المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٧

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٧

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٥

لأن تلك الصورة إذا حلت في القوة [العاقلة (١)] الحالة في تلك الآلة ، فحينئذ يلزم كون تلك الصورة حالة في تلك الآلة ، فيلزم : اجتماع صورتين متماثلتين في تلك المادة ، والجمع بين المثلين : محال ، ولما بطل هذا القسم الأول ، وهو أن يقال : إن القوة العاقلة ، لو أدركت [آلتها (٢)] لكان إدراكها لتلك الآلة عبارة (٣) عن نفس حضور تلك الآلة عند القوة العاقلة. وهذا القدر من الحضور ، إن كان كافيا في حصول الإدراك وجب حصول الإدراك دائما. وإن لم يكن كافيا ، امتنع حصول الإدراك في شيء من الأوقات. لأنه لو حصل في بعض الأوقات ، لكان ذلك بسبب أمر زائد على مجرد حضور صورة الآلة ، وذلك الزائد يجب أن يكون عبارة عن حصول صورة مساوية لها في القوة الناطقة ، بناء على القاعدة المشهورة من أن إدراك الشيء عبارة عن حضور صورة مساوية للمعقول في العاقل. وقد بينا أن ذلك محال.

فثبت بهذا البيان : أن القوة [العاقلة (٤)] لو كانت حالة في جسم ، كقلب أو دماغ، لوجب أن تكون مدركة لذلك الجسم دائما ، أو تكون ممتنعة الإدراك دائما (٥).

أما بيان أن هذا التالي محال : فلأنا نعلم بالضرورة : أنا في بعض الأوقات نستحضر صورة القلب والدماغ في عقولنا ، وفي بعض الأوقات نكون غافلين عن هذا الاستحضار. فثبت بما ذكرنا : صحة الشرطية ، وثبت : فساد التالي ، فيلزم فساد المقدم.

والاعتراض : إنا قد ذكرنا الدلائل الكثيرة على أن حصول صورة مساوية في تمام الماهية للمعقول في جوهر العاقل محال ، فلا نعيد تلك الدلائل. ثم لئن سلمنا ذلك ، لكن حصول تلك الصورة ، يكون شرطا لحصول الإدراك

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) سقط (ل).

(٣) عن حصول (م ، ط).

(٤) سقط (ل).

(٥) لها دائما (ط).

٨١

والشعور ، فإما أن يقال : إن الإدراك عبارة عن عين تلك الصورة ؛ وهذا لا يقول عاقل. ويدل عليه وجوه :

الأول : إن الجسم الموصوف بالسواد يكون السواد حاصلا فيه ، وإدراك السواد غير حاصل فيه ، فإدراك السواد مغاير لحصول ماهية السواد. فإن قالوا : حصول الماهية إنما يكون إدراكا لها ، إذا كان ذلك الشيء الذي حضرت الماهية عنده : قوة مدركة ، فإذا كان الجسم جمادا ، فقد فات هذا الشرط ، فيفوت المشروط.

فنقول في الجواب : إن كان الإدراك عبارة عن مجرد الماهية عنده. فالمدرك يجب أن يكون عبارة عن الشيء الذي حضرت الماهية عنده. فوجب أن يكون الجماد مدركا. وإن قلنا : إنه ليس كلما حضرت الماهية عنده ، بل قد يكون مدركا لها ، وقد لا يكون. فهذا يقتضي أن يكون الإدراك حالة مغايرة لمجرد الحضور. وهو المطلوب.

الثاني : وهو إن الخيال الذي هو خزانة الحس المشترك ، قد حصلت الصور الجسمانية عنده ، مع أن قوة الإدراك غير حاصلة ، وذلك يدل على قولنا.

الثالث : إن أشباح المبصرات تنطبع في كل واحد من الجليدتين ، والإدراك غير حاصل هناك ، وإلا لزم أن يدرك الإنسان : المرئي الواحد شيئين. لأنه انطبع في كل واحد من الجليدتين صورة على حدة. بل الحق أن الانطباع يحصل في الجليدتين. إلا أن قوة الإبصار إنما تحصل عند ملتقى العصبتين المجوفتين. هكذا قاله الشيخ في كتاب «الشفاء» وهذا يدل على أن الإدراك غير الانطباع.

الرابع : وهو أنا نعلم بالضرورة : أن الإدراك والشعور والإبصار : أحوال نسبية إضافية ، فيمتنع أن يكون عبارة عن مجرد حضور تلك الماهية. وإذا ثبت هذا فنقول : لم لا يجوز أن يقال : القوة العقلية حالة في جسم مخصوص ، ثم إن القوة الناطقة قد تحصل لها الحالة الإضافية المسماة بالشعور

٨٢

والإدراك ، فحينئذ تصير القوة العاقلة مدركة لتلك الآلة ، وقد لا توجد تلك الآلة الإضافية ، فتصير غافلة عن تلك الآلة ، وإذا كان هذا الاحتمال الظاهر القوي الحق قائما ، فقد سقطت هذه الشبهة بالكلية. والعجب من الشيخ كيف جوز عقله أن يسمى مثل هذا الكلام الركيك بالبرهان العظيم.

