حاشية فرائد الأصول - ج ٢

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-089-6
الصفحات: ٥٩٤
الجزء ٢ الجزء ٣

تنبيه :

قيل إنّه لا يعقل التخيير الاستمراري في مسألتنا هذه ، فلا بدّ من أن يراد من التخيير في أخبار الباب التخيير البدوي ، وذلك لأنّ موافقة أحد المتعارضين لا تحصل إلّا بأخذه أبدا ، ألا ترى أنه لو قال لا تشرب الخمر مثلا لا يحصل امتثال هذا التكليف إلّا بترك الشرب أبدا في جميع الوقائع والأزمان ، وإلّا فلو شرب في وقت من الأوقات فقد عصى ولم يمتثل النهي وإن ترك في سائر الأوقات.

وفيه : أنّ الامتثال أو المخالفة يعتبر بالنسبة إلى كل واقعة واقعة ، ففي كل واقعة وافق خطاب الشارع فقد امتثله ويستحقّ به المدح والثواب لو كان بقصد الإطاعة ، وفي كلّ واقعة خالفه عصى ويستحق به الذم والعقاب بذلك ، لأنّ الخطاب الواحد ينحلّ إلى خطابات عديدة فيما إذا كان متعدّد الوقائع ، ويلحق كلّ واقعة حكمه من الإطاعة والمعصية ، وليس مجموع الوقائع أمرا واحدا باعتبار التكليف بها من حيث المجموع حتى يتوهّم أنّ له إطاعة واحدة ومعصية واحدة ، نعم لو ادّعى أنّ الظاهر المتبادر من أخبار التخيير هو التخيير البدوي كان قريبا فتدبّر.

قوله : ويرد على الأول أنّ الحكم في ذلك هو تحريم الوطء (١).

وذلك لما ذكرنا في صدر المسألة من أنّ محل الكلام ما إذا لم يكن هناك أصل موضوعي يتعيّن به حكم المسألة ، أو كان وكان معارضا بمثله باعتبار العلم

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ١٩٣.

٢٤١

الإجمالي بحيث يلزم من إجراء الأصلين طرح العلم الإجمالي ، ففي المثال المذكور لمّا لم يكن جريان أصالة عدم الزوجية وأصالة عدم تعلّق الحلف بالمرأة المعيّنة منافيا للعلم الإجمالي لم يكن مانع من إجرائهما وتعيين حكم المسألة بالأصل ، وبالجملة يخرج المسألة عن دوران الأمر بين المحذورين.

ويوضح ما ذكرنا : أنّه لو فرض كون متعلّق هذا العلم الإجمالي مختلفا كما إذا علم إجمالا بكون حليلته هند مثلا محلوفة الوطء أو كون المرأة الأخرى زينب أجنبية ، فلا مانع من جريان أصالة عدم كون هند محلوفة الوطء ، وأصالة عدم زوجية زينب ، فيترك وطئهما جميعا ، ولا يلزم مخالفة العلم الإجمالي ، ويمكن الاحتياط أيضا بوطء هند وترك وطء زينب ، ومما ذكرنا ظهر أنّ :

قوله : وعلى الثاني أنّ الحكم عدم وجوب الشرب وعدم حرمته جمعا بين أصالتي الإباحة وعدم الحلف على شربه (١).

محلّ نظر ومنع ، لأنّه بإجراء الأصلين يلزم طرح العلم الإجمالي ، فالأصلان متعارضان من جهة العلم الإجمالي ، غاية الأمر أنّ أحد المتعارضين أصل موضوعي والآخر حكمي ، إلّا أنّه لا حكومة لأحدهما على الآخر فيتعارضان فهذا المثال مثال للمسألة ، ويوضحه ما لو فرضنا تعدد متعلّق طرفي العلم الإجمالي كما لو علم إما بكون هذا المائع خمرا أو ذاك المائع خلا محلوف الشرب ، فلا يجوز إجراء الأصلين للزوم طرح العلم وحصول المخالفة العملية ، أو فرضنا تردد المائع بين كونه خلا محلوف الشرب بقصد القربة أو خمرا ، فبإجراء الأصلين وشربه لا بقصد القربة يلزم المخالفة العملية.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ١٩٣.

٢٤٢

قوله : بل هنا أولى إذ ليس فيه إلخ (١).

