حاشية فرائد الأصول - ج ٢

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-089-6
الصفحات: ٥٩٤
الجزء ٢ الجزء ٣

الاشتغال المعلوم لا بدّ من إسقاط التكليف بإتيان المكلّف به تامّ الأجزاء والشرائط ، إما بالعلم أو بما يقوم مقامه ، وهذا بخلاف ما نحن فيه لعدم العلم بالحرمة بالنسبة إلى المرأة المعيّنة ، وكذا بالنسبة إلى اللحم المعيّن ، ولا مانع من إجراء أصالة الحلّ ، فعلم أنّ إجراء الأصل الموضوعي محتاج إليه في الحكم بالحرمة في المثالين ، ولا ينفع أصالة الحلّ في مثال النظير لعدم اقتضائها أنّ المأتي به وقع صحيحا فتدبّر. وقد تحصّل أنّ التحقيق التفصيل بين الشبهة الوجوبية فيجب إحراز الشرط فيها والشك في الشرط كاف في الفساد ، وبين الشبهة التحريمية والشك في شرط الحلية لا يوجب الحكم بعدم الحلّية.

قوله : أقول كأنّ مطلبه أنّ هذه الرواية وأمثالها (١).

بل الظاهر أنّ مطلبه أنّ هذه الرواية دليل على البراءة في الشبهة الموضوعية بالخصوص دون الحكمية بالقرينة التي أشار إليها في ذيل كلامه من قوله وإذا حصل الشك إلى آخره ، نعم هذه القرينة لو تمّت مختصة بالرواية المذكورة دون باقي الروايات فإنّها عامة للشبهة الحكمية أيضا على ما سبق في محله.

قوله : وإلّا فجريان أصالة الإباحة في الشبهة الموضوعية لا ينفي جريانها في الشبهة الحكمية (٢).

لعل مراده أنّ اختصاص خصوص هذه الرواية بالشبهة الموضوعية لا ينافي عموم باقي الروايات للشبهة الحكمية أيضا ، وتخصيص عمومات الاحتياط والتوقّف بالرواية الأولى لإخراج الشبهات الموضوعية لا ينافي

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ١٣١.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ١٣١.

١٨١

تخصيصها أيضا بباقي الروايات لإخراج الشبهات الحكمية التحريمية ، لكن لا يخفى أنّه كان المناسب أن يعبّر بدل قوله وإلّا فجريان إلى آخره ، وفيه أنّ جريان إلى آخره ، وكيف كان هذا الإيراد ليس لاصقا بخصوص هذه الفقرة من كلام المحدّث لأنّه هنا بصدد إثبات هذا الشق من التفصيل أعني جريان البراءة في الشبهات الموضوعية ، نعم هذا إيراد على أنّ التفصيل المذكور مقتضى مجموع الأخبار.

قوله : أقول فيه مضافا إلى ما ذكرنا من إباء سياق الخبر عن التخصيص (١).

إن أراد من الخبر الذي يأبى سياقه عن التخصيص غير هذا الخبر أعني قوله (عليه‌السلام) «حلال بيّن وحرام بيّن» إلى آخره (٢) من أخبار الاحتياط والتوقّف فإنّه يرجع إلى الإيراد السابق بعينه ولا ربط له بخصوص هذه الفقرة من كلام المحدّث ، وإن أراد منه خصوص هذا الخبر فالإيراد متّضح الفساد لأنّ المحدّث يدّعي اختصاص الخبر بالشبهة الحكمية للقرينة التي ادّعاها ، فأين التخصيص حتى يقال إنّ سياق الخبر آب عنه.

قوله : ظاهرة في حصر ما يبتلي به المكلف من الأفعال في ثلاثة (٣).

للمحدّث منع ذلك لادّعائه وجود القرينة على أنّ المراد بيان أقسام الحكم هذا ، مضافا إلى أنّ هذا الإيراد إن تمّ يرد أيضا على التثليث في قوله (عليه‌السلام) «إنّما الأمور ثلاثة» إلى آخره فكيف يكون الاستشهاد به أظهر

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ١٣٢.

(٢) الوسائل ٢٧ : ١٦١ / أبواب صفات القاضي ب ١٢ ح ٢٧.

(٣) فرائد الأصول ٢ : ١٣٢.

١٨٢

فتدبّر. سلّمنا عدم وروده عليه إلّا أنه يمكن أن تكون هذه الفقرة من الخبر المختصّ بالشبهة الحكمية قرينة على اختصاص تلك الفقرة الأخيرة أيضا بالشبهة الحكمية وأنّ المراد حصر الأمور بالنسبة إلى الحكم لا جميع ما يبتلى به المكلّف من الحكم والموضوع.

قوله : ومنها أنّ الشبهة في نفس الحكم يسأل عنها الإمام (عليه‌السلام) (١).

