حاشية فرائد الأصول - ج ٢

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-089-6
الصفحات: ٥٩٤
الجزء ٢ الجزء ٣

العيني التعييني النفسي.

قوله : ومن سياق جلّ الأخبار الواردة في ذلك (١).

استشهد على كون أوامر الاحتياط للإرشاد بوجوه ثلاثة : الأول أنّ سياق جلّ الأخبار في المقام تقرير حكم العقل الظاهر أنه للإرشاد كحكمه بالتحرّز عن الحرام الواقعي والضرر القطعي نظير حكمه بالإطاعة. الثاني : أنّ ظاهر الأخبار حصر حكمة الاجتناب عن الشبهة في التحرّز عن الهلكة الواقعية. الثالث : اقتران الاحتياط مع الاجتناب عن الحرام المعلوم في كونه ورعا المقتضي لاتّحاد جهة رجحانهما ، ومن المعلوم أنّ الأمر باجتناب المحرمات الواقعية ليس إلّا للإرشاد ، فكذا الأمر بالاجتناب عن المحرمات المحتملة.

قوله : ولا يبعد التزام ترتّب الثواب عليه من حيث إنّه انقياد (٢).

وقد ضرب على هذه العبارة إلى آخره في بعض النسخ المتأخرة ، ولكن سيصرّح في المتن في أواخر التنبيه الرابع بالتزام ترتّب المدح والثواب على ترك ما يحتمل أن يكون تركه مطلوبا ، وعلى هذا لا وجه للاستشكال في أنّ الاحتياط مطلوب نفسي ومستحبّ شرعي باعتبار هذا العنوان الثانوي الطارئ وإن لم يكن الفعل بعنوانه الأوّلي مطلوبا بوجه ، لكن هذا لا يثبت كون أوامر الاحتياط في الأخبار الواردة للاستحباب ، بل حسن الانقياد ذاتا على تقدير تسليمه مما يستقل به العقل كقبح التجرّي بعينه لا فرق بينهما ، فكما أنّ العقل يحكم بأن كون العبد في مقام إطاعة المولى وإتيانه بما يحتمل كونه مطلوبا له حسن ذاتا ، كذلك يحكم بأنّ كونه في مقام مخالفة المولى وإتيانه بما يحتمل أو

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ١٠١.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ١٠٣.

١٦١

يتيقّن أنه مبغوض المولى قبيح ذاتا ، فما سيأتي من الماتن في التنبيه الرابع من الفرق بينهما وأنّ العقل يحكم بالأول دون الثاني غير واضح ، وقد مرّ منا في مسألة التجري من رسالة القطع أنّ التحقيق أنّ مناط المعصية الحقيقية أيضا هو الجرأة على المولى وهتك احترامه بما يعتقد كونه مخالفة له ، ومناط الإطاعة الحقيقية أيضا كون العبد في مقام الانقياد لأوامر المولى ، ولا ريب في استقلال العقل بقبح الأول وحسن الثاني ذاتا ، وهذا المعنى بعينه موجود في المعصية والإطاعة الحكميتين ، فإذن لا إشكال في كون الاحتياط مستحبا شرعيا بعد الحكم العقلي المذكور بقاعدة الملازمة بين حكم العقل والشرع على المذهب المشهور المنصور ، ولا ينافي ذلك ما مرّ من المصنف من استشهاده بالوجوه الثلاثة السابقة على أنّ أوامر الاحتياط للإرشاد ، لأنّا نقول للاحتياط جهتان من إحدى الجهتين إرشادية وكانت الأخبار ناظرة إليها بالوجوه الثلاثة ، ومن الأخرى مولوية بملاحظة عنوان الانقياد وكون العبد في مقام إطاعة المولى.

فإن قلت : إنّ هذا الحسن الذي يدركه العقل في موضوع الاحتياط يدركه في إتيان مقدمات الواجب للتوصّل إلى الواجب وفي مقدّمات الحرام أيضا ، فيلزم أن يكون جميع المقدّمات لفعل الواجب وترك الحرام مستحبا شرعيا يترتّب عليه الثواب ذاتا وإن اتفق أنه لم يفعل ذلك الواجب أيضا.

قلت : لا ضير في التزامه إذا فعلها بقصد التوصل إلى موافقة الأوامر والنواهي الشرعية ، وكيف كان فقد تحصّل أن الاحتياط قد اجتمع فيه جهتا الإرشادية لما يقصد إدراكه به والمولوية من جهة الحسن الذاتي الثابت لعنوان الانقياد المنطبق على الفعل ، ومن جهة ما استظهره المصنف من بعض الأخبار الذي أشار إليه بقوله : ولكنّ الظاهر من بعض الأخبار المتقدمة ، إلى آخره.

١٦٢

وربما يحتمل التفصيل بين موارد الاحتياط فيحكم في بعضها بالرجحان النفسي وهو فيما لم يكن في ترك الاحتياط احتمال الوقوع في محذور من عقاب أو مفسدة أخروية أو دنيوية كما في ترك الاحتياط في الشبهة التحريمية في مسألتنا على مذهب الأصوليين ، وفي بعضها الآخر بالرجحان الإرشادي وهو فيما كان ترك الاحتياط فيه موجبا للوقوع في المفسدة كما في الاحتياط في الشبهة المحصورة على مذهب المشهور ، وفي مسألتنا على مذهب الأخباريين.

