حاشية فرائد الأصول - ج ٢

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-089-6
الصفحات: ٥٩٤
الجزء ٢ الجزء ٣

١
٢

٣
٤

ملاحظة هامة

قد فاتنا التنبيه في المجلد الأول على أن للمقرر وهو آية الله الشيخ محمد إبراهيم اليزدي (قدس‌سره) ملاحظات على كلام أستاذه آية الله العظمى السيد الطباطبائي اليزدي (قدس‌سره) كان قد ذكرها في طيّات التقريرات ، ولكنّا نقلناها إلى الهامش ، سوى بعض الموارد التي بقيت مورد الشك لنا فتركناه في المتن وعلّقنا عليه بقولنا : كما يحتمل كونه من المتن يحتمل كونه من المقرر ، فالرجاء من الأخوة الأعزاء أن ينظروا إلى ذلك بعين الاعتبار.

لجنة التحقيق

٥
٦

مباحث الشك

الأصول العملية

أصالة البراءة

٧
٨

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله : والظنّ يمكن أن يعتبر في الطريق المظنون لأنّه كاشف عنه ظنّا (١).

هكذا في أكثر النسخ ، وفي بعضها في الطرف المظنون بدل قوله في الطريق المظنون ، فعلى الأول يكون المعنى أنّ الظن يمكن أن يعتبر طريقا إلى الحكم الشرعي الواقعي لكن بجعل الشارع لعدم كونه بنفسه طريقا ، وهذا في قبال الشك حيث لا يمكن جعله طريقا لأنّ الظن كاشف عن الواقع ظنّا بخلاف الشك. وبعبارة أخرى : يمكن أن يرد من الشارع أنّ الظن مطلقا أو في مورد كذا حجة واجب الاتباع ولا يمكن أن يقال إنّ الشك واجب الاتباع.

وعلى الثاني يكون المعنى أنّ الظن يمكن أن يعتبر في الطرف المظنون في مقابل الطرف الموهوم فإنّه لا يمكن اعتبار الوهم وجعله حجة لازم الاتباع بناء على ما سيأتي من أنّ ما يجعل طريقا تعبّديا لا بدّ وأن يكون فيه جهة كشف إلى الواقع ولو نوعا كخبر العادل مثلا وتأتي تتمّة الكلام.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٩ (يوجد هنا اختلاف في نسخ الفرائد).

٩

قوله : وأما الشك فلمّا لم يكن فيه كشف ـ إلى قوله ـ كان حكما ظاهريا (١).

يستفاد من ظاهر كلام المتن هنا أنّ الحكم الوارد في مورد الشكّ لا بدّ وأن يكون حكما ظاهريا يطلق عليه الواقعي الثانوي في قبال الحكم الواقعي الأولي ، والدليل الدال عليه يسمى أصلا يطلق عليه الدليل الفقاهتي في مقابل الدليل الاجتهادي ، ويظهر سرّ ذلك مما ذكره في أواخر رسالة الاستصحاب في أوّل عنوان تعارض الأصول قال : ثم المراد بالدليل الاجتهادي كل أمارة اعتبرها الشارع من حيث إنّها تحكي عن الواقع ويكشف عنه بالقوّة ، وتسمى في نفس الأحكام أدلة اجتهادية وفي الموضوعات أمارة معتبرة ، فما كان مما نصبه الشارع غير ناظر إلى الواقع ، أو كان ناظرا لكن فرض أنّ الشارع اعتبره لا من هذه الحيثية بل من حيث مجرّد احتمال مطابقته للواقع فليس اجتهاديا وهو من الأصول ، وإن كان مقدّما على بعض الأصول الأخر (٢) انتهى موضع الحاجة.

ومحصّله : أنّه يعتبر فيما يعتبر أمارة ويكون دليلا اجتهاديا أمران : كونه في نفسه ناظرا إلى الواقع ، وأن يكون اعتباره من حيث كونه ناظرا إلى الواقع ، فلو كان اعتباره بدون أحد القيدين يكون أصلا عمليا تقدّم عليه الأدلة الاجتهادية.

والتحقيق : أنّ الدليل الاجتهادي أعمّ من ذلك ، ومناطه جعل الشارع مؤدّاه واقعا تنزيلا سواء كان مؤدّاه ناظرا إلى الواقع أم لا ، ففي مورد الشك الحقيقي يمكن أن يكون الحكم الوارد فيه دليلا اجتهاديا كما لو استفيد من دليله

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ١٠.

