حاشية فرائد الأصول - ج ٢

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-089-6
الصفحات: ٥٩٤
الجزء ٢ الجزء ٣

إلى أنها غير مأمور بها لقضية العلم بأنّها منهية فلا يمكن الأمر بها.

لكن التحقيق الذي نختاره أنّ القول بعدم جواز الاجتماع لا يقتضي فساد الصلاة المذكورة في حال العلم بموضوع الغصب وحكمه فضلا عن حال الجهل أو النسيان ، وبيان ذلك أنّ محل النزاع في مسألة اجتماع الأمر والنهي فيما إذا كان الصلاة المفروضة جامعة لجميع الأجزاء والشرائط المعتبرة وفاقدة لجميع الموانع المعتبرة ما خلا كونها غير مأمور بها من جهة مانع منع الأمر بها من قبل الآمر لا المأمور ولا المأمور به ، وإلّا فنفس المأمور به لا نقص فيه بوجه ، وحينئذ نقول لا مانع من الحكم بصحته بمعنى الحكم بأنه واجد لمصلحة المأمور به ويسقط به الغرض ، وكذا يسقط الأمر المتعلّق بالطبيعة باعتبار سائر الأفراد لأنه قد استدرك أصل المصلحة بهذا الفعل المحرّم ولم يبق شيء من المصلحة يقتضي الأمر به ثانيا ، ونظير ذلك في العرفيات مما يوضح به المطلب ما لو قال الآمر اشرب دواء مسهلا للصفراء وقال لا تشرب ما يضرّ بوجع الصدر من الأشياء الحامضة فشرب المأمور السكنجبين بسوء اختياره مع القدرة على غيره مما يسهل الصفراء ، فلا ريب أنه عاص بارتكاب المنهي عنه ، وما ارتكبه لاسهال الصفراء لم يكن مأمورا به أيضا على مذهب المانعين ، لكنه مع ذلك كله فقد أتى بما يسهل الصفراء بحيث لا يصحّ للآمر أن يعاتبه على ترك المأمور به ويقول له لم لم تشرب مسهل الصفراء ويأمره بشرب مسهل الصفراء ثانيا ، وسرّ ذلك أنّ السكنجبين تام في كونه مسهلا للصفراء ، ولا وجه لعدم تعلّق الأمر به سوى كونه منهيا عنه من جهة أخرى ، فامتنع لذلك أن يأمر به الآمر ، ولما عصى وأتى به حصل به ذات المطلوب وإن لم يكن بوصف المطلوبية لكنه أفاد فائدة المأمور به وبذلك سقط الأمر ، ولا نعني بالصحة إلّا ذلك ، ودعوى عدم تمشّي القربة وقصدها فيما أتى به بهذا الوجه فيفسد لذلك قد مرّ الجواب عنها غير مرّة

٥٠١

في المباحث السابقة من منع توقّف قصد القربة على الأمر وقصده ، بل يحصل ذلك بمجرّد كون الداعي له للعمل ما يرجع إلى الله بوجه من الوجوه ، وإمكان هذا المقدار في خصوص صورة الجهل والنسيان واضح ، بل يمكن ذلك في صورة العمد أيضا.

وأما الثاني وهو حكم صحة صلاة من توسّط أرضا مغصوبة في حال الخروج فهو مبنيّ على بيان أنه في حال الخروج هل هو منهي عن الخروج أم لا ، فنقول فيه أقوال ثلاثة ، الأول : ما أسند إلى جماعة من أنه مأمور بالخروج باعتبار أنه تخلّص عن الغصب ، ومنهي عنه أيضا باعتبار أنه فرد من أفراد الغصب ، ولا يقدح اجتماع الأمر والنهي في خصوص المقام ، لأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، فإنّ المكلف بنفسه صار سببا لعدم القدرة على امتثال النهي بدخوله في الأرض المغصوبة بسوء اختياره فلا يقبح نهيه عن الخروج مع كونه واجبا عليه بحكم العقل والشرع ، وبالجملة أنه مأمور بالخروج ومنهي عنه بالأمر والنهي الفعليين.

وأورد عليه صاحب الفصول (١) بأنّ نهيه عن الخروج بعد الدخول سفه لا يصدر عن الحكيم كمن ترك السفر إلى الحج عند خروج الرفقة ، فأمره بالحج في ذي الحجة مع عدم القدرة عليه سفه ولذلك اختار هو :

القول الثاني : وهو أنه حين الخروج مأمور بالخروج وليس منهيا عنه إلّا أنّ حكم المعصية جار عليه باعتبار أنه منهي عنه بنهي سابق وهو نهيه عنه قبل الدخول ، فإنه كان قبل الدخول منهيا عن الغصب بجميع أنحائه ومنها الغصب بالخروج ، لكن النهي انقطع بمجرّد الدخول لما مرّ من كونه سفها وبقي حكمه من

__________________

(١) الفصول الغروية : ١٣٨.

٥٠٢

العصيان واستحقاق العقاب.

ويرد على القولين أنّ ذلك من اجتماع الأمر والنهي الآمري المحال ، أما على القول الأول فواضح ، لأنّه بالأخرة يرجع إلى جواز اجتماع قوله اخرج ولا تخرج وهو كما ترى عين الاجتماع المحال.