والحق ما مرّ من اجتماع جهتي الإرشادية والمولوية في جميع الموارد.

لا يقال لا معنى للإرشادية في القسم الأول من القسمين المذكورين في هذا التفصيل لأنّه لا يدرك بالاحتياط شيء يكون الأمر بالاحتياط إرشادا إليه من دفع عقاب أو مفسدة أخرى بالفرض. لأنّا نقول يكفي في ذلك إدراك مصلحة امتثال النهي على تقدير ثبوت النهي في الواقع وإن لم يكن هناك عقاب ولا مفسدة يحترز عنه.

ثم لا يخفى أنه إن قلنا بالرجحان النفسي والاستحباب الشرعي في الاحتياط لا يحرز به عنوان المحرّم المحتمل أو الواجب المحتمل ، مثلا لو قلنا برجحان الاحتياط واستحبابه عن المائع المشكوك الخمرية بالاجتناب لا يثبت به عنوان الخمرية للمشكوك البتّة ، وكذا لو قلنا باستحباب إعادة الصلاة التي احتمل اشتمالها على خلل لا يثبت به عنوان الصلاتية ، نعم لو قلنا بأنّ الصلاة ليست إلّا خصوص هذه الأفعال الخاصة مع كونها مأمورا بها ولا عنوان لها واقعا غير هذا ، فيتحقق عنوانها بمجرّد تعلّق الأمر الشرعي بها من باب الاحتياط.

١٦٣

قوله : لأنّ معنى الإباحة الإذن والترخيص فتأمل (١).

لعل وجهه أنّ الإباحة الواقعية معناها الإذن والترخيص الشأني ، ولا تتحقق فعليته إلّا على تقدير العلم بها ، ولا ينافي ذلك المنع عن الفعل من حيث إنه مجهول الحكم كما هو شأن الأحكام الواقعية في كلّ مورد إذا كانت مجهولة.

قوله : فلو شكّ في حلّ أكل حيوان مع العلم بقبوله التذكية (٢).

قد يقال : إنّ هذا إنما يتم لو ثبت أنّ التذكية التي هي مأخوذة في موضوع طهارة الجلد واللحم متّحدة الحقيقة مع التذكية التي مأخوذة في موضوع جواز أكل اللحم ، وأما لو احتملنا مغايرتهما في الحقيقة فتجري أصالة عدم التذكية كما في الشق الثاني وإن علمنا بقبوله للتذكية بالمعنى الأول ، والحق أنّ للتذكية معنى واحدا كلما تحققت ترتب عليها آثارها ، غاية الأمر اختلاف آثارها ، ففي مثل ابن آوى أثرها مجرّد طهارة اللحم والجلد ، وفي مثل الخزّ بإضافة جواز الصلاة في جلده أيضا ، وفي مثل الشاة بإضافة جواز أكل اللحم أيضا ولا نحتمل اختلاف الحقيقة.

قوله : لأصالة عدم التذكية لأنّ من شرائطها قابلية المحلّ (٣).

هذا إنما يتم لو كان حقيقة معنى التذكية أمرا واقعيا أو جعليا يحصل بسبب الذبح بالحديد مع التسمية إلى آخر الشرائط ، نظير الطهارة التي هي في المشهور أمر معنوي يحصل بالوضوء أو الغسل ، وأما لو قلنا بأنّ التذكية ليست إلّا الذبح المشروط بالشرائط المذكورة كما هو كذلك على التحقيق نظير القول

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ١٠٦.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ١٠٩.

(٣) فرائد الأصول ٢ : ١٠٩.

١٦٤

بأنّ الطهارة ليست إلّا نفس الوضوء كما هو الحق المختار ، فلا يجري حينئذ أصالة عدم التذكية بعد الذبح لأنّها محققة بالوجدان ، ولا معنى للشكّ في قابليته للتذكية ، وإن كان هناك شكّ فليس إلّا من حيث الحلية والحرمة فتجري أصالة الحلّ ويكتفى به من غير مزاحم وهو واضح ، لكن ظاهر المشهور هو الأول وأنّ التذكية صفة وجودية تحصل بالذبح مع الشرائط ، كما أنّ مذهبهم أنّ الطهارة صفة وجودية واقعية أو جعلية تحصل بالوضوء ، وعلى هذا التقدير أيضا لنا أن نقول بعدم جريان أصالة عدم التذكية ، لأنّ الشك في قابلية التذكية ناش عن الشك في الحلية الذاتية الشأنية ، إذ لو علمنا بالحلّية الذاتية لا نشك في قابليته للتذكية ، فلو أجرينا أصالة الحلّ وصار حلالا ظاهرا ارتفع الشكّ في القابلية كما هو الشأن في الشك السببي بالنسبة إلى مسبّبه في كل موضع ، ففي المقام يقدم الأصل الحكمي على الموضوعي لأنّ الشكّ في الموضوع مسبّب عن الشكّ في الحكم ، نعم لو لم تجر أصالة الحل الشأنية بأن يقال إنّ دليل الأصل حكم العقل برفع العقاب ، والأدلة الشرعية عليه أيضا لا تفيد أزيد من تقرير حكم العقل ، فحينئذ تجري أصالة عدم التذكية ، بل نقول حينئذ العلم بقبوله للتذكية أيضا لا ينفع في إثبات الحلية الفعلية ، لأنّ الحلية الفعلية مترتبة على تحقق أمرين الحلية الذاتية الشأنية ونفس التذكية ، فلا بدّ من إحراز كلا الأمرين في تحقق الأثر ، هذا كله على فرض كون التذكية صفة وجودية واقعية كالطهارة المعنوية ، ونحن لم نجد شاهدا على ذلك والموجود في كتب اللغة أنّ التذكية هي الذبح ، وتمام الكلام في الفقه.