وجه الاستشهاد بهذا الوجه لما اختاره من التفصيل غير معلوم ، فيحتمل أن يكون مراده أنّ بعض أخبار الاحتياط مثل قوله (عليه‌السلام) «قف حتى تلقى إمامك» ونحوه مختصّ بمورد السؤال عن الإمام (عليه‌السلام) فيحمل عليه باقي الأخبار بهذه القرينة ، فلا تشمل الشبهات الموضوعية فتكون موردا لأخبار البراءة ، والشبهات الحكمية التي يسأل عنها الإمام (عليه‌السلام) موردا لأخبار الاحتياط.

وجوابه : أنّ اختصاص بعض أخبار الاحتياط لا ينافي عموم الباقي ، ولا وجه لكون ذلك البعض قرينة لاختصاص الباقي هذا ، مضافا إلى ما مرّ في محلّه من أنّ مثل «قف حتى تلقى إمامك» مختصّ بمورد إمكان تحصيل العلم بمراجعة الإمام (عليه‌السلام) في زمان الحضور فلا يدل على الاحتياط في أمثال زماننا مما لا يمكن تحصيل العلم فيها ، فتدبّر.

ويحتمل أن يكون مراده أنّ الشبهة الحكمية لكونها مما يسأل عنها الإمام (عليه‌السلام) قابلة لحصول العلم فيها ورفع الشبهة ببيان الإمام (عليه‌السلام) فيناسبه الاحتياط حال عدم العلم ، بخلاف الشبهة الموضوعية فإنّها لمّا لم يسأل

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ١٣٣.

١٨٣

عنها الإمام (عليه‌السلام) غير قابلة لحصول العلم فيها فيناسبها البراءة ، وجوابه ما ذكره في المتن.

قوله : فهو إنّما يقدح في وجوب الاحتياط لا في حسنه (١).

يعني في حسنه العقلي الاقتضائي ، وأما الأوامر الشرعية بالاحتياط ولو ندبا فالإشكال فيه بعد باق ، لأنّ تحديد الاستحباب بصورة لزوم الاختلال أمر لا يعرفه إلّا علّام الغيوب ، لأنّ اختلال النظام يحصل من عمل جميع الناس أو أكثرهم بالاحتياط في جميع موارد الاحتمال ، فكل مكلّف لا يكاد يعرف أنّ أي مقدار من الاحتياط يجوز له حتى لا يلزم منه ومن احتياط باقي المكلّفين بهذا المقدار اختلال النظام ، ويقوى الإشكال إذا بلغ الاحتياط الكلي حدّ التعذّر ، بل لا يختصّ الإشكال بمورد استحباب الاحتياط لأنّ سائر المستحبّات غالبا أو دائما من هذا القبيل ، فإنّ المندوبات الشرعية في اليوم والليلة من الصلوات والأدعية والأذكار الخاصة والمطلقة مما لا يسعها الأوقات ، ولو لوحظ استحباب الصلاة وقراءة القرآن والذكر ونحوها في جميع الأوقات ، مضافا إلى المندوبات الاتفاقية الأخر كعيادة المرضى وتشييع الموتى وآداب بعض أيام الشهر ولياليه وبعض أيام السنة إلى غير ذلك يصير الأمر أشكل ، وما دفع به المصنف الإشكال بالنسبة إلى استحباب الاحتياط بالتبعيض بأحد الوجوه الثلاثة المذكورة في المتن لا يجري هنا كما لا يخفى ، ومرجع الإشكال إلى قبح التكليف بغير المقدور أو بما فيه الحرج المستلزم لاختلال النظام ، فكما لا يجوز ذلك في التكاليف الإلزامية فكذلك لا يجوز في المندوبات أيضا.

وتحقيق الجواب عن الإشكال : أنّا نلتزم بأنها مندوبات تخييرية ، ولنقدّم

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ١٣٩.

١٨٤

مقدمة : وهي أنه هل يصحّ للشارع أن يكلّفنا بأمور متعددة لا يمكننا الاتيان بجميعها بالأوامر الإيجابية عينا أم لا؟ فنقول هذا على وجهين :

أحدهما : أن يكون العجز لبعض الطوارئ بالنسبة إلى بعض المكلّفين وبعض الأوقات والأحوال وإلّا فنفس المكلّف به في نفسه لا يعد من الممتنعات كما في أنقذ الغريق فقد يتّفق أنّ هناك غريقين لا يتمكن المكلّف إلّا من إنقاذ أحدهما ، والمفروض أن مصلحة إيجاب الانقاذ في كلّ منهما عينا تامة ، فنقول هاهنا يصحّ الإيجاب العيني بالنسبة إلى كل واحد غاية الأمر أنه لو اتّفق عجز المكلف عن الجميع يتخير بحكم العقل بينهما لو لم يكن أهمّ في البين ، وإلّا تعيّن عليه إتيان الأهم ، لكن لو خالف وأتى بغير الأهم فقد أتى بالواجب الواقعي ، فهو مكلّف بالجميع إلّا أنه غير معاقب على أزيد من المقدور لأنّه غير منجّز عليه وهذا كما في صحة تكليف الجاهل الغافل بعينه بناء على الحق من التخطئة فإنه مكلّف غير معاقب عليه وبيانه في محلّه.

