المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٧

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٧

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٥

فإذا كان الفرع غنيا عن الهيولى ، فبأن يكون الأصل الذي هو الموجودية غنيا عنها أولى. وحينئذ يلزم أن تكون الصورة الهيولانية ، غنية عن الهيولى ، وذلك محال.

الوجه الثاني : إن الصورة الهيولانية إنما تؤثر بمشاركة الوضع. ومعناه أنها تؤثر أولا فيما

يقرب من محلها.

وثانيا : فيما يتصل بذلك القريب. وعلى هذا الترتيب ، فتنتقل من القريب إلى البعيد.

إذا عرفت هذا فنقول : تأثير الجسم في تكوين جسم آخر ، لا بد وأن يكون مسبوقا بتأثيره في هيولى ذلك المعلول وفي صورته. لكنا بينا أن الهيولى جوهر مجرد ، وحصول القرب والبعد بالنسبة إليه محال. فيمتنع أن يكون للصورة الجسمية تأثير في [وجود الهيولى. وذلك امتنع أن كون لها تأثير في (١)] وجود الجسم. فثبت بهذه البيانات : أن كون الجسم مؤثرا في جسم آخر : محال. فوجب أن يحصل لهذه الأجسام علل سوى الأجسام. ولما امتنع أن يكون المؤثر في وجودها هو [الله سبحانه ، وجب أن يكون المؤثر في وجودها هو (٢)] الجواهر العقلية المجردة.

وهذه الحجة مبنية على مقدمات :

إحداها : أن الجسم مركب من الهيولى والصورة.

وثانيها : أن الواحد لا يكون قابلا وفاعلا معا.

وثالثها : أن ما يكون غنيا في تأثيره عن المادة كان غنيا في وجوده عن المادة.

ورابعها : أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد.

__________________

(١) من (طا ، ل).

(٢) سقط (م) ، (ط).

٣٨١

وهذه المقدمات قد سبق الكلام فيها على سبيل الاستقصاء. فمن قدر على تقريرها بالبيانات الجلية ، سلمت له هذه الدلالة [وإلا فلا (١)] والله أعلم.

__________________

(١) سقط (طا ، ل).

٣٨٢

الفصل السادس

في

البحث عن فرعين من

فروع القول بهذه العقول والنفوس

الفرع الأول : المشهور أن عدد العقول : عشرة : العقل الأول والعقول التسعة بعدد الأفلاك. ومنهم من يقول : إنها أحد عشر. لأنه أثبت لمجموع العالم العنصري : عقلا [آخر (١)] وهو المدبر لأحوال هذا العالم ، وسماه بالعقل الفعال.

وأما المتأخرون فقالوا : إنه وإن كان عدد الكرات الكلية (٢) تسعة ، إلا أن كل واحد منها ينقسم إلى عدد من الكرات ، وهي الحوامل والتدويرات. ويجب أن يكون لكل واحد منها : نفس على حدة ، وعقل على حدة [بالاستدارة (٣)].

ومنهم من زاد فقال : الدليل الذي يدل على أن هذه الكرات الفلكية متحركة بالاستدارة ، هو أيضا يدل على أن الكواكب متحركة بالاستدارة. فوجب أن يثبت لكل واحد منها أيضا عقل ونفس.

وأيضا : قال الشيخ الرئيس [أبو علي بن سينا (٤)] لم يظهر لي أن فلك

__________________

(١) من (ل).

(٢) العالية (م).

(٣) سقط (طا) ، (ل).

(٤) سقط (م) ، (ط).

٣٨٣

الثوابت كرة واحدة ، أو كرات منطوي بعضها على بعض. فإن كان الحق : أنه كرات بحسب عدد الثوابت أو أكثر ، أو أقل ، وجب أن يثبت لكل واحد منها نفس وعقل على حدة.