السؤال الثاني : أن يقال : أتدعون أنا إذا عقلنا شيئا ، فإن الصورة الحاضرة في العقل مساوية لذلك المعقول من جميع الوجوه والاعتبارات ، أو لا توجبون حصول هذه المساواة من كل الوجوه؟

والأول لا يقوله عاقل. وتقريره من وجوه :

الأول : إنا إذا عقلنا الله تعالى وجب أن تكون الصورة الحاصلة في عقولنا : موجودا واجب الوجود لذاته ، وذلك لا يقوله عاقل.

الثاني : إنا إذا عقلنا السماء والأرض ، فهذه الصورة العقلية : كيفية قائمة بالنفس جزئية. وهذه الكيفية لا تحس ولا تلمس ، والعلم الضروري حاصل بأنها لا تساوي هذا الفلك في جميع أجزاء الماهية والصفات.

الثالث : إنه لو كان الأمر كذلك ، فإذا عقلنا النار ، وجب أن تحصل النار في عقولنا. وإذا عقلنا الثلج ، وجب أن يحصل الثلج في عقولنا ، فتكون النار العقلية ، والثلج العقلي ، مساويا للنار والثلج الموجودين في الخارج ، وذلك لا يقوله عاقل. وأما إذا سلمتم : أن الصورة العقلية ، لا يجب أن تكون مساوية لذات المعقول من جميع الوجوه ، فحينئذ لا يلزم من حدوث صورة أخرى في القلب ، أو الدماغ في القوة العاقلة : اجتماع المثلين.

السؤال الثالث : هب أنه يلزم اجتماع المثلين. فلم قلتم : إن ذلك محال؟ وبيانه : أن القوة العاقلة حالة في جوهر القلب أو الدماغ ، وهذه الصورة الحادثة : حالة في القوة العاقلة ، فإحدى الصورتين حالة محل القوة العاقلة ، والثانية حالة فيها. فلم لا يكفي هذا القدر من التفاوت في حصول المغايرة؟

٨٣

السؤال الرابع : نحن إذا رأينا (١) المسافة الطويلة والامتداد الطويل ، فهل يتوقف هذا الإبصار على ارتسام صورة المرئي في عين الرائي ، أو لا يتوقف؟ فإن توقف عليه ، فحينئذ يلزم اجتماع المثلين. لأن القوة الباصرة عندكم جسمانية ، فهي حالة في محل له حجم ومقدار ، فإذا حصل فيه مقدار المرئي وحجميته ، فحينئذ يلزم اجتماع المثلين ، فإذا جاز هناك ، فلم لا يجوز مثله في مسألتنا؟ وإن كان إدراك الشيء لا يتوقف على حصول صورة المرئي في الرائي ، فحينئذ يبطل قولهم : إن إدراك القلب والدماغ يتوقف على حصول صورة القلب والدماغ في القوة (٢) العاقلة.

السؤال الخامس : هب أنه يصح لكم بالدليل : أن القوة العاقلة لو كانت حالة في جسم ، لوجب أن تكون دائمة الإدراك لذلك الجسم فلم لا يجوز أن يكون الأمر كذلك؟ قوله : «لأجل أن إدراكنا بقلبنا ودماغنا ، غير دائم» قلنا : فهذا الدليل الذي ذكرتم ، إنما يصح لإبطال قول من يقول : «القوة العاقلة حالة في القلب أو الدماغ» فأما من يقول : «إنها حالة في جسم مخصوص ، مشابك لبعض بطون القلب ، أو بعض بطون الدماغ» فهذا الإلزام غير وارد عليه. فإن قالوا : فيلزم أن يكون أبدا (٣) عالما بوجود ذلك الجسم. فنقول : إن من يقول : «النفس جسم مخصوص موصوف بصفة مخصوصة» يلتزم ذلك ، ويقول : إن الإنسان أبدا يكون عالما بأنه جسم مخصوص ، ولا يزول عن عقله ذلك البتة. فسقطت هذه الحجة بالكلية.

واعلم : أن هذه الدلائل الأربعة هي التي زعم [الشيخ (٤)] أنها حجج برهانية ، ودلائل يقينة. ثم ذكر بعد ذلك وجوها أخرى ، واعترف بكونها وجوها إقناعية ظنية. وقد ظهر بالمباحث التي ذكرناها : أن هذه الوجوه التي

__________________

(١) عقلنا (ل ، طا).

(٢) الصورة (ل ، طا).

(٣) أبدا دائما (م).

(٤) سقط (ط).

٨٤

سماها قطعية يقينية ، لا تفيد ظنا ضعيفا ، فضلا عن القوى. ولقد ذكر في تعليقاته ومباحثاته : وجها خامسا. وذكر أيضا : أنه من القطعيات ، فوجب علينا أيضا أن نذكره.

