء والغسل ، وأيضا أعم من مورد يتمكن من التيمم فإنه قد لا يتمكن من التيمم بعدم التراب مثلا ليتيمم به ، وكذا أدلة التيمم أعم من مورد يتمكن من الوضوء الناقص وعدمه ولا ترجيح بحسب الدلالة ، والترجيح بحسب السند مع أدلة التيمم كما هو واضح.

قوله : الأمر الثالث لو دار الأمر بين الشرطية والجزئية (١).

يمكن التمثيل له بالنية فقيل بجزئيتها وقيل بشرطيتها للعبادة ، فإن لم يتم عندنا كل ما تمسك به الفريقان يدور الأمر بينهما ويكون مثالا لما نحن فيه ويبقى الثمرة بين كون الشيء جزءا أو شرطا لكي يرجع إلى الأصل بالنسبة إليها فنقول يمكن تصوير الثمرة في موارد : منها في النذر وما يشبهه. ومنها : أنه لو كان الشيء كالنية مثلا جزءا للصلاة يشترط فيه شرائط الصلاة من الستر والقبلة

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٣٩٩.

٤٦٩

والطهارة إلى آخر الشرائط ، بخلاف ما لو كان شرطا ويرجع الشك فيه إلى الشك في اعتبار شرط زائد بالنسبة إلى أصل الصلاة ، فيرجع إلى البراءة والاشتغال في تلك المسألة كل على مذهبه. ومنها : أنه لو كان هذا الأمر الدائر بين الجزء والشرط مشكوك الوجوب وقلنا في مسألة الشك في الشرط أو الجزء بالتفصيل وأنّ الشك في الجزئية مجرى للبراءة وفي الشرطية مجرى للاحتياط ، فيكون الأصل هنا موافقا للاشتغال لأنه شك في شرطية الشيء المشكوك. ومنها : أنه لو قلنا بجريان قاعدة الميسور في الأجزاء دون الشرائط حصل الفرق. ومنها : أنه لو قلنا بأنّ زيادة الجزء مبطلة دون الشرط فإنه يحصل به الفرق أيضا ، وفي هذين المثالين أيضا يكون الأصل موافقا لحكم الشرط.

قوله : الأمر الرابع لو دار الأمر بين كون شيء شرطا أو مانعا ، إلخ (١).

وهنا عنوانان آخران يشابه عنوان المتن ينبغي التعرّض لهما الأول : أنه لو دار الأمر بين كون شيء شرطا أو كون شيء آخر مانعا بعد العلم باعتبار أحدهما في المركّب.

الثاني : لو دار الأمر بين كون شيء شرطا أو كون ضدّه مانعا ، كما لو تردد الأمر بين كون غير المأكولية في لباس المصلي مانعا عن الصلاة أو المأكولية شرطا إذا كان اللباس من الجلد ، وسنشير إليهما بعد التعرض لعنوان المتن.

فاعلم أوّلا : أنّ الأمثلة المذكورة في المتن لا تخلو عن المناقشة ، أما المثالان الأوّلان فإنما يتم كونهما مثالا لما نحن فيه لو فرض أنّ القائل بوجوب الجهر يقول بأنّ الجهر شرط والقائل بوجوب الإخفات يقول بأنّ الجهر مانع ، فلزوم الإخفات من أجل أنه يتحقق معه عدم المانع لا أنّ الإخفات شرط ، أو

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٤٠٠.

٤٧٠

عكس ذلك بأن يقول القائل بالإخفات أنه شرط والقائل بالجهر يقول إنّ الإخفات مانع يجب تركه باختيار الجهر ودار الأمر عندنا بين القولين ، وأما إذا قلنا بأنّ أحدهما يقول بشرطية الجهر والآخر بشرطية الإخفات كما هو ظاهر القولين فيدور الأمر بين الشرطيين لا شرطية الشيء ومانعيته ، اللهمّ إلّا أن يقال إنّ المانع لا معنى له عند المصنف إلّا ما يكون عدمه شرطا فالدوران بين شرطية الشيء ومانعيته يرجع إلى الدوران بين شرطية الشيء وشرطية عدمه.