وأيضا : زعم الشيخ الرئيس : أنه لا يبعد أن يقال : إنه حصل فوق فلك الثوابت ، وتحت الفلك الأعظم ، كرة أخرى. وبسبب حركاتها تتفاوت أحوال الميل (١) فإن ثبت القول بوجود تلك الكرة ، وجب أن يثبت لها نفس وعقل على حدة.

وحكى «أبو الوفاء البوزجاني» في «مجسطيه» : أن قدماء البابليين. زعموا : أن القطبين يحصل لهما ارتفاع وانخفاض في كل كذا وكذا من السنين. فإن ثبت ذلك ، وجب أن يثبت لتلك الكرة أيضا : نفس وعقل على حدة. وإذا عرفت هذا ، فقد ظهر لك أن حصر عدد العقول والنفوس في العشرة أو في الخمسين (٢) : قول لا يليق بأهل التحقيق.

بل نقول : الاحتمالات بعد ما ذكرناه باقية من وجوه :

الأول : إن الحال فيما وراء الفلك الأعظم غير معلوم. فلعله أحاط به كرات كثيرة ، بعضها محيط بالبعض. وأحوالها غير معلومة لنا. وبهذا التقدير ففي العقول والنفوس كثرة.

والثاني : إنا قد ذكرنا : أنه لا يمتنع في العقل وجود فلك عظيم الثخن ، ويكون هذا الفلك الأعظم الذي نعرفه نحن ، موجودا في ثخن تلك الكرة. ويحصل أيضا في ثخنه ألف ألف كرة ، مثل هذا الفلك الأعظم. وبهذا التقدير ففي العقول والنفوس كثرة.

الثالث : إنا ذكرنا : أنه حصل خارج العالم خلاء لا نهاية له ، ولم يدل دليل خيالي فضلا عن دليل يقيني ، على أن العالم واحد. وبتقدير أن تكون

__________________

(١) المثل (م).

(٢) الخمسة (م).

٣٨٤

العوالم كثيرة ، وجب أن يكون في العقول والنفوس كثرة.

الرابع : إنهم قالوا : إن العقل الأول حصل فيه أربع اعتبارات : إمكانه ، ووجوده ، وعلمه بكونه واجب الوجود بسبب علته ، وعلمه بعلته. ثم صدر عن هذه الاعتبارات الأربعة : أشياء : هيولى الفلك الأعظم ، وصورته وعقله ، ونفسه. ثم على هذا الترتيب يصدر عن كل عقل : هذه الأمور الأربعة. حتى استوفت الكرات السماوية عددها. وحينئذ انقطعت مراتب العقول. فلما قيل لهم : أليس هذه الاعتبارات الأربعة حاصلة في العقل الأخير ، فكان يجب أن يحصل له تلك الأربعة. وهكذا إلى ما لا آخر له؟

أجابوا عنه : بأن العقول مختلفة ، بحسب ماهياتها المخصوصة ، وحقائقها المعينة. وإذا كان كذلك ، فحينئذ لا يلزم من حصول هذه الاعتبارات الأربعة في العقل الأخير ، كونه علة لهذه الأشياء الأربعة. إذا عرفت هذا ، فنقول : إن هذا اعتراف من القوم بأنه لا يلزم من حصول هذه الاعتبارات في جوهر عقل من العقول : كونه علة لهذه المعلولات الأربعة. وإذا كان كذلك ، فحينئذ لا يلزم من حصول هذه الاعتبارات الأربعة في ذات العقل الأول : كونه علة لهيولى الفلك الأعظم ، ولصورته ، ولنفسه ، ولعقله. فلعل العقل الأول كان علة لعقل واحد ، وذلك الثاني كان علة للعقل الثالث. وهكذا. كان يصدر عن كل واحد واحد. إلى عدد ومرتبة لا يعلمها إلا الله تعالى. ثم حصل بعد ذلك عقل. وصارت الجهات الأربع الموجودة فيه ، علة للمعلولات الأربعة ، وحينئذ حصل الفلك الأعظم بهيولاه ، وصورته ، وعقله ، ونفسه. فثبت بهذه البيانات التي ذكرناها : أن حصر ملائكة الله تعالى في عدد معلوم ، مما لا يليق بالقوة العقلية البشرية.