الحجة الخامسة : إن كل أحد يدرك نفسه ، وقد ثبت أن إدراك الشيء عبارة عن حضور ماهية المعلوم عند العالم ، فإذا علمنا أنفسنا فهذا إما أن يكون لأجل حضور ذواتنا [لذواتنا (١)] أو لأجل حضور صورة مساوية لذواتنا في ذواتنا. والقسم الثاني باطل لوجهين :

الأول : إنه يلزم اجتماع المثلين ، وهو محال. لأنه لا يكون أحدهما بالحالية ، والآخر بالمحلية أولى من العكس.

والثاني : هو إنه ما لم نعرف أن هذه الصورة الحادثة مساوية لذاتنا ، لم تكن معرفة تلك الصورة نافعة في معرفة الذات. لكن علمنا بأن هذه الصورة مساوية لذاتنا. يجب أن يكون مسبوقا بعلمنا بذاتنا. ويعود الكلام فيه ، ويمر إلى غير النهاية ، وهو محال. ولما بطل هذا القسم ، ثبت أنه لا معنى لعلمنا بذواتنا ، إلا نفس حضور ذاتنا عند ذاتنا. وهذا إنما يكون إذا كانت ذاتنا [قائمة (٢)] بالنفس ، غنية عن المحل ، لأن بتقدير أن يكون في محل ، لم يكن هو حاضرا عند نفسه ، وإنما يكون حاضرا عند ذلك المحل. فثبت : أن النفس عالمة بذاتها ، وثبت : أن علمها بنفسها عبارة عن حضور نفسها عند نفسها وثبت : أن هذا المعنى ، إنما يحصل إذا كانت النفس قائمة بنفسها ، غنية عن محل تحل فيه. فهذا يقتضي أن تكون القوة العاقلة : جوهرا قائما بالنفس ، غنيا عن الجسم. وهو المطلوب.

والاعتراض عليه : إن هذه الحجة مبنية على أن تعقل الشيء ، يستدعي حضور صورة مساوية في تمام الماهية للمعقول عند العاقل ، وعلى أن التعقل لا

__________________

(١) من (ل).

(٢) سقط (ل).

٨٥

معنى له إلا مجرد هذا الحضور. وكل ذلك قد أبطلناه. وبينا : أن الإدراك عبارة عن حالة نسبية إضافية. فإن حصلت لذات الإنسان مع ذاتها ، تلك الإضافة ، صار الإنسان عالما بذاته المخصوصة ، وإلا بقي غافلا عنها [وأيضا (١)] فهذه الحجة موقوفة على مقدمة ثالثة ، وهي : البحث في كون الشيء حاضرا عند نفسه. وقد بحثنا عن هذه المقدمة عند حكاية دلائل الفلاسفة على كونه تعالى عالما بذاته المخصوصة.

وأيضا : فهذه الحجة مع ركاكة مقدماتها : منقوضة. وذلك لأنا إذا أخذنا حجرا أو خشبا. ونقول : إنه جوهر قائم بنفسه ، فذاته حاضرة عند ذاته. فيجب في هذه الجمادات أن تكون عاقلة بذواتها. وإنه محال. فإن قالوا : إن الحجرية صورة قائمة في المادة ، فلا تكون هذه الصورة حاضرة عند نفسها ، بل تكون حاضرة عند مادتها. فنقول : إنه يمتنع أن تكون كل مادة حاصلة في مادة أخرى إلى غير النهاية ، بل لا بد من الاعتراف بحصول جوهر قائم بنفسه في هذا الحجر وهذا الخشب : هو المادة الأصلية. وإذا كان كذلك ، فتلك المادة تكون قائمة بنفسها ، فتكون ذاته حاضرة عند ذاته ، فوجب كونها عالمة بنفسها ، فيلزم في هذه الجمادات : أن تكون عالمة بنفسها ، شاعرة بذواتها. ومعلوم أنه باطل. وأيضا : فجميع الحيوانات مدركة لذواتها ، فلو كان الشيء مدركا لذاته يقتضي أن تكون ذاته جوهرا مجردا ، لزم أن تكون نفوس الحيوانات أسرها جواهر مجردة. والقوم لا يقولون به. فهذا هو وجه السؤال على هذه الحجة والبينة.

الحجة السادسة : اعلم : أن «أبا البركات البغدادي» زعم أن الدليل القوي في هذه المسألة ، هو هذا الذي نذكره. فقال : «لا شك في أن الواحد منا يمكنه أن يتخيل بحرا من الزئبق ، وجبلا من الياقوت ، ويمكنه أن يتخيل شموسا وأقمارا [كثيرة (٢)] فهذه الصورة الخيالية ، إما أن تكون معدومة أو

__________________

(١) سقط (ل).

(٢) من (ل).