وأما المثال الثالث ، فلأنّ تدارك الحمد بعد الدخول في السورة باعتبار احتمال عدم جريان قاعدة التجاوز واحتمال أنّ قراءة الحمد جزء وقراءة السورة جزء آخر ، لا أنّ مطلق القراءة جزء واحد حتى يصدق عدم التجاوز بناء على اختصاص قاعدة التجاوز بالتجاوز عن الأفعال المستقلة المسماة بأسماء خاصة لا مطلق التجاوز عن الأجزاء الحقيقية ، وعدم التدارك بسبب احتمال جريان القاعدة ، وليس التدارك حينئذ والحال هذه داخلا في الزيادة المبطلة ولو قلنا بأنّ المضي عند التجاوز عزيمة لا رخصة لأنّه لا مانع من التدارك بقصد القربة المطلقة ، فإن كان تكليفه واقعا التدارك فهو وإلّا يكون قد قرأ بين الصلاة قرآنا وهو غير ممنوع منه ، اللهمّ إلّا على القول بحرمة القران ومفسديته للصلاة وأنّ القران يشمل مثل هذا الفرض من تكرار بعض سورة واحدة ، وفيه ما لا يخفى ، ولو أبدل (رحمه‌الله) هذا المثال بالمثال الذي نذكره كان أولى ، وهو أنه لو شك حال النهوض بعد التشهد الأول في السجدة في الركعة التي نهض عنها ، فيدور الأمر بين الرجوع وتدارك السجدة مع احتمال أنه زيادة مبطلة والمضي وعدم التدارك مع احتمال وجوبه وأنه جزء نقيصته مبطلة ، ووجه الدوران هو الشك في أنّ النص الوارد في أنه لو شك في السجدة حال النهوض كان عليه أن يسجد هل يشمل بإطلاقه حال النهوض بعد التشهد أيضا فيجب تدارك السجدة

٤٧١

وهي جزء الصلاة المفروضة أم يختص بالنهوض عقيب محلّ السجدة كما في الركعة الأولى والثالثة ، ففي المثال المزبور لا يجوز تدارك السجدة لقاعدة التجاوز وأنه زيادة مبطلة بناء على القول بالعزيمة ، فدار الأمر بين كون السجدة حينئذ جزءا أو زيادة مبطلة.

وكيف كان ، فالتحقيق في أصل المسألة أن يقال إنه لا يخلو الأمر من أنه إما أن يتمكّن من الاحتياط بأن يصلي في مثال المتن صلاتين مرة مع الجهر بالقراءة أو البسملة ومرة مع الإخفات ، أو الاحتياط بتكرار القراءة أو البسملة جهرا وإخفاتا في صلاة واحدة لأنّه لا مانع منه على التحقيق ، وليس من القران ولا الزيادة لقضية كونه احتياطا على ما مرّ وجهه عن قريب ، أو لا يتمكن من الاحتياط لضيق وقت ونحوه ، فإن تمكن من الاحتياط فلا ينبغي الإشكال في وجوب الاحتياط لأنّ مرجع الشك إلى المتباينين ، فإنّ المركب المأخوذ فيه تقيده بوجود شيء يباين المركب المأخوذ فيه تقيده بعدم ذلك الشيء البتة ، وإن لم يتمكن من الاحتياط فلا مناص من التخيير إن لم يكن أهمية في البين بعد العلم بأنّ أصل الصلاة غير ساقط في هذا الحال ، نعم يبقى شيء وهو أنّ ما ذكر من التخيير في الصورة المفروضة بالنسبة إلى نفس التكليف بالأداء في الوقت واضح ، وأما بالنسبة إلى الأعم منه ومن القضاء لو فرض له قضاء كالصلوات اليومية فلا يبعد فيه وجوب الاحتياط بأن يصلّي في المثال المذكور مرة في الوقت مخيّرا بين الجهر بالبسملة وإخفاتها ، ومرة أخرى في خارج الوقت قضاء بالوجه الآخر المغاير لما صلى في الوقت ، أما إذا قلنا بأنّ القضاء تابع للأداء فواضح ، إذ عليه هنا تكليفان أحدهما بأصل الصلاة ما دام العمر والثاني بكونها في الوقت ، ولمّا تعذّر الاحتياط اللازم بالنسبة إلى الوقت سقط ، وأما الاحتياط بالنسبة إلى التكليف بأصل الصلاة فإنه ممكن بأن يصلي جهرا

٤٧٢

في الوقت وإخفاتا في خارجه أو بالعكس ، وأما إذا قلنا بأنّ القضاء بفرض جديد فهو كذلك أيضا إن قلنا إنه مترتب على الفوت بمعنى عدم الإتيان في الوقت لإمكان إحراز موضوعه بالأصل فيجب الصلاة بإحدى الكيفيتين أداء والاخرى قضاء بإحراز صدق الفوت بمعنى عدم الإتيان بالأصل ، وإن قلنا إنه فرع الفوت وقلنا إنه معنى وجودي ملازم لعدم الإتيان في الوقت على خلاف التحقيق فيشكل ما ذكر بناء على عدم الاعتبار بالأصول المثبتة ، لأنّ عدم الاتيان في الوقت لا يثبت به ذلك المعنى الوجودي اللازم له.