والحق في هذا الباب : ما جاء في الكتاب الإلهي حيث قال : (وَمَا أُوتِيتُمْ‌ مِنَ‌ الْعِلْمِ‌ إِلاَّ قَلِيلاً) وقال : (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ).

__________________

(١) الإسراء ٨٥.

(٢) المدثر ٣١.

٣٨٥

الفرع الثاني : قالوا : كل واحد من هذه العقول ، يجب أن يكون نوعه في شخصه. لأنا لو فرضنا [وجود شخصين (١)] منها تحت نوع واحد ، فامتياز أحدهما عن الآخر. لا يكون بالماهية ولا بلوازمها ، فوجب أن يكون بسبب اختلاف المواد. فيلزم : أن يصير المجرد عن المادة متعلقا بالمادة. هذا خلف. وأما الذي جاء في الكتاب الإلهي. في أن بعضها «صافات» وبعضها «زاجرات» وبعضها «تاليات» فلا يخالف ذلك الكلام. لما بينا : أن الاشتراك في اللوازم والآثار ، لا يدل على الاشتراك في الماهيات [وبالله التوفيق (٢)].

__________________

(١) سقط (طا).

(٢) من (طا ، ل).

٣٨٦

الفصل السابع

في

نقل كلمات أصحاب الطلسمات

في صفات الأرواح الفلكية العالية

اعلم : أن كلام القوم مشعر بأنهم أثبتوا لكل فلك روحا كليا ، يدبر ذلك الفلك. وأثبتوا أيضا : أرواحا كثيرة متشعبة من ذلك الأصل. ومثاله : أنهم أثبتوا للعرش روحا ، هو النفس الكلية التي يسري أثرها في جميع الأجسام الموجودة في داخل هذا الفلك. وهو المسمى بالروح الأعظم.

ثم أثبتوا أرواحا كثيرة متشعبة منها ومتعلقة بأجزاء الفلك الأعظم ، وبأطرافه. كما أن النفس الكلية المدبرة للبدن شيء واحد ثم إنه انشعبت عنها قوى كثيرة ، كل واحدة منها يتعلق بجزء من أجزاء البدن. مثل : أنه حصل في كل عضو جاذبة تليق به ، وماسكة تليق به [ورعاية تليق به (١)] وكذا القول في سائر القوى. والقرآن العظيم مشعر بهذا المعنى ، حيث قال تعالى : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ ، وَالْمَلائِكَةُ : صَفًّا) (٢) فالمراد بالروح : النفس [الفلكية (٣)] المدبرة لكل جسم العرش ، وأما الشعب المنفصلة منها ، المتعلقة بأجزاء العرش وأبعاضها ، فهي المراد من قوله تعالى : (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ

__________________

(١) سقط (ط) ، (ل).

(٢) النبأ ٣٨ وفي تفسير القرطبي أن للعلماء في الروح ثمانية أقوال هي : ١ ـ ملك من الملائكة ٢ ـ جبريل عليه‌السلام ٣ ـ جند من جنود الله ليسوا بملائكة ٤ ـ أشراف الملائكة ٥ ـ حفظه على الملائكة ٦ ـ بنو آدم ، أي ذوو الروح ٧ ـ أرواح بني آدم تقوم

(٣) سقط (ط) ، (ل).

٣٨٧

الْعَرْشِ ، يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) (١) وإذا عرفت هذا البحث في الفلك الأعظم ، فاعرف مثله في سائر الأفلاك.

