حاشية فرائد الأصول - ج ٢

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-089-6
الصفحات: ٥٩٤
الجزء ٢ الجزء ٣

مرجّحا في المقام وإنّما يكون مرجّحا في تعارض الدليلين من جهة أنّهما ناظران إلى الواقع ، فيمكن أن يكون الظن بالواقع مرجّحا لما يوافقه منهما بخلاف الأصل الذي يعتبر لا من حيث كونه كاشفا عن الواقع وناظرا إليه ، وهذا واضح.

أقول : وفي هذا الوجه نظر من وجوه :

منها : أنّ هذا الوجه على تقدير تماميته يقتضي تقدّم الأدلة على الأصول ، وأما أنه من باب التخصيص فلم يتبيّن منه.

ومنها : أنه إنما يتم لو فرض كون دليل حجية الأمارات طرّا دليلا واحدا ودليل حجية الأصول بأجمعها أيضا دليلا واحدا ، وإلّا فلو فرض التعارض بين دليل واحد من الأدلة ودليل واحد من الأصول وكانت النسبة عموما من وجه يمكن تخصيص كل منهما بالآخر من دون لزوم اللغوية كما لا يخفى.

ومنها : أنّه سلّمنا أنّ النسبة على ما ذكرت ، لكن موارد التخيير التي اعترفت ببقائها تحت العموم على تقدير تخصيص عموم دليل حجية الأدلة كافية في دفع اللغوية ، وقلّتها لا توجب اللغوية ، مع أنّ ندرتها أيضا في محل المنع.

ومنها : أنّ التعارض الذي فرضت غير معقول ، لأنّ الأصول الشرعية الثلاثة التي هي معارضة للأدلة لا دليل على حجّيتها كلا أو بعضا سوى أخبار الآحاد على التحقيق ، وكيف تعارض هذه الأخبار دليل حجية أخبار الآحاد فليتأمّل.

٤١

قوله : واعلم أنّ المقصود بالكلام في هذه الرسالة الأصول المتضمّنة لحكم الشبهة في الحكم الفرعي الكلي وإن تضمّن حكم الشبهة في الموضوع أيضا (١).

قد يقال لا وجه لكون الأصول المتضمّنة لحكم الشبهة في الحكم الكلي مقصودا بالأصالة والأصول الموضوعية مقصودا بالتبع ، لأنّ بيان حكم كلي الشبهة في الموضوع وظيفة الشارع كالشبهة في الحكم الكلي من غير فرق.

لا يقال : إنّ تحرير حكم الشبهة الموضوعية من المسائل الفقهية فتعرّضه في علم الأصول استطراد.

لأنّا نقول : تحرير الأصول في الشبهة الحكمية أيضا من المسائل الفرعية ، إذ ليس أصالة البراءة وأصل الاستصحاب وأصل الاحتياط وأصل التخيير إلّا قواعد فقهية كلية ، وهي عوارض وأحكام للعمل لا أحوال للأدلة كما مرّ قبيل ذلك بيانه في الجملة.

فالأولى أن يقال في توجيه كلامه : إنّ الأصول الأربعة وإن كانت من المسائل الفرعية على التحقيق لكنّها شبيهة بالمسائل الأصولية لوجود بعض خواصّها فيها ، وهو أنّ إجراءها في مواردها وظيفة الفقيه دون المقلّد كما هو كذلك في جميع المسائل الأصولية.

وأما المسائل الفقهية وإن كان استنباطها عن أدلّتها من وظائف الفقيه إلّا أنّ إجراءها في مواردها الجزئية من شأن المقلّد ، وهذا بخلاف الأصول الموضوعية فإنّ إجراءها في مواردها وظيفة المقلد ، مثلا لو أفتى الفقيه بأنّ اصل

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ١٣.

٤٢

البراءة في الشبهة الحكمية التحريمية حجة لا ينفع ولا يفيد المقلّد شيئا حتى يفتي بأنّ شرب التتن والقهوة وأمثالهما لا حرج فيها ، وأما لو أفتى بأنّ كل ما شك في طهارته أو حلّيته في الموضوعات فهو طاهر أو حلال ، فيكفي ذلك للمقلّد وهو يتصدّى لإجرائها وتطبيقها على مواردها الجزئية ، والسر في ذلك أنّ الشك المأخوذ في موضوع الأصول الحكمية لا يعتبر إلّا بعد الفحص والمقلّد ليس من أهله ، فينحصر موردها في شك المجتهد ثم إجراء الأصل ، وأما الشك في الشبهات الموضوعية فلا يعتبر فيه الفحص ، ولو فرض وجوبه فالمقلّد من أهله في الموضوعات.

قوله : وأما الأصول المشخّصة لحكم الشبهة في الموضوع كأصالة الصحة ، إلى آخره (١).

يريد به أنّ الأصول المختصّة بالشبهات الموضوعية لا تذكر إلّا لأجل مناسبة يقتضيها المقام ، وأما الأصول المشتركة فباعتبار جريانها في الشبهة الحكمية هو المقصود الأصلي من الرسالة لكن يتعرّض لجريانها في الشبهات الموضوعية بالتبع ، إلّا أنّك قد عرفت ما في ذلك فتدبّر.