(٢) فرائد الأصول ٣ : ٣١٨ ـ ٣١٩.

١٠

جعل أحد طرفي الشك واقعا يعني تنزيلا ، كما لا يبعد أن يكون اعتبار يد المسلم وأصالة الصحّة في فعل المسلم من هذا القبيل ، وأما إذا استفيد منه أنّ الشاك يأخذ بالاحتمال الكذائي فهو الأصل.

والحاصل : أنّ الأصل ما يدل على حكم العمل من غير تنزيل مؤدّاه منزلة الواقع ، والدليل الذي يقدّم مطلقا على الأصل ما يدلّ على كون الواقع مؤدّاه حقيقة كما في العلم أو تنزيلا كما في سائر الأدلّة ، سواء كان في نفسه ناظرا إلى الواقع أم لا.

قال المصنف في رسالة الاستصحاب في ذيل العبارة التي حكيناها آنفا : قد ذكرنا أنّه قد يكون الشيء غير الكاشف منصوبا من حيث تنزيل الشارع الاحتمال المطابق له منزلة الواقع (١) انتهى. وهذا الكلام قريب من التحقيق الذي ذكرناه أو عينه ، وبين كلاميه تدافع على الظاهر.

فإن قلت : كيف يمكن جعل ما ليس بطريق أصلا وبالمرة طريقا كأحد طرفي الشك؟

قلت : بناء على أنّ الأحكام الوضعية مجعولة فوجه الجعل واضح ، وأما بناء على نفي الأحكام الوضعية كما هو مختار المصنّف فنقول إنّه في حد جعل سائر الأدلة والأمارات التي لها جهة كشف في الجملة وليست طريقا بنفسها ، فإن كان المراد هناك ترتيب الآثار التكليفية فليكن هاهنا كذلك ، وإن كان غيره فهنا كذلك حرفا بحرف من غير تفاوت بالمرة.

إذا عرفت أنّه يمكن أن يجعل الشيء في مورد الشك دليلا اجتهاديا كما

__________________

(١) فرائد الأصول ٣ : ٣١٩.

١١

أنه قد عرفت سابقا أنّه يمكن اعتبار ما كان بنفسه ناظرا إلى الواقع أصلا إذا كان اعتباره لا من حيث كونه ناظرا إلى الواقع وكاشفا عنه يعني لم يجعل مؤدّاه واقعا ، فإذا كان في ظاهر الدليل الدالّ على اعتبار الشيء ما يدل على اعتباره بوجه الدليلية أو الأصل فهو ، وإلّا فإن كان ذلك الشيء في نفسه ناظرا إلى الواقع وله جهة كشف عن الواقع فعلا أو نوعا فلا يبعد أن يصير ذلك قرينة على جعله بوجه الدليلية وإلّا فلا يثبت إلّا ما يترتّب على الأصل فتقدّم عليه الأدلّة الاجتهادية ويعارض الأصول.

تذكرة :

قد أشرنا في أول رسالة القطع في الجملة وفي أول رسالة الظن مفصّلا إلى التناقض المورد بين ثبوت الحكم الواقعي مطلقا حتى في حال الجهل به بناء على القول الصواب من التخطئة ، وبين الحكم الظاهري على تقدير التخلّف عن الواقع ، وأنّ ظاهر كلام المصنف هاهنا دفعه باختلاف موضوع الحكمين ، وذكرنا ما فيه فراجع.

قوله : لمناسبة مذكورة في تعريف الفقه والاجتهاد (١).

لا يحضرني ذكر المناسبة التي أشار إليها المصنف لأحد من الأصوليين ، ولعل المناسبة أنّهم عرّفوا الاجتهاد ببذل الفقيه وسعه في تحصيل الظنّ بالحكم الشرعي ، ومن المعلوم أنّ الأدلة الاجتهادية توجب الظنّ بالأحكام الواقعية ، فناسب توصيفها بالاجتهادية ، وأما بالنسبة إلى الأحكام الظاهرية العملية فإنّها

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ١٠.