وثانيهما : أن يكون العجز دائميا لا يمكن موافقة الأوامر بوجه أبدا ، فهذا لا يصح التكليف بها إلّا تخييرا ، ودعوى أنه يمكن أن يكون مصلحة الحكم في كل واحد منها تامة على وجه العيني كالقسم الأول ، مدفوعة بأنّ مصلحة كل منهما معارضة بمفسدة ترك الآخر ، وبعد ملاحظة ذلك ومزاحمة جهات المصالح والمفاسد والكسر والانكسار إما أن يرجّح أحدها إن كان أهمّ وإلّا فلا بد من التخيير بينها.

إذا عرفت ذلك في الواجبات تعرف الحال في المندوبات فإنها كالواجبات في هذا الحكم بعينها ، والظاهر أنّ مورد الإشكال فيها غالبا أو دائما من قبيل القسم الثاني ، فلا مناص عن الالتزام بالتخيير من أول الأمر شرعا ، إلّا

١٨٥

أنّ الأفضل اختيار الأرجح من بينها ، هذا.

وقد يقال بحمل جميع هذه الأوامر على بيان مقتضي الحكم لا الطلب الحقيقي فيرجّح الاتيان بأيها أريد بحكم العقل ، وهو بعيد عن ظاهر الأوامر الشرعية ، وكيف كان ففي مسألة ما نحن فيه أيضا يحكم بالتخيير بين موارد الاحتياطات بحيث لا يلزم منه الحرج إن لم يكن هناك مرجّح بأحد الوجوه الثلاثة المتقدمة وإلّا فيؤخذ بالراجح ، فإن لم يلزم من الأخذ بالمرجّحات الثلاثة بأجمعها الحرج أخذ بجميعها وإلّا فباثنين منها وإلّا فبواحد منها ، لكن لا بدّ أن يلاحظ أنّ أيها أرجح فيقدّم على الباقي ، ولا يبعد أن يكون الترجيح بحسب المحتملات أرجح من الترجيح بحسب الاحتمالات وهو أرجح من الترجيح بحسب موارد الأمارات غالبا وهذا بحسب نظر الفقيه بالنسبة إلى خصوصيات الموارد.

ولا يخفى أنّ هذه الترجيحات لا تنافي كون المرجوح مستحبا فعليا أيضا على نحو التخيير والأخذ بالراجح من باب الأخذ بأفضل فردي المستحب التخييري ، لا أنّ غير الراجح غير مستحب.

قوله : بل يشمل القادر على تحصيل العلم بالواقع لعموم أدلّته من العقل والنقل (١).

الوجوه المحتملة في المسألة ثلاثة : لزوم الفحص مطلقا ، وعدمه مطلقا ، والتفصيل بين ما لو علم بأنه يتبيّن الحال بالفحص ويرتفع الشبهة وما لم يعلم بل يحتمل بقاء الشبهة بعد الفحص وزوالها فيجب في الأول دون الثاني. إطلاقات أدلة البراءة مضافا إلى عدم الخلاف في خصوص الشبهة التحريمية مع الثاني

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ١٤٠.

١٨٦

كما في المتن ، لكن لا بدّ أن يراد منها غير الصورة التي يعلم زوال الشك وحصول العلم بالواقع بأدنى تأمل والتفات مثل أنه يشك في كون الإناء خمرا مع أنه يعلم أنه لو نظر إلى لونه أو استشم رائحته يظهر له أنه خمر أو لا ، فينبغي القطع بعدم شمول أدلة البراءة لمثله ، إما لعدم صدق الشك في مثله عرفا أو لانصراف الأدلة عنه ، وبمثل هذا استدل لما ذهبوا إليه من وجوب التروي في حكم شكوك الصلاة وإلّا فلا دليل عليه ، بل لا يبعد أن يدّعى انصراف الإطلاقات إلى غير صورة العلم بأنه بالفحص ينكشف الواقع ويرتفع الشبهة مطلقا ، وهكذا نقول في أخبار الاستصحاب وسائر الأمارات.

إلّا أنه قد ورد في أخبار اعتبار سوق المسلم ما يدلّ على عدم وجوب السؤال والفحص مثل قوله (عليه‌السلام) «كل ... ولا تسأل» (١) وكذا في حكاية المنقطعة بحيث يعلم منها شمولها لصورة إمكان تحصيل العلم أيضا ، لكنها تقتصر على مواردها ، إلّا أنها لا تخلو عن تأييد لإطلاقات البراءة بملاحظة أنّ حكمة جعل الأصول والأمارات التسهيل على العباد وكون الشريعة سمحة سهلة.

ويؤيدها أيضا حكاية رشّ الإمام (عليه‌السلام) ثوبه بالماء عند دخول الخلاء لسدّ باب العلم بالنجاسة وإحداث وجه الشبهة ، ومن ذلك كله يضعف وجه الانصراف المذكور ويقوى العمل بإطلاقات أدلة البراءة الشاملة لما قبل الفحص.