٨٦

تكون موجودة. والأول باطل. لأن قوة الإدراك والفهم تشير إلى كل واحد من تلك الصور ، وتميز بينها وبين غيرها. وربما بلغ ذلك التخيل ، إلى أن يصير كالأمر المشاهد المحسوس ، بسبب قوته. ومعلوم : أن العدم المحض والنفي الصرف ، لا يكون كذلك. فثبت : أن هذه الصور الخيالية : موجودة. ولما علمنا بالضرورة : أنها ليست موجودة في الأعيان ، ثبت أنها موجودة في الأذهان. فنقول : محل هذه الصورة ، إما أن يكون جسما ، أو حالا في الجسم ، أو لا جسم ولا حالا في الجسم. والقسمان الأولان باطلان. لأن صورة البحر والجبل والشموس والأقمار : صورا عظيمة ، والدماغ : جسم صغير. وانطباع الصور العظيمة في المحل الصغير : محال في بديهة العقل. ولما بطل ذلك ، ثبت : أن محل هذه الصور الخيالية موجودة ، ليس بجسم ولا بجسماني. وذلك هو المطلوب» هذا تقرير هذا الدليل (١)

واعلم: أن هذا الوجه ، لا شك أنه أخف مئونة من الدلائل المتقدمة. لأن هذا الدليل ، مبني على أن إدراك هذه الصور الخيالية ، يستدعي انطباعها في العالم. وهذه المقدمة فيها أبحاث :

الأول : إن جوهر النفس إذا كان مجردا عن الحجمية والمقدار ، امتنع كونها محلا للمقدار والشكل. وذلك لأنه إذا كان جوهرا مجردا عن الحجمية ، والمقدار ، كان [واحد (٢)] مبرأ عن القسمة والتركب ، وإذا كان كذلك ، فالمحل الذي تحل فيه صورة زاوية من زوايا ذلك المتخيل ، هو الذي بعينه الذي تحل فيه صورة الزاوية الثانية من ذلك المتخيل. وإذا كانت الصورة بأسرها مرتسمة في محل واحد ، فحينئذ لا يحصل امتياز جانب عن جانب في ذلك الإدراك ، وإذا لم يحصل هذا الامتياز ، امتنع إدراك (٣) الشكل والأضلاع في الجوانب(٤)

__________________

(١) الكلام (م).

(٢) سقط (طا ، ل).

(٣) امتياز (ل).

(٤) والجوانب (ل).

٨٧

والبحث الثاني : وهو أنه إن عقل (١) حلول الشكل والمقدار ، فيما كان مجردا عن الحجمية والمقدار من كل الوجوه ، فلم لا يعقل حلول الشكل العظيم والمقدار العظيم في المحل الصغير [وذلك لأنا إنما نمنع من حلول الصور العظيمة في المحل الصغير (٢)] لأجل أن العظيم لا ينطبق بكليته على الصغير [فيمتنع حلوله فيه ، إلا أن العظيم وإن كان لا ينطبق بكليته على الصغير (٣)] فقد ينطبق العظيم على ذلك الصغير.

أما الموجود المجرد عن الجسمية والحجمية ، فإنه يمتنع انطباق الصورة المقدارية عليه ، لا بحسب الكل ، ولا بحسب البعض. فثبت : أن انطباق العظيم على الصغير أقرب عند العقل من انطباق الشكل والمقدار ، على ما ليس له شكل ومقدار [عند العقل (٤)] فإذا كان عدم الانطباق من جميع الوجوه ، لا يمنع من حلول الصورة [والشكل في الجوهر المجرد ، فعدم انطباق العظيم على الصغير ، أولى أن لا يمنع من حلول الصورة (٥)] العظيمة في المحل الصغير. وإذا بطلت هذه المقدمة ، فقد فسد هذا الدليل بالكلية.

والبحث الثالث : إن القدماء أقاموا الدليل على أن انطباع الصورة الخيالية في الجوهر المجرد : محال.

وتقريره أن نقول : إنا إذا فرضنا مربعا مجنحا بمربعين على هذه الصورة :

فإنه يمكننا أن نتخيل هذين المربعين الواقعين على الطرفين ، بحيث يتميز

__________________

(١) إنا عقلنا (م ، ط).

(٢) من (م ، ط).

(٣) مكرر في (ل).

(٤) سقط (طا ، ل).

(٥) سقط (ط).

٨٨

كل واحد منهما عن الآخر [فهذان المربعان لا بد وأن يكونا موجودين ، وإذا كانا ليسا موجودين في الأعيان ، فهما موجودان في الأذهان. فإما أن يكون محل كل واحد منهما عين الآخر ، أو غيره. فإن كان الأول امتنع امتياز أحدهما عن الآخر. لأن (١)] الامتياز ليس بالماهية ولوازمها. لأن الماهية واحدة. ولا بالعوارض لأنهما لما حلا في محل واحد. فكل ما يفرض عارضا لأحدهما ، كانت نسبة ذلك العارض إلى أحدهما كنسبته إلى الثاني. وإذا صار العارض مشتركا فيه ، امتنع بقاء الامتياز ، وإذا لم يبق الامتياز في الذهب ، وجب أن لا يميز [الخيال (٢)] أحد ذينك المربعين عن الآخر ، وحيث حصل هذا الامتياز ، وجب أن يكون محل إحدى الصورتين مغايرا لمحل الصورة الأخرى ، وذلك لا يحصل إلا إذا كان المحل جسما. فثبت : أن حصول هذه الصورة الخيالية في الجوهر المجرد : محال.