ولكن التحقيق جريان وجوب الاحتياط المذكور عليه أيضا ، لأنّه لو قلنا بعدم حجية الأصول المثبتة في الجملة لا نقول به في مثل ما نحن فيه مما يعدّ عدم الإتيان المستصحب والفوت الذي لازمه في العرف شيئا واحدا ، فإنّ أهل العرف لا يفهمون من الفوت إلّا عدم الإتيان ، ولا يلتفتون إلى أنّ عدم الإتيان مفهوم عدمي والفوت مفهوم وجودي لا يمكن اتحادهما ، ولا ريب أنّ تشخيص موضوعات المستصحبات إنما هو بالعرف.

لا يقال : لو فرض أنه لم يتمكن من الاحتياط في الوقت بالتكرار لضيق الوقت يرجع الشك إلى الشبهة في أصل التكليف بالأداء ومقتضاه البراءة ، لأنّ المكلف حينئذ شاك في أنه قادر على الإتيان بالواجب الواقعي أم لا ، إذ لا يعلم أنّ ما يختاره من الجهر أو الإخفات مطابق لما أمر به أم لا.

لأنا نقول : لا وجه للتشكيك في أصل القدرة على المأمور به ، لوضوح أنه قادر عليه ويسعه الوقت إلّا أنه لمّا كان جاهلا بكيفيته الواقعية لا يمكنه إحراز الواقع وإلّا فلو أتى بإحدى الكيفيتين وصادف الواقع فقد فعل الواجب عليه وكان مقدورا البتة.

٤٧٣

والحاصل أنّ عدم القدرة أو الشك فيها من جهة الجهل ليس مانعا عن التكليف وإلّا لكان كل جاهل غير مكلف لفقدان القدرة التي هي شرط التكليف ولو كان مقصّرا ، ولكان عدّ العلم شرطا لتنجّز التكليف بعد اعتبار القدرة شرطا لأصل التكليف لغوا باعتبار كون الجاهل غير قادر ، وفيه ما فيه.

ثم لا يخفى أنه لم يعهد من أحد من الفقهاء التزام ما ذكرنا من الاحتياط بين الأداء والقضاء في نظائر المقام على ما ظفرنا من كلماتهم كالصلاة إلى أربع جهات لمن اشتبه عليه القبلة ، والصلاة في الثوبين يعلم بنجاسة أحدهما إلى غير ذلك ، فإنّ ظاهر كلامهم أنه إن ضاق الوقت عن الاحتياط التام يقتصر على القدر الممكن ولو صلاة واحدة في الوقت ولا قضاء ، مع أنّ مقتضى ما ذكرنا وجوب الاحتياط بفعل القدر الممكن من أطراف الشبهة في الوقت والباقي خارج الوقت فكيف ذلك ، وغفلتهم عن ذلك بعيد ، إلّا أنّ الظاهر أن هذه الأمثلة ليست نظيرا لما نحن فيه بل نقول فيها إنّ شرطية القبلة وطهارة اللباس ساقطة حال عدم إمكان إحرازهما في الوقت ولذا لا يجب القضاء ، وأما فيما نحن فيه فنتكلم عليه على تقدير إطلاق الشرطية أو المانعية ، وإن أبيت إلّا عن أنّ دليل شرطية القبلة وطهارة اللباس أيضا مطلق فيمكن حمله على المقيد بحال القدرة بقرينة فهم الأصحاب طرا على الظاهر ، وسيأتي لذلك زيادة توضيح في الحاشية الآتية.

قوله : فيدور الأمر بين مراعاة ذلك الشرط المردد وبين مراعاة شرط الجزم (١).

هذه العبارة تحتمل وجهين : الأول أنه يدور الأمر بين الاحتياط اللازم

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٤٠١.