١٢

توجب القطع لا الظنّ ، وعرّفوا الفقه بأنّه العلم بالأحكام الشرعية الفرعية إلى آخره ، والأحكام الظاهرية العملية كالأصول أحكام معلومة في مقام العمل ، فناسب توصيفها بالفقاهتي ، وإن كانت بالنسبة إلى الأحكام الواقعية قد لا توجب ظنّا فضلا عن العلم ، والله أعلم.

قوله : ومما ذكرنا من تأخّر مرتبة الحكم الظاهري عن الحكم الواقعي (١).

كلامه هذا يدل على أنّ وجه تقديم الأدلة الاجتهادية على الأصول من باب الورود ، ثمّ وجّه كونه من باب التخصيص بقوله : ويمكن أن يكون هذا الإطلاق على الحقيقة إلى آخره ، لكن بالنسبة إلى الأدلة غير العلمية ، ثم اختار أنّه من باب الحكومة عند قوله : ولكنّ التحقيق أنّ دليل تلك الأمارة إلى آخره ، مع تفصيل بين الأصول العقلية والشرعية التعبدية ، فاختار الورود في الأول منهما.

ولا بأس بالإشارة إلى الفرق بين التخصيص والتخصّص والحكومة والورود والتنزيل والتفسير كي يتّضح المرام فنقول :

إنّ التخصيص عبارة عن إخراج بعض الأفراد الداخلة تحت ما جعل موضوعا للحكم ظاهرا عن الموضوع باعتبار شمول ذلك الحكم ، وإليه يرجع الحكومة في اللب بتقريب يأتي ، وإن كان يمكن إرجاعه إلى التخصّص أيضا ، وسيتّضح ذلك.

والتخصّص عبارة عن خروج الشيء عن موضوع الحكم بنفسه ، مثلا لو

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ١١.

١٣

قيل : أكرم العلماء فإخراج زيد العالم تخصيص وخروج زيد الجاهل تخصّص ، ويرجع إليه الورود بل هو قسم من التخصّص ، فالتخصّص أعمّ من الورود لأنّ الورود عبارة عن كشف دليل أي الوارد عن خروج مورده عن موضوع دليل آخر أعني المورود.

وبعبارة أخرى : يكون أحد الدليلين سببا لخروج الفرد عن موضوع الدليل الآخر بحيث لو لم يرد الدليل الوارد كان داخلا في موضوع الدليل المورود وكان من أفراده ، وهذا كالعلم بالنسبة إلى سائر الأصول فبمجرّد وجوده يخرج متعلّقه عن موضوع أدلّة الأصول وجدانا لارتفاع الشك والتحيّر واقعا ، والتخصّص أعم من هذا ومن خروج الشيء عن موضوع الحكم لا بمعونة دليل آخر كخروج زيد الجاهل عن موضوع أكرم العلماء في المثال السابق ، وتوهّم التعارض بين الوارد والمورود في النظر البدوي لمكان الدليلين ، لكن بعد أدنى تأمّل يظهر عدم التعارض واختلاف موضوعهما وعدم اجتماعهما ، ويقرب الورود لسان التفسير في عدم المعارضة مع المفسّر ـ بالفتح ـ بل أظهر ، فلو قال : أكرم العلماء أعني عدولهم فلا يشكّ أحد في تقديم المفسّر ـ بالكسر ـ والحكم بأنّ موضوع حكم وجوب الإكرام خصوص العدول ، وإن كان شبيها بالتخصيص بل لا يبعد إرجاعه إليه.

وأما لسان التنزيل كما لو ورد : لا صلاة إلّا بوضوء ، وورد التيمم وضوء ، فلا تعارض بينهما أيضا ، لأنّ الدليل الثاني كافل لتعميم موضوع الشرط المستفاد من الدليل الأول ، فكأنّه قال أوّلا لا صلاة إلّا بوضوء أو تيمم ، ويمكن إرجاعه إلى التخصيص أيضا كما يظهر بالتأمّل ولا إشكال.

وكيف كان ، لا إشكال في أنّ الأصول بأجمعها مورودة بالنسبة إلى العلم

١٤

الوجداني لوضوح ارتفاع موضوعها بحصول القطع بالواقع ، وكذا ورود الأدلة الاجتهادية مطلقا قطعية كانت أو ظنّية على أصالة البراءة العقلية والاحتياط والتخيير مطلقا ، ضرورة كون موضوع الأول عدم البيان مطلقا لصدق البيان على الدليل الظني الذي قام على اعتباره دليل معتبر ، وموضوع الثاني احتمال العقاب المرفوع بقيام الدليل الظني الثابت الحجية ، وموضوع الثالث التحيّر وعدم الترجيح المرتفع بورود الدليل الظني.

