حاشية فرائد الأصول - ج ٢

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-089-6
الصفحات: ٥٩٤
الجزء ٢ الجزء ٣

العمل أنه بعينه مصداق للمأمور به ، ويشهد بذلك أنّ من يعتبر الجزم لا يكتفي بصلاة واحدة عما في الذمة فيما لو تردد عنده الواجب بين الظهر والعصر مثلا إذا تمكّن من تحصيل العلم به.

قوله : فيمكن أن يقال بعدم الجواز نظرا إلى الشك في تحقق الأمر بالعصر (١).

التحقيق أن يقال إنا لو قلنا بأنّه يدخل وقت العصر بمضي مقدار أداء فريضة الظهر فقط من دون مقدماتها فلا إشكال في تحقق الأمر بالعصر بعد فعل أحد محتملات الظهر ، وإن قلنا بالمشهور من أنه لا يدخل وقت العصر إلّا بعد مضي مقدار أداء فريضة الظهر ومقدماتها غير الحاصلة ، فإن قلنا بذلك حتى بالنسبة إلى المقدمات العلمية فلا يتحقق الأمر بالعصر إلّا بعد مضي مقدار فرض الظهر بجميع محتملاته فيما نحن فيه جزما ، وإن قلنا به بالنسبة إلى خصوص مقدمات الفعل دون المقدمات العلمية فيتحقق الأمر بالعصر بعد فعل أحد محتملات الظهر جزما ، نعم بناء على الأخير عند الشك في القصر والإتمام لو بدأ بأداء الظهر قصرا لم يعلم بتحقق الأمر بالعصر ، لإمكان كون الواجب واقعا هو التمام ولم يمض مقداره بالفرض (٢).

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٣١٤.

(٢) أقول : يمكن أن يكون وجه تردد المصنف تردّده في الوقت المختص وأنه وقت أداء الظهر ومقدماته حتى العلمية أو خصوص مقدمات الواجب ، وحينئذ يشك في تحقق الأمر بالعصر على ما ذكره فالأصل عدمه ، ويجري الاحتمال الآخر أيضا كما ذكره ، فليتأمل.

٣٦١

تنبيهان :

الأول : أنه ربما يقال إنّ مثال الظهر والجمعة ليس مثالا لما نحن فيه من تردد الواجب بين المتباينين المقتضي للاحتياط ، بل العلم الإجمالي فيه ينحل إلى العلم التفصيلي والشك البدوي لأجل تحقق خصوصية فيه ليست في نظائره ، وهي أنه قد ثبت أنه على تقدير وجوب الجمعة في الواقع ينقضي وقتها بمقدار أدائها أو بعد أن يصير الظل بمثل الشاخص ثم بعد ذلك يصلي بدلها ظهرا سواء تركها عمدا عصيانا أو لعدم وجدان شرائطها أو نسيانا أو جهلا ، فيقال حينئذ إنه يعلم باستحقاق العقاب على ترك فعل الظهر بعد انقضاء وقت الجمعة جزما ويشك في أن ترك الجمعة أيضا موجب لاستحقاق عقاب آخر أم لا فينفى بالأصل.

لكن لا يخفى أنّ العلم بالعقاب على ترك الظهر ليس مطلقا بل على تقدير ترك الجمعة أيضا التي هي أحد طرفي العلم الإجمالي ، فيعلم به ترك الواجب جزما.

والأوضح أن يقال إنّ مناط المسألة هو العلم بالتكليف لا العلم باستحقاق العقاب ، والتكليف المعلوم مردد بين الظهر والجمعة من الأول وهما متباينان فيجب الاحتياط ، غاية الأمر أنه لو لم يفعل وظيفة الجمعة وفات وقتها يعلم بوجوب الظهر معيّنا إما لأنه كان واجبا بالأصل أو لأنّه بدل عنه في هذا الحال ، وهذا لا ينافي كون الواجب من الأول مرددا بينهما.

الثاني : أنه لو علم بوجوب أحد الشيئين ... إلّا أنه يعلم أنّ أحدهما المعيّن على تقدير وجوبه واقعا واجب مشروط ولم يحصل شرطه بالفرض والآخر

٣٦٢

على تقدير وجوبه واجب مطلق ، فمقتضى القاعدة عدم وجوب الاحتياط لعدم العلم بالتكليف إلّا إذا حصل شرط ذلك المحتمل الوجوب فيصير مطلقا فيحصل العلم الإجمالي بوجوب أحد الأمرين بالوجوب المطلق ، وعلى هذا فلو علم إجمالا أنه يجب عليه إما صوم اليوم الحاضر مطلقا أو صوم الغد مشروطا بمجيء زمانه ، فلا يجب الاحتياط لأنه لا يعلم بأصل التكليف في زمان واحد أصلا لا في اليوم الأول ولا في اليوم الثاني لأنّه يحتمل أنه قد فات الواجب عليه في اليوم الأول ، فيجري البراءة في الزمانين سواء علم في الزمان الأول بأنّه يبقى ويحصل شرط الواجب الثاني على تقديره أم لا ، إلّا أنّ التحقيق وجوب الاحتياط فيه في صورة العلم ببقائه إلى زمان حصول الشرط بل مطلقا بناء على اعتبار استصحاب الحياة فيما سيأتي ، لأنّ العقل والعقلاء يحكمون بوجوب الاحتياط على هذا الفرض ولا يفرّقون بينه وبين تردد الواجب بين مطلقين وهو المتّبع ، نعم لا إشكال في دوران الأمر بين المعلّق والمطلق فإنّ الأمر المعلّق منجز كالمطلق وإن كان زمان الفعل متأخرا عنه فالعلم الإجمالي بأحدهما موجب للاحتياط وكذا المعلّقان كالمطلقين.