٤٧٤

لمراعاة ذلك الشرط المردد بالتكرار مع فوت الجزم وبين الاحتياط بإدراك الجزم في النية بعدم التكرار وعدم إحراز الشرط المردد ، وبالجملة يدور الأمر بين الاحتياطين ، فالاحتياط بالتكرار لإحراز الشرط المردد موجب لترك الاحتياط من جهة الجزم وبالعكس وحيث لا ترجيح فيتخيّر ، فلم يجب الاحتياط بالنسبة إلى الشرط المردد فصار الأصل موافقا للبراءة.

الثاني وهو الأظهر : أنّه يدور الأمر بين إدراك الشرط المعلوم الشرطية أي الجزم في النية ، وبين إدراك الشرط المردد المشكوك الشرطية حال الجهل والترديد المستلزم لفوات الجزم في النية ، فالاحتياط بالنسبة إلى الشرط المردد المشكوك بتكرار العمل موجب لفوات الشرط المعلوم.

وفيه نظر ، لأنّ وجه الشك في شرطية الأمر المردد ليس إلّا من جهة مزاحمته للجزم وإلّا فشرطيته مع قطع النظر عنه معلوم ، كما أنّ شرطية الجزم أيضا معلوم مع قطع النظر عن مزاحمة الشرط المردد ، فيدور الأمر بين سقوط أحد الشرطين إما المعيّن وإما المردد ، اللهمّ إلّا أن يقال إنّ مراعاة الشرط المردد بالتكرار موجبة للجزم بفوات الجزم ، وأما مراعاة الشرط المعلوم أعني الجزم فلا توجب إلّا احتمال فوات الشرط المردد لاحتمال كون مختاره من الفعل أو الترك مطابقا للواقع فيجب ترجيح مراعاة الجزم لذلك ، وبالجملة يدور الأمر بين المخالفة القطعية للجزم وبين المخالفة الاحتمالية للشرط المردد فافهم.

قوله : لمنع اعتبار ذلك الأمر المردد ـ إلى قوله ـ لمنع شرطية الاستقبال (١).

يحتمل أن يكون مراده سقوط الشرط حين الجهل واقعا بحيث لو انكشف

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٤٠١.

٤٧٥

الواقع بعد العمل أيضا لم يجب الإعادة والقضاء ، وهو ظاهر العبارة لكنه في غاية البعد عن الاعتبار ، ويحتمل أن يكون المراد سقوط الشرط ظاهرا بمعنى عدم وجوب إحرازه بل يكتفى فيه بالاحتمال نظير سائر موارد الأصول والأمارات ما دام الجهل ، فلو زال الجهل يدور الأمر مدار واقعه وهذا هو الأوفق بالاعتبار وإن كان خلاف ظاهر العبارة ، وكيف كان فيرد على هذا الوجه ـ مضافا إلى أنّ المختار عدم اعتبار الجزم في النية ، وإلى أنه على تقدير اعتباره في الجملة لا يعتبر في موارد الاحتياط وإلّا لم يشرّع الاحتياط أصلا ، وسرّه أنّ مرتبة شرط الجزم متأخرة عن مرتبة سائر الأجزاء والشرائط ـ أنّ فوات الجزم في النية لا يتفرّع على الاحتياط بتكرار العمل بل على الجهل بكون الشيء شرطا أو مانعا أو الجهل بجهة القبلة في مثال النظير ، لأنّه لو ترك الاحتياط وأتى بأحد المحتملات لإدراك الجزم لم يمكن ذلك لعدم الجزم بأنه مطابق للواقع جزما ، وإن أريد الجزم في النية بحسب التكليف الظاهري فهذا المعنى موجود في الاحتياط أيضا كما لا يخفى ، نعم لو قلنا على تقدير عدم التكرار للاحتياط إنّ أصل الشرط ساقط واقعا وشرطية القبلة للصلاة مثلا مقصورة على صورة العلم بها تم ما ذكره من إحراز الجزم في النية فيما يأتي به من الاحتمالين أو الاحتمالات ، واندفع هذا الإيراد ويبقى الإيرادان الآخران ، وقد صرّح المصنف بهذا الإيراد بعينه على هذا الوجه في مسألة المتباينين في السابق.

