حاشية فرائد الأصول - ج ٢

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-089-6
الصفحات: ٥٩٤
الجزء ٢ الجزء ٣

للبراءة ، أما لو كان الشك في قيمة التالف المعين المعلوم وآل الأمر إلى أداء القيمة لكونه قيميا أو لتعذّر المثل فالقاعدة تقتضي الاحتياط ، لرجوع ذلك إلى العلم باشتغال الذمة بعهدة العين ولا يعلم الخروج عنها إلّا بالاحتياط.

قوله : والفارق بين ما نحن فيه وبين الشبهة الحكمية من المسائل المتقدمة (١).

هذا الفارق إنما يتم في مثال الأمر بالطهور الذي هو حالة معنوية على المشهور أو يرجع الأمر به إلى الأمر بعنوان الرافع أو المبيح على ما فسّر به المصنف هنا ، فيكون الشك في تحقق عنوان المأمور به المعلوم ، وأما في مثال صوم الشهر فيمكن منع الفرق بينه وبين الشبهات الحكمية ، لأنّ متعلق التكليف في الشهر الخاص المردد بين الأقل والأكثر مردد بين الأقل والأكثر واقعا ، لأنّ متعلّق التكليف نفس صوم الأيام ليس وراءه شيء وهو عين مدلول الشهر بمعنى ما بين الهلالين ، فمرجعه إلى الشك في التكليف في الزائد على القدر المتيقّن وهو تسعة وعشرون يوما ، ودعوى أنّ عنوان الشهرية عنوان آخر زائد عن ذات الأيام وهو متعلّق للأمر كما ترى ، فالأولى في بيان الفرق ما ذكرنا في الحاشية السابقة من العنوانية والمرآتية ودعوى المرآتية في الشبهات الحكمية والعنوانية في الشبهات الموضوعية ، فليتأمّل.

قوله : فقد عرفت أنه على قسمين (٢).

بل على أقسام ثلاثة ثالثها : أن يكون القيد نفس تحقق فعل خارج عن حقيقة المأمور به كتقيّد الصلاة بالوضوء بناء على مذهب شارح الدروس من أنّ

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٣٥٣.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٣٥٤.

٤٠١

الطهارة ليست إلّا الوضوء الذي هو عبارة عن الغسلتين والمسحتين وأنكر أن يكون هناك حالة معنوية مسببة عن الوضوء هي شرط الصلاة على ما هو مذاق المشهور ، وكتقيّد صلاة العصر بفعل صلاة الظهر قبلها فإنّ نفس فعل الظهر قبل العصر شرط في صحة العصر.

ثم اعلم أنّ الكلام هنا في حكم الأصل بالنسبة إلى الشرائط الشرعية ، وأما الشرائط العقلية للمأمور به التي يتوقّف عقلا وجود المأمور به عليها ذاتا فلا ريب أنّ الأصل فيها الاحتياط ، لأنّ الشك في تحققها راجع إلى الشك في تحقق نفس المأمور به ، فلو شكّ في شرطية شيء للمأمور به عقلا وأخل به عند فعل المأمور به يشك في أنّ ما أتى به هو المأمور به أو شيء آخر غير المأمور به مع أنه يجب إحراز إتيان ذات المأمور به جزما ، وهذا بخلاف الشرط الشرعي فإنّ الشك فيه يرجع إلى الشك في اعتبار الشارع في المأمور به أمرا زائدا على ذات المأمور به فيمكن نفيه بالأصل وإتيان ذات المأمور به خاليا عنه.

إذا تمهّد ذلك فنقول : إنه قد اشتهر عن مذاق المصنف أنه منكر للشرائط الشرعية بالمرة ، وقد صرّح في غير موضع بنفي الأحكام الوضعية رأسا ومنها الشرطية ، وقد بيّنه وحققه في رسالة الاستصحاب ، وصرّح أيضا على ما حكاه عنه الشيخ الفاضل ميرزا أبو القاسم الطهراني في التقريرات في أوائل مقدمة الواجب بأنّ الشرائط الشرعية كلها راجعة إلى الشرائط العقلية قد كشف عنها الشارع ، وحينئذ نقول يلزم على مذاق المصنف أن يكون هذا المبحث الذي نتكلم عليه ساقطا من أصله ، إذ بعد رجوع الشرط الشرعي إلى العقلي ووضوح أنّ الأصل في الشك في الشرط العقلي هو الاشتغال ، لا وجه لمقايسته بالجزء الذي هو معركة للآراء فافهم واغتنم ، لكن الكلام في المبنى ، والحق أنّ الشرط الشرعي في قبال الشرط العقلي أمر ممكن ثابت على ما تقرر في محلّه في

٤٠٢

تحقيق جعل الأحكام الوضعية فيأتي البحث فيما نحن فيه على ما هو مقرر في كلامهم وفي المتن.

قوله : أما الأول فالكلام فيه هو الكلام فيما تقدم (١).