إلّا أنه يبقى سؤال الفرق بين الشبهة الموضوعية التحريمية والوجوبية فإنهم لم ينقلوا خلافا في الأول بخلاف الثاني أعني الشبهة الوجوبية فإنّ المصنف في آخر رسالة البراءة حكى خلاف صاحب المعالم والمحقّق القمي

__________________

(١) الوسائل ٢٤ : ٧٠ / أبواب الذبح ب ٢٩ ح ١.

١٨٧

وحكى عن غيرهما أيضا في بعض جزئيات المسألة كالشاك في الاستطاعة لعدم العلم بمقدار ماله فأوجبوا الفحص بالمحاسبة ، وكالشاك في بلوغ ماله من النقدين نصاب الزكاة من جهة الغش فأوجبوا التصفية ، وإن احتمل أن يكون نظرهم في هذه المسألة إلى رواية زيد الصائغ ، وكيف كان فإن كان مستند عدم وجوب الفحص هنا إطلاق أدلة البراءة فليكن كذلك هناك لاشتراك الدليل واتحاده في المقامين.

وقد يقال : إنّ نظرهم في الفرق إلى ورود مثل «كل .. ولا تسأل» ونحوه في الشبهة التحريمية دون الوجوبية ، وفيه ما عرفت.

وبعد اللتيا والّتي لا يخفى أنّ مقتضى قاعدة الاشتغال العقلي كما أشار إليه صاحب المعالم (١) وجوب الفحص مطلقا في المسألتين ، وبها يضعّف إطلاقات الأخبار ويوجب انصرافها إلى ما بعد الفحص ، فالمسألة في غاية الإشكال ، وما وجّه المصنف الفرق بين المسألتين من أنه يلزم المخالفة القطعية الكثيرة في الشبهة الوجوبية لو بني على عدم الفحص كما في الشاك في الاستطاعة المذكورة ضعيف لوروده في الشبهة التحريمية أيضا كما لا يخفى على المتأمّل هذا ، وانتظر لتمام الكلام في آخر الرسالة إن شاء الله عند تعرّض المصنف.

قوله : والمعروف من الأخباريين هنا موافقة المجتهدين في العمل بأصالة البراءة (٢).

فإن قلت : إنّ أدلة وجوب الاحتياط على تقدير تماميتها عقلها ونقلها شاملة للشبهة التحريمية والوجوبية بوجه واحد ، فما بال الأخباريين اتّفقوا على

__________________

(١) لاحظ المعالم : ٢٠١.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ١٤٢.

١٨٨

وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية واختار أكثرهم البراءة في الشبهة الوجوبية.

قلت : لعل المعروف منهم اعتمدوا في الشبهة التحريمية على خصوص أخبار التثليث والتوقّف الظاهرة في الشبهة التحريمية ولم يعتمدوا على الوجوه الباقية من أخبار الاحتياط وحكم العقل والآيات ، وإنما ذكرها من ذكرها تأييدا للمطلب أو إلزاما على الخصم كما في الاستدلال بظواهر الآيات والوجوه العقلية فإنّهما ليستا عند الأخباريين من الحجة في شيء كما لا يخفى ، فتأمل.

قوله : وكذا لو وردت رواية ضعيفة بوجوب شيء إلخ (١).

يستفاد من كلامه هذا جريان البراءة فيما لا نصّ فيه من الشبهة الوجوبية ، وهو مناف لما صرّح به في سابقه من لزوم الاحتياط في حكم الشبهتين مطلقا فتدبر.

قوله : وأما إذا احتمل كون شيء واجبا لكونه جزءا أو شرطا لواجب آخر (٢).

وهنا قسم آخر من الوجوب الغيري لم يتعرّضه المصنف لوضوح حكمه ، وهو ما لو شك في الوجوب الغيري لشيء بحيث لا يكون ذلك الغير مقيدا به كتقييد الكل بالجزء والمشروط بالشرط ، وهذا مثل ما إذا شك في وجوب نصب السلّم مثلا بالوجوب الغيري فإنّ ذلك يرجع إلى الشك في ثبوت الوجوب النفسي لذي المقدمة ، فإذا جرى أصل البراءة فيه لم يبق شك في وجوب المقدمة.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ١٤٧.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ١٤٩.

١٨٩

فرع :

لو علم بوجوب شيء وشك في أنه نفسي أو غيري فلا يجري أصل البراءة هنا أيضا ، سواء كان احتمال الوجوب الغيري من جهة احتمال كونه جزءا أو شرطا لواجب آخر أو من جهة احتمال المقدمية الخارجية ، وذلك لأنّ شأن الأصل نفي الكلفة الزائدة والمفروض هنا العلم بوجوب إتيان هذا الشيء على أي تقدير ، والعلم بحصول استحقاق العقاب من جهة تركه ، غاية الأمر أنه لم يعلم أنّ العقاب المترتب على تقدير تركه مترتب عليه أو على شيء آخر يتوقف وجوده عليه وهذا لا أثر له ، نعم لو علمنا بالوجوب الغيري لشيء ثم شككنا في وجوبه النفسي أيضا زائدا على هذا الوجوب الغيري فلا شك في جريان الأصل لنفي ذلك الوجوب النفسي ولا كلام.