ودعوى أنه يرجع إلى قوله اخرج ولا تغصب وهو غير أخرج ولا تخرج ، فإنّ المنهي عنه عنوان الغصب لا عنوان الخروج فلم يتّحد مورد الأمر والنهي. مدفوعة بأنّ اختلاف العنوان لا ينفع فيما هو مناط الاستحالة هاهنا وإنما ينفع إذا أوجب اختلاف العنوان تحقق المندوحة عن المنهي عنه بإيجاد المأمور به في فرد غير منهي عنه بناء على مذهب المجوّزين ، وأما على مذهب المانعين فلا ينفع مطلقا ، وما ذكره في دليل جواز الاجتماع من أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، مدخول بأنّ ذلك إنما يصحح التكليف بالمحال ، وقد تقرّر في محلّه أن الاجتماع الآمري تكليف محال بالمحال ، فلو جاز التكليف بالمحال لما ذكر لم يجز أصل التكليف المحال.

وأما على القول الثاني فلأنّ اختلاف زمان الأمر والنهي مع كون المأمور به والمنهي عنه شيئا واحدا شخصيا واقعا في زمان واحد لا يوجب رفع الاستحالة المذكورة ، فكما لا يجوز اجتماع الأمر والنهي الفعليين متعلقا بالخروج فيما بعد الدخول ، كذلك لا يجوز اجتماع الأمر بالخروج بعد الدخول والنهي عن هذا الخروج بعينه قبل الدخول ، فإنّ المناط فيهما وهو استحالة إرادة وجود الشيء وعدمه واحد.

الثالث : ما أسند إلى جمع من أنه مأمور بالخروج وليس منهيا عنه أصلا لا سابقا ولا لاحقا ، ووجه عدم النهي أنه لا شكّ ولا ريب أنه مأمور بالخروج

٥٠٣

بحكم العقل والشرع لا مجال لإنكاره ، ولا يجوز تحقق النهي عن هذا الخروج مع فرض الأمر به لأنّه موجب للاجتماع المحال ، وما يقال من أنه قبل الدخول كان جميع أنحاء الغصب ومنها الخروج منهيا عنه ، جوابه المنع فإنّ الخروج فرع تحقق الدخول ، فإن تعلّق به نهي يرجع ذلك إلى أن يقول له إن دخلت فلا تخرج ، ونمنع صحة هذا النهي وتحققه فتأمل ، وهذا القول أقرب من سابقيه.

وهنا وجه رابع أقرب من الكل بل هو المتعين وهو أن يقال إنه منهي عن الخروج وليس بمأمور به أصلا ، لكن يتعيّن عليه الخروج من باب ارتكاب أقلّ القبيحين ، فإنّ من اضطرّ إلى ارتكاب أحد القبيحين ولو كان ذلك بسوء اختياره فإن العقل يرشده إلى اختيار أقلّهما قبحا لأن ضرره أو فساده أقلّ من الآخر ، فما يختاره قبيح مشتمل على التخلص عن الأقبح ، فيجب اختياره بالوجوب الإرشادي ، ولا يوجب ذلك أن يكون مأمورا به في نفسه حتى يلزم منه المحذور.

إذا تمهّد ذلك فنقول : بناء على القول الأول لو صلّى في حال الخروج فسدت صلاته بناء على مذهب المانعين ، لأنّه منهي عن الصلاة باعتبار كونها غصبا منهيا عنه.

ودعوى أنّ المانع إنما منع عن الاجتماع في غير هذه المسألة وقد اختار جواز الاجتماع هنا كما هو المفروض ، مدفوعة بأنه إنّما جوّز اجتماع النهي عن الخروج مع الأمر بالخروج لما ذكره ولم يجوّز اجتماع النهي عن الخروج مع الأمر بالصلاة فإنّ دليله لا يقتضي ذلك ، وهكذا يحكم بفساد الصلاة على القول الثاني والرابع لمكان النهي وإن كان نهيا سابقا كما هو مقتضى القول الثاني ، وأما على القول الثالث فلا مانع عن صحة الصلاة لعدم النهي بالفرض ولا مانع غيره ،

٥٠٤

ولكن صاحب الفصول (١) قد ذكر في آخر المسألة في حكم صحة الصلاة وفسادها وجهين ثم اختار الصحة متمسكا بارتفاع الحرج عن التصرف حال الخروج ، وأجاب عن وجه الفساد بما لا يخلو عن النظر ، وفيه ما لا يخفى فراجع.

إذا تمهّد ذلك فنقول : إنّ ما ذكره في المتن من شهادة حكمهم ببطلان الصلاة في المغصوب جاهلا بالحكم على توجّه النهي إلى الغافل حين غفلته مدخول ، إما لما أشار إليه في المتن من أنّ مبغوضيتها الواقعية هو السبب في حكمهم بالفساد إلى آخر ما ذكره ، وإما لأنّ حكمهم بالفساد مبني على أنّ وجود النهي الواقعي غير المتوجّه فعلا إلى المكلف لأجل الجهل يكفي في الحكم بالفساد على مذهب المانعين من جواز الاجتماع كما حققناه وشيّدناه ، وهو الظاهر من كلامهم حيث علّلوا البطلان بأنّ الجاهل كالعامد وأنّ التحريم لا يتوقّف على العلم به كما ذكره في المتن ، هذا.

ثم إنّه قد عرفت مما ذكرنا أنه لا فرق بين الجاهل بالحكم والموضوع وناسيهما ، فلو حكم ببطلان صلاة جاهل الحكم على قول المانعين لزم الحكم بالبطلان في الجميع لمكان النهي الواقعي في الكل ، إلّا أنّ من فرّق بين الجاهل بالحكم والموضوع وحكم بصحة صلاة الثاني لعله ناظر إلى كون العلم جزءا للموضوع ، وأنّ المنهي عنه هو الغصب المعلوم ، فلا نهي حال الجهل بالموضوع فلا مقتضي للفساد ، أو إلى أنّ النهي إنما يقتضي الفساد لو لم يكن ما يأتي به المكلف مرخوصا فيه من الشارع ، ولمّا رخص الشارع ترك الفحص في الموضوعات كان جهل المكلف عذرا له يقتضي صحة صلاته وعدم ما يقتضي

__________________

(١) الفصول الغروية : ١٣٩.