١٦٥

قوله : ويظهر من المحقق والشهيد الثانيين (قدس‌سرهما) ـ إلى قوله ـ أنّ الأصل فيه الطهارة والحرمة (١).

إن أرادا الطهارة حال الحياة لقاعدة الطهارة كما هو الظاهر من كلامهما فلا كلام ، وإن أرادا الطهارة بعد الذبح كما احتمل ذلك فلا يتمّ على مذاق الماتن ، فكان ينبغي أن يورد عليه بما ذكره في أول تنبيهات الاستصحاب وأسنده إلى المشهور أيضا من أن موضوع طهارة اللحم والجلد وحلية أكل اللحم كلاهما عنوان المذكى ، فلو أجرى أصالة عدم التذكية وحكم بحرمة اللحم وجب الحكم بالنجاسة أيضا ، نعم لو قيل بالمختار من أنّ حكم النجاسة قد علّق في أدلتها على موضوع الميتة وحكم الحلية على التذكية كان الأصل في اللحم المذكور الطهارة للشك في تحقق الميتة والأصل عدمها ، والحرمة للشك في تحقق التذكية والأصل عدمها.

قوله : فإن كان الوجه فيه أصالة عدم التذكية فإنّما يحسن إلخ (٢).

محصّل إيراده في هذا الشق أنّ إطلاق كلامهما غير جيّد ، فكان ينبغي لهما التفصيل بين ما لو علم بقبوله للتذكية كأن كان هناك عموم يدل على جواز تذكية كل حيوان إلّا ما خرج فالأصل هو الحل ، وبين ما إذا لم يكن عموم فالأصل الحرمة.

وفيه : أنّ هذا لا يكون إيرادا عليهما ، إذ لعل مذهبهما عدم العموم المذكور فجريا على مقتضى مذهبهما ، ويمكن أن يريد بذلك تحقق المبنى وأنّ العموم المذكور ثابت كما يشير إليه قوله في آخر كلامه وكيف كان فلا يعرف وجه لرفع

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ١٠٩.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ١٠٩.

١٦٦

اليد عن أصالة الحل والإباحة انتهى ، فالإيراد على هذا أنّ أصالة عدم التذكية حينئذ لا معنى له للعلم بقبوله للتذكية بذلك العموم.

قوله : وإن كان الوجه فيه أصالة حرمة لحمه قبل التذكية ففيه (١).

ليس المراد بحرمته قبل التذكية حرمة أكله حيا البتّة وإلّا لما كان لقوله لأجل كونه من الميتة معنى ، بل لعل مراده حرمة كل جزء من أجزائه إذا أبين من الحيوان فإنه ميتة يعني غير مذكى ، وحينئذ لا يجري استصحاب حرمة كل جزء بعد التذكية لتبدل موضوع الميتة بالمذكى ، فيحتاج حرمته إلى موضوع آخر.

ويرد عليه : أنّ الموضوع هذا اللحم الموجود وهو محفوظ في الحالتين ، وهذا المقدار من تفاوت الموضوع يوجد في كل استصحاب وليس الأمر مبنيا على مثل هذه المداقّة.

والتحقيق أن يقال : إنه إن أريد استصحاب الحرمة الذاتية فليس لها في السابق حالة متيقنة ، وإن أريد استصحاب الحرمة العرضية فهي متيقنة الزوال بعد التذكية ، اللهم إلّا أن يراد الاستصحاب الكلي فعلى القول بحجيته لا إشكال هنا لما عرفت من منع تبدّل الموضوع.

قوله : وأما الافتاء بوجوب الاحتياط فلا إشكال في أنّه غير مطابق للاحتياط (٢).

الأولى أن يقال : إنه إن لم يجب الإفتاء على المفتي في هذه المسألة فالأحوط ترك الإفتاء ، وإن وجب الإفتاء عليه فإن ترجّح في نظره القول بالبراءة يجب عليه الفتوى بالبراءة معيّنا ، وإن ترجّح في نظره الاحتياط يجب

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ١١٠.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ١١٢.

١٦٧

الإفتاء به معيّنا ، وإن لم يترجّح عنده شيء حرم عليه الإفتاء ، وحينئذ قوله فإن ثبت وجوب الإفتاء فالأمر يدور بين الوجوب والتحريم إلى آخره ، لا يخلو عن مسامحة ، ولعله أراد أن واقع الأمر لا يخلو من كون حكم الشبهة وجوب الاحتياط أو البراءة فالأمر دائر بين محذورين ولا تساعده العبارة كما لا يخفى.

