حاشية فرائد الأصول - ج ٢

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-089-6
الصفحات: ٥٩٤
الجزء ٢ الجزء ٣

وهذا ظاهر.

قوله : بل هو على تقدير اعتباره شرط لتحقق الإطاعة ، وسقوط المأمور به ، إلخ (١).

قد تكرر من المصنف هذا المطلب في فقهه وأصوله جازما به ، وقد ذكرنا ما فيه سابقا ونقول هنا أيضا إنه إن كان الشك في تحقق الإطاعة من جهة الشك في اعتبار شيء في طريق الامتثال عرفا وعقلا فالأمر كما ذكره من وجوب الاحتياط ، إذ لا ريب في وجوب إحراز عنوان الإطاعة في امتثال المأمور به ، لكنا نمنع عدم صدق الإطاعة عرفا بدون نية الوجه بعد إحراز قصد القربة ، وإن كان الشك من جهة الشك في اعتبار الشارع شيئا في طريق الامتثال تعبدا ولو مع صدق الإطاعة بدونه عرفا فلا نسلّم وجوب الاحتياط بالنسبة إليه بناء على القول بالبراءة في الشك في الأجزاء والشرائط ، إذ لا فرق بين الأمور التي تؤخذ من الشارع وكان بيانها من وظيفته سواء كان مأخوذا في المأمور به أو في طريق الامتثال في جريان أدلة البراءة من العقل والنقل.

قوله : لكن الإنصاف أنّ الشك في تحقق الإطاعة بدون نيّة الوجه غير متحقق (٢).

ما أنصفه هو مقتضى الانصاف وقد بالغ في تقريبه صاحب الجواهر (٣) وهو في محلّه ، إلّا أنّ الماتن مع ذلك قد حصل له الشك والتردد على ما سيأتي من كلامه حتى كاد أن يرجع إلى القول باعتبار نيّة الوجه من جهة الشهرة عليه

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٤٠٧.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٤٠٨.

(٣) جواهر الكلام ٢ : ٨٢.

٤٨١

ونقل إجماع المتكلمين والسيدين الرضي (رحمه‌الله) والمرتضى (رحمه‌الله) ، والظاهر أنّ تردده ليس في محله ، ومن راجع كلام الجواهر هنا لعله يحصل له القطع بعدم اعتبار نية الوجه ، مع أنّ الظاهر أنّ معقد إجماع المتكلّمين ليس هو الوجه الذي في كلام الفقهاء زائدا على نية القربة ، بل المراد هو نية القربة التي لا كلام فيه كما لا يخفى على من تتبع كلماتهم.

قوله : والفرق بين الصلوات الكثيرة وصلاتين لا يرجع إلى محصّل (١).

الانصاف ثبوت الفرق بينهما في صدق الإطاعة واللعب في الجملة. والتحقيق أن يقال إنه قد يكون التكرار وعدم الفحص لداع عقلائي كأن يكون تحصيل العلم بجهة القبلة أو الطاهر من بين أثوابه عسرا عليه ويكون الاحتياط بالتكرار أسهل عليه بكثير ونحو ذلك ، فلا بأس بالتكرار لصدق عنوان الإطاعة في طريقة العقلاء وإلّا فلا ، لما ذكره من أنه به يعدّ لاعبا بأمر المولى مستهزئا به لا مطيعا ، وهكذا نقول فيما لو دخل في العبادة بانيا على الفحص بعد الفراغ فإن طابق وإلّا أعاده ، وأولى بالصحة فيما لو دخل في العبادة بنية الجزم ثم اتفق له ما يوجب تردده فإنّ الإتمام بانيا على الفحص بعد الفراغ من طريقة العقلاء في امتثال أوامر الموالي للعبيد ، وفرق بينه وبين التردد قبل الدخول فقد يكون فيه التكرار لعبا بخلاف التردد في الأثناء.

ثم لا يخفى أنه لا فرق بين الشبهة الحكمية والموضوعية في جواز العمل بالاحتياط قبل الفحص وعدمه ، لاشتراك مناط المسألة وهو اعتبار قصد الوجه وعدمه بينهما ، بخلاف العمل بالبراءة فإنه يشترط فيه الفحص في الشبهة

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٤٠٩.

٤٨٢

الحكمية دون الموضوعية كما سيجيء.

وينبغي التنبيه على أمور كلها يتعلّق بتحقق موضوع الاحتياط الأول : أنه هل يحصل الاحتياط بفعل ما يتمكن من أطراف الشبهة إذا لم يتمكن من الاحتياط التام كما لو قدر على الصلاة إلى أقل من الجهات الأربع عند اشتباه القبلة؟ قيل لا ، لأنّ الاحتياط إنما يحصل بالقطع بإدراك الواقع وهو غير ممكن بالفرض ، والأقوى حصوله بذلك ، لأنّ العقل الحاكم بحسن الاحتياط أو وجوبه لا يفرّق بين الاحتياط التام والناقص ، أما في الاحتياط المندوب فواضح ، ضرورة أنّ الاتيان بالمحتمل لرجاء إدراك الواقع حسن عند العقل جزما ، وأما في الاحتياط اللازم كالصلاة إلى بعض الجهات فلأنّ العقل بعد فرض تنجز التكليف بالواقع وهو الصلاة إلى القبلة واشتباهها يحكم بوجوب بذل الجهد في تحصيل الواقع بالقدر الميسور ولا يعذر المكلف إلّا بمقدار العجز عن إدراكه ، ولعل هذا من الواضحات ، وقد مرّ شطر من الكلام في ذلك في الاحتياط بالنسبة إلى الشبهات البدوية.