قوله : فهو داخل في الشك في المكلّف به (١).

كما لو شكّ في وجوب السورة في الصلاة بوجوب الصلاة فإنّه يرجع إلى أنّ الصلاة المأمور بها هل هي الأقل الخالي عن السورة أو الأكثر المشتمل على السورة.

فإن قلت : حيثية وجوب إتيان السورة أو عدمه تغاير حيثية صحة الصلاة بدون السورة أو عدمها ، وما يبحث عنه في الشك في المكلّف به إنما هو باعتبار الحيثية الثانية ، ويبقى الكلام باعتبار الحيثية الأولى ينبغي التعرّض له في مسألتنا هذه.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ١٤٩.

١٩٠

قلت : لمّا كان البحث عن الحيثية الثانية بإجراء أحد الأصلين من البراءة أو الاحتياط مغنيا عن الأولى ولا يترتب على البحث الآخر ثمرة أصلا فلا وجه لتعرّضه مرتين ، فتأمل.

قوله : والحكم بالثواب هنا أولى من الحكم بالعقاب على تارك الاحتياط اللّازم (١).

لعل نظره في وجه الأولوية أنّ في حكم العقل بقبح التجري وحرمته في المورد تأمّلا مرّ الكلام فيه في أول رسالة القطع ، بخلاف حكمه بحسن الانقياد في نفسه فإنّه مسلّم عند من لا يقول بقبح التجري أيضا.

وفيه : منع الأولوية وأنّهما في حكم العقل سواء ، فيحكم بحسن هذا واستحقاق الثواب عليه وقبح ذاك واستحقاق العقاب عليه في مرتبة واحدة ، بل نقول إنّ العقل يحكم في التجري كما في المعصية الحقيقية باستحقاق العقاب ولا يحكم في الانقياد بل في الإطاعة الحقيقية باستحقاق الثواب على الله ، وقد مرّ سابقا وجهه بأوفى بيان.

ويمكن أن يكون وجه الأولوية أنّ المحتاط يفعل الفعل بداعي المحبوبية والمتجرّي لا يفعله بداعي إتيان مبغوض المولى ، بل ربّما يفعله برجاء أن لا يكون مبغوضا وإن وجب عليه الاحتياط ظاهرا ، وفيه أيضا تأمل.

قوله : أو إجمالا كما في كل من الصلوات الأربع عند اشتباه القبلة (٢).

لو لم يكتف في تحقق عنوان العبادة باحتمال الأمر كما هو مبنى هذا الوجه لزم عدم كفاية العلم الإجمالي بالأمر في تحقق القربة وعبادية العبادة ، إذ

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ١٥٠.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ١٥١.

١٩١

لا يكون فعل كل واحدة من الصلوات إلى الجهات الأربع إلّا باحتمال الأمر ، وعلم المكلف بعد الإتيان بجميع الصلوات الأربع بتعلّق الأمر بواحدة منها في الواقع لا ينفع بعد فرض الجهل به عند الفعل ، وكيف كان ظاهر عنوان المتن أنّ الكلام هنا في أنّ حسن الاحتياط العقلي هل يقتضي جواز فعل المحتمل الوجوب بعنوان العبادة وصحته على تقدير كونه مأمورا به واقعا في مقابل كونه تشريعا محرّما أم لا ، وما ذكره سندا لكل من الوجهين أيضا يناسب هذا المعنى ، إلّا أنّ ذيل كلامه يعطي أنّ الكلام في أنّ الاحتياط مستحبّ شرعيّ أم لا ، وسنشير إليه في محلّه بما فيه.

قوله : بل يكفي الإتيان به لاحتمال كونه مطلوبا (١).

وهذا هو الحق الذي لا محيص عنه ، لأنّ هذا المقدار يكفي في صدق عنوان الإطاعة ولا دليل على اعتبار أزيد من صدق الإطاعة في العبادة وهو حاصل هنا ، بل قد مرّ سابقا أنه يكفي في ذلك جعل الفعل لله بوجه من الوجوه كأن يفعله بداعي كونه محبوبا له مرضيا عنده ، ولا يعتبر قصد الأمر فيه ولو احتمالا فتذكّر.

قوله : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ)(٢).

تقريب الاستدلال أنه تعالى قد أثنى على كل من يفعل فعلا للخوف عن فوت ما أراده الله منه ، فيكشف ذلك عن كون هذا الفعل مأمورا به مطلوبا له ، فثبت أنّ الاتيان بالمحتمل برجاء إدراك الواقع مأمور به ، والأظهر في معنى

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ١٥١.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ١٥٢.

١٩٢

الآية أنّ الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة من قبول أعمالهم أنهم إلى ربهم راجعون ، يعني فيما علموا فيه التكليف وعملوا على طبقه لا فيما احتملوا واحتاطوا.