قوله : ومفاسد الالتزام بالاحتياط ليست بأقل (١).

يعني ومفاسد الفتوى بالاحتياط مثل إلزام عباد الله وإلقائهم في هذا الضيق الشديد ونحوه ممّا ذكرنا في الحاشية السابقة وغيره ، وإلّا فالعمل بالاحتياط خال عن المفسدة كما لا يخفى ، هذا تمام الكلام في حكم ما لا نصّ فيه من الشبهة التحريمية ، ولا يخفى أنّ وجود النص الضعيف كعدم النصّ ، إذ المراد بالنص هو الحجة والدليل الواجب الاتباع.

قوله : والحكم في ذلك كلّه كما في المسألة الأولى (٢).

قد يفرّق بين المسألتين بوجوه ثلاثة ، الأول : أنّه إن كان دليل البراءة فيما لا نصّ فيه قوله (عليه‌السلام) «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» (٣) لا يجري هذا الدليل هنا في القسم الأول وهو ما كان اللفظ الدال على الحكم مجملا كالنهي المردد بين الحرمة والكراهة لحصول غاية البراءة أي وجود هذا النهي.

وفيه : أنّ المراد بالنهي المنع بالبداهة وإلّا لما جاز التمسك به في كلّ ما لو ورد نصّ بالكراهة المعلومة.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ١١٣.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ١١٤.

(٣) الوسائل ٢٧ : ١٧٣ / أبواب صفات القاضي ب ١٢ ح ٦٧.

١٦٨

الثاني : أنّه في القسم الأول يستقلّ العقل بلزوم موافقة النهي حتى يعلم من الشرع الترخيص والإذن بجواز المخالفة ، وهذا بخلاف مسألة ما لا نصّ فيه إذ لا نهي فيه.

وفيه : أنه إنّما يتمّ لو كان وجود النهي مطلقا مقتضيا للحرمة وكان الترخيص مانعا عنها ، وليس كذلك بل الشكّ حاصل في أنّ هذا النهي هل يقتضي الحرمة أم لا.

الثالث : أنّه في القسمين الأخيرين امتثال النهي عن الغناء وشرب الخمر لا يحصل إلّا بالاجتناب عن الأفراد المشكوكة منهما أيضا. وبعبارة أخرى لا يحصل امتثال النهي عن طبيعة الغناء وشرب طبيعة الخمر بالاجتناب عن الأفراد المتيقّنة فقط بل لا بدّ من الاجتناب عن الأفراد المشكوك فيها ، فلا يحصل العلم بالامتثال إلّا بالاجتناب عن الجميع والاحتياط في الكل ، وهذا بخلاف مسألة ما لا نص فيه إذ لا خطاب معلوما بالفرض حتى يجب امتثاله.

وفيه : أنّ ذلك إنّما يتم لو كان المطلوب بالنهي ترك مجموع أفراد المنهي عنه من حيث المجموع بحيث لو لم يترك فردا واحدا منه لم يحصل موافقة النهي بالمرة ، وحينئذ لا يحصل العلم بالامتثال إلّا بالاحتياط بترك كل ما يحتمل أنه مطلوب بالنهي ، ولازم ذلك وجوب الاحتياط في الشبهات الموضوعية أيضا بعين هذا التقرير كما لا يخفى.

لكن هذا الوجه خلاف التحقيق في مدلول النهي ، بل التحقيق أنّ أفراد المنهي عنه مطلوب الترك على نحو العموم الأفرادي بحيث لو ترك بعض الأفراد حصل الامتثال بالنسبة إليه وإن عصى بفرد آخر نظير ما لو قال : أكرم العلماء فإن أكرم بعض العلماء دون بعض يحصل الامتثال بإكرام البعض الأول والمخالفة

١٦٩

بترك إكرام الباقي ، وهذا على القول بتعلّق النهي بالأفراد واضح لأنّه يرجع إلى نواه متعددة ، وهكذا على القول بتعلّقه بالطبيعة فإنّ المنهي عنه هو الطبيعة من حيث وجودها في ضمن كل فرد فرد لا من حيث وجودها في ضمن جميع الأفراد من حيث المجموع ، وعلى هذا نقول إنّ الأفراد المتيقّنة مشمولة للنهي قطعا وشموله للأفراد المشكوكة مشكوك ، فأصل التكليف مشكوك فيه كما فيما لا نصّ فيه بعينه ، فانتفى الفرق بين المسألتين ، ولعله إلى هذا الوجه الثالث أشار في المتن بقوله : وربما يتوهّم أن الإجمال ـ إلى قوله ـ كان ذلك داخلا في الشبهة في طريق الحكم ، أي كان داخلا في الشبهة في طريق امتثال الحكم بحذف المضاف ، ووجه فساد التوهّم ما ذكرنا.