ثم إن أصحاب الطلسمات : أثبتوا لكل درجة من الدرجات الثلاثمائة والستين : روحا ، يختص بها ، إلا أن أثر ذلك الروح إنما (٢) يقوى ويظهر ، عند نزول الشمس في تلك الدرجة. وأثبتوا أيضا : أرواحا تدبر الأيام ، وأرواحا أخرى تدبر الساعات. وأثبتوا لكل واحد منها نوعا من التأثيرات. وأيضا : إن كرة الأرض مقسومة بأربعة أقسام : البحار ، والجبال ، والمفاوز ، والعمرانات. وزعموا : أن المدبر لكل واحد من هذه الأقسام : روح من الأرواح [الفلكية (٣)] ثم زعموا : أن لكل واحد من البحار مدبرا على حدة. وكذا القول في الجبال والمفاوز. وكذا القول أيضا في البلاد. فإنهم زعموا : أن لكل واحد منها مدبرا خاصا من الأرواح الفلكية. وزعموا : أن للنبات مدبرا ، وللطير مدبرا ، وللحشرات مدبرا. وكذا القول في السباع وفي البهائم. وهؤلاء زعموا : أن الملل والأديان دالة على هذا المعنى. ألا ترى في لسان صاحب الشريعة عليه‌السلام ، أنه قال : «جبريل صاحب الوحي والعلم ، وميكائيل صاحب الأرزاق ، وعزرائيل ملك الموت» «وملك الجبال فلان ، وملك البحار فلان». ثم إن أصحاب الطلسمات زعموا : أن الواجب على الإنسان أن يشتغل بطاعة ذلك الروح ، وبعباداته ، وأن يتخذ له هيكلا ، ويشتغل بعبادته. ورأيت أكثر أهل الهند مطبقين على هذا المذهب. ويليق بهذا الموضع : أن نشرح مذاهب عبدة الأصنام. فنقول : إن العلم الضروري حاصل بأن الحجر المنحوت ، والخشب المنحوت : لا يصلح لإلهية العالم. وما كان معلوم الفساد بالبديهة (٤) امتنع إطباق الجمع العظيم عليه زمانا طويلا ودهرا مديدا. وعبادة

__________________

(١) الزمر ٧٥.

(٢) لا يقوى ولا يظهر إلا عند ... الخ (م).

(٣) من (طا ، ل).

(٤) بالضرورة (ل).

٣٨٨

الأصنام كانت موجودة قبل مجيء نوح عليه‌السلام. بدليل : أنه تعالى حكى عن كفار زمانه قولهم: (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ. وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا ، وَلا سُواعاً ، وَلا يَغُوثَ ، وَيَعُوقَ ، وَنَسْراً) (١).

ثم إن ذلك الدين بقي من ذلك الوقت مستمرا في أكثر أطراف الأرض ، إلى هذا الزمان. وذلك يدل على أنه ليس مرادهم منه : اعتقادهم في أن مبر العالم : هو ذلك الخشب والحجر والصورة المفرغة في القالب ، بل لهم فيه تأويلات.

التأويل الأول : الأعظم الأقوى ـ أنّ المنجمين وأصحاب الأحكام : زعموا أن المدبر لهذا العالم : هو الكواكب السبعة السيارة. لأجل أنهم شاهدوا أحوال هذا العالم مرتبطة باختلاف أحوال الشمس والقمر. فاعتقدوا إلهية هذه الكواكب. ثم إنها تغيب عن العيون تارة لأجل غروبها ، وتارة لأجل أن الغيم يحجب عن رؤيتها ، وتارة لأجل أن سائر الكواكب تختفي ، بسبب وقوعها (٢) في شعاع الشمس. فلأجل هذا السبب اتخذوا أصناما على صور تلك الكواكب ، وزينوها بالأشياء المناسبة لتلك الكواكب ثم واظبوا على عبادتها. فهذا هو السبب الأعظم للاشتغال بعبادة الأصنام. ومما يدل عليه : أنه تعالى لما حكى عن الخليلعليه‌السلام ، أن قال لأبيه آذر : أتتخذ أصناما آلهة؟ إني أراك وقومك في ضلال مبين (٣). ثم إنه بعد ذكر هذا الكلام : اشتغل بإقامة الدلالة على أن لا يجوز اتخاذ الكواكب والقمر والشمس آلهة. وذلك من أصدق الدلائل الدالة على أن دين عبدة الأوثان : فرع هذا المذهب.