والحق في الجواب عن الآيات أنها كأوامر الاحتياط أوامر إرشادية لا إطاعة ولا معصية لها وأنها تابعة للمرشد إليه ، والمصنف أجاب عنها بما في المتن ثم ردّ الجواب فكأنّه ارتضى الاستدلال بها حاملا للأوامر فيها بل وكذا أوامر الاحتياط على الطلب المولوي دون الإرشادي ، فأثبت الاستحباب النفسي لذات المحتمل ثم رتّب عليه جواز الفتوى بالاستحباب الشرعي للمحتمل من دون التقييد بأنه بعنوان الاحتياط.

ويرد عليه ـ مضافا إلى ما مرّ ، من أنّ هذه الأوامر غير محتملة إلّا للإرشاد على ما صرّح به في المتن في مواضع عديدة ـ أوّلا : أنّ صرفها عن ظاهرها من الإرشاد يحتاج إلى قرينة مفقودة ، ودعوى أنّ إطلاقها وشمولها للعبادات وغيرها مع توقّف شمولها للعبادات على أن يكون الأوامر فيها شرعية قرينة على صرف الظاهر ، مدفوعة بأنّ هذا ليس بأولى من العكس بأن يكون ظهورها في الإرشاد قرينة على عدم شمولها للعبادات ، اللهمّ إلّا أن يقال إنّ هذه التأكيدات البليغة بالاحتياط لا تلائم اختصاصها بغير العبادات ، بل العبادات أظهر أفراد مواردها ، ولمّا لم يمكن شمولها للعبادات إلّا على تقدير كون الأوامر شرعية فلا بدّ أن يحمل عليها.

وثانيا : أنا لو سلّمنا أنّ أوامر الاحتياط والتقوى ونحوهما شرعية إلّا أنها متعلّقة بعنوان الاحتياط بالفرض ، فينتج استحباب الفعل المحتمل أنه الواقع بعنوان الاحتياط لا استحبابه لا بهذا العنوان حتى يجوز الفتوى به من دون

١٩٣

التقييد بإتيانه بعنوان الاحتياط ، كيف ولو جاز ذلك جاز في نظائره كما لو أمر بالفعل بعنوان النيابة أو بعنوان الوفاء بالنذر والعهد أو بعنوان الوفاء بالاجارة ونحو ذلك ، فيحكم باستحباب الفعل أو وجوبه لا بهذه العناوين المذكورة ولا يلتزم به هو ولا غيره ، نعم لو أراد أنه يجوز الفتوى بالاستحباب المطلق بملاحظة أنّ المقلّد في مقام العمل يعمله على النحو المشروع عند المفتي فيقصد بذلك عنوان الاحتياط المأمور به بالقصد الإجمالي فلا كلام ، لكنه بعيد عن العبارة.

قوله : فما أورده (قدس‌سره) في الذكرى كأوامر الاحتياط لا يجدي في صحّتها (١).

هذا هو إشكال الدور المعروف المورد في مطلق العبادات المأخوذة فيها قصد القربة لو فسّر بقصد الأمر المتعلّق بها ، وأجيب بوجهين : أحدهما ما اختاره المصنف من أنّ القربة مأخوذة في طريق الامتثال لا جزء للمأمور به ، ولعله في المتن أشار إليه في النقض. وثانيهما : أنه لا بدّ أن يستكشف مطلوبية العبادة بتمام أجزائها التي منها القربة بأمرين : أحدهما متعلّق بسائر الأجزاء مع الشرائط ما عدا القربة والآخر متعلّق بخصوص هذا الجزء أعني قصد الأمر ، ولعله أشار إليه في الحل ، ولبيان أصل هذا الإشكال وما فيه وفي الجوابين محلّ آخر ، والغرض هنا الإشارة إلى ما نبّه إليه في المتن إشارة إلى ما حققه في الفقه في بحث نية الوضوء وغيره.

وكيف ما كان ، يرد على الاستدلال على شرعية إتيان المحتمل بالآيات المذكورة مضافا إلى الإيرادات الثلاثة التي ذكرنا قبيل ذلك ، أنّ حمل أوامر

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ١٥٢.

١٩٤

التقوى والمجاهدة على المولوي يوجب استعمال لفظ الأمر في معنيين ، لأنّ مفهوم التقوى ليس مجرّد إتيان المحتمل بل يشمل إتيان الواجبات المعلومة وترك المحرّمات المعلومة ، ولا ريب أنّ الأمر بالتقوى بالإضافة إليهما إرشادي محض ، فلو كان ذلك الأمر بعينه مولويا باعتبار شمول التقوى لاتيان المحتمل لزم استعمال لفظ الأمر في المعنيين حيث لا جامع بين الطلب المولوي والإرشادي على ما حقق في محلّه.

١٩٥

قاعدة التسامح في أدلة السنن

قوله : ثم إنّ منشأ احتمال الوجوب إذا كان خبرا ضعيفا فلا حاجة إلى أخبار الاحتياط (١).

لا يخفى أنّ إثبات الاستحباب الشرعي بأخبار التسامح أشدّ كلفة من إثباته بأخبار الاحتياط عند الماتن ، حيث أورد عليها عين الإيراد الذي أورده على أوامر الاحتياط والتقوى ، ودفعه بما دفع به هناك ، وأضاف إليه إيرادين آخرين قد دفع أحدهما وسلّم الآخر ، ومع ذلك كيف لا يحتاج إثبات الاستحباب بها إلى الكلفة التي يحتاج إليها أخبار الاحتياط.