ما ذكره في وجه الأولوية غير واضح ، إذ لا نجد فرقا بين إطراح قول الإمام (عليه‌السلام) في الحكم الشرعي الكلّي أو الحكم الجزئي كما في مسألتنا.

قوله : قد يستشكل فيه لأنّ ظاهر تلك الأدلة نفي المؤاخذة والعقاب (٢).

عمدة نظره إلى حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، وإلّا فليس في أدلة البراءة ما يكون ظاهره نفي المؤاخذة والعقاب سوى قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(٣) وحديث الرفع بناء على تقدير خصوص المؤاخذة ، والآية ليست دليلا عند المصنف لما أورده على الاستدلال بها هناك ، ولا يذهب عليك أنّ العقل حاكم بقبح التكليف بلا بيان وإن لم يكن عقاب عليه على ما مرّ بيانه في محلّه مستوفى ، وقد مرّ أيضا أن الحق أنّ المنفي في حديث الرفع جميع الآثار على خلاف ما اختاره المصنف ، فإذن جميع أدلة البراءة تشمل الطلب غير الإلزامي ، ولو سلّم عدم شمول بعضها ففي البقية كفاية إن شاء الله ، ولعله إلى ذلك أشار بقوله فتدبّر.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ١٩٣.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ١٩٤.

(٣) الإسراء ١٧ : ١٥.

٢٤٣
٢٤٤

مباحث الشك

الأصول العملية

أصالة الاشتغال

٢٤٥
٢٤٦

قوله : الموضع الثاني في الشك في المكلّف به مع العلم بنوع التكليف (١).

قد مرّ غير مرّة عدم الفرق في حكم العقل بل الشرع بين العلم بجنس التكليف كالالزام وتردّده بين وجوب شيء وحرمة شيء آخر مثلا وبين العلم بنوع التكليف كالحرمة وتردّده بين أمرين ، وبالجملة كان ينبغي أن يجعل عنوان المسألة أعم وإن كان يتفاوت الأمر بينهما في بعض خصوصيات المطلب فتبصّر.

قوله : الأولى لو علم التحريم وشكّ في الحرام من جهة اشتباه الموضوع الخارجي (٢).

لا يخفى أنّ المسألة أعم من أن يكون العلم الإجمالي مسبوقا بالعلم التفصيلي ثم حصل الاشتباه أو حصل العلم أوّلا بحرمة أحد الأمرين ، وربما يفرّق بينهما بوجوب الاحتياط في الأول لتنجّز التكليف قبل حصول الاشتباه ولا رافع له بخلاف الثاني.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ١٩٥.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ١٩٨.

٢٤٧

ثم لا يخفى أنّ العلم هنا أعم من العلم الوجداني أو الشرعي كما لو قام على حرمة أحد الإناءين مثلا بيّنة عادلة أو كان أحدهما غير المعيّن مستصحب الحرمة.

ثم إنه قد يكون الحرام المعلوم المشتبه بين الأطراف معلوم العنوان بأحد العناوين الأخر ككونه إناء زيد مثلا وقد لا يكون كذلك ، ولعله ينفعك هذه الأمور الثلاثة فيما سيأتي فانتظر.

قوله : في مقامين أحدهما جواز ارتكاب كلا الأمرين أو الأمور (١).

قد تعرّض المصنف لهذا المقام في رسالة القطع وأحال المقام الثاني إلى ما يذكره هاهنا ، وأشار إلى أنّ الأول مناسب لمسألة القطع وحجيته مطلقا ، والمقام الثاني يناسب أن يتعرّض له في مسألة البراءة ، وعلى هذا فتعرّضه للمقام الأول هاهنا استطرادي ، وقد ذكرنا هناك أنّ المقامين يناسب المقامين.

قيل إنّ تعرّضه للمسألة في رسالة القطع هو من حيث كون العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي مقتضيا لثبوت التكليف وعدمه ، وأما تعرّضه لها في مسألتنا من حيث ثبوت التكليف الفعلي وعدمه.

وفيه : أنّ التنجّز الذي تكلّم فيه هناك ليس إلّا فعلية التكليف ، ولو قيل إنّ المقصود من التعرّض في رسالة القطع إنما كان بملاحظة حكم العقل فقط والمقصود فيما نحن فيه تعرّض ثبوت الإذن الشرعي على مخالفة الحكم العقلي الأولي وعدمه لم يكن بعيدا ، وحينئذ يكون تعرّضه للحكم العقلي هاهنا استطراديا (٢).