ويمكن أن يكون ـ كما قيل ـ إشارة إلى أن هذا يرجع إلى الشبهة في موضوع الحكم وإحراز الموضوع طريق إلى ثبوت الحكم ، فالشبهة في الموضوع شبهة في طريق الحكم ، ولا شكّ في عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الموضوعية باتّفاق من الأخباريين ، ووجه فساده أنّ الشبهة الموضوعية التي عدم وجوب الاحتياط فيها مسلّم عند الكل هي الشكّ في الموضوع باعتبار الشكّ في صدق المفهوم المبيّن شرعا على المشكوك فيه ، لا الشكّ في مفهوم موضوع الحكم شرعا فإنّه شبهة حكمية رفعها من وظيفة الشارع ، ولا شكّ أنّ ما نحن فيه من قبيل الثاني لا الأول.

قوله : وبعض ما ورد في خصوص تعارض النصين مثل ما في عوالي اللآلي (١).

لم يتعرّض للأخبار الآمرة بالتوقّف في خصوص الخبرين المتعارضين

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ١١٥.

١٧٠

كقوله في آخر مقبولة عمر بن حنظلة بعد ذكر المرجّحات قال (عليه‌السلام) «إذا كان ذلك فارجئه حتى تلقى إمامك (عليه‌السلام) فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات» (١) وقوله (عليه‌السلام) في ذيل رواية الصدوق قال «وما لم تجدوه في شيء من هذه الوجوه فردّوا إلينا علمه فنحن أولى بذلك ولا تقولوا فيها بآرائكم وعليكم بالكف والتثبّت والوقوف وأنتم طالبون باحثون حتى يأتيكم البيان من عندنا» (٢) وقوله (عليه‌السلام) في ذيل رواية الاحتجاج قال (عليه‌السلام) «لا تعمل بواحد منهما حتى تلقى صاحبك (عليه‌السلام) فتسأله» (٣).

والجواب عنها : أنها ظاهرة بل صريحة في حكم حال حضور الإمام (عليه‌السلام) والتمكّن من مراجعته (عليه‌السلام) لا مثل زماننا ، ولو سلّم عمومها نقول إنّ المراد التوقّف في الفتوى بإحدى الروايتين لا التوقّف في العمل بترك العمل بشاهد أنّ مورد السؤال والجواب أعمّ من الشبهة التحريمية جزما ، ولا معنى للتوقف في مقام العمل بالترك في مثل وجوب الظهر أو الجمعة وأمثاله ، وأما المرفوعة الآمرة بالأخذ بالاحتياط فيحمل على استحباب الاحتياط ولو جمعا بينه وبين أخبار التخيير ، مضافا إلى ضعف السند.

قوله : وهذه الرواية وإن كانت أخصّ من أخبار التخيير (٤).

وجه الأخصّية أنه يستفاد من المرفوعة وجوب الاحتياط إذا كان أحدهما موافقا للاحتياط والآخر مخالفا له ، والتخيير إذا كانا موافقين للاحتياط

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٠٦ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ١.

(٢) الوسائل ٢٧ : ١٦٥ / أبواب صفات القاضي ب ١٢ ح ٣٦.

(٣) الوسائل ٢٧ : ١٢٢ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٤٢.

(٤) فرائد الأصول ٢ : ١١٦.

١٧١

أو مخالفين له ، وأخبار التخيير شاملة لجميع الأقسام حتى ما لا يمكن فيه الاحتياط كأن يكون أحد الخبرين موجبا والآخر حاظرا.

قوله : وقد طعن صاحب الحدائق فيها وفي كتاب العوالي وصاحبه (١).

العبارة المحكية عن الحدائق (٢) لا تدلّ إلّا على الطعن في الكتاب باعتبار نسبة صاحبه إلى التساهل والخلط والإهمال ، والمقصود أنه لا تدلّ على طعن في الكتاب وطعن آخر في صاحب الكتاب ، بل مرجع أحدهما إلى الآخر وهو سهل.

قوله : بقي هنا شيء وهو أنّ الأصوليين إلخ (٣).

قد عنون المصنف هذا الإشكال في غير موضع ، ومحصل ما ذكره إشكالان : الأول أنّ الخلاف في مسألة المقرر والناقل ينافي عدم الخلاف في مسألة المبيح والحاظر بتقديم الحاظر ، لأنّ الثانية من جزئيات المسألة الأولى الشاملة للشبهة التحريمية وغيرها ، ويتبع هذا الإشكال إشكال آخر وهو أنه لا وجه لتعدّد عنوان المسألتين فإنّهما مسألة واحدة ، لكن بناء على كون الأصل في الأشياء هو الإباحة لا الحظر فيكون الحاظر مطلقا من الناقل والمبيح من المقرر وإلّا ينعكس الأمر ويكون الإشكال أصعب لحصول التنافي والتباين في مختارهم في المسألتين.

الثاني : أنّ مختار المشهور أو الكل في المسألتين ينافي عملهم في

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ١١٦.

(٢) الحدائق الناضرة ١ : ٩٩.

(٣) فرائد الأصول ٢ : ١١٧.

١٧٢

المسائل الفقهية من عدم تقديم المخالف للأصل بل التخيير أو الرجوع إلى الأصل من البراءة أو الاحتياط كل على مذهبه.