فهذا تمام الكلام على هذه الحجة.

وهاهنا آخر الكلام في الاعتراض على هذه الدلائل ، التي زعموا أنها من الدلائل اليقينية [القطعية (٣)] والله أعلم.

__________________

(١) من (طا ، ل).

(٢) من (ل).

(٣) سقط (طا).

٨٩
٩٠

الفصل الخامس

في

حكاية الدلائل الاقناعية التي

ذكروها في أن النفس الناطقة مجردة عن الجسمية

ذكر الشيخ الرئيس «أبو علي» وجوها كثيرة في هذا الباب ، نقلها عن قدماء (١) الفلاسفة.

الحجة الأولى : قالوا : لو كانت القوة العقلية جسدانية ، لضعفت في زمان الشيخوخة دائما [ولكنها لم تضعف في زمان الشيخوخة دائما (٢)] فهي غير جسدانية. بيان الشرطية : إن المزاج يختل في زمان الشيخوخة. ومتى ضعف المحتاج إليه ، فإنه يلزم منه ضعف المحتاج. فلو كانت القوة العقلية بدنية ، لزم من اختلال البدن ، اختلالها. لكن البدن يختل عند الشيخوخة ، فكان يلزم لا محالة اختلال [القوة العقلية عند الشيخوخة.

وأما بيان عدم التالي : فلأن كثيرا من الشيوخ لا تختل قوته العقلية البتة (٣)] فثبت بما ذكرنا : أن الشرطية حقة ، وثبت أن التالي مفقود ، فوجب كون المقدم كاذبا. ثم قال هذا المستدل : وليس للسائل أن يقول : إن الشيخ إذا توغل في الشيخوخة ، فإنه يصير خرفا ويزول عقله. وهذا يدل على أن القوة العقلية جسدانية. قال : وذلك لأن هذا السؤال مدفوع ، نظرا إلى البحث

__________________

(١) عن القدماء الحجة ... إلخ (ل).

(٢) سقط (ل).

(٣) سقط (ط).

٩١

المنطقي ، ونظرا إلى البحث العقلي. أما البحث المنطقي فهو أنا قلنا : إن كانت القوة العقلية بدنية ، لزم من حصول الخلل في البدن ، حصول الخلل في القوة العقلية. وهذا اللزوم غير حاصل ، لأنه قد يبقى الشيخ مع كمال العقل ، فوجب أن لا تكون القوة العقلية بدنية، لأن انتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم. أما إذا قلنا : إن هذا الخلل قد يحصل مع الشيخوخة ، فإنه لا ينتج شيئا [لأن الاستثناء من التالي ، لا ينتج شيئا (١)] وأما البحث العقلي ؛ فهو أنا بينا أنه لو كانت القوة العقلية بدنية ، لوجب عند حصول الخلل في البدن ، أن يحصل الخلل في القوة العقلية ، وأن لا ينفك ضعف البدن عن ضعف العقل. وحيث حصل هذا الانفكاك علمنا : أن القوة العقلية غنية في ذاتها عن البدن. فلا جرم لم يلزم من حصول الخلل في البدن ، حصول الخلل في العقل. وأما حصول الخلل في العقل في بعض أوقات حصول الخلل في البدن ، فهذا لا يدل على كون القوة العقلية بدنية ، لاحتمال أن يكون الموجب لاختلال العقل في هذه الصورة [سببا آخر (٢)] وهو أن شدة اهتمام النفس بإصلاح البدن ، يمنعها عن استكمال القوة النظرية (٣).

فهذا تمام الكلام في تقرير هذا الدليل.

والاعتراض عليه : لا نسلّم إنه لو كانت القوة العقلية بدنية ، لزم اختلالها بسبب حصول كل خلل في البدن. وبيانه من وجوه :

الأول : لم لا يجوز أن يقال : القدر المحتاج إليه من صحة البدن في كمال القوة العقلية: مقدار معين. وأما كمال حال البدن في الصحة فإنه غير (٤) معتبر في كمال حال القوة العقلية. وإذا كان هذا محتملا لم يبعد أن يقال : إن ذلك

__________________

(١) من (م ، ط).

(٢) سقط (ط).

(٣) استعمال (م ، ط).

(٤) غير معين ، وغير معتبر (م ، ط).

٩٢

القدر المحتاج إليه باقي إلى آخر الشيخوخة [فلا جرم بقي العقل كاملا إلى آخر الشيخوخة (١)].

الثاني : إن الشيخ لعله إنما يمكنه أن يستمر في الإدراكات العقلية على الصحة والكمال ، لأن عقله يتم بعضو من البدن ، يتأخر الفساد والاستحالة إليه ، وإن ظهرت الآفة في سائر القوى والأفعال.