قوله : فمرجع اعتبار ذلك القيد إلى إيجاب ذلك الأمر الخارجي كالوضوء (١).

قد يكون ذلك الأمر الخارجي في نفسه واجبا مستقلا نفسيا ومع ذلك اعتبره الشارع قيدا للمأمور به فلو تركه المكلّف عصى باعتبار وجوبه في نفسه ويوجب فوات المأمور به أيضا بفوات قيده ويحصل عصيان آخر للمأمور به ، ومن هنا يمكن أن يقال إنّ أقسام الشك في الأقل والأكثر يزيد على ما في المتن

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٣١٥.

٣٦٣

بواحد ، ويمكن أن يجعل العام المجموعي من هذا القبيل بناء على أن يكون كل فرد منه واجبا مستقلا اعتبر فيه انضمامه إلى باقي الأفراد بحيث لو لم ينضمّ إليه باقي الأفراد بطل لفقد الشرط لا إذا كان مجموع الأفراد من حيث المجموع واجبا واحدا فإنه حينئذ كالصلاة كل فرد منه جزء للمأمور به والمطلوب واحد ، بخلاف الأول فإنّه مطلوبات عديدة نفسية غاية الأمر أنّ كل واحد منها مشروط بانضمام الباقي إليه ، وهو الفارق بينه وبين العام الأفرادي فإن أفراده واجبات مستقلة لا ربط لبعضها مع بعض ويحصل الإطاعة والعصيان بالنسبة إلى كل واحد من الأفراد ويصحّ ويفسد من دون اعتبار بالباقي ، وحينئذ فلو شك في دخول فرد في العام المجموعي بالمعنى المذكور أوّلا فباعتبار وجوبه النفسي الاستقلالي مجرى للبراءة وباعتبار قيديّته للأفراد الباقية محلّ للخلاف في البراءة والاشتغال.

قوله : أما العقل فلاستقلاله (١).

قد مرّ سابقا غير مرة منع حكم العقل بقبح العقاب إلّا إذا علم عدم البيان واقعا من غير مانع عن البيان وكلا القيدين غير معلوم فيما نحن فيه ، فلا يكون موردا لحكم العقل بنفي العقاب ، بل نقول بناء على مذهب العدلية من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد النفس الأمرية يحكم العقل بوجوب الاحتياط حتى في الشبهات البدوية الاستقلالية من باب وجوب دفع الضرر المحتمل كما سبق سابقا وسيأتي في المتن أيضا بصورة السؤال ونحن نتعرّض لما عندنا فيما أجاب به عنه.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٣١٨.

٣٦٤

قوله : وبتقرير آخر المشهور بين العدلية أنّ الواجبات الشرعية إلخ (١).

قد يحمل هذه القضية المشهورة على معنى أنّ جميع الواجبات السمعية واجبات عقلية كشف عنها الشارع وإن لم يدرك وجوبها عقولنا الناقصة وإنما يدركه العقل الكامل كعقول الأنبياء (عليهم‌السلام) والأوصياء (عليهم‌السلام) مثلا ، فيكون إيجاب الشارع لها لطفا أي مقرّبا لتلك الواجبات العقلية التابعة للمصالح النفس الأمرية ، وقد تحمل على معنى أنّ الواجبات السمعية المغايرة للواجبات العقلية وجدانا ألطاف في الواجبات العقلية ، لأنّ إطاعة السمعيات مقرّبة للإطاعة في العقليات أيضا من جهة تعوّد النفس بانقياد أوامر المولى ، ولا يخفى أنّ المعنى الثاني ليس تقريرا آخر للسؤال ، إذ لا يلازم ذلك كون كل حكم سمعي ناشئا عن مصلحة ، بل المعنى الأول أيضا كذلك وإن استلزم كل حكم شرعي أن يكون ناشئا عن مصلحة لأنه جعل المصلحة الواقعية في التقرير الأول عنوانا للمأمور به أو غرضا منه وفي التقرير الثاني جعل عنوان اللطف يعني المقرّب عنوانا للمأمور به أو غرضا منه ، ومن المعلوم أنّ عنوان المصلحة غير عنوان المقرّب.

قوله : فنحن نتكلّم فيها على مذهب الأشاعرة (٢).

فيه أوّلا : أنّ هذا الجواب لا ينفع المصنف لأنّه لا يذهب مذهب الأشاعرة ولا مذهب من يقول بتبعية الأحكام لمصالح الأمر دون المأمور به.

وثانيا : لا نجد فرقا بين مذهب الأشاعرة والعدلية في حكم العقل بوجوب

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٣١٩.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٣١٩ ـ ٣٢٠.

٣٦٥

إحراز مطلوب المولى بعد العلم به في الجملة سواء كان المطلوب مصلحة المأمور به أو نفس المأمور به كما سيشير إليه المصنف في السؤال الآتي.