٥٠٥

فسادها ، وكذلك حكمهم بصحة صلاة ناسي الموضوع أيضا لعله مستند إلى أحد الوجهين ، كما أنّ الحكم بصحة صلاة ناسي الحكم أيضا يحتمل أن يكون مستندا إلى ثاني الوجهين ، فليتأمل فإنّ المقام من مزالّ الأقدام ، ولعل المصنف (قدس‌سره) إلى بعض ما ذكرنا أشار في آخر كلامه بقوله فافهم.

قوله : مضافا إلى عدم صحته في نفسه (١).

لا يخفى أنّ الكلام في المقام مبني على مذهب المانعين من الاجتماع وأنهم علّلوا المنع بامتناع اجتماع المحبوبية والمبغوضية كما علّلوا بامتناع اجتماع طلب الفعل والترك ، فلا وجه لمنع صحة التعليل على هذا المبنى.

قوله : وإن كان آثما بالخروج (٢).

إنّ هذا يناسب مذهب صاحب الفصول (رحمه‌الله) في حكم الخروج لمن توسّط أرضا مغصوبة وإلّا لم يكن آثما على تقدير عدم النهي ، إلّا أنّ قوله إلّا أن يفرّق بين المتوسط للأرض المغصوبة وبين الغافل إلى آخره ، يناسب القول الثالث من أقوال تلك المسألة أعني القول بكون الخروج مأمورا به غير منهي عنه بالمرة.

قوله : ومما يؤيد إرادة المشهور للوجه الأول دون الأخير ، إلخ (٣).

توضيح التأييد : أنه بناء على الوجه الأخير لا وجه للحكم باستحقاق العقاب عند ترك المقدمة وهي التعلّم على ترك ذي المقدمة في وقته ، إذ لم يتوجّه إلى هذا المكلف خطاب أصلا حتى يستحق العقاب بمخالفته ، أما عند

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٤٢٠.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٤٢٠.

(٣) فرائد الأصول ٢ : ٤٢١.

٥٠٦

ترك المقدمة فلعدم حصول شرط الوجوب وهو الوقت ، وأما عند ترك ذي المقدمة فلقبح توجّه النهي إلى الغافل حين غفلته كما هو مبنى الوجهين الأخيرين ، وكذا بناء على الوجه الثاني لا خطاب في أحد الزمانين ، ولا ريب أن العقاب بدون الخطاب بالمرة قبيح ، وهذا بخلاف الوجه الأول فيقال إنه يستحق العقاب حين ترك ذي المقدمة بالخطاب المتحقق في ذلك الحين ، هذا غاية التوجيه.

وفيه نظر ، لأنّ الوجه المذكور في بيان عدم السبب لاستحقاق العقاب في الواجبات الموقّتة إن تمّ فكما أنه لا يجامع الوجهين الأخيرين كذلك لا يجامع الوجه الأول أيضا ، فإنّ العقاب قبيح في الصورة المفروضة مطلقا ، لأنّ المفروض عدم حصول التقصير من المكلف في حال من الأحوال ، أما عند الالتفات أعني قبل الوقت الذي هو شرط أصل التكليف فلأنّه كان مرخّصا في ترك المقدمة وهي التعلّم لعدم وجوب شيء عليه حينئذ ، وأما عند حصول الشرط وهو ما بعد دخول الوقت فلعدم الالتفات حتى يكون مقصّرا بذلك ، فهذا الإشكال على فرض تماميته إشكال على المشهور مطلقا في قولهم باستحقاق العقاب على الواجبات المشروطة في الصورة المفروضة ، ولا يتفاوت الحال بالنسبة إلى الوجوه الثلاثة.

لا يقال : نلتزم بناء على الوجه الأول أنّ المكلف مقصر في ترك التعلم حين التفاته وإن كان زمان الالتفات قبل زمان الخطاب ، لكن بعد مجيء الخطاب في الوقت وحصول المخالفة فيه وإن كان غافلا حينئذ يستحق العقاب عليها مستندا إلى تقصيره السابق المؤدي إلى الغفلة والمخالفة.

لأنّا نقول ـ مضافا إلى منع كونه مقصرا بترك ما ليس بواجب نفسي ولا

٥٠٧

غيري بالفرض لعدم وجوب ذلك الغير بعد حتى يجب بوجوبه ـ أنّ هذا لو صحّ لا ينحصر صحّته على البناء على الوجه الأول حتى يكون مؤيدا له بل يصحّ على الوجهين الأخيرين أيضا بأن يقال إنه يستحق العقاب على مخالفة الخطاب الواقعي غير المشروط بالعلم لبطلان التصويب وإن لم يكن متوجها بالفعل ومنجّزا عليه مستندا إلى تقصيره السابق المؤدي إلى الغفلة الموجبة لعدم صحة توجيه الخطاب في وقته.

لا يقال : إنّ هذا الكلام لا يجري على الوجه الثالث قطعا وإن سلّمنا جريانه على الوجه الثاني ، نظرا إلى أنّ زمان الاستحقاق هو زمان تحقق الخطاب الواقعي وإن لم يكن فعليا ، لأنّ القول بتحقق استحقاق العقاب على مخالفة الواقع الذي لم يخاطب به بعد واقعا عند ترك التعلّم شطط من الكلام.