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ١٩٩.

(٢) أقول : ولعل مراد ما حكيناه عن قول القيل هو هذا أيضا ، وهذا بحث لا طائل تحته.

٢٤٨

قوله : لنا على ذلك وجود المقتضي للحرمة وعدم المانع عنها (١).

وببيان آخر أنا إذا راجعنا وجداننا لم نجد فرقا بين العلم الإجمالي بالحرام والعلم التفصيلي به في صحة العقاب على المخالفة لو اتّفقت ، وجهل المكلف تفصيلا ليس مانعا عن ذلك في حكم العقل ، بل نقول وكذا لو حصل العلم بتعلّق التكليف إما به أو بغيره كواجدي المني فإنّه يصحّ عقاب الجنب منهما لو ترك الغسل أو دخل المسجد ونحو ذلك عقلا لو لم يرد من الشارع ما يدل على البراءة ، بل نقول بذلك في الشبهة البدوية مطلقا لما عرفت سابقا من حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل فإنّ جميع المذكورات من واد واحد ، ولو لا الترخيص الشرعي كان الحكم وجوب الاحتياط في الكل بحكم العقل المستقلّ.

إلّا أنّ التحقيق عندنا جواز المخالفة القطعية ، وإثبات هذا المدّعى يتوقّف على أمرين : أحدهما دعوى أنّ حكم العقل بحرمة مخالفة حكم الشارع معلّق على عدم ترخيصه إياها بوجه من الوجوه لحكمة يراها في هذا الترخيص. الثاني دعوى ورود الترخيص من الشارع في مخالفة العلم الإجمالي ، أما الأول فقد مرّ بيانه مرارا في رسالة القطع وفي رسالة الظن في أول بحث حجية الخبر الواحد عند تعرّض كلام ابن قبة وفي أوائل مبحث البراءة ، ونقول هاهنا أيضا : إنا إذا راجعنا وجداننا نجد أنّ العقل لا يحكم أزيد من أنّ مخالفة حكم المولى موجبة لاستحقاق العقاب لو لم يأذن هو في ارتكاب جميع أطراف الشبهة ، لا بمعنى كون التعليق في حكم العقل فإنّه لا معنى له ، بل بمعنى كون موضوع حكم العقل مقيدا بعدم الإذن كما مرّ بيانه سابقا.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٢٠٠.

٢٤٩

وما يظهر من المصنف أنّ ذلك غير معقول للزوم التناقض في حكم الشارع ، لأنّ حكم الحرمة واقعا ثابت غير مقيّد بالعلم والجهل ، فإن حكم بالحلية والترخيص في مورد العلم الإجمالي مع وجود الحرام في البين واقعا حصل التناقض.

مدفوع أوّلا : بالنقض بالعلم الإجمالي بالتكليف المتعلّق بأحد الشخصين مع أنه قائل بأصل البراءة ، وعدم علم كلّ منهما بتعلّق التكليف به لا يدفع التناقض في حكم الشارع بعد ترخيصه لكل واحد ارتكاب خلاف العلم الإجمالي ، وبالنقض بجعل مطلق الأمارات والأصول التي قد تخالف الواقع جزما ، فإنّه مع بقاء الحكم الواقعي واقعا يحصل التناقض ويثبت ما رامه ابن قبة من أنّ حجية خبر الواحد موجبة لتحليل الحرام وتحريم الحلال.

وثانيا : بالحلّ ، وهو أنه لا مناقضة بين كون الشيء حراما واقعا حلالا في الظاهر سواء جعلنا الأحكام الظاهرية أحكاما أو أعذارا كما سبق تحقيقه وقلنا بمثل ذلك في العلم التفصيلي أيضا فإنّ حكم العقل بوجوب متابعته معلّق على عدم منع الشارع عنه وتعيين عمله بغيره من أصل أو أمارة كما نقول ذلك في القطاع ، ويشهد بذلك منع العمل بالظن القياسي حال الانسداد مع أنّ الظن حال الانسداد حاله حال العلم في زمان الانفتاح عند المصنف من كونه طريقا منجعلا يحكم العقل المستقل بوجوب متابعته كالعلم ، فلو لم يكن حكم العقل معلّقا لم يكن له وجه بل لم يمكن خروج القياس ، وبالجملة أنّ حكم العقل بحيث لا ينافي ترخيص الشارع لارتكاب الشبهة المحصورة ، ويبقى الكلام في ورود الترخيص كما هو الحق وسيتّضح ذلك فانتظر.