قوله : ثم إنّ انحصار موارد الاشتباه في الأصول الأربعة (٢).

انحصار الأصول في الأربعة ممنوع في الشبهة الحكمية على ما هو مراده ، وإلّا فهو يسلّم عدم انحصار الأصول في الأربعة في الشبهات الموضوعية كما صرّح به قبيل ذلك ، ونحن نشير إلى جملة من الأصول المجعولة في الشبهة الحكمية غير الأربعة ليتّضح سند المنع :

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ١٤.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ١٤.

٤٣

منها : قاعدة الطهارة الجارية في الشبهة الحكمية كما يجري في الشبهة الموضوعية مثل ما لو شكّ في نجاسة الحديد أو خرء الطير غير المأكول اللحم أو الحيوان إذا لم يكن له نفس سائلة ونحو ذلك ، فيحكم بطهارة نوعها بقاعدة الطهارة.

لا يقال : إنّها راجعة إلى أصالة البراءة عن وجوب اجتناب المشكوك النجاسة أو اجتناب ما يلاقيه.

لأنّا نقول : ليس كذلك بل القاعدة تثبت موضوع الطهارة شرعا ثم تترتّب عليه أحكام الطهارة ، ويثمر هذا الفرق في الأحكام الوضعية كشرطية طهارة الثوب والبدن للصلاة ، فبأصالة البراءة لا يمكن إحراز الشرط قطعا ، ويمكن إحرازه بقاعدة الطهارة.

فإن قلت : إنّ أصالة البراءة في هذا المقام أيضا تغنينا عن قاعدة الطهارة على التحقيق من جريان البراءة في الأقل والأكثر الارتباطي.

قلت : يكفي في الثمرة على قول من يقول بالاشتغال في تلك المسألة ولعله الأكثر.

فإن قلت : إنّ قاعدة الطهارة تختص بباب النجاسات لا تجري في جميع الفقه كالأصول الأربعة ، والمقصود أنّ الأصول الجارية في تمام الفقه منحصرة في أربعة.

قلت : لا وجه لهذا التقييد أصلا ، بل المناسب أن يبحث عن جميع الأحكام المجعولة لعمل الشاك حين شكّه في الحكم الشرعي وإن كان ذلك في باب واحد بل في مسألة واحدة.

ومنها : قاعدة التسامح في أدلة السنن والكراهة بناء على أن يستفاد من

٤٤

أخبارها استحباب العمل الذي بلغ فيه ثواب وإن لم يكن كذلك في الواقع ، فإنّه حينئذ مستحبّ ظاهريّ ما دام عدم الدليل المعتبر ، ولم يدخل في الأصول الأربعة.

نعم على القول بإفادة أخبار القاعدة حجية الخبر الضعيف بل فتوى الفقيه في المستحبات والمكروهات من دون الواجبات والمحرّمات فلا نقض ، إذ يدخل الخبر الضعيف في هذا المورد في الأمارات ، لكنه خلاف التحقيق ، وكذا على القول بأنّ الأخبار إرشاد لحكم العقل بحسن الاحتياط والعمل برجاء إدراك الواقع وبترتّب ثواب الانقياد على الفعل لا ثواب نفس العمل.

ومنها : قاعدة توقيفية العبادة وأنّه لا يجوز فعل عبادة بقصد كونها من الدين مع الشك وعدم دليل معتبر على إثباتها ، وهو قسم من التشريع المحرّم وإن كان في الواقع ثابتا من الدين إلّا أنّ المكلّف لمّا لم يعلمه يحرم عليه الفعل ظاهرا بناء على أنّ الفعل بقصد التشريع حرام لا القصد فقط كما قيل ، فلا شك أنها أيضا من الأصول المعتبرة.

ومنها : الأصول الجارية في الشك في الأحكام الوضعية مطلقا فإنّها خارجة عن الأصول الأربعة ، مثلا لو شكّ في أنّ الفاضل من فريضة الأخت وكلالة الأم في الإرث يردّ على الجميع أو على الأخت فقط كما هو مختلف فيه كذلك ، ولا يمكن فيه الاحتياط فيعمل على التشريك ، أو قاعدة أخرى هي الأصل في المسألة ، ولا يدخل تحت أحد الأصول الأربعة ، وأمثاله في باب الميراث كثيرة.

ومنها : أصالة البراءة في المستحبات والمكروهات في الشك في التكليف بهما وأصالة الاحتياط في الشك في المكلّف به فيهما فإنّهما خارجان عن

٤٥

الأصول الأربعة على ما فصّله في المتن فيما سيأتي من موارد البراءة والاحتياط فإنّه جعل مورد البراءة الشك في التكليف الإلزامي ومورد الاحتياط ما يجب فيه الاحتياط بعد العلم بالتكليف الإلزامي.