لأنا نقول : لو صح الوجه الأخير وهو القول باستحقاق العقاب قبل حصول المخالفة مستندا إلى أنّه لا وجه لترقب حضور زمان المخالفة لصيرورة الفعل مستحيل الوقوع لأجل ترك المقدمة وإلى حسن مؤاخذة من رمى سهما لا يصيب زيدا ولا يقتله إلّا بعد مدّة بمجرّد الرمي ، صحّ القول باستحقاق العقاب قبل مجيء الخطاب وحصول المخالفة عند ترك ما يوجب صيرورة الفعل مستحيل الوقوع مستندا إلى الوجه المذكور بعينه ، والجامع أنه قد قصّر وأتى بما يكون سببا لترك الواجب في وقته عند ترك المقدمة في الموضعين ، والحاصل أنّ ترك التعلّم للواجبات الموقّتة قبل وقتها الموجب لفوات الواجب في وقته إما أن يجعل تقصيرا من المكلف بحيث لا يعذر فيه فيجري الوجوه الثلاثة من غير فرق بينها ، وإما أن لا يجعل ذلك تقصيرا فلا يجري واحد من الوجوه الثلاثة بل يقبح العقاب على ترك الواقع مطلقا ، فإذن لم يبق وجه لتأييد نسبة الوجه الأول إلى المشهور بتحقق استحقاق العقاب على الواجبات المشروطة في الصورة

٥٠٨

المفروضة ، هذا.

وقد بقي الإشكال في الواجبات الموقّتة إذا ترك التعلّم قبل حضور وقتها وغفل عنها في وقتها أو لا يمكنه التعلّم في وقتها حيث إنّ التعلّم غير واجب قبل حصول شرط الوجوب وهو الوقت ، فهو غير مقصّر على التحقيق فكيف يصحّ عقابه على مخالفة الواجب من دون تقصير ، فالواجب أن يحكم بعدم استحقاق العقاب في الصورة المفروضة ، وصعوبة هذا الإشكال ألجأت إلى القول بأنّ التعلّم واجب نفسي كما قيل على ما أشار إليه المصنف في :

قوله : ومن هنا قد يلتجئ إلى ما لا يأباه كلام صاحب المدارك ومن تبعه ، إلخ (١).

قد ذكرنا سابقا أنّ كلام المدارك صريح في أنّ التعلّم واجب نفسي والجاهل بالحكم لا يعاقب إلّا عليه ، ولا يخفى أنّ ذلك لا يدفع الإشكال ، لأنّ الكلام في توجيه حسن العقاب على نفس الواجب أعني العقاب على ترك الحج في مثال المتن ، وأما العقاب على ترك التعلم لو قيل بأنه واجب نفسي فهو أمر آخر لا مساس له بما نحن فيه ، وظاهر المتن أنه يندفع الإشكال على القول بأنّ التعلّم واجب نفسا ، إلّا أنه طعن على هذا القول بعد ما وجّهه بالتقريب الذي أشرنا إليه سابقا ، بأن الإنصاف أنه خلاف ظاهر الأخبار ، فإنها ظاهرة في الوجوب الغيري وقد عرفت منّا سابقا منع ذلك ، فإنّ ظاهر أكثر الأخبار وإن كان هو الوجوب الغيري إلّا أنّ ظاهر جملة منها هو الوجوب النفسي ، ولا مانع من اجتماع جهتي الوجوب في التعلّم ، فلا داعي إلى صرف إحدى الطائفتين إلى الأخرى ، وكيف كان لا يندفع به الإشكال كما عرفت.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٤٢١.

٥٠٩

قوله : ويمكن أن يلتزم حينئذ باستحقاق العقاب على ترك تعلّم التكاليف ، إلخ (١).

والفرق بين التعلّم وسائر المقدمات التي يكون تركها موجبا لفوات الواجب في وقته في الواجبات المشروطة كالمستطيع لو وهب ماله قبل خروج الرفقة فرارا عن أن يجب عليه الحج ونحوه ، أنّ العلم ليس شرطا للتكليف الواقعي ، فإنّ الجاهل مكلّف بالواقع في الواقع كالعالم بناء على الحقّ من التخطئة ، فلو ترك التعلّم في الواجبات الموقّتة قبل حضور وقتها كالصلوات اليومية مثلا وأوجب ذلك فوات الصلاة في وقتها ، يصدق أنه أخلّ بالواجب الواقعي باختياره ، فيحكم العقل باستحقاقه عقاب ترك الواقع ، لأنّه حين ترك التعلّم كان يعلم أنه سيصير مكلفا بما لا يعلمه ، ويمكنه تعلّمه الآن قبل دخول وقته ولم يفعل ، وهذا بخلاف سائر المقدمات غير العلم فإنّ من أنفق أمواله قبل خروج الرفقة فعل ما يوجب عدم توجّه خطاب الحج إليه واقعا ، لأنّ التكليف مشروط بالاستطاعة في وقته وهو فاقد لها ، وكذا من أراق ماءه وأتلف ترابه قبل دخول وقت الصلاة وصار فاقد الطهورين ، لم يتوجّه إليه تكليف الصلاة في وقته واقعا ، فلم يتسبب هو لفوات واجب واقعي عليه ، بل إنما تسبب لعدم توجّه التكليف إليه ، فهو كمن اختار السفر لكي لا يجب عليه صوم رمضان واقعا ولو كان ذلك لأجل الفرار من الصوم ، نعم هنا كلام للجواهر لا بأس بنقله فإنّه قال في ذيل شرح كلام المحقق عند قوله : «ولو أخلّ بالضرب في الأرض حتى ضاق الوقت أخطأ وصح تيممه وصلاته على الأظهر» كمن أراق الماء في الوقت ، قال : هذا كله إذا أراقه بعد الوقت ، أما قبله فيصلي بتيممه المتجدد إجماعا كما في

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٤٢٢.