٢٥٠

قوله : وأمّا الشرع فلم يرد فيه ما يصلح للمنع عدا ما ورد من قولهم (عليهم‌السلام) كل شيء حلال (١).

بل جميع أدلة البراءة عقلها ونقلها الشاملة للشبهات الموضوعية بمذاق المصنف ، فلا خصوصية للخبرين المذكورين في المتن ، والمصنف وإن عطف عليهما قوله وغير ذلك لكنّ الظاهر أنّه أراد منه غيرهما مما هو بلفظهما ، وقد ذكرناها نحن في عداد أخبار البراءة في محلّه في الشكّ في التكليف ، ولو أراد من قوله غير ذلك جميع أدلة البراءة فلا بحث والأمر سهل.

قوله : ولكنّ هذه الأخبار وأمثالها لا تصلح للمنع ـ إلى قوله ـ لأنّه أيضا شيء علم حرمته (٢).

يريد أنه كما أنّ صدر الرواية يدل على حلّية كل واحد من المشتبهين كذلك ذيلها يدلّ على حرمة الحرام المعلوم في البين المقتضية لوجوب الاجتناب عنهما ، فيكون الذيل قرينة على كون المراد من الصدر حلّية المشتبهات بالشبهة البدوية أو الشبهة غير المحصورة أو المحصورة مع خروج بعض أطرافها عن محلّ الابتلاء ، ولو منع من كونه قرينة فلا أقلّ من تعارض ظهور الصدر والذيل ، فلم يثبت المانع الشرعي لوجوب الاجتناب الذي اقتضاه الدليل لولاه ، هذا لكنّ المظنون بل المقطوع به كما صرّح به في مواضع أخر أنّ مراده الاحتمال الأول وأنّ غاية الحكم بالحلّية هو العلم بالحرام ، وهو حاصل فيما نحن فيه لأنّه أعمّ من التفصيلي والإجمالي.

وفيه : أنّ ما جعل غاية في الرواية هو العلم بحرمة شيء كان مشكوكا بأن

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٢٠٠.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٢٠١.

٢٥١

يرتفع الشك ويحصل العلم بحرمة ذلك الشيء المشكوك لا العلم بحرمة شيء آخر غير المشكوك كعنوان إناء زيد أو عنوان أحدهما أو عنوان الخبر الموجود في البين ، وببيان أوضح كل واحد من المشتبهين يصدق عليه أنه شيء مجهول الحكم فهو حلال بمقتضى الرواية حتى يعلم أنّ ذلك الشيء حرام ، فالغاية هو العلم بحرمة ذلك الشيء ولم يحصل ، وما علم حرمته من إناء زيد أو عنوان أحدهما لم يكن مصداقا آخر لكل شيء بأن يكون هذا الإناء مصداقا وذاك الإناء مصداقا وإناء زيد أو أحد الإناءين مصداقا ثالثا حتى يقال إنه حصل الغاية بالعلم بحرمة إناء زيد كما هو واضح ، ولو كان كذلك لزم كون إناء زيد مصداقا لشيء مرتين لعدم كونه خارجا عن إناءين شخصيين كل واحد منهما مصداق له بالفرض ، وأيضا لا معنى لكون العلم بحرمة إناء زيد وهو أحد مصاديق كل شيء غاية لحلّية مصداقين آخرين منه ، وإنما يكون غاية لحلّية نفس ذلك المصداق ولا بحث لنا عنه ، فلا يدلّ على حرمة هذا الإناء الخارجي وذاك الإناء الخارجي.

ويشهد لما ذكرنا أنّه لو كان معنى قوله (عليه‌السلام) «كل شيء حلال» إلى آخره (١) كل شيء حلال حتى تعلم إجمالا أنّه أو غيره حرام لزم الحكم بوجوب الاجتناب عن الشيء المعلوم أنه أو شيئا آخر خارجا عن محلّ الابتلاء حرام ، إذ لا فرق في العلم الإجمالي الكذائي بين كون الأطراف بأجمعها محلا للابتلاء وعدمه ، وإن كان بينهما فرق فليس في اللفظ هاهنا قيد يفيد أنّ المراد هو الأول دون الثاني ، والحاصل أنّ الاستناد في منجزية العلم الإجمالي بدلالة هذين الخبرين وأمثالهما على حرمة مطلق معلوم الحرمة ولو إجمالا وعدم

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٨٩ / أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ٤.