الثاني : أنه هل يحصل الاحتياط بفعل بعض أطراف الشبهة بانيا على عدم الإتيان بباقيها مع التمكن من الاحتياط التام؟ قد يتوهّم عدم حصوله إما لعدم صدق الإطاعة بذلك ولو صادف الواقع لأنّه غير عازم على إتيان الواقع وإحرازه مع التمكن منه ، وإما لعدم تمشّي القربة لو فرض ذلك في العبادات ، وكلا الوجهين ضعيفان ، لأنّه يفعل ما يأتي به برجاء إدراك ما أمر به الشارع لا داعي له غير ذلك وإنما يتجرى بترك باقي الأطراف وذلك لا يوجب حزازة فيما يأتي به ، فلو طابق الواقع صحّ فلا يجب الإعادة لو انكشف (١).

__________________

(١) أقول : يمكن إدراج هذا الأمر مع الأمر الأول تحت عنوان واحد ، بل يمكن إدراج

٤٨٣

الثالث : أنه لو تعدد جهات الاحتياط ولم يتمكن المكلف من الاحتياط من جميع الجهات أو لا يريده فهل يحصل الاحتياط فيما أمكن أو يريده أم لا؟ مثلا إذا اشتبه وجوب السورة ووجوب جلسة الاستراحة ووجوب القنوت ووجوب التسليم وتمكن من الاحتياط في بعضها وفعل ذلك أو تمكن من الجميع لكنه لم يأت إلّا بالبعض فهل يحصل الاحتياط بذلك بقدره أم لا؟ ربما يستظهر مما ذكره المحقق القمي في خلال دليل الانسداد ودليل جواز الاكتفاء بالظن في طلب المخصص للعمومات التي لا يعمل بها إلّا بعد الفحص عن المخصّص من أنه لو تمكن عن تحصيل القطع بالنسبة إلى بعض الأجزاء والشرائط دون الكل فإنه غير واجب بل يكتفى بالظن في الجميع ، نظرا إلى أنّ قطعية بعض الأجزاء والشرائط لا يفيد قطعية الكل ، فإنّ ما بعضه ظني فكلّه ليس بعلمي ، أنّ ما نحن فيه من صغريات ذلك المطلب فإنّ الاحتياط من بعض الجهات لا يفيد سوى قطعية تلك الجهة ، فإن لم يحصل الاحتياط من باقي الجهات ولو جهة واحدة لم يحصل الجزم بالواقع من الصلاة ، فكأن ما أتى به بعنوان الاحتياط صار لغوا ، وقد اتضح جوابه مما مر ، فإن كل جهة يحتاط فيه برجاء إدراك الواقع يحصل ذلك ويعلم بصحة العمل من جهته ويحكم بحسنه العقل ولزومه أيضا في موارد الاحتياط اللازم وإن اتفق فساد العمل واقعا من جهة ترك الاحتياط في بعض الجهات الأخر.

الرابع : أنه لو تعارض جهات الاحتياط ودار الأمر بين ترك الاحتياط في جهة ومراعاته في جهة أخرى أو بالعكس ، فقد عرفت أنه يحصل الاحتياط

__________________

الأمور الأربعة الأول بأجمعها تحت عنوان واحد بأن يقال هل الاحتياط الناقص وهو ما لا يعلم منه فراغ الذمة عن الواقع احتياط أم لا ، ويتفرّع عليه فروع أربعة ولا يخفى تطبيق الفروع على العنوان.

٤٨٤

بالقدر الممكن وهو هنا مراعاة أحد الاحتياطين إلّا أنه مخيّر بينهما لو لم يكن أحدهما أهم من الآخر ، فإن علم أو ظنّ أو احتمل أهمية أحدهما يجب تقديمه ، إلّا أنه لو خالف واحتاط بغير الأهم فإنه يحصل وإن تجرى بترك الأهم كما هو حكم مطلق المتزاحمين في سائر الأبواب على ما تقرر في محلّه.

وقد يتوهّم أن المسألة من قبيل دوران الأمر بين المحذورين الذي صرّح الماتن وغيره أنه مما لا يمكن فيه الاحتياط وحكمه التخيير بين الفعلين ، ضرورة عدم خلوّ المكلف عنهما لا التخيير بين الاحتياطين.

وفيه : ـ مضافا إلى ما مرّ سابقا من إمكان الاحتياط بل وجوبه في دوران الأمر بين المحذورين بأن يختار واحدا من الفعل أو الترك برجاء إدراك الواقع ـ أنّ الفرق واضح بين ما نحن فيه ومسألة دوران الأمر بين المحذورين ، أما إذا كان الاحتياطان مختلفي المورد وتعارضا فواضح كما لو دار الأمر بين الاحتياط من جهة القبلة والاحتياط من جهة الستر أو طهارة البدن مثلا ، إذ لا ريب أنّ التزاحم إنما وقع بين الاحتياطين لا الاحتمالين ، وأما إذا كانا متحدي المورد كما لو فرض أنّ عدول العلماء واجبة الإكرام وفسّاقهم محرمة الإكرام واشتبه حال زيد أنه عادل أو فاسق فنقول : الفرق أنّ هنا عنوانين متغايرين يعلم تنجّز التكليف بالنسبة إليهما ، غاية الأمر أنه وقع الشك في دخول هذا المصداق في أحد العنوانين المعلومين حكما وموضوعا ، ويمكن فيه الاحتياط باعتبار أحد العنوانين دون الآخر ، وهذا بخلاف مسألة دوران الأمر بين المحذورين فإنّ الشك فيه إنما يرجع إلى الشك في أصل تنجّز التكليف فيمكن منع صدق الاحتياط لعدم التكليف الفعلي ، فليتأمل جيدا.