يظهر من هذا الكلام أنّ من يقول بالاحتياط فيما تقدم في الشك في الجزئية يقول بالاحتياط هنا أيضا ، ومن يقول بالبراءة فيه يقول بالبراءة لاشتراك الدليل في المقامين ، لكن لقائل أن يقول يمكن أن يكون القائل بالاحتياط في المسألة المتقدمة قائلا بالبراءة فيما نحن فيه بأن كان متمسكا بأنّ ألفاظ العبادات موضوعة للصحيحة منها على ما سبق بيانه ، لكنه كان صحيحا بالنسبة إلى الأجزاء دون الشرائط ، فإنّ هذا التفصيل قول في مسألة الصحيح والأعم فيقول بالاحتياط بالنسبة إلى الشك في الأجزاء متفرّعا على قوله بالوضع للصحيح بالنسبة إليها وبالبراءة بالنسبة إلى الشرائط متفرّعا على قوله بالوضع للأعم بالنسبة إليها ، نعم لو كان مراد المتن أنّ الكلام فيما نحن فيه هو الكلام في المسألة السابقة على مختاره بالخصوص فلا كلام ، وبيانه على ما سيأتي الإشارة إليه في المتن أنه يرجع إلى الشك في وجوب أمر زائد على ما هو معلوم الوجوب بكل تقدير ، فيحكم برفع العقاب المترتب على تركه لو كان واجبا في الواقع بحكم العقل والنقل ، وكذلك الحكم في الشق الذي أضفناه إلى الشقين المذكورين في المتن وهو ما كان نفس الأمر الخارجي كالوضوء مثلا شرطا ، بل البيان المذكور فيه أوضح كما لا يخفى على المتأمل فإنه يمكن دعوى نفي الفرق بين شرطية الطهارة للصلاة وشرطية الإيمان في الرقبة بما سيأتي في المتن من أنّ وصف الطهارة المقارنة للصلاة شرط للصلاة لا الطهارة

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٣٥٤.

٤٠٣

المتقدمة المنتزعة عن الوضوء ، كما أنّ الإيمان المتّصف به الرقبة شرط في القسم الثاني ، وهذا بخلاف شرطية الوضوء للصلاة فإنّ الوضوء موجود مغاير للصلاة فهو كسائر أجزاء الصلاة من هذه الجهة ومن جهة تقيّد صحة الصلاة به ، غاية الأمر اعتباره خارجا عن حقيقة الصلاة ولا يتفاوت ذلك في إجراء قاعدة البراءة.

قوله : وبالجملة فالمطلق والمقيّد من قبيل المتباينين لا الأقل والأكثر (١).

توضيحه : أنه إن قلنا بأنّ متعلّق التكاليف الأفراد فيدور الأمر بين كون متعلّق التكليف أفراد مطلق الرقبة أو أفراد الرقبة المؤمنة ، وليس هناك قدر مشترك يعلم بوجوبه وشك في وجوب أمر زائد عليه ، وأما لو قلنا بأنّ متعلّق التكاليف هو الطبائع فإنه محلّ لتوهّم أن يقال إنّ التكليف بوجوب عتق مطلق الرقبة معلوم والشك في تعلّق التكليف باشتراط كونها مؤمنة وهو أمر زائد ، لكنه فاسد لأنّ المقيّد لا يمكن أن يوجد في الخارج بوجود ينفك عن وجود المطلق بحيث أمكن أن يقال إذا وجد المطلق بدون القيد وجد بعض المطلوب من المقيّد وبقي بعض آخر كما هو كذلك في الأجزاء ، مثلا لو أتى بأجزاء الصلاة المعلومة من التكبير والقيام والركوع والسجود إلى آخر الواجبات ما عدا التسليم المشكوك الوجوب فالمأتي به معلوم الوجوب جزما حيث إنه إن كان الواجب ما عدا التسليم من الأجزاء فقد أتى بتمام الواجب ، وإن كان مع التسليم فقد أتى ببعض الواجب حقيقة يمكن إكماله بفعل التسليم ، وهذا بخلاف المطلق والمقيّد فإنه لو أتى بالمطلق المجرّد عن القيد كعتق الرقبة الكافرة لا يمكن أن يقال إنه

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٣٥٥.

٤٠٤

أتى بالقدر المتيقّن من التكليف وبقي القدر المشكوك ، إذ لو كان الواجب في الواقع عتق المؤمنة لم يأت بشيء لا أنه أتى ببعضه وبقي البعض الآخر ، وسرّ ذلك أنّ وجود الكلي في ضمن المقيّد مباين لوجوده في ضمن ضدّه ، فإنّ حصّة الكلي التي وجدت في ضمن المؤمنة مباينة للحصة التي وجدت في ضمن الكافرة ، فلا يقال إنّ الرقبة الكافرة باعتبار اشتمالها على مطلق الرقبة بعض الرقبة المؤمنة.

والحاصل أنّ المطلق يصحّ أن يقال إنه متيقّن الوجوب بحسب ظرف الذهن والشك في وجوب القيد أيضا كذلك ، وأما بحسب الخارج فليس شيء يشار إليه بأنه واجب على كل تقدير وإنما الشك في شيء آخر زائد عليه ، فيكون الأقل والأكثر والحال هذه من قبيل المتباينين يجب فيه الاحتياط بإتيان المقيد ، هذا غاية ما يمكن أن يقال في توجيه الفرق بين القسمين.

وقد أجاب المصنف عن ذلك في المتن بوجهين ، أحدهما : ما ذكره أخيرا من أنّ ما اعتبر تقيّد الصلاة به في القسم الأول إنما هو الطهارة في حال الصلاة فهي بعينها كالإيمان بالنسبة إلى الرقبة في اتحاد وجوده مع المشروط. وثانيهما : ما أشار بقوله ولكن الانصاف عدم خلوّ المذكور عن النظر إلى آخره ، توضيحه : أنه إن قلنا بتعلّق التكاليف بالطبائع فيقال إنّ المعلوم أنّ طبيعة الرقبة قد تعلق بها التكليف على كل تقدير وإنما الشك في تعلّقه بالقيد أيضا فينفى بالأصل ، كما يقال في القسم الأول إنّ ما عدا التسليم من أجزاء الصلاة قد تعلق بها التكليف قطعا وإنما الشك في تعلّقه بالتسليم فينفى بالأصل.