٢٥٢

جريان أصالة الحلّ بالنسبة إلى كلّ من المشتبهين لحصول غايتها في محل المنع كما عرفته ، وقد سلك المصنف هذا المسلك هنا في موضع وفي رسالة الاستصحاب أيضا في موضع.

إلّا أنّ له مسلكين آخرين في بيان تنجّز العلم الإجمالي : أحدهما حكم العقل بوجوب مراعاة العلم الإجمالي كالتفصيلي بحيث لا يعقل الترخيص في المخالفة كائنا ما كان. وثانيهما : أنّ الأصلين في طرفي الشبهة جاريان في حدّ أنفسهما لكنهما متعارضان بسبب العلم الإجمالي فيتساقطان ، ويبقى العلم الإجمالي مقتضيا للاحتياط ، وسيأتي التكلّم على هذين المسلكين عند تعرّض المصنف لهما. فتحصّل مما ذكرنا أنّ العلم الذي جعل غاية في الخبرين خصوص العلم التفصيلي ولو مع قطع النظر عن لفظ بعينه أو عدم دلالته عليه ، فلا مانع من إجراء الأصل في أطراف المعلوم بالإجمال من هذه الجهة وهو المانع الشرعي عن تنجّز العلم الإجمالي ، وسيأتي تمام البيان.

قوله : قلت أما قوله (عليه‌السلام) «كل شيء حلال حتى تعلم» (١).

الانصاف أنه لا فرق بين الروايتين في ظهورهما في أنّ الغاية هو العلم التفصيلي بشخص الحرام واحتمال التأكيد قائم فيهما ، فكما يحتمل في الرواية الأولى أن يكون قوله (عليه‌السلام) بعينه تأكيدا لضمير أنه أو ضمير حرام كذلك يحتمل أن يكون في الرواية الثانية تأكيدا لضمير منه أو للحرام ، وهذا الاحتمال كما عرفت لا ينافي الظهور المذكور في أنّ الغاية هو العلم التفصيلي ، وغاية ما يمكن أن يقال في الفرق بينهما أنّ صدر الرواية الثانية لمّا فرض في الشيء أنّ فيه حلالا وحراما صار ذلك قرينة على كون المراد من معرفة الحرام بعينه

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٢٠١.

٢٥٣

معرفته بشخصه ليخرج عن هذا الاختلاط المفروض.

وفيه : أنّ ظاهر الأولى أيضا ذلك وإن كانت الثانية أظهر فيما ذكر.

قوله : إلّا أنّ إبقاء الصحيحة على هذا الظهور يوجب المنافاة لما دلّ على حرمة ذلك العنوان المشتبه (١).

قد عرفت في صدر المبحث عدم المنافاة وأنّ حكم العقل بوجوب متابعة العلم معلّق على عدم ترخيص الشارع لما يخالفه ولا تناقض في ذلك كما مر بيانه مرارا ، فإذن الطريق في عدم جواز المخالفة القطعية منحصر في منع ظهور الرواية في الترخيص في مورد العلم الإجمالي إما بدعوى حصول غاية الحلّ بناء على أنّ الغاية مطلق العلم أعم من الإجمالي كما ادّعاه المصنف وقد عرفت منعه ، أو بدعوى انصراف عموم الشيء إلى غير مورد العلم الإجمالي كما قيل أعني إلى الشبهات البدوية وهي أيضا كما ترى لا وجه لها ، هذا.

وقد سلك بعض المحقّقين هنا في منع ظهور الرواية في ترخيص ارتكاب كلا المشتبهين مسلكا آخر بعد تسليم جميع المقدمات التي ذكرناها من أنّ حكم العقل بوجوب موافقة العلم معلّق على عدم ترخيص الشارع خلافه ، وأنّ عموم الروايات شامل لمورد العلم الإجمالي ، وأنّ الغاية خصوص العلم التفصيلي إلّا أنه قال : إنّ دلالة الرواية على جواز المخالفة القطعية للعلم الإجمالي مبنية على استفادة العموم الأحوالي من كل شيء وهو ممنوع ، وإنما عمومه هو العموم الأفرادي دون الأحوالي ، بيان ذلك : أنّ عموم «كل شيء» وإن كان يشمل كل فرد من أطراف الشبهة لكن كل فرد منها له حالتان ارتكابه بدون ارتكاب الأطراف الباقية وارتكابه مع ارتكاب الباقي ، فلو استفيد العموم من هذه الجهة

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٢٠٢.