الخامس : أنه لو كان الاحتياط التام في مورده موجبا للحرج المنفي فلا

٤٨٥

كلام ظاهرا في رفع الاحتياط بما يرتفع به الحرج فلا يجب أو لا يجوز الاحتياط في مقدار الحرج على الوجهين في كون حكم رفع الحرج عزيمة أو رخصة ، وإنما الكلام في وجه حكومة أدلة الحرج على دليل الاحتياط لأنّ أدلة الحرج إنما تجري حكومتها بالنسبة إلى المجعولات الشرعية لا الأحكام العقلية ، فإن قيل فيما نحن فيه بارتفاع الحكم الواقعي بالحرج لزم عدم وجوب الاحتياط بالنسبة إلى القدر الميسور منه أيضا ولا يقولون به ، مع أنّ الحرج إنما لزم من الاحتياط لا من الواقع بنفسه فلا وجه لرفع الواقع ، وإن قيل بارتفاع تنجّز الواقع المقتضي للاحتياط لزم تخصيص حكم العقل وهو غير جائز.

والجواب أنا نختار الشق الثاني ونلتزم برفع الحرج لنفس الاحتياط ، ولا يلزم تخصيص حكم العقل لأنّ حكم العقل من الأول معلق على عدم ترخيص الشارع لترك الاحتياط على ما مرّ وجهه وبيان جواز كون حكم العقل معلقا في السابق غير مرة. ولا يخفى أنّ أكثر هذه الأمور الخمسة أو جميعها قد تقدم متفرقا في الأبواب السابقة وإنما المقصود هنا مجرّد التنبيه والتذكار فتذكّر.

قوله : فقد تقدّم أنها غير مشروطة بالفحص (١).

يعني تقدم منه إجمالا في الشبهة الموضوعية التحريمية وإلّا فالتفصيل الفصيل والتعرض للخلاف والمخالف ودليله والجواب عنه سيأتي في آخر هذا المبحث ، وقد أشرنا إليه سابقا في الجملة ، وسنتعرض أيضا عند تعرّض المصنف له إن شاء الله ما يسعنا في تحقيقه.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٤١١.

٤٨٦

قوله : فالتحقيق أنه ليس لها إلّا شرط واحد وهو الفحص (١).

التحقيق أنّ لها شرطا آخر وهو عدم ما يعارضها من الأصول وسيأتي التنبيه عليه إن شاء الله.

قوله : الأول الإجماع القطعي (٢).

قد يناقش في تحقق الإجماع من جهة أنه دليل لبّي يقتصر على موارده المتيقنة بالنسبة إلى غير موارد العلم الإجمالي بثبوت الأحكام فيها في الجملة كما لو فرض أنّ المكلف قد اطلع على أدلة الأحكام قبل بلوغه مثلا في موارد كثيرة بحيث لا يعلم بعد بلوغه ثبوت حكم آخر زائد على معلوماته ، فإنّ الإجماع على وجوب الفحص في حقه غير معلوم ، إلّا أن الإنصاف أنّ دعوى كون الإجماع مطلقا حتى في الصورة المفروضة غير بعيدة ، فتأمل.

قوله : الثاني الأدلة الدالة على وجوب تحصيل العلم ، إلخ (٣).

هذا مبني على عدم كون وجوب تحصيل العلم نفسيا كما يقول به الأردبيلي (رحمه‌الله) (٤) وصاحب المدارك (رحمه‌الله) (٥) وإلّا فلا تدل على المدعى من كون وجوب التحصيل مقدمة للعمل ويراد منه الفحص لئلّا يحكم بأصالة البراءة مع إمكان التوصل إلى العمل بالحكم الواقعي.

واعلم أنه قد ذكرنا سابقا أنّ أقوى أدلة وجوب الفحص قصور أدلة البراءة

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٤١١.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٤١٢.

(٣) فرائد الأصول ٢ : ٤١٢.

(٤) مجمع الفائدة والبرهان ٢ : ١١٠.

(٥) المدارك ٢ : ٣٤٤ ـ ٣٤٥ و ٣ : ٢١٩.

٤٨٧

عن شمولها لما قبل الفحص ، أما الدليل العقلي فواضح وسيأتي في المتن ، وأما الأدلة النقلية فلانصرافها عن الشبهة فيما قبل الفحص ، وإلى أنّ البراءة حكم من عجز عن التوصل إلى أدلة الأحكام يعلم ذلك بمراجعة ألفاظ أدلة البراءة ومساقها من جهة الامتنان وغيره.

قوله : مثل قوله (عليه‌السلام) في من غسل مجدورا أصابته جنابة فكزّ فمات : قتلوه قتلهم الله ، إلخ (١).