فإن قلت : قد أشار المصنف إلى هذه البراءة وهذا الاحتياط وأدخلهما في أصلي البراءة والاحتياط اللذين هما من الأربعة فيما سيأتي في تقسيم الشك في التكليف بقوله : وهذا مبنيّ على اختصاص التكليف بالإلزام أو اختصاص الخلاف في البراءة والاحتياط به وإلّا فلو فرض شموله للمستحب والمكروه يظهر حالهما من الواجب والحرام فلا حاجة إلى تعميم العنوان (١) انتهى ، وحينئذ فلا نقض على المصنف.

قلت : لا ريب أنّ الشبهة في كون الشيء مستحبا أو مكروها شبهة حكمية ولا مناص من التمسّك في موردهما بأصل من الأصول سواء كان هو البراءة والاحتياط أو غيرهما ، فلا ينفع ابتناء المسألة على اختصاص التكليف بالإلزام أو اختصاص الخلاف في البراءة والاحتياط بالإلزام كما لا يخفى.

ومنها : قاعدة أنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة فيما إذا دار الأمر بين واجب وحرام.

ومنها : قاعدة اليقين في الشك الساري ، إلى غير ذلك مما يظفر به المتتبّع (٢).

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ١٨.

(٢) أقول : في كون القاعدتين الأخيرتين نقضا على الانحصار نظر ، لأنّ المصنف يدّعي الحصر بالنسبة إلى الأصول الثابتة عنده حجيّتها وهو من المنكرين لتينك القاعدتين على ما بيّنه في محلّه فلا نقض عليه.

٤٦

قوله : والثاني مورد التخيير (١).

مقتضاه عموم مورد أصالة التخيير للشك في التكليف والمكلّف به فيما لم يمكن فيه الاحتياط ، وليس كذلك بالنسبة إلى الشك في التكليف مثل ما لو دار الأمر بين الوجوب والحرمة والإباحة فإنّ أصل التكليف هنا مشكوك ولم يمكن فيه الاحتياط مع أنّ الأصل فيه البراءة قطعا ، وكذلك في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة فإنّه مورد البراءة عند المصنف وإن كان لنا فيه تأمّل.

قوله : وقد ظهر مما ذكرنا أنّ موارد الأصول قد تتداخل (٢).

لا يخفى أنّه لو قلنا بحكومة بعض الأصول على بعض وإن كانا متوافقين كما هو مختار المصنف فلا يتداخل موارد الأصول ، وإن لم نقل بذلك فهو كما ذكره قد تتداخل مواردها ، نعم قد يكون بعض الموارد موردا لأصلين أحدهما في طول الآخر كما هو في موارد البراءة بل موارد استصحاب عدم التكليف فإنّها موارد الاحتياط الاستحبابي أيضا فافهم.

قوله : وهو النوع الخاص من الإلزام وإن علم جنسه (٣).

التحقيق خلافه ، ويشهد له أنه لو علم جنس التكليف ولم يعلم نوعه مع تعدد المتعلّق كما لو فرض حصول العلم بثبوت أحد الحكمين من وجوب الدعاء عند رؤية الهلال أو حرمة شرب التتن ، فلا ينبغي التأمّل في كونه من الشك في المكلّف به ويجب الاحتياط بفعل هذا وترك ذاك ، وحينئذ نقول كذلك في صورة اتّحاد المتعلق أيضا غاية الأمر أنّه لا يمكن فيه الاحتياط فيتمسّك

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ١٤.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ١٤.

(٣) فرائد الأصول ٢ : ١٧.

٤٧

بأصل آخر من التخيير أو البراءة ، وإن أبيت إلّا أنّه في صورة اتحاد المتعلق يكون الشك في التكليف فلا بد أن يفصّل بين صورة تعدد المتعلّق واتحاده فيقال في الأول إنّ الشك في المكلف به.

وعلى أي حال لا يصحّ أن يجعل كل ما لم يعلم فيه نوع التكليف من الشك في التكليف ويكون هذا ميزانا له وقد أشبعنا الكلام في بيان هذا التقسيم وما يرد عليه وعدم صحّة الحصر العقلي في أول رسالة القطع بما لا مزيد عليه فراجع.

قوله : إما تحريم مشتبه بغير الوجوب وإما وجوب مشتبه بغير التحريم ، إلى آخره (١).

قد عرفت أنّ هنا قسما آخر ولو بالنسبة إلى التكليف الإلزامي وهو تحريم مشتبه بالوجوب مع عدم العلم بأصل الإلزام. وبعبارة أخرى : دوران الأمر بين الوجوب والحرمة والإباحة أو أحد الباقيين من الاستحباب والكراهة.

قوله : فهاهنا أربع مسائل (٢).

كان الأولى أن يجعلها ثلاث مسائل ، إذ لا فرق بين فقد النص وإجماله قولا ودليلا ، ولا كرامة في زيادة التقسيم إلى أقسام لا يتفاوت حكمها ولم يفرّق أحد بينها ، نعم لإفراد مسألة تعارض النصّين وجه من جهة التمسك فيها بأخبار التخيير أو الاحتياط على ما سيأتي في محلّه ، وهكذا ينبغي تثليث الأقسام في المطلب الثاني بل الثالث أيضا الآتيين لعين ما ذكر فتدبّر.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ١٧.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ١٩.