والتحقيق في الجواب عن الإشكالين بل الإشكالات الثلاثة : أن ينسب الناقل للشهرة وعدم الخلاف إلى الغفلة والاشتباه في نقله ، ومنشأ الاشتباه أنّ المسألتين أعني مسألة تقديم الناقل على المقرر ومسألة تقديم الحاظر على المبيح كلاهما معنون في كتب العامة وتبعهم أوائل الأصوليين منّا بناء على مذاقهم وعدم التفطّن لأخبار التخيير وأخبار البراءة والاحتياط ، أو عدم ملاحظتهم لها في ذلك المقام جريا على مذاق العامة ، ولذا لم نقف في كتب أصحابنا الفقهية على التمسك بتقديم الناقل أو المقرر أو الحاظر في مقام الاستدلال إلّا نادرا في مثل كتب العلّامة ومن يحذو حذوه ممن يتعرّض للاستدلال على مذاق العامة أيضا لا يخفى على من راجع تلك الكتب.

قوله : ويمكن أن يقال إنّ مرادهم من الأصل في مسألة الناقل (١).

محصّل مراده وإن كانت عبارته قاصرة عنه في الجواب عن الإشكال الأول : أن يقال إنّ مرادهم من الأصل في مسألة المقرر والناقل غير الشبهة التحريمية وإن كان عنوانهم أعم منها ، ومن الأصل في مسألة تقديم الحاظر خصوص الشبهة التحريمية ، فيكون عنوان المسألة الثانية كالمخصص للأولى.

وفي الجواب عن الإشكال الثاني : أنّ كلامهم في عنوان المسألتين ناظر إلى ملاحظة الأصل في المسألة بحسب القاعدة مع قطع النظر عن الأخبار الواردة الدالة على التخيير أو الاحتياط ، وعملهم في الفقه بملاحظة تلك الأخبار.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ١١٨.

١٧٣

ثم لا يخفى أنّ إحالة مسألة تعارض النصّين في جميع المقامات من الشبهة في التكليف أو المكلّف به في الشبهة التحريمية والوجوبية وغيرها إلى باب التعادل والتراجيح كان أولى ، إذ لا يكون لها كثير خصوصية بمسألة البراءة ، وليس لها أيضا كثير أبحاث لم يذكر في باب التراجيح ، وما ذكره في المتن من أنّ المقصود هاهنا مجرّد عدم وجوب الاحتياط فيها فائدة يسيرة تعرف ممّا ذكروه في باب التراجيح فليتأمل.

قوله : وإن لوحظا مع قطع النظر عن اليد (١).

لا وجه لقطع النظر عن اليد في المثالين كما لا وجه لقطع النظر عن الأصل الموضوعي في المثال الأخير أعني أصل عدم تحقق النسب أو الرضاع ، لأنّ اعتبار اليد في المثالين ليس محلّ كلام يعرف ، بل الأصل الموضوعي في المثال الثالث أيضا لا إشكال في جريانه وحكومته على الأصل الحكمي ، وتقدّمه عليه ثابت عند الماتن سواء كان الأصل الحكمي موافقا للأصل الموضوعي كما في المثال هنا ، لأنّ مقتضى كليهما حلية المرأة أو مخالفا له ، نعم لنا كلام في الموافق وأنّ الأصل الحكمي والموضوعي المتوافقين كلاهما جاريان ببيان يأتي في محله إن شاء الله ، فإذن التكلم مع قطع النظر عن اليد والأصل كلام على فرض غير الواقع ولا كرامة فيه.

قوله : وأصالة الحرية في الإنسان المشكوك في رقّيته (٢).

لعل المراد منها أصالة عدم تسلّط إنسان على إنسان ، ولأنّ الرقّية لا بدّ أن تكون من سبب وجودي كالاسترقاق بشرائطه والأصل عدمه ، لكن المعتمد عند

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ١٢٠.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ١٢٠.

١٧٤

جمهور الفقهاء في سند هذا الأصل ما روي بأسناد متعددة عن الحسن بن محبوب عن عبد الله بن سنان قال «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول كان علي بن أبي طالب (عليه‌السلام) يقول الناس كلهم أحرار إلّا من أقرّ على نفسه بالعبودية وهو مدرك من عبد أو أمة ومن شهد عليه بالرق صغيرا كان أو كبيرا» (١) وفقهاؤنا يرسلون هذا الأصل عندهم إرسال المسلّمات وكأنّه إجماعي.

قوله : وكذا الزوجة إن لوحظ فيها أصل عدم تحقق النسب أو الرضاع (٢).

فإن قلت : إنّ أصل عدم تحقّق النسب غير جار ، لأنّه إن أريد به أصل عدم اتّصاف المرأة المعيّنة بالأختية فليست له حالة متيقّنة في السابق ، وإن أريد به أصل عدم وجود النسبة الخاصة في الخارج باعتبار كون النسبة معدومة في الأزل عند عدم وجود المرأة والأصل بقاؤها على العدم ، فهو لا يثبت كون هذه المرأة المعيّنة موصوفة بعدم الأختية مثلا ، والحاصل أنّ الأصل المذكور إما غير جار أو يكون مثبتا ليس بحجة.