٥١٠

المنتهى ولا يعيد قطعا ، كما أنه لا إثم عليه كذلك أيضا حتى لو علم عدم الماء فيه للأصل وعدم وجوب مقدمة الواجب الموسّع قبله سيّما فيما لها بدل شرعي خلافا للأستاذ الأكبر في شرح المفاتيح فأوجبه أيضا مع احتمال عدم الماء فضلا عن غيره ، إلى أن قال : نعم ربما يقال إنه يظهر من الأدلة زيادة الاهتمام بالصلاة ومقدماتها ورفع موانعها كما يشعر به النهي عن السفر إلى أرض لا ماء فيها وأنه هلاك الدين ، لكن وصول ذلك إلى حدّ الوجوب ممنوع ، إلى أن قال : لكن قد يقوى في النفس وجوب حفظ ما تفوت الصلاة بفواته وإن كان قبل الوقت حينئذ كالطهورين مثلا كما يشعر به حرمة النوم لمن علم فوات الفريضة به إما لزيادة الاهتمام بأمر الصلاة أو يدّعى ذلك في كل واجب موقّت ، أو يفرّق بين ما يجعل وسيلة واحتيالا لإسقاط الواجب من الصلاة وغيرها وعدمه (١) انتهى.

أقول : لا يخفى أنّ تفويت التكليف بمعنى إدخال النفس في موضوع يسقط به التكليف لا ينبغي الإشكال في جوازه كأن يختار السفر فرارا عن الصوم أو ينفق المال فرارا عن الزكاة والخمس والحج قبل تعلّق وجوبها ونحوها ، إنما الإشكال في تفويت التكليف بمعنى تعجيز النفس عن توجه التكليف إليها كما مثّل به صاحب الجواهر (رحمه‌الله) من تفويت كلا الطهورين قبل الوقت ، ولا يبعد دعوى حكم العقل بقبحه ووجوب تحصيل مقدمات التكليف الكذائي سيّما الصلاة وسيّما إذا كان غرضه من ترك المقدمة هو الاحتيال لإسقاط الواجب ، والظاهر أنّ هذا وجوب عقلي غيري لا يتوقف على فعلية الخطاب بل يكفي فيه ترقّبه لا وجوب نفسي كما توهّم ، ومرادنا بالوجوب

__________________

(١) جواهر الكلام ٥ : ٨٦ ـ ٩١.

٥١١

الغيري هاهنا كون تركه موجبا لعدم قبح العقاب على مخالفة الواجب الواقعي عند وجوبه في وقته ، وفي الحقيقة يرجع هذا إلى حكم العقل بوجوب دفع الضرر المظنون أو المحتمل ، وسرّ الفرق بينه وبين القسم الأول أنّ مصلحة المأمور به في القسم الأول مقيدة بمحلّ الشرط ، فإنّ وجوب الصوم لا مصلحة فيه في السفر بل فيه مفسدة أوجبت الحرمة ، فإدخال النفس في موضوع المسافر لم يوجب تفويت مصلحة واقعية ، وهذا بخلاف القسم الثاني فإنّ مصلحة الصلاة أو إنقاذ الغريق من باب حفظ النفس المحترمة مطلقة ، إلّا أنّ المكلف لو عجز عن تحصيلها يقبح تكليفه فلا يطلب منه إحرازها فتفوت المصلحة عن ضرورة وإلجاء ، وإذا كان كذلك فلو تسبب المكلف لتعجيز نفسه عن إدراك تلك المصلحة ولو قبل حصول شرط وجوبه عن اختيار ، يحكم العقل بحسن عقابه على فوات الواقع منه.

والحاصل أنّ محل الإشكال يحتمل وجوها ، الأول : أن يحكم باستحقاق العقاب على تفويت الواجب المشروط قبل شرطه مطلقا ، ووجهه ما أشرنا إليه آنفا وهو الأوجه.

الثاني : عدم الاستحقاق مطلقا ووجهه ما ذكره في المتن في أول الكلام.

الثالث : الفرق بين ما علم اهتمام الشارع بشأنه كالصلاة ونحوها وبين غيره فلا يجوز التعجيز في الأول دون الثاني.

الرابع : الفرق بين ما إذا كان غرضه من تعجيز نفسه الاحتيال للفرار عن التكليف وبين غيره فيعاقب في الأول دون الثاني ، هذا كلّه إذا لم نقل برجوع الواجبات المشروطة والموقّتة إلى الواجب المطلق المعلّق كما احتمله الماتن على ما حكي عنه ، وإلّا فالأمر أوضح فإنّ المكلف بناء على هذا الاحتمال إذا

٥١٢

بلغ يتعلّق به جميع التكاليف الإلهية التي يبتلي بها طول عمره بمجرّد البلوغ والعقل ، وليس الوقت شرطا للوجوب بل هو زمان للعمل ، فتعجيز النفس قبل الوقت حاله حال ما بعد الوقت يتحقق به المعصية باختيار سبب الفوات ، ولعل قوله فتأمل في آخر كلامه إشارة إلى بعض ما ذكرنا ، فتأمل.

قوله : فالمشهور فيها أنّ العبرة فيها بمطابقة الواقع ومخالفته ، سواء وقعت عن أحد الطريقين أعني الاجتهاد والتقليد ، إلخ (١).