٤٨

قوله : وهذا المعنى أظهر وأشمل لأنّ الإنفاق من الميسور داخل فيما آتاه الله (١).

يعني أنه لو حمل على المعنى الأول لا يفيد إلّا ما يفيده ما قبله فيكون تأكيدا ، بخلاف الحمل على الثاني وكون الموصول عبارة عن نفس الفعل والترك فإنّ هذا يعمّ الإنفاق وغيره ويصير بمنزلة كلية الكبرى لسابقه فكأنّه قال : لا ينفق من قدر عليه رزقه أزيد مما أعطاه الله لأنّه لا يكلف الله نفسا بفعل أو ترك إلّا بقدر وسعه (٢).

قوله : وإرادة الأعم منه ومن المورد تستلزم استعمال الموصول في معنيين ، إلى آخره (٣).

أراد أنّه وإن كان يمكن جعل الموصول عبارة عن الشيء ويكون مفهومه أعم من التكليف الذي هو مناط الاستدلال ومطلق الفعل أو الترك أو خصوص المال الذي يناسب المورد ، لكنّه لا جامع بين تعلّق الفعل أعني لا يكلّف الله بنفس الحكم وبين تعلّقه بالفعل المحكوم عليه ، لأنّ تعلّق الفعل بمفعوله المطلق يباين تعلّقه بالمفعول به ، فإن أريد عموم الموصول بحيث يشمل نفس الحكم

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٢١.

(٢) أقول : وفيه : أنه على التقدير الأول أيضا يكون قوله : لا يكلّف الله إلى آخره أعم من سابقه ، إذ هو أعم من الإنفاق على المذكور في الآية ، فيصير المعنى حينئذ : من لم يقدر على تمام النفقة فلينفق بقدر الميسور لأنّه لم يكلّف الله على بذل مال مطلقا إلّا بقدر الميسور. وكيف كان ، يكون الموصول على التقديرين مفعولا به ، وهذا بخلاف الاحتمال الثالث الذي هو مبنى الاستدلال فإنّه يكون الموصول فيه مفعولا مطلقا ويكون المراد من الآية لا يكلف الله نفسا إلّا تكليفا آتاها أي أعطاها ، وإعطاؤها التكليف بإعطاء علمه إياها فكأنّه قال : إلّا تكليفا أعلمها.

(٣) فرائد الأصول ٢ : ٢٢.

٤٩

ليصحّ الاستدلال به لزم كون الموصول مفعولا مطلقا وبه ، ولا يتمّ ذلك إلّا بإرادة معنيين من الموصول ليصحّ التعلّقان كل بالنسبة إلى معنى ، هذا.

ويمكن أن يقال على تقدير جعل الموصول أعم يصحّ أن يجعل مفعولا به ويعم الحكم أيضا بحيث يتم الاستدلال ، ببيان أنّ المراد بالموصول هو الفعل والترك لا غير إلّا أنّ الإيتاء والإعطاء يعمّ الحكم فإنّ إعطاءه تعالى ما يتعلق بالفعل يكون بالإقدار على الفعل والإقدار على المال فيما يكون الفعل متعلّقا بالمال كالإنفاق وإعلام حكم الفعل ، فيكون محصّل المعنى : لا يكلّف الله نفسا إلّا بفعل أعطى ما يكون من قبل الله إعطاؤه من القدرة والمال والإعلام.

وبوجه آخر وهو أن يحمل قوله : لا يكلّف على المعنى اللغوي ، ويكون مصداق الموصول مطلق الشيء الشامل للحكم ، ويجعل مفعولا به فيصير المعنى لا يكلف الله أي لا يوقع في الكلفة والمشقّة نفسا إلّا شيئا آتاها ، فإن كان حكما فإيتاؤه إعلامه ، وغيره إيتاؤه الإقدار عليه. وبعبارة أخرى يكون محصّل المعنى أنّ الله لا ينجّز شيئا على المكلّف إلّا بعد الإعطاء المذكور.

ولا يخفى أنه لا يصح الاستدلال بهذه الاحتمالات المخالفة للظاهر ، والغرض دفع محذور الاستعمال في أكثر من معنى لا صحّة الاستدلال ، ولعله (رحمه‌الله) إلى ذلك أشار بقوله فافهم.

قوله : ومما ذكرنا يظهر حال التمسّك بقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها)(١).

الظاهر أنّه أراد أنه مما ذكرنا يظهر أنه لا وجه للتمسك بهذه الآية أصلا

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٢٢.

٥٠

حتى بالتوجيه الذي ذكر في الآية السابقة مع جوابه ، لأنّ الوسع بمعنى الطاقة فلا تحتمل الآية سوى إرادة نفي التكليف بغير المقدور ولا ربط له بما نحن فيه.