ثم لا يخفى أنّ ما أفاده في السؤال والجواب من تسليم وجوب تحصيل غرض المولى بأي نحو كان المستلزم لوجوب الاحتياط في محل المنع مطلقا ، لأنّ العقل لا يحكم أزيد من وجوب إطاعة المولى في جميع ما أمر به ولو كان للمولى غرض لوجب عليه أن يأمر عبده بتحصيله أو يأمر بما يلازم حصوله.

قوله : وثانيا أنّ نفس الفعل من حيث هو ليس لطفا (١).

فيه أوّلا : أنه أخصّ من المدّعى ، إذ لا ينحصر الأقل والأكثر الارتباطي في العبادات فلا يتمّ في الواجب التوصّلي.

وثانيا : لا يتم هذا الجواب بناء على عدم اعتبار قصد الوجه كما هو مذهب المصنف وجلّ المتأخرين بل كلهم.

فإن قلت : إنهم لم يعتبروا قصد الوجه لعدم الدليل عليه ولم ينفوا احتماله ، واحتماله كاف فيما أراده من عدم إمكان الاحتياط والعلم بحصول اللطف.

قلت : إنا نعلم بعدم اعتبار الوجه وإلّا لشاع وذاع في الأخبار والآثار عن الأئمة الأطهار (عليهم‌السلام) ولا إشارة إليه في خبر أو آية في عبادة من العبادات على كثرتها وكثرة الابتلاء بها في جميع الأعصار ، ويبعد كل البعد عدم تعرّضهم (عليهم‌السلام) لهذا الواجب الكذائي لو كان واجبا بحيث يلحق بالمحال العادي.

وثالثا : لا شكّ أنه بناء على اعتبار قصد الوجه التفصيلي لا يسقط الواجب

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٣٢٠.

٣٦٦

بالمرة عند تعذّره بل يبقى بقية الأجزاء على الوجوب ، وحينئذ نقول بناء على القول بتبعية الأوامر للمصالح في نفس المأمور به لا بدّ أن يكون في بقية الأجزاء في هذا الحال مصلحة اقتضت وجوبها وإلّا سقط الوجوب عنها بالمرة وهو خلاف الفرض وتلك المصلحة إما من قبيل العنوان في المأمور به وإما من قبيل الغرض ، ويلزمه وجوب الاحتياط بالنسبة إلى الجزء المشكوك كما قرّر في السؤال ، وهكذا يقرّر في كل جزء من المركب عند تعذّره ، فيجب بقية الأجزاء ولو بدليل قاعدة الميسور ، فلا بدّ أن تكون مشتملة على المصلحة في هذه الرتبة ويلزم إحرازها بالاحتياط لكونها عنوانا للمأمور به أو غرضا منه ، اللهمّ إلّا أن يقال إنّ القدر المسلّم تبعية الأحكام الأولية للمصالح في المأمور به دون الواجبات البدلية فإنّ وجوب بقية الأجزاء من باب البدل عن الواقع ، وإلى هذا المعنى يشير في آخر كلامه بقوله : فلم يبق عليه إلّا التخلّص من تبعة مخالفة الأمر ، إلى آخره.

وفيه : ما لا يخفى لأنّ دليل دوران الأحكام مدار حسن المأمور به لو تمّ عمّ ولا فرق في حكم العقل في الواجب الأصلي الأوّلي والبدل.

ورابعا : سلّمنا أنّ المشتمل على المصلحة هو الواجب الأصلي الأولي لكن يحتمل عدم اعتبار قصد الوجه التفصيلي في المأمور به كما يحتمل اعتباره ، فيكون صاحب المصلحة نفس الأجزاء فيجب في حكم العقل إحرازها بالاحتياط بالنسبة إلى الأجزاء المشكوكة بناء على التحقيق من وجوب إقدام المكلّف على امتثال الأمر بالاشتغال بالمأمور به ومقدّماته وما يحتمل أن يكون هو المأمور به إلى أن يعلم بعجزه وتعذّره ، ولا يشترط العلم بقدرته على إتيان المأمور به على وجهه ، فيبقى أصل الإشكال بحاله.

٣٦٧

والتحقيق في جوابه أن يقال : لو سلّمنا دوران الأحكام مدار حسن المأمور به ، وأنّ عنوان المأمور به أو الغرض منه هو نفس المصلحة الواقعية لم يقتض ذلك أيضا وجوب الاحتياط بالنسبة إلى أجزاء المركب الذي يحصل به تلك المصلحة إذا كان هذا المحصّل أمرا تعبديا كما فيما نحن فيه ، بل يحكم العقل بالبراءة عن الجزء المشكوك فيه بقبح العقاب بلا بيان ، ولا فرق في حكم العقل بالبراءة بين كون المشكوك جزء نفس الواجب أو جزء ما يحصل به عنوان الواجب ويحققه بعد اشتراكهما في أنّ بيان تلك الأجزاء وظيفة الشارع ، نعم لو لم يكن بيان المحصّل والمحقق وظيفة الشارع بأن كان من الأمور العقلية والعرفية اقتضى وجوب الاحتياط ، وليس فليس.

قوله : أما الأول فلأنّ عدم جواز المخالفة القطعية (١).