ما ذكره من أنّ العبرة بمطابقة الواقع أو مخالفته حقّ إذا انكشف الواقع بطريق العلم سواء وقعت المعاملة عن اجتهاد أو تقليد أو عن جهل ، وكذا لو وقعت عن جهل ثم انكشف حالها بالظن الاجتهادي أو التقليد الصحيح ، وأما إذا وقعت المعاملة عن اجتهاد أو تقليد صحيح من حين وقوعه ثم تبدل رأي المجتهد أو عدل المقلّد إلى مجتهد يخالف رأيه لرأي من قلّده أوّلا في تلك المعاملة ، فالحق ما ذهب إليه جماعة من الأصحاب من عدم نقض آثار المعاملة السابقة ، نعم لا بد من إيقاع مثل تلك المعاملة بعد التبدل على رأيه الثاني دون الأول ، والفرق بين هذه الصورة والصورة الأولى وهي انكشاف الواقع بالقطع واضح ، لأنّ الأثر إنما يترتب على المعاملة الصحيحة الواقعية ، والأمارة الشرعية لو كانت إنما تعتبر بدلا عن الواقع ما دام مجهولا ، على أنّ مؤدّاها الواقع فلمّا علم عدم مصادفتها الواقع كشف عن أنّ مؤدّاها لم يكن حكما شرعيا بناء على كون اعتبارها من باب الطريقية على ما هو التحقيق ، وأما الفرق بينها وبين الصورة الثانية وهو ما لو وقعت المعاملة عن جهل ثم انكشف حالها بالظن الاجتهادي أو التقليد حيث قلنا فيها بترتيب أحكام تلك المعاملة على طبق الظن

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٤٢٢ ـ ٤٢٣.

٥١٣

الاجتهادي اللاحق أو التقليد اللاحق أنه في حال الجهل لم يكن ما أوقعه من المعاملة مبنيا على حجة شرعية واجبة الاتّباع من حين وقوعه ، فإذا حصلت الحجة الشرعية من الظن الاجتهادي أو التقليد لوحظ كونها موافقة أو مخالفة لها وتبنى عليه ، وهذا بخلاف ما لو أوقعها مبنية على اجتهاد أو تقليد صحيح فإنّه حجة شرعية يجب اتباعها ما لم يظهر خلافها ، ودعوى أنه قد ظهر خلافها حيث تبدّل رأيه وبنى على أنّ رأيه السابق كان باطلا ، مدفوعة بأنّ دليل حجية مذهبه اللاحق وهو الإجماع والآيات والأخبار ، كما أنه يدل على حجية رأيه اللاحق كذلك يدل على حجية رأيه السابق في زمانه على نسق واحد ، لم يخرج رأيه السابق عن تحت عمومه بالنسبة إلى الزمان السابق ، وإن كان لا يجوز العمل به الآن بالنسبة إلى الوقائع الآتية بعد تبدل الرأي ، وهذا نظير المجتهدين المختلفين في الرأي في عصر واحد وزمان واحد فإنّ كلا منهما وإن كان يخطّئ صاحبه بحسب ظنه ، لكنه يحكم بحجية ظنه في حقه وحق مقلّده كما يحكم بحجية ظن نفسه لنفسه ومقلّديه من غير فرق.

فإن قلت : قضية حجية ظنه اللاحق تنافي ترتيب الآثار على ظنه السابق حتى بالنسبة إلى المعاملات السابقة على الظن اللاحق ، لأنّ مؤدى هذا الظن أنّ الحكم الواقعي كذلك أزلا وأبدا ، ولا معنى لحجيته إلّا ترتيب آثار الواقع على هذا المظنون مطلقا سواء كان متعلقا بالأعمال السابقة على هذا الظن أو بالأعمال اللاحقة.

قلت : نعم ، وكذلك قضية حجية ظنه السابق تنافي ترتيب الآثار على ظنه اللاحق حتى بالنسبة إلى المعاملات اللاحقة فيتعارضان ويجمع بينهما باختصاص كل منهما بزمانه دون الآخر لعدم إمكان العكس أو غير ذلك من الاحتمالات لعدم الترجيح ، وهو من قبيل المتعارضين اللذين يطرح ظاهر كل

٥١٤

منهما بنصّ الآخر ، وتتمة الكلام موكولة إلى محلّها من مسألة الإجزاء وباب الاجتهاد والتقليد وكتاب القضاء من الفقه فتبصّر.

قوله : ولا خلاف في ذلك ظاهرا أيضا إلّا من بعض مشايخنا المعاصرين (١).

هو المحقق النراقي في كتاب مناهج الأصول في أواخر باب التقليد (٢) إلّا أنه ذكر لمطلبه مقدمتين ثانيتهما ما ذكره المصنف في المتن ، ولا بأس بذكر مقدمته الأولى فإنه دخيل في توضيح مراده وهي قوله : الأولى مما لا شك فيه أنه لا تكليف فوق العلم والاعتقاد ، ويلزمه أنه لو اعتقد أحد ترتّب أثر على شيء بحيث لم يحتمل خلافه ترتّب عليه في حقه ، فمن اعتقد حلية الزوجة بعقد باطل واقعا يحلّ عليه ما دام كذلك كما يحلّ الأجنبية باعتقاد أنها زوجته ، ومن اعتقد بطلان عقد صحيح يحرم عليه المعقودة به ما دام كذلك كما يحرم الزوجة باعتقاد أنها أجنبية وهذا ظاهر ، انتهى.

ولا يخفى ما فيه من الغرابة بمكان.

قوله : فنقول بعد الإغماض عما هو التحقيق عندنا ، إلخ (٣).

قضية مجعولية الأحكام الوضعية قبالة الأحكام التكليفية وإن كانت موافقة للتحقيق كما تقدم بيانه في الجملة ، وسيأتي مفصّلا في الاستصحاب عند تعرّض المصنف للمسألة ، إلّا أنّ مدّعى المحقق النراقي لا يتوقف على ثبوتها وإن كان ظاهر كلامه ذلك لو لم يكن صريحه ، لأنّه يمكن أن يقرّر مقصوده

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٤٢٣.