٢٥٤

أيضا دلّ على جواز المخالفة القطعية وإلّا كان مفاد الرواية جواز ارتكاب كل من الأطراف في الجملة والقدر المتيقّن منه ارتكاب كلّ مع ترك الباقي ، وهذا لا يفيد إلّا جواز المخالفة الاحتمالية وعدم وجوب الموافقة القطعية.

وفيه أوّلا : النقض بالشبهة البدوية بل بجميع العمومات ، فإنّ ارتكاب كلّ إناء مشكوك الحرمة بالشبهة البدوية له حالتان ارتكابه مع ارتكاب سائر الشبهات البدوية أو بدونها ، فلو لم يكن هناك عموم أحوالي فالقدر المتيقّن ارتكابه مع عدم ارتكاب الباقي وهو كما ترى.

وثانيا : أنّ ما ذكره يرجع إلى منع العموم الأفرادي ، ضرورة عدم جواز ارتكاب كلّ فرد إلّا مع ترك الآخر ، اللهمّ إلّا أن يرجع إلى العموم البدلي وهو أيضا خلاف ظاهر لفظ العموم.

وثالثا : أنّ منع العموم الأحوالي بمعنى الإطلاق لا وجه له ، ألا ترى أنّه لو قال : أكرم العلماء يدل على وجوب إكرام كل عالم ماشيا كان أو راكبا قائما أو قاعدا في السوق أو في المسجد إلى غير ذلك من الأحوال ، وهذا مما لا شك فيه ولا شبهة تعتريه.

قوله : فيقبح من الجاعل جعل كلا الحكمين (١).

قد عدل الماتن هنا عما أفاده في غير موضع من أنّ جعل الترخيص الظاهري في كلا المشتبهين مع بقاء الحكم الواقعي بواقعيته مستلزم للتناقض ، وكأنّه هنا قد سلّم عدم التناقض وتشبّث بذيل القبح من الجاعل جعل هذين الحكمين الكذائيين ، ودفعه أسهل شيء فإنّه لو كان هناك مصلحة ما كالتوسعة

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٢٠٣.

٢٥٥

على العباد ونحوها كانت كافية في رفع القبح.

قوله : وإلّا لقبح الإذن في ارتكاب جميع المشتبهات بالشبهة غير المحصورة إلخ (١).

لم يتعرّض المصنف في جواب السؤال إلى وجه الفرق بين هذه الأمور وبين الشبهة المحصورة ، ولعلّ الفرق أنّ في الشبهة غير المحصورة لا يحكم العقل بتنجّز التكليف ولا يعتني بهذا العلم الإجمالي ويعدّ الشبهة بالنسبة إلى كل واحد من الأطراف شبهة بدوية ، فالترخيص لا ينافي شيئا وإن حصل العلم بعد ذلك بتحقّق ارتكاب حرام واقعي كما قد يتّفق ذلك في الشبهة البدوية أيضا على ما أشار إليه في المتن ، وهذا كلّه بخلاف الشبهة المحصورة للعلم بتعلّق التكليف بحرمة الخمر الموجود بين الإناءين وحكم العقل بوجوب امتثاله فإنّه لا يجتمع مع ترخيصه لارتكاب كلا الإناءين ، فإنّه إذن في المعصية وهو قبيح ، وأما التخيير الاستمراري بين الخبرين أو فتوى المجتهدين فإنما نجوزه إذا كان مورده تردد الواجب بين أمرين ، أو كان الأمر دائرا بين الواجب والحرام ، أو كان تكليف كلّ واقعة مغايرا لتكليف الوقائع الأخر بأن يختلف زمان التكليفين ، فإنّه في الأولين يحصل الموافقة القطعية وإن حصلت المخالفة القطعية أيضا ، وفي الثالث لم يحصل العلم الإجمالي المنجّز للتكليف حتى يحرم مخالفته القطعية ، إذ عند كل واقعة ليس مكلفا بحكم الواقعة الأخرى بالفرض ، أما إذا فرض ثبوت التكليف في آن واحد بالنسبة إلى الواقعتين فلا نجوّز التخيير بحيث يلزم منه المخالفة القطعية لعين الدليل القائم في الشبهة المحصورة.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٢٠٣.