فإن قلت : إنه لا يحصل العلم بإتيان المأمور به من عتق الرقبة الكافرة جزما ، إذ لعل المأمور به هو المطلق المتحقق في ضمن المقيد أي المؤمنة.

٤٠٥

قلنا : لا يحصل العلم بامتثال المأمور به من الصلاة بدون التسليم أيضا ، إذ لعل المأمور به هو الصلاة مع التسليم حرفا بحرف ، والغرض التسوية بين الشرط والجزء ، نعم قد ذكرنا نحن في أصل مسألة الجزء أنّ الأصل هو الاحتياط لوجهين مرّ بيانهما مستوفى ويجريان هنا أيضا فتذكّر.

وإن قلنا بأن متعلق التكاليف هي الأفراد نقول إنّ الأفراد إنما هي متعلق التكليف بملاحظة أنها وجود الطبيعة لا بملاحظة جميع قيودها ومشخّصاتها ، والفرق بينه وبين تعلّقها بالطبيعة ليس إلّا أنّ الوجود الخارجي في حيّز الأمر بناء عليه ، بخلافه على القول بالتعلق بالطبيعة ، وحينئذ فلو شك في تعلّق الأمر بوجود القيد أيضا أمكن نفيه بالأصل ، وإن شئت توضيحه فلاحظ قولك جئني برجل بناء على كون تنوين الرجل تنوين التنكير وإرادة الفرد المردد بين الأفراد ، ولا شك أنّ متعلّق الأمر نفس الأفراد لا طبيعة الفرد وهو كلي كما زعمه المحقق القمي في القوانين ، ومع ذلك لو شك في اعتبار قيد وصفة في الرجل المأمور بإتيانه أمكن نفيه بالأصل ، نعم لو أريد من تعلق التكاليف بالأفراد تعلّقها بها بجميع مشخصاتها وتمام خصوصياتها يرجع ذلك إلى التخيير الشرعي ولكن بين أفراد غير محصورة ، وعليه تكون المسألة بعض جزئيات المسألة الآتية من دوران الأمر بين التخيير والتعيين ، لكن هذا المعنى لوضوح فساده لا ينبغي أن ينسب إلى القائلين بتعلّق التكاليف بالأفراد.

قوله : فالفرق بين الشروط فاسد جدا (١).

بل لو صحّ الفرق المذكور بين القسمين فإنما يصح فيما كان القيد في المقيّد من الصفات الخارجية كالإيمان في الرقبة المؤمنة فإنه متّحد في الوجود

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٣٥٧.

٤٠٦

مع المطلق ويباين وجود الرقبة الكافرة ، وأما إذا كان القيد المشكوك فيه من فعل المكلف كالاستقبال وستر العورة ونحوهما فلا فرق بينه وبين الجزء من الجهة المذكورة ، لأنّه يمكن أن يقال إنّ ما عداه من الأجزاء والشرائط الثابتة قد علم تعلّق التكليف به وقد شكّ تعلّق التكليف بهذا القيد وضمّه إلى المعلوم كما في الشك في وجوب السورة في الصلاة بعينه فيصحّ نفيه بالأصل.

قوله : وأما ما ذكره المحقق القمي ، إلخ (١).

يمكن أن يقال إنّ المحقق المذكور لم يعتمد على كلامه هذا بضرس قاطع وإنما ذكره وجها وأمر بالتأمل في ذيله ، فلا ينافيه ما ذكره في باب البراءة والاشتغال.

تنبيهان :

أحدهما : أنه إذا بنينا في الشك في الشرطية على البراءة حتى في مثل الشك في تقيّد الرقبة بالإيمان فهل يلحق به ما لو دار الواجب بين إكرام العالم وإكرام خصوص زيد وهو عالم أم لا؟ التحقيق عدم الإلحاق بل هو من قبيل المتباينين ، لأنه لا جامع بين التكليفين ولو في الذهن ، فإنّ إكرام العالم مباين لإكرام زيد مفهوما ، وإنما يكون من قبيل الأقل والأكثر لو فرض الدوران بين إكرام مطلق العالم وإكرام العالم المخصوص بحيث تكون الخصوصية قيدا زائدا على المطلق الملحوظ كونه متعلقا للتكليف ، والمثال المذكور ليس كذلك ، إذ لو كان متعلّق التكليف خصوص زيد لم يلاحظ في وجه تعلّق التكليف به كونه

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٣٥٧.

٤٠٧

عالما بل اتّفق كونه متّصفا بالعلم ، ولذا لا يمكن أن يقال إنّ كون العلم متعلقا للتكليف معلوم والشك في خصوصية كونه زيدا ، وحينئذ يدخل المفروض في المسألة الآتية من دوران الأمر بين التعيين والتخيير الشرعيين.

الثاني : أنه لو قلنا بأنّ المشكوك الجزئية محكوم بالبراءة ومشكوك الشرطية مجرى الاحتياط ، فلو فرضنا ثبوت مركّب كالوضوء مثلا شرطا لواجب كالصلاة وشك في جزئية شيء للوضوء فهل يلحق ذلك بالشك في الشرطية بتقريب أنّ الجزء المشكوك مشكوك الشرطية للصلاة فيكون مجرى للاحتياط أو بالشك في الجزئية فيكون مجرى البراءة؟ الأقوى الثاني ، لأنّ أصالة البراءة الجارية بالنسبة إلى الجزء حاكم على أصالة الاشتغال بالنسبة إلى الشرط ، ويحرز بها شرطية الأقل ويرتفع به الشك في الشرطية بحكم الشارع ، فتدبّر.