لا يخفى ما فيه من سوء التأدية ، وكان الأولى أن يقول أما الأول فلأنّ العلم الإجمالي فيما نحن فيه ينحلّ إلى العلم التفصيلي بوجوب الأقل والشك البدوي بوجوب الأكثر الراجع إلى الشك في وجوب الجزء المشكوك فيه ، ويعلله بقوله فإنّ وجوب الأقل بمعنى استحقاق العقاب بتركه معلوم تفصيلا إلى آخر ما ذكره ، ويضمّ إليه : وهذا بخلاف الأكثر فإنّ استحقاق العقاب على ترك الأكثر أي الجزء المشكوك لكونه غير معلوم الوجوب منفي بقبح العقاب بلا بيان ، وكيف كان فالأمر سهل بعد وضوح مراده.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٣٢٢.

٣٦٨

قوله : ودوران الالزام في الأقل بين كونه مقدميا أو نفسيا لا يقدح في كونه معلوما بالتفصيل (١).

فيه : أنّ هذا الدوران قادح على التحقيق فيما أراده لوجهين : الأول أنّ العلم التفصيلي المذكور بوجوب الأقل لا يجتمع مع فرض إجراء أصالة البراءة عن الأكثر ، بل على تقديره يرجع العلم المذكور إلى الشك البدوي ، لأنّه بعد ما تردد الأقل بين كونه واجبا نفسيا أو مقدميا لا نعلم بتنجز التكليف به إلّا بعد العلم بأنه واجب على التقديرين ، فعلى تقدير وجوبه النفسي لا إشكال فيه ، وأما على تقدير وجوبه المقدمي الغيري فلا شكّ أن وجوبه فرع وجوب ذلك الغير أعني الأكثر ، فإذا انتفى وجوب الأكثر بأصالة البراءة كيف يعقل وجوب مقدمته أي الأقل الذي لا يكون واجبا إلّا في ضمن الأكثر ، فإذن لم يبق إلّا احتمال وجوب الأقل باعتبار احتمال وجوبه النفسي.

والحاصل أنه إن لم تجر أصالة عدم الأكثر فالعلم الإجمالي بثبوت التكليف بالأقل متحقق ، وإن جرى الأصل عاد العلم إلى الشك البدوي بوجوب الأقل ، فجريان الأصل في الأكثر وتحقق العلم الإجمالي المنجز في الأقل متنافيان ، ولمّا علمنا بالتكليف مرددا بين الأقل والأكثر وأمكن امتثاله تنجز بحكم العقل ، فيكشف ذلك عن عدم جريان الأصل وظهر مانع جريان الأصل.

الثاني : أنّه لو سلّمنا تنجز التكليف بالأقل مرددا بين النفسي والغيري لا يمكن امتثاله العلمي إلّا بالإتيان بالأكثر ، لأنّ الاتيان بالأقل فقط يوجب الشك بالبراءة عن التكليف المعلوم ، إذ لو كان غيريا وكان الواجب في الواقع هو الأكثر كان إتيان الأقل لغوا صرفا ، لأنّ الكلام في المركّب الارتباطي فبمقتضى أنّ

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٣٢٢.

٣٦٩

التكليف اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ولا يحصل إلّا بإتيان الأكثر يجب الاحتياط.

قوله : لأنّه إن قصد به نفي أثر الوجوب الذي هو استحقاق العقاب بتركه (١).

قد أورد المصنف على هذا الشق من الترديد في أول أصل البراءة بوجه آخر : وهو أنّ عدم استحقاق العقاب ليس أثرا شرعيا لعدم الوجوب الواقعي حتى يمكن إثباته بالاستصحاب ، بل هو أثر عقلي لا يثبت بالاستصحاب ، وملخّص مراده (رحمه‌الله) منع جريان استصحاب عدم الوجوب إما لعدم وجود الأثر الشرعي للمستصحب ، وإما لجريان الأصل الحاكم بالبيان المذكور في المتن ، وفيهما معا نظر ، أما الأول فلما مرّ سابقا غير مرّة من أنه لا وجه لاعتبار كون المستصحب مما يترتب عليه أثر شرعي مطلقا في صحة جريان الاستصحاب ، بل يكفي فيها عدم كون الاستصحاب لغوا فيما يرجع إلى الشرع ، فاستصحاب الأحكام الشرعية لا يتوقف على ثبوت أثر آخر لها ، بل الأثر هو نفس ثبوت الحكم ونفيه ، نعم يتوقّف صحة استصحاب الموضوعات على ثبوت أثر شرعي لها حتى يصح به حكم الإبقاء على ما كان تعبدا ، وأيضا موضوع حكم العقل بعدم استحقاق العقاب أعمّ من عدم الوجوب الواقعي وعدم الوجوب الشرعي الثابت بالاستصحاب ، وحينئذ نقول لا نحتاج في الحكم بعدم الاستحقاق إلى كون ذلك العدم أثرا للمستصحب ، بل يحكم العقل مستقلا بعد جريان استصحاب عدم الوجوب بعدم الاستحقاق.

وأما الثاني فلأنّ ما ذكره في وجهه من قوله لأنّ عدم استحقاق العقاب

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٣٢٤.