الثالث : إنه لا يمتنع أن تكون بعض الأمزجة أوفق لبعض القوى ، فلعل مزاج الشيخ أوفق للقوة العقلية. ولهذا السبب تقوى فيه القوى العقلية.

الرابع : إن المزاج إذا كان في غاية القوة والشدة ، كانت سائر القوى قوّية فتكون القوى الشهوانية والغضبية قوية جدا ، وقوة هذه القوى ، تمنع العقل من الاستكمال. فإذا حصلت الشيخوخة ، وحصل الضعف ، حصل بسبب ذلك الضعف ، ضعف في العقل ، وضعف في هذه القوى المانعة للعقل من الاستكمال ، وبقدر ما حصل من الضعف في العقل ، حصل الضعف في أضداد العقل ، فينجبر النقصان من أحد الجانبين ، بالنقصان الحاصل في المواضع ، فيحصل الاعتدال.

الخامس : إن الشيخ حفظ المقدمات الكثيرة ، ومارسها ، وكثرت تجاربه ، وهذه الأحوال تعينه على جودة الفكر (٢) وقوة النظر. فالنقصان الحاصل بسبب اختلال البدن ، صار مجبورا بما ذكرنا.

السادس : إن كثرة الأفعال سبب لحصول الملكات الراسخة ، فصارت الزيادة الحاصلة بهذا الطريق ، جابرة للنقصان الحاصل بسبب اختلال البدن.

السابع : [قال عليه‌السلام (٣)] : «يهرم ابن آدم ، ويشيب منه اثنان : الحرص والأمل» والتجارب دالة على صدق هذه القضية ، مع أن الحرص

__________________

(١) سقط (طا ، ل).

(٢) جودة الفكر ، وقوة الفكر (م ، ط).

(٣) سقط (طا).

٩٣

[والأمل (١)] من القوى الجسمانية والصفات الخيالية. ثم إن ضعف البدن ، لم يوجب ضعف هذه الصفات. فثبت : أنه لا يلزم من اختلال البدن وضعفه ، ضعف الصفات (٢) البدنية.

الثامن : إن هذه الحجة لا تدل على تكون النفس جوهرا مجردا ، لأن بتقدير أن تكون النفس عبارة عن أجسام مشرقة صافية سماوية مخالفة للطبائع العنصرية ، وأنها لا تقبل الانحلال والذبول والتبدل. فحينئذ لا يلزم من حصول الضعف والانحلال [في البدن (٣)] حصولهما في جوهر النفس.

واعلم : أن هذه الوجوه ، وإن كان يمكن تكلف الأجوبة عنها ، إلا أن الحجة مع هذه السؤالات والجوابات تصير خفية ظنية. والقول بأن الإنسان جوهر مجرد ، لا داخل العالم ولا خارجه : قول مهيب هائل. وإثبات مثل ذلك المذهب المهيب ، بمثل هذه الحجة الضعيفة الظنية : بعيد.

الحجة الثانية : قالوا : القوة العقلية غنية في أفعالها عن الجسم ، وكل ما كان غنيا في فعله عن الجسم ، وجب أن يكون غنيا في ذاته عن الجسم ، ينتج : أن القوة العقلية غنية في ذاتها عن الجسم.

أما بيان أن القوة العقلية [غنية في أفعالها عن الجسم. فلوجوه ثلاثة :

الأول : إن القوة العقلية (٤)] تدرك نفسها. ومن المستحيل أن يحصل بينها وبين نفسها : آلة متوسطة. فثبت : أن القوة العقلية غنية عن الآلة في إدراكها لنفسها

الثاني : إنها تدرك إدراكها لنفسها وليس هذا الإدراك بآلة.

الثالث : إنها تدرك الجسم الذي يقال : إنه آلتها. ومعلوم أنه ليس بينها

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) ضعف التجارب (م ، ط).

(٣) سقط (ط ، م).

(٤) سقط (ل).

٩٤

وبين آلتها : آلة أخرى. فثبت : أن القوة العقلية غنية في فعلها عن الآلة.

وأما بيان أن [كل (١)] ما كان غنيا في فعله عن الآلة ، وجب أن يكون غنيا في ذاته عن الآلة. فلوجهين :

الأول : إن القوى الجسمانية كالقوة الباصرة والسامعة ، والخيال والوهم ، لما كانت جسمانية. لا جرم تعذر عليها إدراك ذواتها ، وإدراكها لكونها مدركة لذواتها ، وإدراكها لتلك الأجسام الحاملة لها. فلو كانت القوة العقلية جسمانية ، لتعذر عليها هذه الأمور الثلاثة.