وبالجملة احتمال كون المقام من موارد جريان البراءة ومقايسته بدوران الأمر بين المحذورين ليس على ما ينبغي البتة ، للفرق الواضح بين المقام وبين دوران الأمر بين المحذورين بعدم إمكان الاحتياط هناك وإمكانه فيما نحن فيه ، ولو فرض المقام بحيث لا يمكن الاحتياط بالتكرار لضيق وقت ونحوه خرج عن موضوع المسألة ، لأنّ مفروض البحث فيما كان قابلا للاحتمالين

٤٧٦

التخيير والاحتياط ويأتي فيه الوجهان لا ما يتعين فيه وجه واحد وهو واضح.

قوله : وإلّا فيلزم من العمل بالأصلين مخالفة عملية كما لا يخفى (١).

لا يخفى أنّ العمل بالأصلين فيما كان أحدهما تعبديا إنما يلزم لو كان الطرف التعبدي معينا ، وأما لو علم بأنّ أحدهما المردد بينهما على تقدير اعتباره تعبدي فلا يلزم من إجراء الأصلين مخالفة عملية لاحتمال موافقة كل من الفعل والترك للواقع ولو بدون قصد القربة ، وقد مرّ ذلك في محلّه مفصّلا.

لكن يمكن أن يورد على التفصيل المذكور في المتن بين كون المردد بين الشرط والمانع توصليا وكونه تعبديا أوّلا : بأنّ الموجود من الشرائط والموانع الثابتة للصلاة وغيرها من العبادات كلها توصلية وكون الشرط أو المانع تعبديا مجرد فرض لا شاهد له ، وتوهّم أنّ كون الصلاة عبادة يقتضي أن يكون جميع ما يعتبر فيه تعبديا يعتبر فيه قصد القربة ولو إجمالا في ضمن ما يقصده متعلقا بمجموع العمل الصحيح ، مدفوع بأنّ استفادة التعبدية إما من نفس دليل الشرط والمانع وهو منتف لأن قوله (عليه‌السلام) «لا صلاة إلّا بطهور» (٢) مثلا وقوله (عليه‌السلام) «لا تصلّ في جلد ما لا يؤكل لحمه» (٣) مثلا وأضرابهما لا يفيد سوى أصل الشرطية والمانعية في الجملة لا على وجه التعبدية أيضا ، وإما من نفس دليل العبادة المعتبر فيها ذلك الشيء ، وهو أيضا لا يفيد ذلك لأنّ القدر المسلّم مما يفهم من دليل العبادة أنّ أجزاءها تعبدية يعتبر فيها قصد القربة وأما شرائطها أو موانعها المعتبرة فلا.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٤٠٢.

(٢) الوسائل ١ : ٣٦٥ / أبواب الوضوء ب ١ ح ١.

(٣) الوسائل ٤ : ٣٤٦ / أبواب لباس المصلي ب ٣ ح ٦.

٤٧٧

وثانيا : أنّ كون كلّ من الفعل والترك أو أحدهما تعبديا إنما يقتضي الاحتياط بمقدار ما يمكن به تحصيل القربة والعبادة لا الاحتياط بالتكرار الذي هو المقصود بالإثبات هنا ، ألا ترى أنه في الشك في أصل التكليف لو دار الأمر بين وجوب شيء أو حرمته تعبدا فيهما أو في أحدهما فإنه لا يمكن إجراء الأصلين في الطرفين ويجب الاحتياط إما باختيار الفعل مع القربة أو باختيار الترك مع القربة ولا يقتضي الاحتياط ما سوى ذلك ، وهكذا يكون الأمر فيما نحن فيه ولا ربط لهذا الاحتياط بالاحتياط بالتكرار كما هو المدعى (١).

ومما ذكر في أول المسألة إلى هنا تبيّن حال ما لو دار الأمر بين كون أحد الأمرين شرطا أو الآخر مانعا ، وأنه يجب الاحتياط بإحراز الأول وترك الثاني وهو أحد العناوين التي أشرنا إليه في صدر المبحث ، وأما العنوان الأخير المشار إليه هناك وهو ما لو دار الأمر بين كون شرطية وجود أمر كالمأكولية في لباس المصلي ومانعية ضده كعدم المأكولية فيه فليس فيه أصل كلي يرجع إليه وإنما هو تابع للموارد.

قوله : والحكم فيما نحن فيه وجوب الإتيان بأحدهما وترك الآخر مخيرا (٢).