٣٧٠

ليس من آثار عدم الوجوب إلى آخره ، فيه أنه إن أراد ظاهره من عدم كون عدم استحقاق العقاب من آثار عدم الوجوب الواقعي بل من آثار الشك في الوجوب فهو فاسد جزما ، لوضوح أنّ عدم الوجوب يستلزم عقلا عدم استحقاق العقاب ، وإن أراد أنّ عدم استحقاق العقاب لمّا كان من آثار الشك في الوجوب كما هو أثر المشكوك فبمجرد الشك في الوجوب يتحقق موضوع الأثر ويترتب عليه ، فلا يبقى محلّ لترتبه على المشكوك الثابت بالاستصحاب لتأخّر هذا الموضوع عن ذاك الموضوع طبعا فهو أيضا باطل أما أوّلا : فبالنقض بما لا يلتزم به المصنف وهو أنه يلزم أن يكون قاعدة الطهارة مقدما على استصحاب الطهارة بعين التقريب. وأما ثانيا : فبالحلّ وهو أنا نمنع تقدم أحد الموضوعين على الآخر ، بل موضوع عدم الاستحقاق للعقاب المترتب على عدم الوجوب المستصحب أيضا هو الشك ، أعني الشك الخاص المسبوق بالعلم بعدم الوجوب ، فعند حصول الشك الخاص يحكم العقل بعدم الاستحقاق والشرع بترتب الأثر السابق الذي هو عدم الاستحقاق في عرض واحد (١).

قوله : مضافا إلى منع جريانه حتى في مورد وجوب الاحتياط كما تقدم في المتباينين (٢).

منع جريان الاستصحاب في المتباينين مبني على القول بأنّ العقل من الأول يحكم بوجوب الاحتياط وإلّا فلو قلنا بأنّ العقل لا يحكم أزيد من حرمة المخالفة القطعية وأتى بأحد المحتملين فرارا عن المخالفة القطعية فهو نظير ما

__________________

(١) أقول : فيه نظر ، لأنّ الموضوع الثاني شكّ مقيّد بالعلم بالحالة السابقة بخلاف الموضوع الأول فإنه مطلق الشك وهو مقدّم على المقيّد طبعا يترتب عليه أثره ، ولا يبقى محلّ لترتبه على الموضوع الثاني ، وهو ما أراده المصنف فتأمل.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٣٢٥.

٣٧١

نحن فيه بعينه يجري فيه استصحاب الوجوب ويثمر وجوب إتيان المحتمل الآخر على ما سيأتي بيانه.

قوله : بأنّ بقاء وجوب الأمر المردد بين الأقل والأكثر (١).

فيه : أنه فرق بين ما قبل زمان الشك وما بعده فإنّ الأمر المردد بين الأقل والأكثر وإن لم يقتض الاحتياط من الأول قبل إتيان الأقل لكن لو فرض بقاء الأمر بعد إتيان الأقل بحكم الاستصحاب يفيد لزوم إتيان الأكثر لوجوب الخروج عن عهدته ، وليس إلّا بإتيان الأكثر ، وليس المقصود إثبات أنّ الواجب هو الأكثر حتى يقال إنه مبني على حجية الأصول المثبتة ، بل المراد أنه لا يخرج عن عهدة ما علم بوجوبه من الأمر المردّد ثم بحكم الشارع ببقائه بعد إتيان الأقل إلّا بإتيان الأكثر.

قوله : وأما الثالث ففيه أنّ مقتضى الاشتراك ، إلخ (٢).

وفيه : أيضا أنه يرجع إلى قاعدة الاشتغال السابق ، ويرد عليه ما أورد عليه ، ولا يتفاوت الحكم باختلاف التعبيرات والتقريرات ، فإنّ العلم بوجوب الصلاة الواقعية حاصل وجدانا بالفرض ، فإن لم يفد ذلك وجوب الاحتياط كيف يفيده العلم بوجوب ما كلّف به الحاضرون فإنّه عبارة أخرى عن الواجب الواقعي وهو ظاهر. والظاهر أنّ القائل أيضا لم يرد بهذا الدليل إلّا تقرير قاعدة الاشتغال بهذا التعبير ، إذ لم يعلم منه أنه جمع بينه وبين القاعدة بجعلهما دليلين على الاحتياط ، نعم لو أراد من هذا الدليل أن دليل الاشتراك يقتضي وجوب ما كلّف به الحاضرون العالمون على الغائبين مطلقا وإن كانوا جاهلين بالخطاب

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٣٢٥ ـ ٣٢٦.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٣٢٦.

٣٧٢

كان ذلك وجها آخر لوجوب الاحتياط ، وجوابه منع اقتضاء أدلة الاشتراك ذلك ، بل لا تقتضي أزيد من اشتراك عالمهم بالخطاب مع عالمهم به وجاهلهم مع جاهلهم.

وقد يقال : إنّ مراد المستدل أنّ الشاك من الحاضرين في مسألتنا حكمه وجوب الاحتياط ، فبدليل الاشتراك نحكم بأنّ الغائبين أيضا حكمهم كذلك ، ويقال إنّ قوله في المتن في ذيل الجواب ولا ريب أنّ وجوب الاحتياط على الجاهل إلى آخره ، إشارة إلى هذا التقرير.

وفيه أولا : منع كون تكليف الحاضرين هو الاحتياط.

وثانيا : لو سلّمنا ذلك فإنما هو لأجل قدرتهم على تحصيل العلم بالواقع بالفحص والرجوع إلى الإمام (عليه‌السلام) بخلاف الغائبين فلا يمكنهم تحصيل العلم بالواقع وتجري قاعدة البراءة بالنسبة إليهم.

قوله : كما مثّلنا له بالخمر المردد بين الإناءين أحدهما المعيّن نجس (١).