نعم يمكن تقريب الاستدلال بهذه الآية بوجه آخر غير مشابه لتقريب الاستدلال بالآية السابقة ليكون عبارة المتن إشارة إليه وهو أن يقال : التكليف بالحكم المجهول تكليف بغير المقدور كما سيأتي حكاية ذلك عن السيد أبي المكارم في الغنية وبعض آخر ، فلما دلّت الآية على نفي التكليف بغير المقدور مطلقا كانت دليلا على البراءة في المقام أيضا.

وفيه : أنه إن أريد أنّ التكليف بالحكم المجهول بوجهه الواقعي الذي لا يعلمه المكلّف تكليف بغير المقدور فهو حق ، إذ لا يمكن امتثال الخطاب المجهول مع قصد وجهه المجهول ، لكن الكلام ليس فيه ، إذ لا يجب قصد الامتثال بوجهه في معلوم الحرمة فضلا عن محتمل الحرمة ولا يريد أهل الاحتياط هذا المعنى أيضا. وإن أريد أنّ التكليف بالحرمة المجهولة لا بقصد الامتثال بحيث لزمه الاحتياط في الظاهر تكليف بغير المقدور فهو في حيّز المنع كما لا يخفى.

قوله : وفيه : أنّ ظاهره الاخبار بوقوع التعذيب سابقا ، إلى آخره (١).

لم يعلم وجه هذا الظهور ، اللهم إلّا أن يريد استظهار هذا المعنى من لفظ (ما كُنَّا) بصيغة الماضي فيصير المعنى ما عذّبنا في السابق قوما إلّا بعد بعث الرسول ، أو يريد استظهاره من سياق الآية ، لكن فيه أنّ لفظ كان إذا أسند إلى الله في القرآن ظاهر بل نصّ في إرادة الثبوت الاستمراري كما يعلم ذلك من مثل : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) ، وأما ظهور السياق أيضا ممنوع.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٢٣.

٥١

والأظهر في الجواب عن الآية أن يقال : إنّها ناظرة إلى زمان الفترة ، والمراد نفي التعذيب إلّا بعد بعث الرسول ، ولا تدل على نفي التعذيب بعد بعث الرسول ولو علمنا بأنّ حكم هذا المشكوك لم يبيّنه بعد ، وإن ضايقت عن هذا المقدار نقول : لا تدل على نفي التعذيب بعد البعث على حكم بيّنه الرسول وخفي علينا بسبب ظلم الظالمين ومنع المانعين على ما هو مفروضنا في المقام ، لكن يبعّد كونها ناظرة إلى زمان الفترة أنّه يلزم عليه رفع التكليف في زمان الفترة وهو مخالف لما عليه العدلية من عدم خلوّ الأرض عن حجّة يتم بها الحجة على العباد ، فيتساوى جميع الأزمنة في لزوم مراعاة الشريعة والعمل بأحكامها أيّ شريعة كانت ، وحينئذ فالأظهر في الجواب عن الاستدلال بالآية ما سبقت الإشارة إليه من أنّ ظاهرها رفع العذاب عمّا لم يبيّنه الرسول لا ما بيّنه واختفى بسبب ظلم الظالمين (١).

قوله : ثم إنّه ربما يورد التناقض على من جمع ، إلى آخره (٢).

المورد هو المحقق القمي (رحمه‌الله) قال في القوانين : والعجب من بعض الأعاظم حيث جمع في كلامه بين الاستدلال بالآية لأصل البراءة ودفع الإشكال الوارد من جهة الآية على الأحكام العقلية الإلزامية بجواز العفو عن الله تعالى (٣) انتهى. ومراده ببعض الأعاظم السيد الصدر.

ثم لا يخفى أنّ عبارة المصنف في بيان التناقض لا تخلو عن إغلاق

__________________

(١) أقول : ويمكن أن يجاب بما أجاب به السيد الصدر [شرح الوافية : ٢٢٣ ـ ٢٢٤] عن الاستدلال بها على نفي الملازمة من أنّ نفي فعلية العذاب لا يلازم نفي الاستحقاق الذي هو لازم ثبوت الحكم.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٢٣.

(٣) قوانين الأصول ٢ : ١٦ ـ ١٧.

٥٢

وإشكال ، والأظهر في البيان أن يقال : إنّ استدلاله بالآية في المقام لا يتمّ إلّا بدلالتها على نفي استحقاق العذاب بدون البيان الملازم لنفي التكليف ، وهذا المعنى يناقض ما أجاب به عمّن استدلّ بالآية على نفي الملازمة بين حكم العقل والشرع من أنّ مفاد الآية نفي فعلية العذاب فلا ينافي استحقاقه بحكم العقل. والحاصل أنّه جعل مفاد الآية في المقام الأول نفي استحقاق العذاب ، وفي المقام الثاني نفي فعليّته دون الاستحقاق.

قوله : ومنها قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ)(١).