٢٥٦

قوله : نعم لو أذن الشارع في ارتكاب أحدهما مع جعل الآخر بدلا (١).

جعل البدل إنما ينفع على تقدير تسليمه في عدم وجوب الموافقة القطعية لا في عدم حرمة المخالفة القطعية ، فإنّ في موافقة حكم البدل يحصل الموافقة الاحتمالية لأصل التكليف المعلوم ، وبالجملة محصّل الجواب عن هذا السؤال أنّ العلم الإجمالي وتنجّزه يكفي في عدم جواز المخالفة القطعية.

قوله : وأما الحاكم فوظيفته أخذ ما يستحقّه المحكوم له على المحكوم عليه بالأسباب الظاهرية (٢).

هذا مسلّم فيما إذا احتمل كون أخذه حقا موافقا للواقع لا فيما علم كونه مخالفا للواقع ، والمقايسة بإذن المفتي كلا من واجدي المني في الثوب المشترك في دخول المسجد في غير محلّه ، لأنّ مرجع إذنه إلى الفتوى بأنّ الشاك في جنابته يجوز له دخول المسجد ، وليس دخولهما مما يتعلّق بفعل الحاكم ، بخلاف ما نحن فيه فإنّ أخذ الحاكم للمال المقرّ به وقيمته من المقرّ من فعله يعلم بكون أحدهما من غير حق ، ومن هنا نقول في مسألة واجدي المني لا يجوز للحاكم أو غيره استيجارهما أو أحدهما لكنس المسجد بناء على اعتبار العلم الإجمالي ، لأنّ الدخول حينئذ مستند إلى المستأجر ويقال إنه حملهما على الدخول ، فظهر صحّة النقض بالمثال المذكور لكن على المشهور من سماع الإقرار الثاني بعد الإقرار الأول ونفوذ كلا الإقرارين.

وهنا قولان آخران : أحدهما منسوب إلى أبي علي وهو أنه إن كان المقرّ حيا سئل عن مراده وعمل عليه ، وإن كان ميتا كان المقر لهما بمنزلة متداعيين

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٢٠٤.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٢٠٧.

٢٥٧

لشيء هو في يدهما فيأخذه ذو البيّنة ، ومع عدمها فالتحالف فإن حلفا اقتسماه. الثاني : قول ابن الجنيد وهو اختصاص المقر له الثاني بالمقرّ به ، ولا شيء للأول لرجوع المقرّ عن الإقرار له ببل ، وعلى القولين لا يرد النقض إلّا في صورة الاقتسام على قول أبي علي فإنّه كالتنصيف في مسألة التداعي وهو من أمثلة النقض ، والحمل على الصلح القهري لا دليل عليه مع أنه بعيد ، كما أنّ النقض بمسألة اختلاف المتبايعين في الثمن أو المثمن أيضا وارد ، فإنّ الانفساخ الواقعي لا دليل عليه ، والانفساخ الظاهري مخالف للعلم الإجمالي فيما اختلفا فيه وللعلم التفصيلي فيما اتّفقا فيه من الثمن والمثمن. وبالجملة فالنقض بالأمثلة المذكورة كلها أو جلّها وارد على القائلين بعدم جواز المخالفة القطعية للعلم الإجمالي.

قوله : خصوصا إذا قصد من ارتكاب المشتبهين التوصّل إلى الحرام (١).

قد ذكرنا سابقا أنّه لو ارتكب الشبهة البدوية بقصد التوصّل إلى الحرام فإنّه حرام لو صادفه وتجرّ لو لم يصادف ، فكيف لا يكون كذلك في صورة العلم الإجمالي ، وذكرنا أنّ حكم العقل بعدم العقاب مختص بما إذا اعتذر المكلّف بعذر صحيح مقبول عند العقلاء ، وأنّ الأدلة النقلية بالبراءة أيضا منصرفة عن هذه الصورة قطعا ، ويشبه هذه الصورة ما لو كانت الشبهة غير مستقرة بحيث تزول بأدنى التفات أو يمكن إزالتها بسهولة كما لو أمكن رفع شبهته بسؤال من بجنبه فيخبره ويحصل له العلم بعين الحرام فإنّ القائل بجواز المخالفة القطعية لا يقول به هنا قطعا ، بل قد ذكرنا سابقا عدم جواز ارتكاب مثل ذلك في الشبهة البدوية

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٢٠٨.