في المجمع «الكز» داء يتولد من شدة البرد ، وقيل هو نفس البرد ومنه حديث من أمر بالغسل فكز فمات (٢) انتهى ، تقريب الاستدلال أنه يفهم من قوله (عليه‌السلام) «قتلوه قتلهم الله» (٣) الذم بل العقاب على مخالفة الواقع المجهول وهو وجوب التيمم بدلا عن الغسل وترك الغسل معللا بترك السؤال عن حكم الواقعة ، فيدل على أنّ الواقع إذا أمكن الوصول إليه بالسؤال والفحص غير موضوع عن المكلّف فيخصّص به عموم قوله (عليه‌السلام) «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» (٤) وغيره من أدلة البراءة.

أقول : ويمكن المناقشة فيه بأنّ الذم ليس على مجرد مخالفة حكم التيمم الواجب بل على القتل المسبب عن تبديل حكم الله بالغسل في محلّ التيمم ، ويمكن أن يجاب بأنّ الذم على الغسل الموجب للقتل كاف في المطلوب فإنه حرام مجهول غير معذور فاعله لأنّه ترك الفحص ولم يسأل عن حكمه.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٤١٢ ـ ٤١٣.

(٢) مجمع البحرين ٤ : ٣٢.

(٣) الوسائل ٣ : ٣٤٧ / أبواب التيمم ب ٥ ح ٦.

(٤) الوسائل ٢٧ : ١٦٣ / أبواب صفات القاضي ب ١٢ ح ٣٣.

٤٨٨

قوله : وما ورد في تفسير قوله تعالى (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ) ، إلخ (١).

لا تدل هذه الرواية على أزيد من وجوب التعلّم للعمل والذم على ترك التعلّم ، فتدخل في أخبار عنوان الدليل الثاني في عداد أخبار وجوب تحصيل العلم والذم على ترك السؤال ، وكذا الرواية الأخيرة في تفسير (الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ)(٢) إلى آخره ، ولا وجه لعدّهما من روايات عنوان الدليل الثالث ، فتدبّر.

قوله : فتأمل (٣).

لعله إشارة إلى إمكان الفرق بين مثال النظير وما نحن فيه ، فإنه لو لم يجب النظر في الطومار في مثال النظير لزم منه إفحام الأنبياء (عليهم‌السلام) ، وهذا بخلاف ما نحن فيه ، ولكن التحقيق عدم الفرق بينهما وأنّ المناط فيهما واحد وهو عدم قبح العقاب على مخالفة الواقع المجهول عقلا إذا لم يتفحّص عنه مع إمكانه بل يحكم العقل بصحة العقاب عليه.

فإن قيل : إنّ حكم العقل بصحة العقاب على المجهول من غير فحص معلّق على عدم ترخيص الشارع للعمل على البراءة وقد رخّصه بعموم أخبار البراءة.

أجاب المصنف عنه : بأنّ أخبار البراءة معارضة بأخبار الاحتياط فيجمع بينهما بحمل أخبار البراءة على ما بعد الفحص وأخبار الاحتياط على ما قبله.

وفيه : أنه (رحمه‌الله) حمل أخبار الاحتياط في غير موضع في المتن وغيره على الإرشاد ، بل بيّن أنه لا يمكن حملها على غيره بأوفى بيان وهو

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٤١٣.

(٢) النساء ٤ : ٩٧.

(٣) فرائد الأصول ٢ : ٤١٤.

٤٨٩

الموافق للتحقيق ، وعليه فلا تعارض أخبار البراءة البتة حتى يجمع بالوجه المذكور الذي لا شاهد عليه ، والتحقيق في الجواب أنّ أخبار البراءة منصرفة عما قبل الفحص كما مرّ.

قوله : فدعوى اختصاص أطراف العلم الإجمالي بالوقائع المتمكّن من الوصول إلى مداركها مجازفة (١).

ويؤيد ذلك أنّا لا نرى فرقا بالوجدان بين الظنون الحاصلة من المدارك الثابتة الحجية وبين الظن بالواقع الحاصل لا عن مدرك ثابت الحجية في كون كل منهما طرفا للعلم الإجمالي ، مع أنّ الظن الذي لم يثبت حجيته بحكم الشك ، فيكشف ذلك عن كون جميع المحتملات طرفا للعلم الإجمالي سواء كان موردا للأمارات الثابتة الحجية أم لا.

قوله : ثم إنّ في حكم أصل البراءة كل أصل عملي خالف الاحتياط (٢).

لجريان الأدلة المذكورة بأجمعها فيها ، مضافا إلى ما ذكرنا من الانصراف فإنّ أدلة جميع الأصول العملية منصرفة عما قبل الفحص كما يظهر بالتأمّل فيها ، وأما الأصول التي لا تخالف الاحتياط كاستصحاب الوجوب أو الحرمة مثلا وكذا الأصول الجارية في غير موارد الإلزام كاستصحاب استحباب شيء أو كراهته أو عدمهما أو البراءة عن الاستحباب والكراهة ونحوها فيجري فيها بعض الأدلة المذكورة وهو الانصراف الذي ذكرنا ، وكذا الإجماع وأدلة وجوب تحصيل العلم ، فلا يجوز الحكم على طبق الأصل إلّا بعد الفحص ، نعم يجوز

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٤١٥.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٤١٦.

٤٩٠

العمل على طبق الأصل من دون الاستناد إليه ومن دون الإذعان بأنه حكم شرعي ظاهري ، لأنّ المفروض كونه موافقا للاحتياط فلا ضرر فيه جزما ، أو كونه مما ليس في مورده تكليف إلزامي.