قوله : ومما ذكرنا يظهر الكلام فيما لو دار الأمر بين التخيير والتعيين (١).

قد تعرّض المصنف للمسألة في ثالث تنبيهات الشبهة الوجوبية في الشك في التكليف وهاهنا جعلها من الشك في المكلّف به ، وقد أشرنا هناك إلى توجيه تعرّضه مرتين في المقامين من أنّ محلّ البحث هناك كان متعلقا بوجوب ما هو مشكوك الوجوب من الخصال في مثال المتن ، وهنا يكون باعتبار حال ما هو معلوم الوجوب مرددا بين التعييني والتخييري كالعتق في المثال المذكور ، وعرفت أنّ أحد البحثين مغن عن الآخر ، فتأمل.

ثم إنّ المصنف هنا وكذا في رسالة التراجيح اختار الحكم بالاحتياط

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٣٥٧.

٤٠٨

ولزوم الأخذ بالتعيين لعدم جريان أصالة البراءة عن التعيين على ما حرره في المتن ، وهذا ينافي ما اختاره قبيل ذلك من جريان الأصل في دوران الأمر بين التعيين والتخيير العقلي كالرقبة والرقبة المؤمنة ، وبيان ذلك أنّ المصنف على ما حكي عنه بعد ما أشكل عليه تصوير الواجب التخييري الشرعي بجميع أقوال المسألة التجأ إلى اختيار إرجاع الواجب التخييري إلى التعييني وأنّ الواجب واقعا أمر مشترك بين الخصال وإن لم نعرفه وهذه الخصال أفراده ، واكتفى الشارع عن بيان نفس ذلك الواجب ببيان أفراده ، فيرجع التخيير الشرعي على هذا إلى التخيير العقلي ، ويجري فيه ما ذكره من جريان أصالة البراءة عن وجوب خصوصية المعيّن لاشتمالها على كلفة زائدة على القدر الجامع المعلوم على كل تقدير.

فإن قلت : يرجع المسألة بناء على المبنى المذكور أيضا إلى دوران الأمر بين وجوب المطلق ووجوب الخاص لا الدوران بين المطلق والمقيد ، وقد عرفت سابقا أنّ جريان الأصل ببيان المتن إنما يتم في الثاني دون الأول.

قلت : التحقيق أنّه لا فرق بين القسمين المذكورين من الدوران فيما هو مناط لصحة جريان الأصل ، وهو أنّ لنا في ظرف علمنا قدرا مشتركا معلوم الوجوب وأمرا زائدا مشكوك الوجوب ، غاية الأمر أنه لو كان الواجب واقعا هو الخاص لم يلاحظه الآمر من حيث تحقق القدر المشترك في ضمنه ، وهذا غير قادح بعد اتحاد الجامع مع الخاص في الوجود.

وبعبارة أخرى الجامع الانتزاعي كاف في صحة دعوى حصول العلم بوجوب أمر والشك في وجوب ما زاد عليه من قيد الخصوصية ، إلّا أن هذا كله مبني على مبنى فاسد ، والحق أنّ الواجب التخييري معقول على ما هو محرّر في

٤٠٩

محله فلا وجه لإرجاعه إلى الواجب التعييني.

قوله : فلعل الحكم بوجوب الاحتياط وإلحاقه بالمتباينين لا يخلو عن قوة (١).

بل الأقوى إلحاقه بالتعيين والتخيير العقلي في جريان أصالة البراءة عن خصوصية قيد التعيين الذي هو كلفة زائدة على القدر المعلوم ، وما أشار إليه في توجيه الاشتغال من أنه لا جامع هنا بين طرفي المعلوم بالإجمال يعلم بوجوبه تفصيلا حتى يصحّ نفي الزائد عليه المشكوك فيه بالأصل ، فيه أنه لا يحتاج صحة جريان الأصل إلى وجود جامع ينحل العلم الإجمالي إلى وجوبه تفصيلا ليرجع الزائد المشكوك فيه إلى الشبهة البدوية ، بل يصحّ أن يقال إنّ القدر المعلوم الذي لا مفرّ منه ليس إلّا الواجب المردّد بين كونه أحدهما المعيّن وأحدهما المخيّر بحيث لا يكون الواجب خارجا عن الأمرين ونحن في ضيق من هذا القدر ، ولا شكّ أنّ خصوصية كلفة وصف التعيين أمر زائد على ذلك المعلوم في ظرف الذهن ونحن في سعة منها بأخبار البراءة.

لا يقال : إنّ هذا التقرير يجري في كلي المتباينين فيقال إنّ القدر المعلوم من وجوب الظهر والجمعة هو الأمر المردد بينهما ، فيصح نفي تعيين أحدهما بالخصوص بأصالة البراءة عنه.

لأنا نقول : ليس كذلك لأنّا نعلم في المتباينين مضافا إلى وجوب أحدهما المردد عندنا أنّ الواجب معيّن في الواقع ، غاية الأمر أنّه اشتبه أنّ أيّهما ذلك المعيّن ، فلا يمكن نفي وصف التعيين عن أحدهما لأنّه داخل في القدر المعلوم ، وهذا بخلاف ما نحن فيه لأنّ وصف التعين أمر زائد على المقدار المعلوم ، ولا

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٣٥٨.