(٢) مناهج الاصول : ٣١٢.

(٣) فرائد الأصول ٢ : ٤٢٦.

٥١٥

بثبوت الحقائق الواقعية والحقائق الظاهرية بالنسبة إلى الأحكام التكليفية التي ينتزع منها الأحكام الوضعية حرفا بحرف ، فتدبّر.

قوله : وإذا تأمّلت فيما ذكرنا عرفت مواقع النظر في كلامه (١).

أحدها : ما يستفاد من كلامه من كون الحقائق الظاهرية من السببية والشرطية وغيرها أحكاما شرعية مجعولة كالحقائق الواقعية منها ، وهو خلاف التحقيق فإنها أعذار شرعية على ما مرّ بيانه غير مرّة فتأمل.

الثاني : أنّ ما ذكره من كون ما اعتقده الجاهل مخالفا للواقع حكما شرعيا يجب عليه التعبد به ما دام معتقدا به غريب لم يقل به أحد ، لا نعرف له وجها سوى ما أشار إليه في المقدمة الأولى من المقدمتين لمطلبه وهو أنه لا تكليف فوق الاعتقاد. وفيه : أنه إن أراد أنه لا يعاقب على ما فوق الاعتقاد فهو كذلك وهذا لا ينتج كون ما اعتقده حكما شرعيا ، وإن أراد أنه لا حكم مجعولا ما وراء الاعتقاد فيكون الحكم نفس المعتقد فهو فاسد ، لأنّ الأحكام الواقعية المجعولة لا يدور مدار الاعتقاد البتّة وهذا من الواضحات.

الثالث : أنّ ما ذكره من الفرق بين ما كان أثره مختصا بمعيّن أو بمعيّنين من العقود والإيقاعات وبين ما لم يختص غير واضح ، وما ذكره في وجهه غير وجيه ، فلو وقع العقد صحيحا بفتوى المجتهد لا يفرّق فيه بين من علم بترتّب الأثر عليه ومن لم يعلم ، ولا بين من يكون الأثر مربوطا به ويتعلق به عمله وبين غيره ، نعم لا يحكم بترتب الأثر من كان جاهلا بالحال لمكان جهله والواقع لا يتغير عما هو عليه ، ولو سلّم ذلك كلّه فما ذكره من اختصاص أثر العقود والإيقاعات وأسباب شغل الذمة بالمعيّنين محلّ منع واضح كما أشار إليه في

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٤٢٨.

٥١٦

المتن ، فإنّ أثر صحة البيع أو النكاح لا يختص بالمتعاقدين ، فإنّ جواز شراء كلّ من العوضين ممن انتقل عنه أو إليه أو إجارته أو استيداعه ، وكذا ما يترتب على الزوجية من أحكام المصاهرة والميراث وحرمة العقد على المعقودة إلى غير ذلك آثار تتعلق بسائر الناس من غير المتعاقدين هذا ، ولعلك إذا زدت التأمّل في كلامه تظفر بأزيد من ذلك من وجوه النظر.

قوله : خلافا لجماعة حيث تخيّلوا ، إلخ (١).

قد عرفت صحة مختار الجماعة في الحاشية السابقة فتذكّر.

قوله : ولنختم الكلام في الجاهل العامل قبل الفحص بأمور (٢).

ومن الأمور المتعلّقة بعمل الجاهل العامل قبل الفحص وقد أهمله المصنف ، هو أنه لو عمل الجاهل من غير تقليد أو اجتهاد بوجه ثم قلّد أو بلغ رتبة الاجتهاد فاجتهد وكان قول من كان يجب عليه الأخذ به في زمان العمل مخالفا لما يجب الأخذ به الآن وأخذ به من اجتهاد أو تقليد ، فهل يعتبر كون العمل السابق موافقا لفتوى من كان يجب الأخذ بقوله في سقوط التكليف والحكم بالصحة أو كونه موافقا لما أخذه الآن من اجتهاد أو تقليد؟ وجهان ، من أنّ وظيفته في زمان العمل هو الأخذ بقول مفتي ذلك الزمان فلو خالفه عمله قد أخلّ بوظيفته التي يترتب عليه الأثر ولم يطابق عمله لها أيضا حتى يكتفى به ، ولذا لو كان قد قلّد في ذلك الزمان وأخذ بقول المفتي وعمل عليه أجزأه وإن خالف قول من يقلّده الآن ، ومن أنّ العمل حين وقوعه وقع من غير تقليد واجتهاد ولم يعلم مطابقته للواقع ، فاللازم في مقام براءة الذمة بحيث يصحّ له

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٤٢٨.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٤٣٣.

٥١٧

الاعتذار عند الله أن يأخذ الآن بما هو وظيفته من الاجتهاد أو التقليد ويلاحظ موافقته للعمل السابق ، وهذا هو الأقوى لما أشرنا إليه سابقا في نظير المسألة وهو أنّ العمل بفتوى المفتي إنما يكون مبرئا لذمة المكلف ويصح بها عمله ظاهرا ويحسن اعتذار المكلف بها لو خالفت الواقع بشرط الأخذ بها وبناء عمله عليها ، والمفروض أنّ العمل حين وقوعه لم يكن مبنيا عليها ، فلو أريد الحكم بصحّته الآن بموافقته لفتوى من مات أو فسق أو جنّ الآن مثلا لزم أن يكون قد قلّد الآن من لا يجوز تقليده فلا يؤمنه العقل في احتمال مخالفة الواقع بهذه الموافقة ، فيجب مراعاة موافقة العمل لما يأخذه الآن من اجتهاد أو تقليد يكون من وظيفته.