قوله : وأما الإيراد الأول فالانصاف أنه لا يخلو عن وجه (٢).

محصّل توجيهه الإيراد : أنّ الثواب الموعود إما مطلق الثواب المترتب على مجرّد الانقياد فهو ثابت بحكم العقل ، وهذه الأخبار إرشاد إلى ذلك فلا

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ١٥٣.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ١٥٥.

١٩٦

يستكشف منها أمر شرعي ، وإما الثواب المخصوص البالغ فهو من باب التفضّل كما هو ظاهر هذه الأخبار لا الاستحقاق كي يلازم ثبوت أمر شرعي متعلّق بإتيان المحتمل.

وفيه نظر ، أما أوّلا : فلأنّ حمل هذه الأخبار على الإرشاد كما اختاره في الشق الأول غير مستقيم ، لما مرّ غير مرّة من أنّ حكم العقل في الإطاعة الحكمية بإتيان المحتمل ليس إلّا أنه إذا صادف الواقع حصل الامتثال وترتّب عليه الثواب المترتّب على الواقع ، ولو لم يصادف الواقع لم يترتب عليه شيء ، فلو كان مفاد الأخبار هذا المقدار كان إرشادا إلى حكم العقل ، ولمّا كان مفادها ترتّب الثواب على كل تقدير سواء صادف الواقع أو لم يكن كما بلغه وتخلّف عن الواقع لم يمكن حملها على الإرشاد ، فيكشف ذلك عن تعلّق أمر شرعي بإتيان المحتمل مطلقا وهو المطلوب.

ودعوى أن العقل يحكم بأزيد مما ذكر بأن يقال يحكم بترتّب الثواب على إتيان المحتمل مطلقا ، مدفوعة ـ مضافا إلى منعه وإلّا لزم منه حرمة التجرّي بالمقايسة والمصنف لا يقول بها ـ بأنّه لو كان كذلك كشف عن أمر عقلي مولوي يلزمه أمر شرعي كذلك بقاعدة الملازمة ، ويطابق هذا الأمر مضمون هذه الأخبار ، ويثبت به المطلوب أيضا من تعلّق الأمر الشرعي دون الإرشادي بإتيان المحتمل مطلقا.

وأما ثانيا : فلأنّ دعوى ظهور أخبار التسامح في أنّ الثواب الموعود به فيها من باب التفضّل لا الاستحقاق على ما أذعن به في آخر كلامه تكفي في الجواب عن إثبات الشرعية والاستحباب بها فلا حاجة إلى إتعاب النفس في ردّ الاستدلال بها بهذا التشقيق وهذه البيانات الطويلة فليقتصر على ذلك.

١٩٧

وأما ثالثا : فلأنّ حمل الثواب الموعود به على التفضل لا يترتّب على إرادة خصوص الثواب البالغ ، بل لو كان المراد مطلق الثواب لكن تفضّلا أنتج أيضا ما أراده من عدم الكشف عن أمر شرعي ، نعم لو قيل إنّ ظاهر أكثر هذه الأخبار الوعد بالثواب الخاص مثل قوله (عليه‌السلام) في رواية الكليني «كان له من الثواب ما بلغه» (١) وقوله (عليه‌السلام) في مرسلة السيد «كان له ذلك كان حقا» (٢) كما أن ظاهر قوله (عليه‌السلام) «وإن لم يكن كما بلغه» (٣) التفضّل سيما بملاحظة ظهور الثواب الخاص في الثواب الموعود.

والتحقيق أن يقال : إنّ المراد من هذه الأخبار أنه من بلغه ثواب على عمل بلوغا معتبرا قطعيا أو ظنيا معتبرا فعمله كان له ذلك الثواب تفضّلا وإن أخطأ الواقع ، لا مطلق البلوغ حتى يشمل الخبر الضعيف بدعوى انصراف مطلق البلوغ إلى ذلك ، أو بدعوى منع إطلاق البلوغ لكونه في مقام الإجمال من هذه الجهة والقدر المتيقّن منه هو المعتبر ، أو دعوى تقييد إطلاقه بمثل قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)(٤) ونحوه مما يستفاد منه عدم حجية خبر الفاسق أو غير الموثوق به ، وهذا هو الوجه الذي لا محيص عنه ، وكأنّ المشهور فهموا حكومة أخبار التسامح على تلك الأدلة حيث لم يقيّدوها بها.

وتحقيق هذا المقام : أنّ العاملين بأخبار التسامح بين من يذهب إلى حجية الأخبار الضعاف في المندوبات والمكروهات كحجية خبر العادل بعينها وإثبات كونها طريقا إلى الواقع فيثبت بها الاستحباب والكراهة الواقعيين ، وبين

__________________

(١) الوسائل ١ : ٨١ / أبواب مقدمة العبادات ب ١٨ ح ٦ (مع اختلاف).