فرق بين المثال وما نحن فيه من جهة كون العلم فيما نحن فيه واحدا وإن انحلّ إلى علم تفصيلي وعلم إجمالي ، بخلاف المثال فإنّ فيه علمين من الأول أحدهما تفصيلي والآخر إجمالي ، فإن سلّمنا في المثال جريان البراءة فإنّها لا تجري فيما نحن فيه ، وتوضيح ذلك أنّ المثال يتصوّر على صور :

أحدها : أن يعلم أوّلا أنّ أحد الإناءين بعينه متنجس بملاقاة البول مثلا ، ثم علمنا بوقوع قطرة من البول في أحدهما غير المعيّن ، ففي هذه الصورة تجري

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٣٢٧.

٣٧٣

قاعدة البراءة في المشكوك منهما ، لأنّا نشك في أنّ العلم الإجمالي أثّر تكليفا آخر وراء التكليف المتعلّق بالنجس المعلوم تفصيلا أم لا ، فالأصل البراءة من التكليف الزائد.

ثانيها : أن يعلم بكون أحدهما المعيّن نجسا ثم وقع رطل من الخمر في أحدهما بحيث لم يستهلك فيه وتردد بينهما ، وفي هذه الصورة يجب الاحتياط ولا تجري البراءة ، لأنّ العلم الإجمالي بخمرية أحدهما قد أوجب تكليفا آخر باعتبار الخطاب المتعلق بالاجتناب عن عنوان الخمر وهو مغاير لعنوان النجس ، فهنا تكليفان يجب موافقة كل منهما حتى لو فرضنا أنّ الخمر وقع في الإناء النجس لم يسقط خطاب وجوب الاجتناب عنه ، فهو محرّم من جهتين ومرتكبه معاقب بعقابين.

ثالثها : أن يعلم بكون أحد الإناءين معيّنا خمرا ثم وقع رطل من الخمر في أحدهما وتردد بينهما ، ففيها أيضا يجب الاحتياط ، لأنّ المعلوم بالإجمال وإن كان متّحد العنوان مع المعلوم التفصيلي إلّا أنه أوجب خطابا آخر ، إذ لا شكّ أنّ الخمر الواقع في نفسه أيضا واجب الاجتناب كما أنه يجب الاجتناب عن الخمر الموجود في الإناء أولا ، فباعتبار خطاب وجوب الاجتناب عن الخمر الواقع يجب الاجتناب عن الإناء المشكوك أيضا مقدمة ، وهذا كلّه بخلاف ما نحن فيه فإنّه ليس هناك إلّا علم إجمالي واحد بوجوب أحد الأمرين إما الأقل أو الأكثر يجب الخروج عن عهدته ، ولا يعلم به إلّا بإتيان الأكثر كما في المتباينين بعينه وكون الأقل معلوم الوجوب تفصيلا لا ينفع في رفع الاحتياط ، لأنّ المفروض ارتباط أجزاء المركّب بعضها ببعض بحيث لو أتى بالأقل وكان الواجب واقعا هو الأكثر كان لغوا محضا ، ولم يحصل الامتثال بمقدار الأقل كما هو كذلك في الأقل والأكثر الاستقلالي. وإن شئت فقل إنّ الأقل المعلوم وجوبه تفصيلا لا

٣٧٤

يحصل العلم بالامتثال به إلّا بإتيان الأكثر ، لأنّه مردد بين كونه واجبا نفسيا أو غيريا بالفرض ، ولا يحصل العلم بامتثاله إلّا بما يحصل به الامتثال على كلا التقديرين ، ومن المعلوم أنّ امتثال الواجب الغيري لا يحصل إلّا بالإتيان بذلك الغير وإلّا كان لغوا ، فمن أجل إحراز الامتثال على هذا التقدير يجب الإتيان بالأكثر ، وقد تقدّم هذان الوجهان في السابق أيضا فتذكّر.

بقي شيء وهو أنّ المتمسك بالوجه الرابع تمسّك أوّلا بوجوب دفع الضرر المحتمل ، ولم يتعرّض المصنف لجوابه ، ومع ذلك جعل المستدل وجوب المقدمة العلمية عبارة أخرى عن وجوب دفع الضرر المحتمل والحال أنهما متغايران. والجواب أنّ الضرر وهو العقاب مقطوع على ترك الواقع المردد بين الأقل والأكثر ، فالمراد أنّ العقاب المقطوع به يحتمل أن يكون مترتبا على ترك الأكثر كما يحتمل أن يكون مترتبا على ترك الأقل ، فالضرر وإن كان محتملا إلّا أنه طرف العلم لا أنه محتمل ابتداء ، ولعله لذا عبّر بقوله وجوب دفع الضرر وهو العقاب المحتمل قطعا يعني العقاب القطعي المحتمل كونه مترتبا على ترك الأكثر ، فتدبّر.

قوله : وأما الخامس فلأنّه يكفي في قصد القربة ، إلخ (١).

هذا الكلام من المصنف موافق للتحقيق الذي قد مرّ منّا غير مرّة إلّا أنه مخالف لمذاقه من أنّ الأمر الغيري لا يصير منشأ لعبادية العبادة ، وقصده لا يؤثر في كون العمل عبادة على ما صرّح به في المتباينين ، بل في غير موضع من المتن وفي كتاب الطهارة في بحث الوضوء وفي مبحث مقدمة الواجب من أصوله وفي غير ذلك ، فتبصّر.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٣٢٧.

٣٧٥

قوله : لأن ترك الجزء عين ترك الكلّ فافهم (١).