٤١٠

يعارض بأنّ وصف التخيير أيضا أمر زائد على المقدار المعلوم فينبغي نفيه بالأصل فيتعارض الأصلان ، لأنّ التخيير ليس كلفة زائدة على كلفة القدر المعلوم يكون منفيا بالأصل بخلاف التعيين كما لا يخفى.

ثم إنّه قد يتمسك لوجوب الاحتياط بوجه آخر ، وهو أنّ الطرف المحتمل للتعيين قد تعلق به الوجوب قطعا إما معينا أو مخيرا بينه وبين الطرف الآخر ، فهو واجب يقينا وبإتيانه يحصل البراءة منه قطعا ، وإنما الشك في أنّ إتيان الطرف الآخر أيضا محصّل للبراءة أم لا ، فتجري قاعدة الاشتغال ويحكم بنفي البراءة عن المعلوم إلّا بما يتيقّن به البراءة.

وفيه : أنّ الشك في البراءة بإتيان الطرف الآخر ناش عن الشك في كون الطرف الأول واجبا معيّنا فلا جرم يكون الأصل في المسبب محكوما بالنسبة إلى الأصل الجاري في السبب أعني أصالة البراءة عن التعيين.

فإن قلت : إنّ لازم إجراء أصالة عدم التعيين في الطرف المحتمل التعيين كفاية الطرف الآخر في الخروج عن عهدة المقدار المتيقّن من التكليف ، مع أنّ أصالة عدم وجوبه على ما حققنا جريانها سابقا في الشك في التكليف عند تعرّض المصنف له منافية لذلك فإنّه ليس بواجب بحكم الأصل فكيف يحصل به امتثال الواجب المعلوم.

قلت : نفي ترتّب أثر الوجوب بالنسبة إلى جهة لا ينافي ترتب أثره بالنسبة إلى جهة أخرى ، توضيحه : أن إجراء أصالة عدم الوجوب كان ملحوظا باعتبار احتمال تعلّق الوجوب به في نفسه ولو على نحو التخيير ، ومن ثمراته صيرورته واجبا تعيينيا عند تعذّر الطرف الآخر ، وذلك لا ينافي ترتيب بعض آثار الوجوب التخييري عليه بمعنى الاكتفاء به في مقام الامتثال عما علم وجوبه

٤١١

مرددا بين التعيين والتخيير ، فتأمل جيدا فإنّ المقام من مزالّ الأقدام ، نعم ما ذكرنا في الشك في أجزاء المركب الخارجي من أنّ الأصل فيه الاشتغال بمقتضى حكم العقل مع قطع النظر عن النقل جار هنا أيضا ، لكن البراءة النقلية كافية في المقامين ، فتذكر.

قوله : ثم إنّ مرجع الشك في المانعية إلى الشك في شرطية عدمه (١).

قد مرّ سابقا منع صحة هذه الدعوى وأنه فرق بين أن يعتبر عدم شيء شرطا أو يعتبر وجوده مانعا ، فإنّ الشرط ما يكون له دخل في تأثير المقتضي والمانع ما يكون وجوده مؤثرا في عدم تأثيره ، وليس عدمه دخيلا في التأثير ، وإنما يستند التأثير إلى السبب في حال عدمه.

ثم لا يخفى أنّ شرطية عدم شيء لشيء إنما يتصوّر في المجعولات الشرعية فإنّه تابع للجعل والاعتبار ، وأما في العقليات فلا يمكن فرض كون العدم مؤثرا في الوجود بوجه على ما تقرر في محلّه ، وحينئذ نقول إنّ الشك في المانع وإن لم يرجع إلى الشك في الشرط إلّا أنّ حكمه حكمه في المسائل الأربع في البراءة والاحتياط ويعرف سوق أدلة الطرفين بالمقايسة ، لكن يمكن أن يفرّق بينهما في خصوص الشبهة الموضوعية ويقال بجريان أصل البراءة في المانع المشكوك مع أنّ الأصل في الشك في الشرطية هو الاحتياط ، وجه الفرق أنّ الشرط لمّا كان وجوده دخيلا في تحقق المأمور به كان بهذا الاعتبار واقعا في حيّز الأمر يجب إحرازه في مقام الامتثال بعد العلم بالشرطية ، وهذا بخلاف المانع فإنّ عدمه ليس في حيّز الأمر بناء على ما عرفت من عدم رجوع كون

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٣٥٩.

٤١٢

الشيء مانعا إلى شرطية عدمه ، فإذا شك في وجود المانع ولم يكن مسبوقا بالعدم حتى يكون مستصحبا يتمسك في عدم حكم المانع بأصالة البراءة وأنه في سعة شيء لم يعلمه ، ويحكم بحصول الامتثال بإتيان جميع ما وقع في حيّز الأمر من الأجزاء والشرائط ، نعم ربما يفهم عرفا من أدلة الموانع أنّ عدمها شرط فيكون حالها حال الشرط بل عينه ، ولعل المصنف كان ناظرا إلى ذلك فأطلق رجوع المانع إلى شرطية عدمه زعما منه أنه كذلك دائما ، فتأمل.

وقد ظهر مما ذكرنا جواز الصلاة في الماهوت ونحوه مما يحتمل أنه معمول من صوف غير مأكول اللحم بناء على مانعيته للصلاة تمسكا بأصالة البراءة ، مضافا إلى استصحاب جواز الدخول في الصلاة الكائن قبل لبس هذا المشكوك.