(٢) الوسائل ١ : ٨٢ / أبواب مقدمة العبادات ب ١٨ ح ٩ (مع اختلاف).

(٣) نفس المصدر ح ٦.

(٤) الحجرات ٤٩ : ٦.

١٩٨

من يقول بأنّ الخبر الضعيف موضوع لإثبات الاستحباب والكراهة الظاهريين نظير مفاد الأصول ، ولا ريب أنّ أخبار التسامح أظهر في المعنى الثاني كما هو عند المتأخّرين منهم ، وحينئذ لا يرد على الاستدلال بأخبار التسامح بأنها معارضة بمنطوق آية النبأ تعارض العموم من وجه ، لأنّ أخبار التسامح لا يثبت إلّا الاستحباب الظاهري إدراكا للثواب ، وآية النبأ تدلّ على عدم كون خبر الفاسق طريقا إلى الواقع ، ولا منافاة بينهما ، كما لا منافاة بين عدم حجية خبر الفاسق ورجحان الاحتياط في مورده.

وكذا لا يرد ما قيل إنّ حجية الخبر الضعيف ولو في خصوص المستحبات والمكروهات مسألة أصولية لا يمكن إثباتها بخبر الواحد ، لأنّك عرفت أنّ المستفاد من هذه الأخبار ثبوت الاستحباب الظاهري ، فهو نظير الاستصحاب وأصالة البراءة ونحوهما من الأصول التي يجوز التمسّك فيها بأخبار الآحاد ، إما بدعوى أنّ الجميع مسائل فرعية أو بمنع عدم جواز التمسّك في الأصول بخبر الواحد ، وبيانه في محلّه.

وكذا لا يرد ما قيل إنه يلزم حجية الخبر الضعيف مطلقا حتى في الواجبات والمحرّمات ، بأن يحكم في مواردهما بالوجوب والحرمة ، والمعلوم عندهم أنه إن ورد خبر ضعيف بوجوب شيء أو حرمته يحكمون باستحبابه أو كراهته وهو أخذ بغير مؤدّى الخبر ، ووجه دفعه أنّ ما ذكرت إنّما يرد على من يقول بحجية الخبر الضعيف بدليل أخبار التسامح لا على من يذهب على أنّ مفادها ثبوت الاستحباب الظاهري في موضوع مطلق البلوغ.

وقد أورد أيضا على الاستدلال بهذه الأخبار للتسامح في أدلة السنن : بأنّ الظاهر منها ما إذا كان أصل شرعية العمل معلوما وأخبر المخبر بمقدار ثوابه ،

١٩٩

فيعطى ذلك المقدار من الثواب وإن لم يكن كما بلغه.

وفيه أوّلا : منع الظهور فيما ذكر ، بل يشمل ما لو بلغه أصل الشرعية ومقدار الثواب. وثانيا : أنه لو سلّم ما ذكر في بعض تلك الأخبار مثل قوله (عليه‌السلام) «من بلغه شيء من الثواب على عمل» فلا نسلّم ذلك في بعضها الآخر مثل قوله (عليه‌السلام) «من بلغه شيء من الخير» إلى آخره ، وكيف كان فقد عرفت أنّ التحقيق في الجواب عن هذه الأخبار لإثبات الاستحباب الشرعي ظهورها في التفضل بالثواب ، وأنّ المراد بالبلوغ البلوغ المعتبر.

ويؤيّد ذلك أنه لو كان المستفاد منها أنّ الإتيان برجاء الواقع راجح نفسيّ ومستحب شرعي مطلقا صادف الواقع أو لا لزم تعدد الثواب على تقدير المصادفة ، ثواب على نفس المستحب الواقعي وثواب على عنوان العمل برجاء إدراك الواقع ، نظير الإتيان بمحرّم واقعي بعنوان التشريع ، فيستحق به عقابان بملاحظة العنوانين ، مع أنّ ظاهر الأخبار ترتّب ثواب واحد على التقديرين ، نعم لو ادّعى المستدل بهذه الأخبار أنا نستكشف الأمر بعنوان العمل برجاء إدراك الواقع في صورة عدم المصادفة ، وأما عند المصادفة فيكفي في ترتّب الثواب وجود الأمر الواقعي بالعنوان الأولي للفعل ، اندفع إشكال تعدّد الثواب عنه ، والوجه فيه أنّ غاية ما يستفاد من هذه الأخبار ترتّب الثواب على العمل برجاء إدراك الواقع ، والعقل يحكم بأنّ ترتّب الثواب لا يكون إلّا عن أمر ، فإن كان هناك أمر واقعي كما في صورة المصادفة فهو وإلّا لزم وجود أمر آخر ، ونظير هذا الإشكال والجواب ما مرّ في مسألة التجرّي من رسالة القطع من أنّه بناء على حرمة التجري يلزم تعدّد العقاب إذا تحقّق التجرّي في ضمن المعصية الحقيقية ، وأجاب عنه صاحب الفصول بتداخل العقابين ، وأورد عليه المصنف بأنّه لا وجه للتداخل بعد تسليم تعدّد عنوان المحرّم.

٢٠٠