قلت : المراد المعنى الثاني وليس من الأصول المثبتة ، لأنّ حكم الحرمة ليس مترتبا على المرأة المتصفة بوصف الأختية ، وكذا حكم الحلية ليس مترتبا على المرأة المتصفة بوصف عدم الأختية حتى يقال إنّ أصالة عدم وجود وصف الأختية في الخارج لا يثبت كون هذه المرأة متّصفة بعدم الأختية ، بل حكم الحرمة معلّق على وصف الأختية في قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ

__________________

(١) الوسائل ٢٣ : ٥٤ / كتاب العتق ب ٢٩ ح ١.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ١٢٠.

١٧٥

وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ)(١) وبعد جريان أصالة عدم وجود هذا الوصف المانع عن حلّية النكاح يترتب الأثر أعني

أثر الحلّية لإحراز عدم تحقق مانعها بالأصل.

قوله : وإن قطع النظر عن هذا الأصل فالأصل عدم تأثير العقد فيها فيحرم وطيها (٢).

فيه نظير ما مرّ في أصالة عدم التذكية من أنّ أصالة الحل حاكم عليها فيقال : إنّ الشكّ في تأثير العقد وعدمه مسبب عن الشك في الحلّية الذاتية وعدمها لأجل الشكّ في تحقق النسب ، فلو أجري أصالة الحل باعتبار الشك السببي لم يبق شك في تأثير العقد لفرض عدم وجود مانع من تأثيره سواه.

بل نقول في المثالين الأوّلين أيضا لا مانع من إجراء أصالة الحل لو قطعنا النظر عن اليد ، وذلك بإجراء أصالة حلّ البيع الحاكم على أصالة عدم انتقال المال وأصالة الحرّية بتقريب أنّ الحلّية المستفادة من هذا الخبر وغيره المشتمل على لفظ الحلال والحرام أعمّ من الحلّية التكليفية والوضعية بإرادة القدر المشترك بينهما ، فهو بمنزلة أن يقال كل شيء مشكوك الحكم وضعا أو تكليفا مرفوع المانع وممضى ومرضيّ به حتى تعلم أنه ممنوع غير ممضى ، بل يجري هذا التقرير في المثال الأخير أيضا ، فإذا صحّ بيع المشكوك والعقد على المشكوك يترتب عليه الأثر ، لكن هذا كلّه على تقدير الإغماض عن اليد وأصالة عدم تحقق النسب المانع عن النكاح وقد عرفت أنه لا وجه للإغماض وقطع النظر عنهما ، فالإشكال في الاستدلال بعد بحاله ، نعم يتم الاستدلال على مذاقنا الآتي في أواخر الاستصحاب إن شاء الله من جريان الأصل الحاكم

__________________

(١) النساء ٤ : ٢٣.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ١٢٠.

١٧٦

والمحكوم لو كانا متوافقين ، وكذا يجري الأصل الموافق لليد وغيرها من الأمارات ، وبيانه في محله.

قوله : مع أن صدرها وذيلها ظاهران في المدّعى (١).

لا ينفع ظهور الصدر والذيل بعد عدم انطباق الأمثلة المذكورة على ما يوافق هذا الظاهر ، بل نصرفهما عن ظاهرهما إلى ما يوافق موارد وجود الأصل الموضوعي أو اليد ، نعم يمكن التوجيه بالنسبة إلى الأمثلة بملاحظة قوة ظهور الصدر والذيل بأن يقال إنّ الأمثلة من باب التشبيه والتنظير فكأنه قال فكما أنّ الحكم في هذه الأمثلة هو الحلية كذلك غيرها مما هو مشتبه الحكم ، وقد عرفت أنه على مذاقنا لا يحتاج إلى هذا التوجيه أيضا ويتم الاستدلال.

قوله : مدفوع بأنّ النهي عن الخمر يوجب حرمة الأفراد المعلومة تفصيلا إلخ (٢).

الانصاف أنّ الإشكال لا يندفع بهذا ولا بغيره ، لأنّ موضوع حكم الحرمة الخمر الواقعي لا الخمر المعلوم ، لأنّ الألفاظ موضوعة للمعاني النفس الأمرية فمن أين يتقيّد التكليف بالعلم تفصيلا أو إجمالا ، والجهل بالموضوع ليس عذرا عقليا مع الالتفات وإمكان الاحتياط ، وقبح العقاب بلا بيان لا يجري إلّا فيما كان بيانه وظيفة الشارع كما في الأحكام والموضوعات المستنبطة لا الموضوعات الصرفة كما أشار إليه المستشكل ، وقد ظهر من ذلك الفرق بين الشبهة الحكمية والموضوعية وظهر ضعف :

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ١٢١.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ١٢١.

١٧٧

قوله : وما ذكر من التوهّم جار فيه أيضا لأنّ العمومات إلخ (١).

إن كان المراد من عمومات حرمة الخبائث والفواحش حرمة الخبائث والفواحش العرفية حتى يكون المشكوك في كونه خبيثا من الشبهة الموضوعية فلا ربط له بما نحن فيه من الشبهة الحكمية كشرب التتن الذي ليس من الخبائث العرفية ، وإن كان المراد حرمة الخبائث بمعنى الخبائث الشرعية أي المحرّمات فلا ريب أنّ النهي عنها بهذا المعنى إرشادي محض مثل قوله تعالى : (وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(٢) وقوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)(٣) وقوله تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ)(٤) وبالجملة الحق أنّه لو قطعنا النظر عن أخبار البراءة كان مقتضى حكم العقل هو الاحتياط لا البراءة في الشبهة الموضوعية مطلقا سواء التحريمية والوجوبية.