قوله : ثم إنّ الشك في الشرطية قد ينشأ عن الشك في حكم تكليفي نفسي (١).

لا يخفى أنّ الحكم التكليفي النفسي لا يمكن أن يكون منشأ للشرطية حتى يكون الشك فيه منشأ للشك فيها ، ضرورة أنّ جعل الشرطية مغاير لجعل التكليف لا ملازمة بينهما أصلا ، بل التكليف النفسي والغيري متباينان وإن كان قد يتحد موردهما ويكون معروضا للحكمين إلّا أنه لا يلزم من اتصاف المورد بالوجوب النفسي اتصافه بالوجوب الغيري والشرطية ، اللهمّ إلّا في موارد اجتماع الأمر والنهي بناء على القول بعدم جوازه ، فيمكن أن يقال إنّ شرطية إباحة المكان للصلاة مستفادة عن النهي النفسي عن الغصب فلو شك في حرمة شيء آخر متحد في الوجود مع الصلاة حصل الشك في كونه مانعا أو كون عدمه

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٣٥٩.

٤١٣

شرطا ، فبأصالة البراءة عن حرمة ذلك المشكوك يحكم بعدم مانعيته وعدم شرطية عدمه.

والتحقيق أنّ ذلك أيضا ليس مما نحن فيه في شيء ، لأنّ كلامنا في الشك في المكلّف به وفي شرائط المأمور به وأجزائه وموانعه لا في شرائط الأمر وموانعه ، وما ذكر متفرّعا على القول بعدم جواز اجتماع الأمر والنهي إنما يكشف عن عدم تعلّق الأمر بما هو مورد للنهي لا أنّ المأمور به مقيّد بقيد آخر ، نعم يمكن فرض ذلك فيما لو دلّ دليل على أنّ كل واجب نفسي وقع حال الصلاة فهو جزء أو شرط وكل حرام نفسي وقع حال الصلاة فهو مانع ، وحينئذ فلو شك في أنّ ما وقع في صلاته كان واجبا حتى يكون شرطا أو جزءا ، أو كان حراما حتى يكون مانعا ، فبإجراء أصالة البراءة عن الوجوب أو الحرمة يحكم بنفي الشرطية والمانعية (١).

قوله : أما عموم جزئيته لحال الغفلة فلأنّ الغفلة لا توجب تغيّر المأمور به (٢).

إن أريد أنّ كون شيء جزءا للمأمور به حال الذكر وعدم كونه جزءا حال الغفلة أمر غير معقول ، ففيه أنا لا نعرف وجها لعدم معقوليته ، لم لا يكون الذاكر والناسي كالمسافر والحاضر في كون الواجب في حق أحدهما أقل جزءا من الواجب في حق الآخر ، وإن أريد أنه لو كان الناسي مكلّفا بعنوانه بمركب خال عن الجزء المنسي كان اللازم أن يصحّ خطابه بذلك وتفهيمه وهو متعذّر لأنه

__________________

(١) أقول : يرد عليه أيضا مضافا إلى أنه مجرد فرض لم نجد له مثالا ، أنّ الشك في الشرطية أو المانعية لم ينشأ من مجرّد الشك في التكليف بل بضميمة ذلك الدليل الخارجي ، فليتأمل جيدا.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٣٦٣.

٤١٤

غافل عن غفلته فلا يمكن خطابه بأن يقال أيها الناسي للسورة صلّ بلا سورة ، إذ لو فهم هذا المعنى لانقلب ذاكرا وخرج عن موضوع حكم الناسي ، ففيه أنه لا ينحصر خطابه بخطاب أيها الناسي بهذا العنوان بل بخطاب أيها المكلف افعل كذا ، ولو سلّم فلا نسلّم لزوم فهم المكلّف عنوان نوع المأمور الذي هو داخل فيه ، غاية الأمر أنه يزعم نفسه ذاكرا للأجزاء ويزعم أنّ ما يأتي به من الصلاة بدون السورة تكليف الذاكر لتمام الأجزاء ، وهو غير مضرّ لأنه يأتي بما هو مكلف به واقعا مع هذا الاعتقاد الخطأ.

فإن قلت : على هذا لم يتحقق القصد إلى المركب المأمور به في حقه وإنما قصد المركب التام الذي هو مأمور به لغيره ، فمن هذا الوجه يحكم بفساده.

قلت : مع أنّ هذا غير ما استند إليه الماتن (قدس‌سره) ، فيه : أنا نمنع لزوم قصد خصوصيات أفراد المكلف به ، بل لو قصد فردا منه وكان المأتي به فردا آخر من المكلّف به فقد حصل الامتثال ، وهذا نظير ما لو صلى المسافر صلاة الظهر ركعتين زاعما أنه حاضر وتكليف الحاضر ركعتين فيحكم بصحة صلاته ، ونظير ما لو صلى متسترا ويزعم كونه عاريا وجواز الصلاة عاريا فإنّ صلاته صحيحة ولا يضر قصده أنه يصلي صلاة الحاضر أو أنه يصلي عاريا ، وإن أريد أنه حين الغفلة ونسيان الجزء لا يتمكن عن إجراء الأصل والحكم بالبراءة عن الجزء لأجل النسيان ، ففيه أنه يكفي إجراؤه الأصل بعد ذلك عند التذكر ، وهذا نظير ما لو صلى بلا سورة غفلة عن كون السورة جزءا أم لا ثم التفت بعد الصلاة وشك في كون السورة جزءا أم لا فإنّه يجري الأصل حينئذ ويحكم بعدم جزئية السورة وصحّة الصلاة الماضية.