يمكن تقريب الاستدلال بالآية على وجه لا يحتاج إلى ضميمة الفحوى وهو أن يقال : إنّ المراد بقوله : (لِيُضِلَّ) بعد عدم إمكان حمله على معناه الحقيقي لامتناعه على الله ، هو فعل ما يترتب على الضلال أي العقاب ، يعني ما كان الله ليعاقب قوما حتى يبيّن لهم ما يتّقون ، لكن هذا المعنى مجرّد احتمال في الآية لا شاهد عليه ، وما حمل عليه المصنف من كون المراد بالاضلال الخذلان أظهر لكنّه يحتاج إلى ضمّ الأولوية بأن يقال : إذا لم يكن الله ليخذل إلّا بعد البيان فعدم عقابه بدون البيان أولى ، لأنّ العقاب أشدّ من الخذلان بكثير بناء على أنّ المراد بالخذلان عدم الاعتناء بالشخص وجعله في معرض النسيان.

لكن فيه منع الأولوية لأنّ خذلان الله تعالى أعلى مراتب العقاب لأنّه بالغ إلى مرتبة لا يرجى أن ينظر إليه نظر رحمة وتفضّل بجعله إيّاه في معرض النسيان فتدبّر ، هذا. مضافا إلى أنّ أمثال هذه الآيات ناظرة إلى أصول الدين ، والمراد بالهداية الهداية إلى الإسلام ، نعم قوله : (حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ)

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٢٤.

٥٣

ظاهره بيان الأفعال والتروك ، لكن يمكن حمله على معنى بيان الاتقاء من الشرك وأفعال المشركين بقرينة السياق.

قوله : وفيه ما تقدّم في الآية السابقة (١).

هذا بناء على أنّ المراد بالإضلال خذلانهم في الدنيا فقط ، وقد عرفت في ذيل الجواب عن الآية السابقة منع ذلك وعدم الشاهد له.

قوله : وفي دلالتها تأمّل (٢).

لأنّها في ذيل الآية التي تحكي قصّة بدر في سورة الأنفال وهي قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٣) وهي ناظرة إلى حال المشركين بعد هذه الواقعة العظيمة التي تدلّ على حقّية الإسلام وبطلان الشرك ، إذ نصر الله تعالى هذه الفئة القليلة العدد والعدّة على هؤلاء ، المشركين مع كثرة عددهم وعدّتهم وشوكتهم على ما هو المعروف.

فمحصّل معنى الآية والله أعلم : أنّه بعد هذه الواقعة التي سبيلها سبيل الإعجاز تمّت الحجة على المشركين فمن هلك فإنّما هلك عن بيّنة. والحاصل أنّ الآية ليست بصدد أحكام الفروع أصلا (٤).

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٢٥.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٢٥.

(٣) الأنفال ٨ : ٤١ ـ ٤٢.

(٤) أقول : لكن الإنصاف أنّ الآية لا تخلو عن إشعار بل دلالة على المطلب ، إذ قوله :

٥٤

قوله : لكن الإنصاف أن غاية الأمر ، إلى آخره (١).

الأولى أن يجاب :

أوّلا : بأنّ التعبير ب (لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ) من باب المجادلة بالتي هي أحسن ، وهي من الكنايات التي هي أبلغ من التصريح ، بأن يقال : إنّ ما حرّمتموه من قبل أنفسكم غير محرّم البتة.

وثانيا : أنّ الآية بصدد الرد على التشريع والحكم بالحرمة من غير علم بها ، وللخصم أن يقول نحن لا نحكم بالحرمة جزما بل نقول بالاحتياط الذي هو سبيل النجاة ، وهكذا نقول في الجواب عن الآية الأخيرة أيضا ، ويظهر وجهه بالتأمّل.

قوله : والإنصاف ما ذكرنا من أنّ الآيات المذكورة لا تنهض على إبطال ، إلى آخره (٢).

اعلم أنّ إيجاب الاحتياط قد يكون من باب الموضوعية حتى يكون وجوب الاحتياط في الشبهة في عرض سائر التكاليف الواقعية يعاقب على مخالفته وإن لم يصادف الحرام الواقعي ، وقد يكون من باب الطريقية بمعنى أنّ الغرض الإرشاد إلى أنّ الواقع المجهول منجّز على المكلف يعاقب على مخالفة ذلك الواقع لو اتّفقت ، والظاهر أنّ أدلة الاحتياط التي متمسّك الخصم تدل على المعنى الثاني عقلها ونقلها ، وهذا هو التحقيق عند المصنف وإن احتمل بعض

__________________

(لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ) في مقام إعطاء الضابطة وبيان القضية الكلية ، والمورد ليس مخصّصا.

(١) فرائد الأصول ٢ : ٢٦.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٢٧.

٥٥

كلمات بعض الأخباريين للمعنى الأول.

وحينئذ نقول : إن كان مؤدى أدلة الاحتياط المعنى الأول تمّ ما ذكره من عدم معارضة مفاد الآيات المذكورة لها ، لأنّ الشارع على هذا الوجه قد بيّن حكم الواقعة وهو وجوب الاحتياط ، فقد كلّف بالاحتياط مع البيان ولم يكلّف بالواقع الأوّلي لعدم البيان بالنسبة إليه.