قوله : فإن قلت إنّ الضرر محتمل في هذا الفرد المشتبه (٥).

التحقيق في الجواب أن يقال : إنّ الضرر مأمون بحكم الشرع بحلّية كل شيء حتى يعلم أنه حرام سواء كان الضرر المحتمل أخرويا أو دنيويا ، وإلّا لزم أن يكون الشارع بترخيصه قد أوقعنا في الضرر وهو محال ، ولا يحتاج في دفع هذا الإشكال إلى هذا الإطناب.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ١٢٢.

(٢) الحشر ٥٩ : ٧.

(٣) محمد ٤٧ : ٣٣.

(٤) الجن ٧٢ : ٢٣.

(٥) فرائد الأصول ٢ : ١٢٢.

١٧٨

قوله : فوجوب دفعه عقلا لو سلّم لم يسلّم وجوبه شرعا (١).

بعد تسليم وجوب دفعه عقلا لا بدّ وأن يسلّم وجوبه شرعا بقاعدة الملازمة ، وحينئذ فكيف يجوز للشارع أن يحكم بحلّية ما حكم العقل بوجوب التحرز عنه ، اللهم إلّا أن يوجّه بما حقّقناه مرارا من جواز كون حكم العقل معلّقا على عدم ترخيص الشارع ، وهذا التوجيه مع كونه فاسدا على مذاق المصنف لا تحتمله العبارة ، لأنّ ظاهرها القول بالتفكيك بين العقل والشرع فتأمل فيه ، وقد تكلّمنا على قاعدة دفع الضرر المحتمل أو المظنون في ذيل الدليل العقلي على البراءة وغيره شطرا وافيا يعلم منه حال ما ذكره هنا وتمييز صحيحها من سقيمها فراجع.

قوله : وهذا الدليل ومثله رافع للحلّية الثابتة (٢).

لم يتعرّض لدفع هذا الكلام في الجواب ، ودفعه أنّ قوله (عليه‌السلام) «كل شيء حلال» رافع لموضوع التهلكة ، ضرورة أنّ الحكم بالحلية يكشف عن عدم مقتضي التهلكة واقعا أو جبرانها على تقدير وجود المقتضي بمصلحة مكافئة لذلك الضرر.

قوله : لأنّ الحلّية في الأملاك لا بدّ لها من سبب محلّل بالاستقراء (٣).

يمكن دفعه بأنّ قوله (عليه‌السلام) «كل شيء حلال» يكفي في كونه سببا محللا ، وافتقارها إلى سبب آخر غير أدلة البراءة مطلقا في محلّ المنع ، كما أنّ

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ١٢٣.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ١٢٣.

(٣) فرائد الأصول ٢ : ١٢٧.

١٧٩

قوله (عليه‌السلام) «لا يحلّ مال امرئ إلّا من حيث أحلّه الله» (١) شامل لما أحلّه الله بأدلة البراءة ، وبهذا يظهر ما في قوله ومبنى الوجهين أنّ إباحة التصرّف هي المحتاجة إلى السبب فيحرم مع عدمه إلى آخره ، لأنّ قوله (عليه‌السلام) «كل شيء حلال» سبب للإباحة وكأنّه (رحمه‌الله) نظر إلى الإباحة الواقعية والحرمة الواقعية ، وأنت خبير بأنّ الإباحة الظاهرية المطلوبة في المقام لا يحتاج إلى سبب غير أدلة البراءة.

قوله : فإنّ أصالة عدم التذكية المقتضية للحرمة والنجاسة حاكمة على أصالة الإباحة والطهارة (٢).

قد يورد عليه وعلى المثال الأول أيضا بأنه لو لم يكن هناك أصل موضوعي أيضا لم تكن أصالة الحلّ جارية ، لأنّ حلّية الوطء مشروطة بالزوجية وحلّية أكل اللحم مشروطة بالتذكية ، وحينئذ يجب إحراز الشرط في الحكم بالحلية ، والشك في الشرط كاف في عدم ترتّب الحكم ، وذلك نظير كون الصلاة مشروطة بالطهارة فلا بدّ من إحراز شرط الطهارة في الحكم بصحة الصلاة ، فلو شك في الطهارة يحكم بعدم صحّة الصلاة ولا يتوقف على إجراء أصالة بقاء الحدث في الحكم بالبطلان.

وجوابه : أنّه كذلك بحسب القاعدة الأولية مع قطع النظر عن قوله «كل شيء لك حلال» إلى آخره ، وأما بملاحظته فيحكم بالحلية من دون شرط إذ لم يؤخذ في موضوعه غير كون الشيء مشكوك الحكم وهو حاصل ، والفرق بينه وبين ما مثّل به في النظير أنّ التكليف هناك معلوم بالصلاة مع الطهارة ، فبمقتضى

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٥٣٨ / أبواب الأنفال ب ٣ ح ٢ (مع اختلاف يسير).

(٢) فرائد الأصول ٢ : ١٢٨.

١٨٠