لعلّ قوله فافهم إشارة إلى أنه لو سلّمنا ظهور الرواية في نفي الوجوب النفسي المشكوك من حيث خصوص ذاته لم يشمل الوجوب النفسي الثابت للجزء في ضمن الكل ، باعتبار أنّ الكل عين الأجزاء ، بل ظاهره الوجوب النفسي الاستقلالي ، نعم يمكن أن يقرّر بناء على الاستظهار المذكور هكذا : أنّ الوجوب النفسي للأكثر بما هو أكثر مشكوك فهو مرفوع بحكم الرواية ، أو أنّ العقاب المترتب على ترك الأكثر بما هو أكثر من حيث وجوبه النفسي مرفوع فافهم.

قوله : وأما لو عمّمناه لمطلق الآثار الشرعية ، إلخ (٢).

فنقول من الآثار وجوب السورة وجزئيتها للصلاة وهي غير معلومة فهي مرفوعة ، هذا على مذاق المصنف في توجيه حديث الرفع من عدم إمكان حمله على رفع نفس التسعة فلا جرم يقدّر المؤاخذة أو جميع الآثار التي منها الجزئية ، وأما على ما وجّهناه من إمكان حمله على رفع نفس التسعة أعني تنزيلا فالأمر أوضح ، فإنّ جزئية السورة مما لا يعلمون في نفسها فهي موضوعة.

قوله : ثم إنه لو فرضنا عدم تمامية الدليل العقلي المتقدم بل كون العقل حاكما بوجوب الاحتياط ، إلخ (٣).

حكومة أخبار البراءة في المقام على قاعدة الاشتغال الثابتة بحكم العقل حق ، لكن يبقى سؤال الفرق بين المقام ومسألة المتباينين المتقدمة حيث حكم

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٣٢٩.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٣٢٩.

(٣) فرائد الأصول ٢ : ٣٣٠.

٣٧٦

بتقدم قاعدة الاشتغال على أخبار البراءة مع أنّ المقامين متماثلان بالنسبة إلى حكم العقل بالاحتياط وشمول أخبار البراءة لا تفاوت بينهما ، وقد تعرّض المصنف في مسألة المتباينين لوجه تقديم الاحتياط العقلي على البراءة النقلية ، وهو أنه لمّا كان الحكم بالبراءة في كلا طرفي الشبهة موجبا للمخالفة القطعية الممنوعة بنفس أخبار البراءة حيث تدلّ بمفهومها أنّ الناس في ضيق ممّا علموا ولو بالعلم الإجمالي المقتضي للاحتياط ، لا جرم نلتزم إما بعدم شمول أخبار البراءة لمورد العلم الإجمالي أو نقول بعدم المنافاة بين أن يكون حكم العقل هو الإباحة ظاهرا من حيث نفسه وأن يكون حكمه وجوب الاحتياط من باب المقدمة العلمية ، فنقول يجري هذا البيان فيما نحن فيه بعينه حرفا بحرف ، نعم لو قلنا في مسألة المتباينين أنّ الإجماع أو حكم العقل بحرمة المخالفة القطعية ألجأنا في رفع اليد عن ظاهر أخبار البراءة في كلا الطرفين لم يجر فيما نحن فيه ، لأنّ الأقل متيقّن الوجوب وبإتيانه تحصل الموافقة الاحتمالية ، فلا مانع من إجراء البراءة بالنسبة إلى الجزء المشكوك ، وكذا لو قلنا بانصراف أخبار البراءة عن مورد العلم الإجمالي في المتباينين أمكن الفرق بينه وبين ما نحن فيه بمنع الانصراف عن مورد العلم الإجمالي الذي ينحلّ إلى العلم التفصيلي والشك البدوي فتجري بالنسبة إلى المشكوك فيه ، هذا كله على تقدير تقرير أصل الاشتغال فيما نحن فيه بنحو ما يقرّر في المتباينين.

وأما لو قرّرنا على ما ذكرنا أخيرا في السابق من أنّ الفراغ عن الأقل المعلوم تفصيلا لا يحصل إلّا بالإتيان بالأكثر ، لتردد وجوبه بين النفسي والغيري ، فحكومة أخبار البراءة على الاشتغال أوضح ، لأنّ الشارع أخبر بنفي العقاب من قبل الجزء المشكوك وإن كان واجبا في الواقع ، فينتفي موضوع حكم العقل بالاشتغال وهو احتمال العقاب.

٣٧٧

قوله : وقد توهم بعض المعاصرين عكس ذلك (١).

هو صاحب الفصول (رحمه‌الله) (٢) ذكر هذا الكلام في مبحث الصحيح والأعم.

قوله : وقد ذكرنا في المتباينين وفيما نحن فيه أنّ استصحاب الاشتغال لا يثبت لزوم الاحتياط (٣).