قيل : وكذا الاستصحاب أيضا مورود بالنسبة إلى الأدلة الظنية ، وقد حكى المصنف ذلك القول في آخر رسالة الاستصحاب في ثالث الأمور التي يتحقق به محلّ جريان الاستصحاب بقوله : وربما يجعل العمل بالأدلة في مقابل الاستصحاب من باب التخصّص بناء على أنّ المراد من الشكّ عدم الدليل والطريق والتحير في العمل ، ومع قيام الدليل الاجتهادي لا حيرة.

وإن شئت قلت : إنّ المفروض دليلا قطعي الاعتبار فنقض الحالة السابقة نقض باليقين.

وفيه : أنّه لا يرتفع التحيّر ولا يصير الدليل الاجتهادي قطعي الاعتبار في خصوص مورد الاستصحاب إلّا بعد إثبات كون مؤدّاه حاكما على مؤدّى الاستصحاب وإلّا أمكن أن يقال إنّ مؤدى الاستصحاب وجوب العمل على الحالة السابقة مع عدم اليقين بارتفاعها ، سواء كان هناك الأمارة الفلانية أم لا ، ومؤدّى دليل تلك الأمارة وجوب العمل بمؤدّاه خالف الحالة السابقة أم لا ، ولا يندفع مغالطة هذا الكلام إلّا بما ذكرنا من طريق الحكومة كما لا يخفى (١) انتهى.

وفي كل من التوجيه والجواب نظر :

__________________

(١) فرائد الأصول ٣ : ٣١٥ ـ ٣١٦.

١٥

أما الأول فلأنّ ظاهر قوله (عليه‌السلام) : لا تنقض اليقين إلّا بيقين مثله (١) اليقين الوجداني لا اليقين التنزيلي ، فنقض اليقين في الفرض المذكور بالشك الوجداني لا باليقين كما تخيّله.

وأما الثاني فلأنّه لا حاجة إلى توسيط طريق الحكومة على الفرض الذي تخيّله الموجّه وهو أن يكون المراد باليقين في المستثنى أعمّ من اليقين الوجداني والتنزيلي على ما يظهر تسليمه من المصنف ، لأنّ ما قام عليه دليل علمي في عرض العلم على هذا الفرض البتّة ، فكما أنّ الاستصحاب مورود بالنسبة إلى العلم فكذا بالنسبة إلى ما هو بمنزلته ، فتدبّر جيدا.

وأما الحكومة فهي عبارة عن كون أحد الدليلين ناظرا إلى الآخر وشارحا له بمدلوله اللفظي بمعونة لفظ واقع في الدليل الحاكم أو بمعونة سياق نفهم منه ذلك كما لو قال : أكرم العلماء وقال : لا تكرم فسّاقهم ، فبسبب رجوع ضمير فسّاقهم إلى العلماء يفهم أنّه بصدد شرح قوله : أكرم العلماء ، وأنّ حكم وجوب الإكرام مختص بغير الفسّاق ، وهكذا لو قال : لا تكرم الفسّاق وعلم من سياق الكلام أنّه ناظر إلى شرح قوله أكرم العلماء.

والفرق بينها وبين التخصيص أنّ الحاكم بتقديم الخاص على العام هو العقل بعد العلم بالتعارض وأظهرية الخاص بالنسبة إلى العام في مقدار مدلول الخاص.

وأما سرّ تقديم الحاكم على المحكوم ، أنّ الدليل الحاكم بمدلوله اللفظي قاض بأنّ المراد من العام المحكوم غير مورد الدليل الحاكم ، مثلا لو قيل : بأنّ

__________________

(١) ورد مضمونه في الوسائل ١ : ٢٤٥ / أبواب نواقض الوضوء ب ١ ح ١ وغيره.