٤١٥

قوله : وإن كان تكليفا غيريا فهو كاشف عن كون متعلّقه جزءا (١).

فيه أوّلا ، وإن لم يرتبط هذا الإيراد بالمقام : أنّ هذا الكلام مناقض لمذهبه من منع مجعولية الأحكام الوضعية وأنها أمور انتزاعية من التكاليف ينتزع منها العقل ، فإنّ هذا الكلام صريح في أنّ التكليف ينتزع من الجزئية ، فافهم.

وثانيا : أنه لو سلّمنا كون التكليف الغيري مختصا بغير الغافل فمن أين يستكشف الجزئية المطلقة حتى بالنسبة إلى الغافل ، إذ من الواضح عدم الفرق بين القول بكون الوجوب سببا لثبوت الجزئية وكونه كاشفا عن الجزئية في عدم ثبوت الجزئية عند عدم الحكم المذكور ، لأنّ المفروض عدم الدليل على الجزئية غير هذا الحكم التكليفي ، فلو أريد إثبات عموم الجزئية فينبغي أن يتشبّث بإطلاق هذا الأمر المتعلق بالجزء ويستكشف منه عموم الجزئية.

وثالثا : أنّ اختصاص هذا التكليف الغيري بغير الغافل لا وجه له ، لأنّ التكاليف مطلقا نفسية وغيرية لا تختص بالعالمين بها بناء على التحقيق من ثبوت الأحكام الواقعية ، غاية الأمر معذورية الغافل عنها ما دام غافلا ، والجزئية مسببة أو مستكشفة عن الأمر الواقعي لا خصوص الأمر المنجّز الفعلي.

قوله : ومن ذلك يعلم الفرق بين ما نحن فيه وبين ما ثبت اشتراطه من الحكم التكليفي كلبس الحرير (٢).

التحقيق عدم الفرق بين الجزئية والشرطية في عدم استفادتهما من الحكم التكليفي إلّا على التقريب الذي عرفت قبيل ذلك من باب اجتماع الأمر والنهي ، وعليه فلا فرق أيضا.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٣٦٦.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٣٦٦.

٤١٦

ثم إنّ ما يستفاد من كلامه من تسليم أنه لو كانت الجزئية كالشرطية في لبس الحرير مستفادة من الحكم التكليفي صحّ كلام المورد من اختصاص الجزئية بحال الذكر ، ويبقى إطلاق الأمر بالعبادة بالنسبة إلى الناسي محلّ نظر بل منع ، لما عرفت من أنّ الأحكام التكليفية بأسرها مطلقة شاملة للذاكر والناسي والجاهل وغيرها وإلّا لانتفى الأحكام الواقعية ، وما ذكروه مبنيا على اختصاص ثبوت التكليف بحال الذكر في بيان الثمرة بين القول بعدم جواز اجتماع الأمر والنهي أو جوازه من بطلان الصلاة في الحرير وعدمه في خصوص صورة العلم والالتفات وإلّا لو جهل أو نسي وصلى فيه صحّت صلاته على القول بالمنع أيضا لعدم توجّه النهي إليه فعلا محلّ تأمّل ، بل التحقيق أنه على القول بمنع جواز الاجتماع يلزم الفساد مطلقا عمدا كان ذلك أو جهلا أو نسيانا ، لأنّ المنع إنما جاء من قبل عدم صحة الأمر من قبل الآمر من استحالة تعلق الأمر والنهي بشيء واحد ، أو استحالة اجتماع المحبوبية والمبغوضية في شيء واحد ، أو اجتماع الإرادة والكراهة إلى غير ذلك ، ولا يتفاوت ذلك بالنسبة إلى حالات المأمور من كونه عالما أو جاهلا ، ومن الواضح أنّ الممتنع لا ينقلب جائزا بجهل المكلف أو غفلته ، وتمام البيان موكول إلى محله.

وتحصّل من جميع ما ذكرنا : أنّ الأصل الأولي في الجزء هو الركنية فيما ثبت الجزء من دليل مطلق كما في الأدلة اللفظية ، بخلاف ما إذا ثبت من إجماع ونحوه فإنّه كما قال المورد يحمل على القدر المتيقّن من حال الذكر ، فالأصل عدم الركنية فيه فتدبّر.

٤١٧

قوله : قلت بعد تسليم إرادة رفع جميع الآثار ، أنّ جزئية السورة ليست من الأحكام المجعولة (١).

قد عرفت سابقا عند شرح حديث الرفع في الشبهة التحريمية التكليفية أنّ الأظهر حمل الرواية على رفع جميع الآثار بالتقريب المذكور هناك ، لا من باب دلالة الاقتضاء ، بل من جهة كونه أقرب مجازات رفع أعيان التسعة عن الأمة فراجع ، وقد عرفت مرارا أيضا أنّ التحقيق أنّ الأحكام الوضعية سيّما الجزئية والشرطية من الأحكام المجعولة شرعا فيصحّ رفعها عند النسيان أو الجهل ، ثم لو سلّمنا ذلك كله من المصنف نقول لا نحتاج إلى رفع الجزئية في إثبات هذا الأصل الثانوي من حديث الرفع ، بل يكفي استفادة رفع الوجوب الغيري المتعلّق بالجزء حال النسيان ، وهو حكم شرعي ثابت للجزء من دون واسطة عقلية أو عادية كما قرر المصنف هكذا بعينه في الشك في أصل الجزئية في المسألة السابقة.