قوله : فإن لم يتّفق كونه حراما واقعا فلا عقاب (١).

إطلاق هذا الكلام يشمل ما لو فرض أنه إن تفحّص ظفر بدليل ثابت الحجية إلّا أنه غير مطابق للواقع ، ومقتضى هذا الإطلاق نفي العقاب على هذا الفرض أيضا ، لكنه محلّ إشكال يأتي في المتن في أول تنبيهات المسألة.

قوله : ولو اتفقت حرمته كان العقاب على شرب العصير (٢).

إطلاق هذا الكلام يشمل ما لو فرض أنه إن تفحص لم يظفر بدليل ويكون تكليفه الرجوع إلى الأصل الذي رجع إليه قبل الفحص ، وهو كذلك وقد مرّ وجهه سابقا من أنّ الرجوع إلى هذا الأصل يكون عذرا صحيحا للمكلف على مخالفة الواقع لو كان بعد الفحص ، بخلاف ما قبل الفحص فإنّ التمسك بالأصل حينئذ لا يعدّ عذرا له على مخالفة الواقع لا عقلا ولا شرعا.

قوله : عدا ما يتخيّل من ظهور أدلة وجوب الفحص وطلب تحصيل العلم في الوجوب النفسي (٣).

ربما يورد على كون وجوب تحصيل العلم نفسيا بأنه لا يعقل ذلك ، مع أن مصلحته منحصرة في التوصل به إلى العمل ، فلا جرم يكون الواجب النفسي الذي تعلّق به الطلب لنفسه هو العمل بالأحكام ، ويكون الفحص وتحصيل العلم

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٤١٦.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٤١٦.

(٣) فرائد الأصول ٢ : ٤١٦.

٤٩١

بها مقدمة له يجب بوجوبه غيرا لا نفسا.

وفيه أوّلا : أنه يمكن أن يكون في تحصيل العلم مصلحة أخرى مقتضية للإيجاب النفسي غير مصلحة التوصل المذكورة ، فمن أين يعلم انحصار المصلحة في التوصل إلى العمل.

وثانيا : أنه على تقدير انحصار المصلحة في التوصل يمكن أن يكون تلك المصلحة حكمة مقتضية للإيجاب النفسي مطلقا بحيث يكون تحصيل العلم واجبا مطلقا ولو لم يتوصل به إلى العمل ، ويكون وجه التعميم الكذائي حماية الحمى وهو نظير استحباب غسل الجمعة مطلقا لحكمة رفع رياح الآباط غير المطردة ، وتشريع العدة لحكمة دفع اختلاط الأنساب غير المطردة ، وإيجاب الصلاة مثلا لحكمة كونها موجبة للقرب والزلفى وأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر مع أنه لم يقل أحد بأنّ الواجب نفسا هو القرب والنهي عن الفحشاء ووجوب الصلاة غيري مقدمي وسيشير المصنف إلى هذا الوجه في المتن عن قريب.

وحينئذ نقول لمّا كانت نفسية وجوب تحصيل العلم أمرا معقولا فإذا وجد دليل يكون ظاهره الوجوب النفسي يحمل عليه لا يصرف إلى الغيري ، إلّا أنّ المصنف ادعى أنّ المستفاد من أدلته الوجوب المقدمي ، وهو كذلك في جملة من أخبار الباب ، إلّا أنّ الإنصاف أنّ بعضها ظاهر في الوجوب النفسي مثل قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة» (١) ومثل ما رواه في مقدمة كتاب معالم الدين بإسناده عن الأصبغ بن نباتة قال «قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه‌السلام) تعلموا العلم فإنّ تعلّمه حسنة

__________________

(١) بحار الأنوار ١ : ١٧٧.

٤٩٢

ومدارسته تسبيح والبحث عنه جهاد وتعليمه من لا يعلمه صدقة» الحديث (١) وفي المعالم أيضا عن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) «اعلموا أنّ كمال الدين طلب العلم والعمل به ، ألا وإن طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال ، إنّ المال مقسوم مضمون لكم قد قسمه عادل بينكم ... والعلم مخزون عند أهله وقد أمرتم بطلبه من أهله فاطلبوه» (٢) وفيه أيضا عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) يقول «اطلبوا العلم وتزيّنوا معه بالحلم» (٣) إلى غير ذلك من الأخبار.

قوله : لكنه قد أسلفنا الكلام فيه صغرى وكبرى (٤).

أما الكلام في الكبرى وهي قبح التجرّي وحرمته فقد أسلفه في رسالة القطع واختار عدمه ، وأما الصغرى وهي أنّ الإقدام على محتمل الضرر كالإقدام على ما يعلم كونه مضرة فقد أسلفه في أوائل الرسالة عند التعرض لأدلة الاحتياط في الشبهة الحكمية التحريمية ، وهكذا في الشبهة الموضوعية التحريمية ، وقد أشار إليه أيضا في رسالة الظن عند التعرض للأدلة العقلية على حجية الظن ، ومحصّل ما ذكره في المواضع المذكورة منع كون الإقدام على المحتمل كالإقدام على المعلوم الضرر لو أريد به الضرر الأخروي ، لأنّ قبح العقاب على ارتكاب المحتمل مما يستقل به العقل ، فالضرر من جهته مما يؤمن منه بحكم العقل.