لا يقال : إنه كما لم يأخذ حين العمل بفتوى من كان يجب العمل بقوله كذلك لم يأخذ بفتوى المفتي اللاحق أو اجتهاده اللاحق فكيف يعذره العقل بمجرّد موافقة ذلك العمل لهذه الفتوى أو الاجتهاد مع مخالفة فتوى المفتي السابق.

لأنّا نقول : يكفي في الاعتذار الأخذ الفعلي الصحيح الحاكم بصحة العمل السابق فلا يستعقبه تبعة لو خالف الواقع لمكان صحة الأخذ الحالي فليتأمل فإنه لا يخلو عن دقة ، ومع ذلك كله ينبغي الاحتياط مهما أمكن في رعاية الفتوى السابقة واللاحقة معا ، هذا.

وهنا فروع ينبغي التنبيه عليها منها : أنه لو شك في كون أعماله السابقة مبنية على الاجتهاد أو التقليد الصحيح أم لا ، كما لو علم أنه ما قرأ السورة في صلاته وأوقع عقوده بالفارسية ونحو ذلك ولم يعلم أنّ ذلك منه كان مبنيا على اجتهاد أو تقليد أم لا ، وكما لو شك في أنه هل قرأ السورة أم لا أو عقد بالفارسية

٥١٨

أم لا ومع ذلك شك في أنه كان مبنيا على اجتهاد أو تقليد أم لا ، فحكم المسألة أن يبني على الصحة لقاعدة التجاوز فإنها بعمومها شاملة للعبادات والمعاملات ولقاعدة حمل فعل المسلم على الصحة ، فإن كان مستندها السيرة فهي موجودة في حمل الشخص فعل نفسه على الصحة كما في حمل فعل الغير ، وإن كان مستندها أخبارها مثل قوله (عليه‌السلام) «ضع أمر أخيك على أحسنه» (١) فيستدل بفحواها على ما نحن فيه ، والعمدة قاعدة التجاوز.

ومنها : أنه لو علم أنه لم يبن أعماله السابقة على اجتهاد أو تقليد ولكن يشك في أنه هل وقع أعماله من باب الاتفاق موافقا لقول من يكون موافقته كافية في الحكم بالصحة أم لا؟ فقد يقال بالصحة مطلقا مستندا إلى قاعدة التجاوز وقاعدة حمل فعل المسلم على الصحة كما ذكرنا في الفرع الأول ، وقد يقال بالفساد لأنّ الأصل في العبادات والمعاملات هو الفساد ، وحكي عن بعض الفقهاء المعاصرين التفصيل بين المعاملات فيحكم فيها بالصحة وبين العبادات فإن كان الشك في الوقت فيجب الإعادة وإن كان في خارج الوقت فلا قضاء ، ثم حكى هو عن أستاذه السيد القزويني صاحب الضوابط (قدس‌سره) القول بالبطلان مطلقا ، ولعل نظره في عدم قضاء العبادة أنه بالفرض الجديد فيرجع إلى الشبهة البدوية والأصل البراءة.

والحق في المسألة القول بترتيب آثار الفساد مطلقا كما حكي عن السيد القزويني (رحمه‌الله) لما ذكر من أصالة الفساد ، ولا وجه لإجراء قاعدة التجاوز لأنّ موردها ما إذا تردد العمل بين إيقاعه على الوجه الذي يكون من وظيفته أن يعمل عليه أو إيقاعه على غير هذا الوجه ، والمفروض فيما نحن فيه أنه لم يعمل

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٣٠٢ / أبواب أحكام العشرة ب ١٦١ ح ٣.

٥١٩

بوظيفته من الاجتهاد أو التقليد ، لكن الشك في أنه هل اتّفق موافقته قهرا لفتوى من يجب تقليده عليه أم لا ، وهذا ليس مورد القاعدة ، والفارق بين هذا الفرع وسابقه هو ذلك.

وأما قضية القضاء فإن كان بالفرض الأول فيجب وإن كان بالفرض الجديد كما هو الأظهر وقلنا إنه مترتب على الفوت بمعنى عدم الإتيان في الوقت كما هو الأظهر فكذلك ، وإن قلنا إنّ الفوت أمر وجودي زائد على مجرّد عدم الإتيان ، فإن قلنا بحجية الأصل المثبت فكذلك أيضا ، وإن لم نقل به يسقط القضاء لذلك.

ومنها : أنه لو علم أنه لم يبن أعماله على اجتهاد أو تقليد وكان المفتي الذي يجب الرجوع إليه في أعماله يأمر بالاحتياط لأصالة الاشتغال مثلا ، فيشك في أنه هل وقع عمله موافقا لذلك الاحتياط من باب الاتفاق أو للواقع أم لا؟ وجهان ، والظاهر أنّ الكلام في هذا الفرع كما في الفرع السابق بعينه فلا نعيده.

ومنها : أنه لو عجز المجتهد أو المقلّد عما يجب عليه من الفحص عن الدليل أو فتوى المجتهد لعارض كفقد كتب الأخبار والفقه مما يستنبط منه حكم المسألة مثلا فهل يعمل بالأصل أو بالاحتياط أو التقليد إن كان مجتهدا وأمكنه التقليد؟ وجوه أوسطها الأوسط إن أمكن ولم يكن حرجا ثم التقليد للمجتهد إن أمكن ، ولا يبعد جواز التقليد مع إمكان الاحتياط ، وإن لم يمكن الاحتياط ولا التقليد فالعمل بالأصل غير بعيد ، بل قد يقال بجواز العمل بالأصل من الأول فيما إذا لم يعلم إجمالا بوجود حكم مخالف للأصل بين ما يبتلي به على هذا الحال وإلّا فيعمل بالاحتياط أو التقليد.

٥٢٠