الثاني : إن مصدر الفعل هو (٢) الذات ، فلو كانت الذات متعلقة في قوامها (٣) ووجودها بذلك المحل ، كان الفعل لا محالة صادرا عن تلك الجهة. فيكون لتلك الجهة مدخل في تتميم ذلك الفعل ، فوجب أن لا يحصل ذلك الفعل إلا بشركة من تلك الأجسام. ولما ثبت أنه ليس كذلك ، وجب القطع بأن القوة العقلية : غنية عن الجسم في ذاتها. وهو المطلوب.

والاعتراض عليه : أن يقال : [لم قلتم (٤)] إن القوة العاقلة لما كانت وحدها هي المدركة لذاتها ، ولإدراكها لذاتها ، ولإدراكها لآلتها [وجب أن تكون جسمانية؟ قوله أولا : «إن القوى الحساسة ، لما كانت جسمانية ، لا جرم (٥)] تعذر عليها تلك الآثار الثلاثة. فالقوة العقلية لو كانت جسمانية ، لوجب أن يتعذر عليها هذه الآثار الثلاثة».

فنقول : ولم قلتم إنه لما ثبت حكم في قوة جسمانية ، وجب أن يثبت مثل ذلك الحكم في جميع القوى الجسمانية؟ وهل هذا إلا من باب التمثيلات (٦) التي بينوا في المنطق كونها فاسدة؟.

__________________

(١) من (ل).

(٢) صفة الذات (م ، ط).

(٣) فعلها (م).

(٤) سقط (ط).

(٥) من (طا ، ل).

(٦) باب التمثيل (م ، ط).

٩٥

وأما قوله ثانيا : «إذا لم يتوقف صدور هذه الآثار عنها ، على اعتبار حال المحل ، وجب أن لا تتوقف ذواتها على اعتبار حال المحل».

فنقول : أليس أن الصور والأعراض محتاجة إلى محالها ، وليس احتياجها إلى تلك المحال ، إلا لمجرد ذواتها ، ثم لا يلزم من استقلالها بهذا الحكم ، استغناؤها في ذواتها عن تلك المحال؟

فعلمنا : أنه لا يلزم من كون الشيء مستقلا باقتضاء حكم من الأحكام أن يكون مستغنيا في ذاته عن المحل ، بل نقول : إن جميع الآثار الصادرة عن الأجسام لأجل قوى ، وأعراض (١) حالة في تلك الأجسام. وليس لتلك الأجسام [مدخل (٢)] في اقتضاء تلك الآثار. فعلمنا : أنه لا يلزم من كون الشيء مستقلا باقتضاء حكم ، كونه غنيا في وجوده عن المحل.

الحجة الثالثة : قالوا : القوى الجسمانية تكلّ بكثرة الأفعال ، ولا تقوى على الضعيف(٣) بعد القوي. فإن من نظر إلى قرص الشمس [بالاستقصاء (٤)] فإنه في تلك اللحظة لا يحس بالشعلة الضعيفة. والسمع إذا أحس بصوت الرعد ، فإنه تلك اللحظة لا يحس بصوت الذباب. وعلة ذلك ظاهرة ، وهي أن القوى الجسمانية بسبب مزاولة الأفعال تتعرض موادها للتحلل والذبول ، وذلك يوجب الضعف. وأما القوى العقلية فإنها لا تضعف بسبب كثرة الأفعال ، وتقوى (٥) على الضعيف بعد القوى. فوجب أن لا تكون جسمانية.

والاعتراض : إن القوة الخيالية جسمانية. ثم إنها تقوى على تخيل الأشياء العظيمة ، مع تخيلها للأشياء الحقيرة. فمثلا يمكنها (٦) أن تتخيل صورة

__________________

(١) والأعراض حادثة (م).

(٢) من (طا ، ل).

(٣) القوى بعد الضعف (م ، ط).

(٤) من (م).

(٥) والقوى على القوى وبعد الضعيف (م ، ط).

(٦) يمكننا (ل ، طا).

٩٦

الشعلة الصغيرة حال ما تتخيل الشموس والأقمار. وأيضا : كما أن إبصار [الأشياء (١)] القوية القاهرة ، يمنع من إبصار الأشياء الضعيفة ، فكذا تعقل المعقولات القاهرة ، يمنع من تعقل المعقولات الضعيفة. ألا ترى أن المستغرق في معرفة جلال الله تعالى وكبريائه ، يمتنع عليه في تلك الحالة استحضار العلم بسائر الأشياء؟

الحجة الرابعة : إنا إذا حكمنا بأن السواد يضاد البياض وجب أن يحصل في الذهن ماهية السواد والبياض [بناء (٢)] على القاعدة المعلومة من أن الإدراك لا يحصل إلا عند حصول (٣) ماهية المدرك في المدرك. ثم إن البديهة قاضية بأن الجمع بين السواد والبياض ، والحرارة والبرودة في الأجسام : محال. فلما حصل هذا الاجتماع في القوة العقلية ، وجب أن لا تكون القوة العقلية قوة جسمانية وهو المطلوب.