لكن لا يخفى أنّ حكم العقل بالتأمين إنما هو فيما بعد الفحص لا قبله كما عرفته ، فالصغرى على هذا حق. ويمكن أن يكون مراد المتن أنه قد أسلفنا

__________________

(١) معالم الدين : ١٢.

(٢) نفس المصدر ص ١٣.

(٣) نفس المصدر ص ٢٠.

(٤) فرائد الأصول ٢ : ٤١٧.

٤٩٣

الكلام في صحة الصغرى وفساد الكبرى إلّا أنه بعيد عن العبارة ، بل ظاهره الإيراد على الصغرى والكبرى جميعا إحالة على ما سلف منه ، وكيف كان فقد ظهر مما ذكر حقّية الصغرى ، وظهر أيضا حقّية الكبرى مما أسلفناه في رسالة القطع عند تعرّض المصنف لردّها والمناقشة على أدلتها فراجع.

قوله : وقد خالف فيما ذكرنا صاحب المدارك تبعا لشيخه المحقق الأردبيلي ، إلخ (١).

يستفاد ذلك من مواضع من كلام المدارك منها : ما ذكره في أحكام النجاسات عند شرح قول المحقق وإذا أخلّ المصلي بإزالة النجاسة ، إلى آخره. ومنها : ما ذكره في مسألة الثوب المغصوب. ومنها : ما ذكره في مسألة الصلاة في المكان المغصوب ، وكيف كان كلامه ظاهر بل صريح في أنّ استحقاق العقاب على ترك التعلم لا على نفس مخالفة الواقع ، قال في آخر كلامه في أحكام النجاسات إن أرادوا أنّ الجاهل كالعامد في استحقاق العقاب فمشكل ، لأنّ تكليف الجاهل بما هو جاهل به تكليف بما لا يطاق ، نعم هو مكلّف بالبحث والنظر إذا علم وجوبهما بالعقل والشرع فيأثم بتركهما لا بترك ذلك المجهول كما هو واضح انتهى ، وحينئذ فما احتمله بعض المدققين من كلامه وهو صاحب الذخيرة فيها على ما في المتن ، وكذا الاحتمال الثالث الذي زاد عليه المصنف ، فيه ما لا يخفى.

ثم لا يخفى أنّ ما أشار إليه في دليل مختاره من قبح تكليف الغافل إنما يختصّ بالجاهل الغافل فلا يشمل الجاهل الملتفت التارك للفحص عن الدليل العامل بالأصل على ما هو موضوع البحث.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٤١٨.

٤٩٤

قوله : وحينئذ فإن أراد المشهور توجّه النهي إلى الغافل حين زمان غفلته (١).

وتفصيل الكلام في توضيح المقام إنّما يتم ببيان أمور :

الأول : الحق كما هو المشهور أنّ العقاب إنما يترتب على مخالفة نفس ما أمر به الشارع أو نهى عنه مطلقا ، وقد عرفت أنّ صاحب المدارك تبعا لشيخه الأردبيلي قال بأنّ العقاب يترتب على ترك التعلّم في حق الجاهل لأنه المقدور في حقه وقبح تكليف الغافل.

وقد يقال إنّ العقاب يترتب على ترك المقدمة مطلقا التي يخرج ذو المقدمة بتركها عن قدرة المكلف ويصير ممتنعا بالغير سواء كان المقدمة المفروضة تحصيل العلم أو غيره من مقدمات الوجود كما احتمله صاحب الذخيرة في كلام المدارك ، ويسند إلى السيد المرتضى (رحمه‌الله) في بعض الصور ، دليل المشهور أنّ استحقاق العقاب إنما يترتب على عنوان المعصية عقلا وليس هو إلّا مخالفة نفس المأمور به بالترك أو مخالفة نفس المنهي عنه بالفعل إذا كان ذلك مستندا إلى اختيار المكلّف بحيث يصحّ أن يقال إنه ترك المأمور به أو فعل المنهي عنه اختيارا ولو كان ذلك باعتبار تحقق اختيار سابق عن زمان الترك أو الفعل ، ويشترط أن يكون في مخالفته غير معذور أيضا من جهة جهله مع عدم التقصير أو غير ذلك من خوف أو تقية أو نحو ذلك ، ويشهد على هذا المعنى جملة من الآيات والأخبار كما لا يخفى على المتتبّع الخبير قال الله تعالى في سورة المدّثر حكاية عن حال العصاة (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ* إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ* فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ* عَنِ الْمُجْرِمِينَ* ما سَلَكَكُمْ فِي

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٤١٩.

٤٩٥

سَقَرَ* قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ* وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ* وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ* وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ* حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ)(١).

وأما ما يقال من أنّ العقاب لا يصح إلّا على المقدور ، وبعد ترك المقدمة يكون ذوها غير مقدور ، ففيه : أنّ المقدور بالواسطة مقدور ، وأما قبح تكليف الغافل ففيه ـ مضافا إلى ما مرّ من أنّه أخصّ من المدّعى لجواز فرض كون الجاهل ملتفتا حين المخالفة شاكا مترددا ـ أنّ القبح لو سلّم فإنما يسلّم بالنسبة إلى الخطاب الفعلي حين غفلته ، وأما خطابه قبل ذلك في زمان التفاته وقدرته على تحصيل العلم وإبقاء الذكر وعدم ترك سائر المقدمات فليس بقبيح جزما ، ويكفي ذلك في صحة تكليف الغافل وإن لم يمكن الخطاب حال الغفلة وقلنا بسقوط الخطاب بترك التعلّم والغفلة فإنّ أثره باق إلى زمان تحقق المخالفة بترك المأمور به أو فعل المنهي عنه في زمانه ، وبالجملة هذا المطلب أعني ترتّب العقاب على مخالفة ذي المقدمة دون المقدمة قد صار في هذه الأزمنة من الواضحات لأجل ما حققه المحقّقون وبيّنوه في فصل مقدمة الواجب ببيانات شافية وافية.