وأما إذا كان مؤداها المعنى الثاني على ما عرفت أنه مختار المصنف وسيأتي عند تعرّضه لأخبار الاحتياط فإنّها تعارض أكثر الآيات المذكورة إن لم يكن جميعها ، مثلا قوله : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) يراد به لا يكلف الله إلّا حكما أعلمها يعني أنّ الحكم غير المعلوم غير منجّز لا يعاقب عليه ، فيعارض أخبار الاحتياط ، لأنّ مفادها على تقدير تماميتها أنّ الحكم المجهول منجز يعاقب عليه ، وكذا قوله : (حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) يعني يبيّن لهم الأحكام الواقعية ، وليس أدلة الاحتياط بيانا لها ، وهكذا قوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ) إلى آخره (١) ، وقوله : (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا) إلى آخره (٢) كما لا يخفى ، نعم قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(٣) من قبيل ما ذكره بناء على أنّ مفاده على ما مرّ ما كنّا معذّبين حتى نتم الحجة بمعنى قطع العذر من قبلنا ، وأخبار الاحتياط حجة بهذا المعنى ، وكذا قوله : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ) يعني عن حجة بالمعنى المذكور.

وإن قلنا بأنّ معنى الآية الأولى وما كنّا معذّبين حتى نبيّن الواقعيات ببيان

__________________

(١) الأنعام ٦ : ١٤٥.

(٢) الأنعام ٦ : ١١٩.

(٣) الإسراء ١٧ : ١٥.

٥٦

الرسول كما لا يبعد إرادته بل لعله ظاهر الآية ، فهي في عرض باقي الآيات تعارض أدلة الاحتياط ، وهكذا الآية الثانية لو أريد بالبيّنة ما يبيّن الواقع لا ما يقطع العذر.

قوله : ويمكن أن يورد عليه بأنّ الظاهر من الموصول في «ما لا يعلمون» بقرينة أخواتها هو الموضوع ، إلى آخره (١).

يعني بقرينة بعض أخواتها مثل «ما استكرهوا عليه» و«ما لا يطيقون» و«ما اضطرّوا إليه» إذ لا معنى للحكم المستكره عليه أو المضطرّ إليه أو ما لا يطاق ، وأما الخطأ والنسيان فيحتمل تعلّقهما بالحكم والموضوع.

وكيف كان ، أراد أنّ اتحاد السياق يقتضي أن يكون متعلّق الرفع باعتبار المؤاخذة في جميع التسعة شيئا واحدا وهو فعل المكلف أو تركه لا غير ذلك كأن يكون المتعلّق في الجميع الحكم ، إذ لا يمكن ذلك في الثلاثة المذكورة ، فحمل الموصول في «ما لا يعلمون» على الحكم المجهول أو الأعم منه ومن الموضوع المجهول ينافي السياق المذكور ، هذا.

ويمكن دفعه بمنع اقتضاء السياق ذلك ، لأنّ عدم حمل الموصول في الثلاثة المذكورة على الأعم من الحكم والموضوع لعدم معقولية الإكراه والاضطرار مثلا على الحكم لا لقصور في عموم الموصول ، ولمّا كان في «ما لا يعلمون» قابلا للتعميم فلا وجه لرفع اليد عن عمومه. سلّمنا اقتضاء اتحاد السياق أن يكون متعلّق الرفع في جميع التسعة أمرا واحدا لم لا يكون ذلك الواحد الحكم فيشمل الشبهة في الحكم وهو واضح ، والشبهة في الموضوع أيضا لأنّ الموضوع المشتبه يصدق عليه أنّه مشتبه الحكم أعني حكمه الجزئي.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٢٨.

٥٧

وبعبارة أخرى : يجوز أن يراد من قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «رفع عن أمتي» إلى آخره (١) رفع المؤاخذة عن الحكم الخطائي والنسياني والمستكره عليه والمجهول إلى آخره أعم من الحكم الجزئي كما في الموضوعات أو الحكم الكلي كما في مسألتنا ، غاية الأمر أنّ بعض التسعة لا يمكن إضافته إلّا إلى الحكم الجزئي دون الكلي كالثلاثة المتقدمة ، وذلك لا يرفع عموم ما يحتمل الأمرين كما في ما لا يعلمون والخطأ والنسيان.

سلّمنا أنّ اتحاد السياق يقتضي أن يكون متعلق الرفع في الجميع خصوص الموضوع أعني فعل المكلف كما ذكره ، لكن يتم الاستدلال أيضا ، وذلك لأنّ الجهل بالفعل لا معنى له إلّا باعتبار كونه متعلّقا للحكم وإلّا فالفعل باعتبار عنوان شرب هذا المائع غير مجهول بل باعتبار عنوان الخمرية الذي هو متعلّق الحكم وموضوعه ، وحينئذ نقول : فعل شرب التتن موضوع كلي مجهول لا بعنوان أنه شرب التتن بل بعنوان أنّه موضوع الحكم ، فيصير معنى الرواية رفع مؤاخذة الحرام المكره عليه والحرام المجهول سواء كان شخصه مجهولا مع العلم بنوعه المحتمل اندارجه فيه أو كان نوعه مجهولا.