قوله : نعم لو صرّح الشارع بأنّ حكم نسيان الجزء الفلاني مرفوع (٢).

هذا هدم لما قرره في رسالة الاستصحاب في تقرير عدم حجية الأصول المثبتة من امتناع ترتيب الأحكام الشرعية الثابتة للمستصحب بواسطة أمر عقلي أو عادي ، فيقال إن أمكن ذلك بتصريح الشارع به بالخصوص فلا مانع من حمل إطلاق أخبار الاستصحاب أيضا على ذلك ، وتمام الكلام سيأتي في محلّه إن شاء الله تعالى ، ولعل المصنف إلى ذلك أشار بقوله فافهم ، فتأمل.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٣٦٧.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٣٦٨.

٤١٨

قوله : وزعم بعض المعاصرين ، إلخ (١).

وهو صاحب الفصول (٢) فإنّه ذكر في فصل أصالة العدم الفرق بين نفي الجزء المشكوك بأصالة العدم وبين نفيه بحديث الرفع بعدم إمكان إثبات ماهية المركّب على الأول دون الثاني بأوفى بيان ، إلّا أنه رجع عنه في آخر كلامه فحكم بنفي الفرق بينهما وأنه لا يثبت الماهية بواحد منهما ، وقد عرفت سابقا أنا لا نحتاج إلى الأصل في إثبات وجوب بقية الأجزاء وجزئيتها بل هو ثابت بالعلم به.

قوله : وكيف كان فالقاعدة الثانوية في النسيان غير ثابتة (٣).

قد مرّ ثبوت القاعدة الثانوية بحديث الرفع ، مضافا إلى حديث لا تعاد وغيره مما ذكره في المتن.

بقي شيء : وهو أنّ مقتضى هذه القاعدة كون المركّب الناقص تمام المأمور به واقعا في حال الغفلة ، أو أنّ المأمور به هو المركّب التام لا غير ، إلّا أن تركه في حال إتيان هذا المركّب الناقص لا يوجب الإعادة وأنه مغتفر لا عقاب عليه ولا غيره من الآثار الوضعية؟ الأظهر هو الثاني ، أما على مذاق المصنف فلما عرفت من عدم معقولية الأمر بالباقي بالنسبة إلى الناسي وقد عرفت ضعفه ، وأما على مذاقنا فلظهور قوله (عليه‌السلام) «لا تعاد الصلاة» إلى آخره (٤) في الاغتفار وأنه كان مقتضى القاعدة وجوب الإعادة في نقصان كل واحد من

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٣٦٨.

(٢) الفصول الغروية : ٣٥٧.

(٣) فرائد الأصول ٢ : ٣٦٨.

(٤) الوسائل ٧ : ٢٣٤ / أبواب قواطع الصلاة ب ١ ح ٤.

٤١٩

الأجزاء إلّا أنه اكتفى في غير الخمسة بالصلاة الناقصة بدلا عن التمام ، وكذا قوله (عليه‌السلام) «تسجد سجدتي السهو في كل زيادة ونقيصة» (١) فإنه ظاهر في أنّ الصلاة ناقصة بنقص الجزء ، بل قوله (عليه‌السلام) «أليس قد أتممت الركوع والسجود» (٢) أيضا ظاهر في عدم تمامية الصلاة بترك الفاتحة ، نعم ظهور حديث الرفع في هذا المعنى ليس بواضح وإن كان غير بعيد فيه أيضا ، فليتأمّل.

قوله : المسألة الثانية في زيادة الجزء عمدا (٣).

لا بأس أن نذكر أوّلا ما عندنا في تحقيق المسألة ولعله يعرف به ما في المتن صحيحه من سقيمه ثم نتعرّض لما في المتن على نحو الإشارة فنقول وبالله التوفيق : إن المسألة تتصوّر على صور ، لأنّ المركب المبحوث عنه إما واجب توصلي أو تعبدي ، وكأن المصنف لم يتعرّض إلّا للواجب التعبدي وأخلّ بالتوصلي ، وعلى التقديرين إما أن تكون الزيادة المبحوث عنها في أول المركب أو في الآخر أو في الأثناء ، وعلى التقادير إما أن يقصد الزيادة المفروضة في ابتداء العمل بمعنى القصد إلى المركب المشتمل على الجزء الزائد ، وإما أن يبدو له في أثناء العمل أن يزيد جزءا عند فعله أو فيما بعد ذلك ، وعلى التقادير إما أن يكون الجزء الزائد من سنخ أجزاء المركب كزيادة الفاتحة مثلا في الصلاة أو يكون من غير سنخها كزيادة وضع اليد على الرقبة أو التنحنح مثلا في بعض أحوال الصلاة ، وعلى الأول إما أن يزيد الزائد في محلّه كما إذا تشهّد في الركعة الثانية بتشهدين مثلا ، وإما أن يزيده في غير محلّه كما إذا تشهد في الركعة الأولى أو الثالثة مثلا ، وعلى بعض التقادير إما أن يكون الجزء المأخوذ في

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٢٥١ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ٣٢ ح ٣ (مع اختلاف يسير).

(٢) الوسائل ٦ : ٩٠ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٢٩ ح ٢.

(٣) فرائد الأصول ٢ : ٣٧٠.

٤٢٠