والاعتراض عليه : إن هذه الحجة مبينة على أن من أدرك شيئا فقد حصل في ذات المدرك ماهية المدرك. وهذا الكلام لا يقبله العقل. فإنا إذا تصورنا الكرة ، فلو حصلت الكرية في النفس ، لوجب أن تكون النفس كرة لأنه لا معنى للكرة ، إلا الذات الموصوفة بهذا الشكل. وكذلك القول في السواد والبياض ، والحرارة والبرودة.

فإن قالوا : إن انطباع صورة الكرة في النفس ، مثل انطباعها في المرآة حين نشاهد الكرة في المرآة ، وكما لا يلزم من حصول صورة الكرة في المرآة ، أن تصير المرآة : كرة. فكذا القول في الإدراك النفساني. وأيضا : إنا إذا تصورنا السواد والبياض ، والحرارة والبرودة. فهذا لا يقتضي انطباع هذه الأعراض في النفس. وإنما الحاصل في النفس : صور هذه الماهيات ورسومها ومثالاتها.

__________________

(١) سقط (طا).

(٢) من (ل ، طا).

(٣) حضور (ل).

٩٧

قلنا : أما الأول فباطل. لأنا بينا في كتاب «الحس والمحسوس» : أن صور (١) المرئيات غير منطبعة البتة في المرآة. وهذا قول متفق عليه بين أكثر المحققين من الفلاسفة.

وأما السؤال الثاني : فنقول : لما سلمتم أن المنطبع في النفس عند إدراك السواد والبياض ، ليس نفس (٢) السواد والبياض ، بل رسومها ومثالاتها. فلم لا يجوز حصول رسوم هذه الأشياء ومثالاتها في المادة الجسمانية؟ وحينئذ يسقط هذا الدليل [بالكلية (٣)].

الحجة الخامسة : وهي حجة ذكرها المتكلمون. فقالوا : لو كان محل الإدراكات جسما ، وكل جسم منقسم ، فوجب أن لا يمتنع أن يقوم ببعض أجزاء ذلك الجسم : علم (٤) والبعض الآخر منه : جهل. وحينئذ يلزم أن يكون الإنسان الواحد : عالما وجاهلا بالشيء الواحد. وإنه محال.

ولقائل أن يقول : هذه الحجة منقوضة على أصول الفلاسفة. فإن الشهوة والغضب والتخيل من الأحوال الجسمانية. فيلزمهم [تجويز (٥)] أن تقوم الشهوة بأحد الجزءين ، والنفرة بالجزء الثاني ، حتى يكون الإنسان الواحد مشتهيا للشيء ، ونافرا عنه [معا (٦)] ويلزم أيضا : تجويز أن يقوم خيال بأحد الجزءين ، وأن يقوم ضد ذلك الخيال بالجزء الثاني. وحينئذ يلزم اجتماع خيالين متضادين في الإنسان الواحد ، وهو محال.

الحجة السادسة : وهي التي ذكرها «أبو علي بن مسكويه» في أول كتابه : في الأخلاق فقال : «إنا رأينا المادة الجسمانية ، إذا حصلت فيها نقوش

__________________

(١) أن تكون (م ، ط).

(٢) عين (م).

(٣) سقط (ط).

(٤) علم ضروري (م).

(٥) من (م).

(٦) سقط (ل).

٩٨

مخصوصة ، فإن وجود تلك النقوش فيها ، يمنع من حصول نقوش غيرها فيها ، وأما النقوش العقلية فبالضد من ذلك. وذلك لأن النفس ، إذا كانت خالية عن جميع العلوم ، والإدراكات. فإنه يصعب عليها التعلم ، فإذا تعلم شيئا ، صار حصول تلك العلوم معينا على سهولة تحصيل سائر العلوم.

فالنقوش الجسمانية متعاندة متنافية ، وأما النقوش العقلية فهي متعاونة متعاضدة. لأن كل نقش [يحصل ، فإنه (١)] يسهل حصول سائر النقوش في عين ذلك المحل ، وذلك يدل على أن محل التعقلات والإدراكات ليس بجسم ولا جسماني».

واعلم : أن هذه الحجة من جنس القياسات الشعرية. وذلك لأن النقوش العقلية ، معناها : العلوم والإدراكات ، والنقوش الجسمانية ، معناها : الأشكال والصور. ولا شك أن العلوم مخالفة بماهياتها وحقائقها للصور والأشكال ، ولا يلزم من ثبوت حكم في نوع من أنواع الماهيات : ثبوته ، فيما يخالف ذلك النوع. وإذا أمكن أن يكون حصول هذا الحكم ، إنما كان بسبب اختلاف هذه الأنواع في ماهياتها ، لم يلزم منه الحكم على تلك المحال بكونها جسمانية أو مجردة.

فهذه جملة الدلائل التي وصلت إلينا في هذا الباب. وقد ظهر أنها بأسرها ضعيفة ، وأنها لا تفيد ظنا قويا ، فضلا عن الجزم واليقين [والله أعلم (٢)].

__________________

(١) من (ل).

(٢) سقط (ط).

٩٩
١٠٠