والحاصل : أنّ الحديث على هذا يدلّ على أن لا مؤاخذة على الحرام والواجب المجهولين كليا وجزئيا.

قوله : مع أنّ تقدير المؤاخذة في الرواية لا يلائم عموم الموصول (٢).

قد عرفت توجيه الاستدلال على فرض تسليم إرادة خصوص الموضوع

__________________

(١) الوسائل ١٥ : ٣٦٩ / أبواب جهاد النفس باب ٥٦ ح ١.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٢٨.

٥٨

يعني فعل المكلّف ، وحينئذ إضافة رفع المؤاخذة إليه لا غضاضة فيه ، مع أنّ إسناد رفع المؤاخذة إلى الحكم أيضا صحيح لكونه سببا لكون الفعل المتعلّق لهذا الحكم موردا للمؤاخذة ورفعها فيسند إلى الحكم تسامحا ، والعجب أنّه يجعل المؤاخذة من آثار الحكم وكيف جاز إسناد الآثار التي من جملتها المؤاخذة إلى الحكم ولم يجز إسناد نفس المؤاخذة إليه.

قوله : والحاصل أنّ المقدر في الرواية باعتبار دلالة الاقتضاء (١).

كأنه جعل كون الحديث من باب مجاز الحذف مسلّما ثم يتردد في المقدّر وأنه جميع الآثار أو الأثر المناسب أو خصوص المؤاخذة وادّعى أظهرية الأخير ، لكنّا نمنع ذلك بل نجعله من باب المجاز في الإسناد ، فمعنى الحديث أنّه رفع نفس التسعة لكن تنزيلا بملاحظة رفع آثارها لا تحقيقا بملاحظة أنّه خلاف الواقع ، وهذا نظير ما قاله المصنف في حديث «لا تنقض اليقين» من أنّه لمّا لم يمكن حمله على حقيقته من إبقاء نفس اليقين ضرورة ارتفاعه بالوجدان فنحمله على عدم نقض آثار اليقين وإبقائها أي آثار المتيقن ، ونحن نقول فيه نظير ما قلنا هاهنا إنّ معناه عدم نقض نفس اليقين لكن تنزيلا من باب المجاز في الإسناد باعتبار إبقاء آثاره فكأنّه لم ينتقض.

وإذا حملنا الحديث على المجاز في الإسناد فنقول : إنّ الأظهر أن يكون رفع التسعة بالمعنى المذكور يراد به رفع جميع الآثار فإنّه أقرب إلى رفع حقيقة التسعة لا خصوص المؤاخذة ، نعم لو قامت قرينة على إرادة خصوص المؤاخذة فإنّها تصرفه عن ظاهره حينئذ.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٢٩.

٥٩

قوله : وأن يكون في كل منها ما هو الأثر الظاهر فيه (١).

هذا غير محتمل ، إذ المقدّر لا بدّ وأن يكون ما يمكن إضافته إلى لفظ التسعة ، فإن قدّر المؤاخذة أو جميع الآثار فصحيح ويصير التقدير رفع مؤاخذة التسعة أو آثار التسعة ، وأما لو أريد تقدير الأثر الظاهر فلا يتلائم الكلام ، اللهم إلّا أن يصير هكذا : رفع الأثر الظاهر من كل واحد من التسعة ، فيكثر الحذف ، ومثله غير معهود في مجاز الحذف ، فتأمل.

قوله : فلعلّ رفع جميع الآثار مختص بها فتأمل (٢).

لعل وجهه بعد اختصاص رفع جميع الآثار بالثلاثة من جهة أنّ الظاهر كون رواية المحاسن بعض النبوي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) المروي في الخصال ، وعلى تقدير كونه غيره أيضا الظاهر كونهما بمعنى واحد لا أن يكون المراد من كل منهما معنى غير الآخر ، وحينئذ فالاستشهاد بالرواية لكون المراد رفع جميع الآثار في محلّه ، اللهم إلّا أن يجاب بضعف السند ، فافهم.

قوله : وهو كما ترى وإن ذكره بعض الفحول (٣).

وجه الضعف أنّه على تقدير العموم يقدّر لفظ الآثار قبل لفظ التسعة وهو ليس بأكثر من تقدير لفظ المؤاخذة على التقدير الآخر ، ولعل المورد تخيّل أنه على تقدير العموم يجب التقدير عند كل واحد واحد من التسعة هكذا : رفع آثار الخطأ وآثار النسيان وهكذا إلى آخره.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٢٩.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٣٠ (لكن الموجود عندنا نفي بدل «رفع»).

(٣) فرائد الأصول ٢ : ٣١.

٦٠