الثاني : أنّ محتملات قول المشهور من كون استحقاق العقاب على مخالفة نفس التكليف خمسة : ثلاثة منها مذكورة في المتن ، رابعها : الفرق بين ترك التعلّم وسائر المقدمات ، ففي الأول يتحقق استحقاق العقاب على المخالفة وقت المخالفة مع بقاء الخطاب وتوجّه النهي إليه حينئذ ، وفي الثاني يتحقق ذلك وقت المخالفة مع عدم بقاء التكليف بحسب الخطاب بل باعتبار صحة العقاب فقط ، خامسها : الاحتمال المذكور بعينه غير أنه في الشق الثاني يقال بتحقّق

__________________

(١) المدثر ٧٤ : ٣٨ ـ ٤٧.

٤٩٦

الاستحقاق قبل المخالفة عند ترك المقدمة ، واختار المصنف في المتن الاحتمال الثالث ، لكن التحقيق هو الوجه الرابع كما سيظهر.

الثالث : الحق أنه يحصل استحقاق العقاب في زمان مخالفة التكليف لا قبله عند ترك المقدمة ، وذلك لما مرّ من أنّ العقاب مترتب على العصيان الذي لا يتحقق إلّا في زمان فوات التكليف ، وعند ترك المقدمة كما أنه لا يصحّ أن يقال إنه زمان الإطاعة كذلك لا يصحّ أن يقال إنه زمان المخالفة ، واستحقاق العقاب المترتب على المخالفة لا يتقدّم على المخالفة بحسب الزمان ولو علمنا عند ترك المقدمة أنه يحصل المخالفة في وقته لا محالة ويترتب عليها لازمها أعني الاستحقاق ، فإنّ زمان العلم بالاستحقاق في وقت المخالفة هنا مقدّم على زمان نفس الاستحقاق ، ولعل هذا منشأ توهّم أنّ نفس الاستحقاق مقدّم بالزمان على زمان المخالفة.

وما ذكره في المتن في دفعه من أنّه لا وجه لترقّب حضور زمان المخالفة لصيرورة الفعل مستحيل الوقوع لأجل ترك المقدمة ، مضافا إلى شهادة العقلاء بحسن مؤاخذة من رمى سهما لا يصيب زيدا ولا يقتله إلّا بعد مدة بمجرّد الرمي ، انتهى. فيه : أنّ صيرورة الفعل مستحيل الوقوع بترك المقدمة إنما يوجب العلم بتحقق الاستحقاق فيما بعد عند حصول المخالفة لا حصول نفس الاستحقاق حين ترك المقدمة ، وأما شهادة العقلاء بحسن مؤاخذة من رمى سهما بمجرد الرمي قبل تحقق قتل زيد فلعلها من باب المسامحة وإلّا فكيف يؤاخذ على معصية لم تقع بعد فإنّه يعدّ ظلما عند الدقة لا مجازاة على العمل ، ويشهد لما ذكرنا من أنّ حكمهم بحسن المؤاخذة من باب المسامحة أنهم لا يفرّقون في حكمهم بحسن المؤاخذة بين ما إذا تحقق قتل زيد فيما بعد بذلك السهم ، أو لم يتحقق بأن مات قبل وصول السهم إليه حتف أنفه أو بسبب آخر.

٤٩٧

والتحقيق عدم حسن المؤاخذة في الصورتين لأنّه أشبه شيء بالقصاص قبل الجناية ، نعم يحسن ذمّه من حيث إنّه أراد قتل زيد وأتى بما هو سبب للقتل في اعتقاده سواء حصل القتل بعد ذلك أو لم يحصل ، والظاهر أن هذا يرجع إلى مذمّة الفاعل وخبثه وسوء نيّته لا إلى قبح فعله الذي قد يكون سببا لحصول المعصية حتى يحسن مؤاخذته عليه ، ولا إلى حصول معصية التكليف الآن قبل مجيء زمان التكليف لكي يحسن مؤاخذته لذلك ، نعم قد يفهم في بعض المقامات من النهي عن قتل زيد مثلا النهي عن رميه بقصد القتل فيكون الرمي منهيا عنه لنفسه ويعصي حينئذ بنفس الرمي ، ويكون حكمة النهي والغرض منه عدم قتل زيد ، وفي هذه الصورة يحصل استحقاق العقاب حين الرمي لا محالة تحقيقا لا مسامحة ، لكنه لا فرق فيه أيضا بين أن يتحقق به قتل زيد أو لم يتحقق فإنه يحسن مؤاخذته على كل تقدير وهو غير ما نحن فيه من فرض كون الرمي مقدمة للقتل المنهي عنه.