هذا أحد وجوه المسألة. ثانيها : التخيير بين الإتيان بهما معا وتركهما معا

__________________

(١) أقول : يمكن دفعه بأنه لمّا كان تحصيل القربة ممكنا في الفرض المذكور على وجه القطع بتكرار أصل المركب كان ذلك واجبا بمقتضى العلم الإجمالي ، ولا يكتفى بأحد الاحتمالين من الفعل والترك بقصد القربة ، لأنّه موافقة احتمالية ومخالفة احتمالية ، والواجب هو الموافقة القطعية الممكنة ، ولا يقاس ذلك بدوران الأمر بين المحذورين في الشبهة في أصل التكليف لعدم التمكّن فيها إلّا على الموافقة الاحتمالية حتى بالنسبة إلى القربة أيضا.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٤٠٣.

٤٧٨

وإتيان أحدهما وترك الآخر مخيرا بينهما. ثالثها : اختيار تركهما معا.

دليل الوجه الأول ما يستفاد من المتن ومحصّله : أنه يدور الأمر بين الموافقة الاحتمالية والمخالفة الاحتمالية بفعل أحدهما وترك الآخر ، وبين الموافقة القطعية مع المخالفة القطعية بفعلهما معا أو تركهما معا ، والعقل يحكم بترجيح الأول ، إذ لا قطع بالضرر فيه ، بخلاف الثاني فإنّ الضرر فيه مقطوع به وإن كان فيه القطع بدفع ضرر آخر فإنّ ذلك لا يكافئ الضرر المقطوع به.

وأما الوجه الثاني : فمبني على دعوى عدم الترجيح بين الأمور الثلاثة عند العقل أعني الفعلين والتركين وفعل أحدهما وترك الآخر.

والوجه الثالث : مبني على أنّ دفع المفسدة الثابتة في المحرّمات أولى من جلب المنفعة الثابتة في الواجبات عقلا ونقلا.

والأوجه من هذه الوجوه الثلاثة وجه رابع وهو التفصيل بين ما لو كان أحد التكليفين من الوجوب والحرمة أهمّ في نظر الشارع قطعا أو ظنا أو احتمالا فيجب تقديم جانبه بالاحتياط له بفعلهما معا إذا كان الواجب أهمّ أو تركهما معا إذا كان الحرام أهم ، ولا تقدح المخالفة القطعية بالنسبة إلى غير الأهم ، وبين ما لم تكن أهمية في البين ويتساويان فيحكم بالتخيير بين الأمور الثلاثة (١).

__________________

(١) أقول : بل الأوجه من هذه الأربعة وجه خامس وهو مراعاة الأهم لو كان كما في الوجه الرابع وإلّا ففعل أحدهما وترك الآخر مخيرا بينهما ، أما وجه تقديم الأهم فهو واضح كما في سائر موارد دوران الأمر بين التكليفين الإلزاميين من الواجبين أو المحرمين أو المختلفين ، وأما وجه تقديم الموافقة الاحتمالية على المخالفة القطعية فيما لم يكن أهمية فلما ذكر في دليل الوجه الأول من حكم العقل بذلك ، فإنا إذا راجعنا وجداننا نجد من أنفسنا ذلك ،

٤٧٩

خاتمة

فيما يعتبر في العمل بالأصل

قوله : وهذا مما لا خلاف فيه ولا إشكال (١).

ربما يحكى عن أستاذنا المحقق الميرزا حبيب الله الرشتي الإشكال في تحقق موضوع الاحتياط فيما إذا كان على خلافه دليل اجتهادي في خصوص العبادات ، بل الجزم بعدم جواز الاحتياط ، ولا نعرف له وجها سوى توهّم كونه تشريعا ، إذ لو ثبت بالدليل الشرعي المقطوع الحجية عدم وجوب عبادة خاصة مثلا وعدم استحبابها أيضا فالتعبد بفعلها إدخال ما ليس من الدين في الدين.

وفيه : أنّ الإتيان بها بعد احتمال ثبوتها في الدين برجاء إدراك الواقع لو كان ليس إدخالا في الدين من شيء ، بل هو مما يؤكد الاهتمام بالتزام ما هو ثابت في الدين لا من التشريع الذي هو في قوة المناقضة والمعارضة مع الدين

__________________

ودعوى عدم الترجيح بينه وبين الاحتمالين الآخرين من فعلهما وتركهما كما ذكر في الوجه الثاني عهدتها على مدّعيها ، كما أنّ دعوى كون دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة كما ذكر في الوجه الثالث قد تقدّم الجواب عنه في المتن غير مرّة صغرى وكبرى.

(١) فرائد الأصول ٢ : ٤٠٥.

٤٨٠