١٦

قوله : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(١) معناه أنّ الأحكام المجعولة المستكشفة بالأدلة المعهودة ما جعل الله أفرادها الحرجية ، فهو من باب الحكومة كما هو مختار المصنف ، ولو قيل : إنّ معناه أنّ الله لم يجعل حكما حرجيا في الشريعة من غير نظر إلى سائر الأدلة الدالة على المجعولات الشرعية فهو من باب التعارض والتخصيص لو قدّمناه ، ويحتمل الوجهين قوله (عليه‌السلام) : «لا سهو في النافلة» (٢) وقوله (عليه‌السلام) : «لا تعاد الصلاة إلّا من خمسة» (٣) وإن كان الأظهر في الكل الحكومة.

ثم اعلم أنّ الحكومة إما قصدية وإما قهرية ، والمراد بالأول أن يكون المتكلّم بالدليل الحاكم قاصدا لشرح دليل المحكوم بتخصيصه أو تقييده كأغلب الأمثلة المذكورة ، ومن هذا الباب عند المصنف حكومة الأدلة الاجتهادية بالنسبة إلى الأصول العملية كالاستصحاب والبراءة الشرعية ، لكنه خلاف التحقيق.

والمراد بالثاني أن يكون الدليل الحاكم مجعولا على وجه يلزم منه سقوط المحكوم عن الاعتبار فيما يقابل الدليل الحاكم ، وذلك كما في حكومة الأدلة الاجتهادية على الأصول العملية الشرعية على التحقيق عندنا ، فإنّ من الواضح أنّ قوله (عليه‌السلام) صدّق العادل لم يقصد منه إلغاء الأصل المجعول في مورد خبر العادل على خلافه كما اختاره المصنف في أول رسالة التعادل والترجيح ، بل نقول إنّ لازم جعل الخبر حجة على هذا الوجه أي بأن يقول صدّق العادل يعني اجعل مفاد قوله واقعا والغ احتمال الخلاف وكن كما أنك مدرك للواقع

__________________

(١) الحج ٢٢ : ٧٨.

(٢) الوسائل ٨ : ٢٤١ / أبواب الخلل في الصلاة ب ٢٤ ح ٨.

(٣) الوسائل ٧ : ٢٣٤ / أبواب قواطع الصلاة ب ١ ح ٤.

١٧

ومتيقّن به ، أن يسقط الأصول المجعولة في مورده ، ضرورة سقوطها مع العلم بالواقع وجدانا ، والمفروض أنّه قد نزّل خبر العادل منزلة العلم في الآثار والعمل ، فيلزم من هذا الجعل والتنزيل سقوط الأصل المحكوم وإلّا لم يكن منزّلا منزلة العلم ، وقد تقدّم في رسالة الظن بعض الكلام في ذلك في ذيل قاعدة الحرج عند التعرّض لدليل الانسداد في المقدمة الثالثة ، ولعلنا نتكلّم فيه أيضا عند تعرّض المصنف له في أواخر الاستصحاب وأوائل التعادل والترجيح.

ثم إنّ الحاكم قد يكون ناظرا إلى المحكوم بالتصرّف في الحكم دون الموضوع كما في حكومة أدلة الحرج والضرر على سائر أدلة الأحكام ، فإنّ الوضوء الحرجي أو الضرري مثلا وضوء قد رفع حكمه أي الوجوب ، وقد يكون بالتصرّف في موضوع الدليل المحكوم ويتبعه الحكم ، وهذا تارة يكون بتضييق دائرة موضوع المحكوم وأخرى بتوسيع الدائرة وتعميمها.

فالأول كما في حكومة الأدلة الاجتهادية على الأصول العملية فإنّ قوله (عليه‌السلام) : صدّق العادل بمعنى ألغ احتمال الخلاف وكن متيقّنا لما أخبره غير شاك فيه ، فقد دلّ على خروج مورد الخبر عن المشكوك جعلا وتنزيلا ، وصار موضوع حكم الأصل مثل قوله كل مشكوك حكمه البراءة أو الاستصحاب مثلا أضيق دائرة وأقل أفرادا مما كان موضوعا في ظاهر دليل الأصل.

والثاني كما في حكومة الأصول والأمارات الموضوعية على الأدلة مثل ما لو شك في كون مائع خمرا أو خلا فباستصحاب الخمرية السابقة أو قيام البيّنة بكونه خمرا يحكم بتوسيع دائرة موضوع الدليل المحكوم أعني قوله (عليه‌السلام) : اجتنب عن الخمر وتعميمه فكأنه قال : اجتنب عن الخمر وعن بعض ما

١٨

ليس بخمر ولكن قامت البيّنة على خمريّته أو كان مستصحب الخمرية ، لكن لا يخفى أنّ هذا إنّما يتمّ على القول بأنّ الأحكام الظاهرية أحكام شرعية لا أنّها أحكام عذرية.