قد ذكرنا سابقا أنّ إثبات لزوم الاحتياط باستصحاب الاشتغال لا يبتني على القول باعتبار الأصل المثبت ، بل يحكم العقل ابتداء بعد جريان الاستصحاب بوجوب إتيان الأكثر تحصيلا للفراغ عما ثبت الاشتغال به ، لكن عرفت أيضا غير مرة أنّ أخبار البراءة حاكمة على استصحاب الاشتغال في خصوص المقام ونحوه مما كان الشك في ثبوت الاشتغال وعدمه مسببا عن الشك في وجوب الجزء المشكوك فإنه يجري أصالة عدم الوجوب في الشك السببي ويرتفع الشك المسبب بالاشتغال ، وهذا هو وجه حكومة أخبار البراءة على استصحاب الاشتغال على تقدير صحة ما في المتن من ابتنائه ترتّب حكم الاحتياط عليه على القول باعتبار الأصل المثبت ، وما اشتهر من تقدّم الاستصحاب على البراءة عند التعارض من حيث كون الاستصحاب ناظرا إلى الواقع في الجملة على ما ذكره في محلّه فإنه صحيح فيما كان أحدهما في عرض الآخر بأن لم يكن الشك في مجرى أحدهما مسببا عن الشك في مجرى الآخر.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٣٣٠.

(٢) الفصول الغروية : ٥١.

(٣) فرائد الأصول ٢ : ٣٣١.

٣٧٨

قوله : وحينئذ فإذا أخبر الشارع في قوله (عليه‌السلام) «ما حجب الله» وقوله (عليه‌السلام) «رفع» إلخ (١).

هذا بيان لحكومة أخبار البراءة على قاعدة الاشتغال أي وجوب المقدمة العلمية على ما قرره قبيل ذلك وتوضيحه : أنّ حكم العقل بوجوب المقدمة العلمية لقضية منجزية العلم الإجمالي معلّق على عدم ترخيص الشارع لترك بعض الأطراف فإن رخّص ترك ما لم يعلم جزئيته كما هو مفاد قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «ما حجب الله» إلى آخره ، وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «الناس في سعة» إلى آخره وغيرهما من الأخبار ارتفع موضوع حكم العقل بالاشتغال على ما حقّقناه غير مرة ، لكن هذا الوجه غير مرضي عند المصنف فإنه منكر للحكم العقلي المعلق ، إلّا أنه يقول بجواز الترخيص بجعل البدل على ما بيّنه في الشبهة المحصورة ، فليحمل كلامه هذا أيضا عليه بأن يقول لما أخبر الشارع بالأخبار المذكورة بنفي العقاب على ترك الجزء المشكوك الراجع إلى نفي العقاب على ترك الصلاة على تقدير كونها في الواقع هو الأكثر علمنا أنه جعل الأقل بدلا عنه على ذلك التقدير ، فيرجع الاشتغال بضميمة أخبار البراءة إلى الأقل بمعنى أنّ تركه موجب للعقاب إما لأنّه هو الواجب واقعا وإما لأنّه جعل بدلا عن الواجب الواقعي ، وأما على ما قررنا من كون حكم العقل بالاشتغال معلّقا على عدم الترخيص فيقال أيضا إنّ ترك الأقل موجب للعقاب مطلقا إما لأنه واجب واقعا وإما لأنه موجب لترك الأكثر الذي هو واجب واقعا.

فإن قلت : بعد الحكم بعدم وجوب الجزء المشكوك بأخبار البراءة في الظاهر يكون ترك الأقل على تقدير وجوب الأكثر في الواقع تجرّيا لا يترتب

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٣٣١.

٣٧٩

عليه إلّا عقاب التجري لو قلنا بحرمته وإلّا فلا عقاب عليه.

قلت : ليس كذلك ، لأنّ مفاد أخبار البراءة لا يزيد على أنّ العقاب على ترك الصلاة المستند إلى ترك الجزء المشكوك مرفوع ، فلا ينافي ذلك صحة العقاب على ترك الصلاة الواقعي المستند إلى ترك غير هذا الجزء المشكوك فيه. وبعبارة أخرى : رفع العقاب على مخالفة الواقع في موارد الأصول والأعذار الشرعية إنما هو فيما إذا اعتذر المكلّف في مخالفة الواقع بما جعله الشارع عذرا له وعمل بما جعله حكما شرعيا ظاهريا له في حال العذر كما مرّ تحقيقه غير مرة ، وحينئذ فإن أتى بالأقل فهو معذور في ترك الواجب الواقعي إن كان هو الأكثر ، وأما إذا ترك الأقل فيصحّ عقابه على ترك الواجب الواقعي وهو الأكثر لأنّه تركه من غير عذر يصحّ أن يعتذر به شرعا ، وكيف كان فظاهر كلام صاحب الفصول بل صريحه أنّه زعم أن مفاد أخبار البراءة مساوق للبراءة العقلية في أنّ موردها ما إذا لم يكن للمكلف طريق إلى وجه عمله لا إلى الحكم الواقعي ولا الظاهري ، وليس كذلك بل مفادها أنه كل ما جهل حكمه الواقعي فهو مرفوع عنه ولا يثبت اشتغال المكلف به ، وحينئذ فلا يحكم العقل باشتغال ما سوى المعلومات ، وزعم أيضا أنّ نفي وجوب الجزء بأخبار البراءة لا ينتفي معه احتمال جزئية الجزء للواجب المعلوم إجمالا ، والعقل يحكم بلزوم إتيان ذلك المشكوك من هذه الجهة مقدمة للعلم بإتيان المعلوم بالإجمال ، ولذا جعل التحقيق التمسّك بهذه الأخبار على نفي الحكم الوضعي من الجزئية والشرطية ، ولا يخفى أنّ نفي الوجوب الغيري للجزء يكفي في رفع الاشتغال بما هو هذا الجزء جزء له واقعا فيكتفى به عن نفي الجزئية.

٣٨٠