الرابع : الحق سقوط الخطاب بمجرد ترك المقدمة المفضي إلى ترك ذي المقدمة ، فإنه بترك المقدمة خرج عن تحت القدرة ، ولا معنى للتكليف بغير المقدور والخطاب به ، فكما أنه قد يسقط الخطاب بالإطاعة وقد يسقط بالعصيان كذلك يسقط بترك المقدمة الذي يستحيل معه الإطاعة بعد ذلك ، وإنما يحصل العصيان بعد ذلك في الزمان المطلوب فيه إيجاد المأمور به بملاحظة تحقق الخطاب قبل ترك المقدمة وإفادته الإيجاب بالوجوب التعليقي لا بملاحظة مخالفة الخطاب المتحقق حين تحقق العصيان.

وبالجملة فعلية التكليف والخطاب به مشروطة بالقدرة ، لكن هذا كله بالنسبة إلى غير العلم من مقدمات الوجود وأما بالنسبة إلى العلم فلا يسقط الخطاب عن الجاهل التارك للتعلّم مقصّرا كان أو قاصرا ، فإنه حين مخالفة

٤٩٨

الواقع مخاطب بالخطاب الواقعي ، لأن صحة التكاليف غير مشروطة بالعلم كما أنها مشروطة بالقدرة بناء على التحقيق من بطلان التصويب والقول بالتخطئة بالنص والإجماع.

فقد ظهر من ذلك كله صحة الوجه الرابع من الوجوه الخمسة المتقدمة ولا يأبى حمل كلام المشهور عليه أيضا كما سيظهر.

ولا يخفى أنّ الحكم في طرف الثواب أيضا كذلك إنما يستحقه على موافقة نفس التكاليف الواقعية دون مقدمتها مطلقا ، ولو كانت سببا يجب وجود المسبب بعد إيجاده ، ولا يتحقق الاستحقاق إلّا في زمان الموافقة بالخطاب الموجود عندها.

قوله : لكن بعض كلماتهم ظاهرة في الوجه الأول ، إلخ (١).

لا بأس بأن نتكلم في تحقيق هذه المسألة أوّلا ثم نتعرّض لوجه التأييد الذي أراده في المتن لحمل كلام المشهور على الوجه الأول وسائر ما يتعلق بتوضيح ما في المتن فنقول : الكلام تارة في صحّة صلاة الجاهل بالغصب أو ناسيه موضوعا أو حكما وفسادها ، وأخرى في صحّة صلاة من توسّط أرضا مغصوبة في حال خروجه.

أما الأول فينبغي أن يقال على مذاق المانعين من اجتماع الأمر والنهي على ما هو مفروض المتن أنهم إن جعلوا مناط فساد الصلاة في الدار المغصوبة عدم جواز اجتماع الأمر والنهي الواقعيين فلازمه أن يقولوا بالفساد في جميع الصور الأربعة المذكورة من الجاهل أو الناسي بالحكم أو الموضوع ، لمساواتها

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٤١٩.

٤٩٩

لصورة العلم بالحكم والموضوع من حيث ذلك المناط ، وإن جعلوا المناط عدم جواز اجتماع الأمر والنهي الفعليين على القول بأنّ مقام الفعلية والتنجّز مرتبة أخرى من الطلب ينشئه الآمر ، وكذا على المختار من أنّ التنجّز إنما هو بحكم العقل بصحة العقاب على الخطاب الواقعي ، ومعنى عدم التنجّز عدم صحة العقاب عليه ، فلازمه أن يقولوا بالصحة في جميع الصور الأربعة المذكورة ، ضرورة عدم النهي الفعلي بالمعنى المذكور لمكان الجهل أو النسيان ، نعم يستثنى منه ما لو كان الجاهل حين العمل ملتفتا مترددا يصحّ توجّه النهي إليه فعلا على ما مرّ بيانه سابقا ، فينبغي أن يقال بفساد صلاته.

لكن التحقيق على مذاقهم يقتضي القول بالوجه الأول وأنّ مناط الفساد عدم كون الصلاة الواقعة في المكان المغصوب مأمورا بها لأجل تحقق النهي الواقعي لإرجاعهم للمسألة إلى الاجتماع الآمري المتفق على عدم جوازه ، فوجه عدم الجواز على هذا ليس إلّا مما يتعلّق بفعل الآمر وما يكون من قبله من امتناع إنشاء الإيجاب للصلاة المفروضة مع نهيه عنها في الواقع أو امتناع اجتماع إرادته وكراهته لها أو امتناع اجتماع محبوبية الصلاة الكذائية ومبغوضيتها ، أو امتناع اجتماع المصلحة الواقعية والمفسدة الواقعية على اختلاف كلماتهم في وجه المنع ، ومن المعلوم أنّ هذه الوجوه لا ربط لها بالمكلّف ، وعلمه وجهله لا يصير منشأ للفرق ، لأنّ جهل المكلف أو نسيانه بحكم الغصب أو موضوعه إنما يوجب معذوريته وعدم العقاب عليه لو لم يكن معذورا لا رفع الخطاب الواقعي لو كان ، والمفروض أنّ وجه منع الاجتماع امتناعه من قبل الآمر ، وحينئذ فالتفصيلات المذكورة في كلماتهم بين جاهل الحكم أو الموضوع أو بين الجاهل والناسي حكما أو موضوعا ليس على ما ينبغي ، هذا كله على ما اختاروه من أنّ لازم القول بعدم جواز الاجتماع فساد الصلاة نظرا

٥٠٠