٢٥٨

أيضا لعدم صدق الشبهة على مثله.

قوله : خصوصا على ما مثّل به من الجمع بين الأجنبية والزوجة (١).

وجه الخصوصية أنّ هذا المثال ونحوه مما ذكره صاحب الفصول (٢) ليس موردا لأصالة الحلّ حتى يلزم به القائل بجواز المخالفة القطعية ، لأنّ تجويزه المخالفة لأجل الاعتماد على أصالة الحلّ ، والأصل في المثال المذكور هو الحرمة فكيف يلزم بتجويزه ذلك.

ثم اعلم أنّ من يجوّز المخالفة القطعية فإنّما يجوّز لو ارتكب المشتبهين تدريجا ، وأما إذا ارتكبهما دفعة كما لو مزجهما مثلا وارتكب دفعة فلا يجوّزه قطعا لأنّه حرام معلوم تفصيلا ، نعم لو ارتكبهما دفعة لكن كان بحيث يعدّ ارتكابهما فعلين للمكلّف وإن كان زمانهما متحدا فلا يبعد أن يقول بجوازه ، وفيه تأمل.

قوله : اجتنب وتحرّز عن الخمر المردّد بين هذين الإناءين (٣).

هذا المثال بظاهره ليس نظيرا لما نحن فيه ، بل لو كان ما نحن فيه من قبيله لأنتج خلاف المقصود ، لأنّه لو كان عنوان الخمر المردّد بين الإناءين واجب الاجتناب وعنوان الخل المردد بينهما جائز الارتكاب كان لازمه جواز ارتكاب أحدهما وعدم جواز ارتكاب الآخر مخيّرا بينهما بحكم العقل ، لأنّ الحكمين فعليان على عنوان المردد أي المشكوك الخمرية والمشكوك الخلّية ، اللهمّ إلّا أن يقال إنّ دليل حلّية شرب الخل إنما يقتضي حلّيته في حد نفسه مع

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٢٠٩.

(٢) الفصول الغروية : ١٨١.

(٣) فرائد الأصول ٢ : ٢١١.

٢٥٩

قطع النظر عن طروّ الطوارئ من كونه مقدمة لواجب أو حرام أو متعلّقا فعله أو تركه لنذر أو يمين ونحو ذلك كما اختاره المصنف في بحث الشروط من كتاب المكاسب في سائر أدلة المباحات بل المستحبات والمكروهات أيضا ، فحينئذ يحكم بحرمة الإناءين لإفادة دليلها الحرمة الفعلية بخلاف دليل حلّية المباح فإنّها اقتضائية.

لكن التحقيق أنّ أدلة جميع الأحكام الشرعية تفيد الأحكام الفعلية حتى أدلة المباحات ، وفيما إذا صار المباح مقدمة لواجب أو حرام يقع التزاحم بينهما ويقدّم التكليف الإلزامي على ما هو مقرّر في محله ، وعلى هذا يبقى الإشكال على حاله.

لكن الانصاف أنّ مراده من الخمر المردد هو الخمر الموجود بين الإناءين واقعا لا بعنوان كونه مرددا وقد تسامح في التعبير ، ولا شكّ أنه إذا وجب الاجتناب عن الخمر الموجود في البين يحكم العقل بوجوب الإطاعة والعلم بالموافقة ، ولا يحصل العلم إلّا بالاحتياط والاجتناب عن كلا الإناءين حتى عن الخلّ الموجود بينهما لكونه مقدمة للعلم الواجب بحكم العقل.

فإن قلت : لا نسلّم أنّ تحصيل العلم بالامتثال واجب حتى يجب مقدمته ، ألا ترى أنه لو أتى بمحتمل الوجوب أو ترك محتمل الحرمة مثلا وهو قادر بعد العمل على تحصيل العلم بحصول الامتثال وعدمه يكون المأتي به والمتروك مأمورا به ومنهيا عنه لم يجب تحصيل العلم قطعا.

قلت : إنما نقول بوجوب تحصيل العلم ووجوب مقدمته فيما كان له دخل في تحصيل الامتثال كأطراف المعلوم بالإجمال فإنّ كلا من الأطراف مما يمكن أن يحصل أصل الامتثال به. وبعبارة أخرى إنّما يجب تحصيل العلم الذي

٢٦٠