ثم لا يخفى أنّا لا نعني من توسيع دائرة الموضوع توسيع دائرة ما جعل موضوعا لفظا بأن يراد منه ما هو أعم مما يكون لفظ الموضوع ظاهرا فيه ، بل المراد توسيع الموضوع بحسب لبّ المقصود وذلك كما في أدلة التنزيلات صريحا كما إذا قال (عليه‌السلام) : لا صلاة إلّا بوضوء ثم قال : التيمم وضوء لمن لم يتمكّن من استعمال الماء ، فإنّ الثاني حاكم على الأول بتوسيع دائرة موضوع الشرط ، لا بمعنى أن المراد من قوله (عليه‌السلام) : لا صلاة إلّا بوضوء ، لا صلاة إلّا بأحد الأمرين من الوضوء والتيمم بقرينة قوله (عليه‌السلام) : التيمم وضوء ، بل بمعنى أن الدليل الثاني يجعل التيمم أيضا من أفراد شرط تحقّق الصلاة في بعض الموارد ، فيصير محصّل مجموع أصل دليل الشرط ودليل التنزيل أنّه لا صلاة إلّا بأحد الأمرين من الوضوء والتيمم.

والحاصل أنّه يجعل في هذا القسم بعض ما ليس من أفراد موضوع الدليل المحكوم موضوعا لحكمه بواسطة ورود الدليل الحاكم ، وهذا معنى تقديم الحاكم على المحكوم هاهنا ، وهذا معنى قول المصنف في تحرير ما يراد من الحكومة في أواخر رسالة الاستصحاب ، قال : ومعنى الحكومة على ما يجيء في باب التعادل والتراجيح أن يحكم الشارع في ضمن دليل بوجوب رفع اليد عما يقتضيه الدليل الآخر لو لا هذا الدليل الحاكم ، أو بوجوب العمل في مورد بحكم لا يقتضيه دليله لو لا الدليل الحاكم (١) ، انتهى ، فإنّ ترديده هذا ناظر إلى

__________________

(١) فرائد الأصول ٣ : ٣١٤.

١٩

قسمي الحكومة من تضييق الدائرة وتوسيعها فتدبّر.

فإن قلت : إنّ ما ذكرت من أنّ الحكومة قد تكون بالتصرّف في موضوع الحكم بجعل ما هو غير الموضوع

موضوعا تنزيلا إنّما يتمّ على مذاق غير المصنف ممن يقول بأنّ الأحكام الوضعية مجعولة ، وأما على مذاق المصنف المنكر لها فيرجع هذا القسم إلى القسم الأول ، لأنّ جعل الموضوع عند المصنف لا معنى له إلّا ترتيب آثاره وهذا في قوّة جعل الحكم من الأول ، فالتصرّف في الموضوع قد رجع إلى التصرّف في الحكم أيضا.

قلت : أولا : إنّ الحق المحقق في محلّه ثبوت الأحكام الوضعية في قبال الأحكام التكليفية.

وثانيا : أنّ المصنف لا ينكر أنّ جعل الأحكام في هذا القسم بلسان جعل الموضوع وإن كان الغرض منه جعل الحكم ، فثبت أنّ للحكومة قسمين : قسم يكون بالتصرّف في الحكم بلسان التصرف في الحكم ، وقسم يكون بالتصرّف في الحكم بلسان التصرّف في الموضوع ، وهذا المقدار كاف فيما أردنا في مقام التقسيم.

بقي شيء : وهو أنّ قوله (عليه‌السلام) : «لا تعاد الصلاة إلّا من خمسة» الخ (١) ، يمكن أن يكون حكومته على كل واحد من أدلة الأجزاء والشرائط من قبيل رفع الحكم أعني الحكم الوضعي أي الجزئية ، ويمكن أن يكون من باب رفع بعض مقتضيات الجزئية ، وعلى الثاني يكون قسما رابعا غير الثلاثة المتقدمة.

__________________

(١) الوسائل ٧ : ٢٣٤ / أبواب قواطع الصلاة ب ١ ح ٤.

٢٠