التأويل الثاني : ما نقلنا عن الهند وغيرهم. أنهم قالوا : ثبت بالاستقراء وبالوحي أن لكل طرف من أطراف الأرض ولكل طائفة من طوائف الناس : روح فلكي ، يدبرهم ، ويعتني بإصلاح أحوالهم. وإذا كان الأمر كذلك كان

__________________

(١) نوح ٢٣.

(٢) قوة (م).

(٣) الأنعام ٧٤.

٣٨٩

الواجب على أهل ذلك الطرف. الاشتغال بعبادة ذلك الروح ، والإقبال على طاعته. ثم إن ذلك الروح يشتغل بعبادة الروح الذي هو أعلى شأنا منه ، وأقرب منزلة إلى الله تعالى منه ، وهكذا كل مرتبة سافلة فإنها تكون مشغولة بعبادة المرتبة العالية ، حتى ينتهي التصاعد إلى العباد المقربين ، في حضرة واجب الوجود. وهم يعبدونه حق عبادته ، ويذكرونه بالثناء اللائق به ، ويصفونه بالصفات المناسبة لكماله وجلاله. ثم إن هؤلاء الأقوام لما اعتقدوا هذا الاعتقاد : صنعوا تماثيل تناسب تلك الأرواح على وفق عقائدهم. وتقربوا إليها. وكان غرضهم من تلك العبادة : التقرب إلى ذلك الروح المدبر لذلك الطرف من الأرض. فهذا مذهب هذه الفرقة.

وسمعت من أصحاب هذا المذهب في الهند : حججا عليه :

الحجة الأولى : قالوا اعتقاد البشر بأن لهم ، أهلية عبادة الله تعالى [تيه شديد ، وصلف (١)] فإن عبوديته تعالى ، إنما تليق بمن يعرفه حق المعرفة ، ويقدر على القيام بحقوق آلائه ونعمائه كما ينبغي ، لكن العقول البشرية ضعيفة ، وتفنى في أقل الأشياء ولذلك فإن لا مسألة يبحث العقل فيها حق البحث ، إلا ويبقى فيها كالمتحير التائه الواله. وذلك يدل على نقصان عقله ، وضعف فهمه. وإذا كان كذلك ، فالواجب على البشر ، واللائق بأحوالهم : أن يشتغلوا بعبادة الملائكة. وهم يشتغلون بعبادة أكابر الملائكة والملائكة المقربون هم الذين يشتغلون بعبادة الله تعالى. فهذا أقرب إلى التواضع وحسن الأدب.

الحجة الثانية : قالوا : الغائب إنما يعرف بالقياس على الشاهد. ولو أن الرجل الضعيف يقول : إني لا أشتغل إلا بخدمة السلطان الأعظم ، لبقي محروما عن كل الخيرات. إنما اللائق بحاله : أن يخدم واحدا من الأوساط. وذلك الرجل يخدم الحاجب أو غيره. وذلك الحاجب يخدم السلطان. وحينئذ يحصل النظم والترتيب ، ويمكنه أن ينتفع به نفعا لائقا به.

__________________

(١) من ز ل ، وفي ، م ، خطأ عظيم.

٣٩٠

وأيضا إن ملك أرضا بمقدار جريب فإذا أراد أن يسقيها ، فاللائق به أن يطلب شعبة صغيرة ، تنفصل من جدول صغير ، ويجريها إلى تلك الأريضة. فأما إن أراد إجراء [النهر العظيم الذي في (١)] الوادي إلى تلك الأريضة ، غرقت وفسدت. فكيف إذا قال : إني أجري إليها البحر الأعظم. فكذا هاهنا روح البشر ، تجري مجرى الأريضة الصغيرة. فإذا أراد سقيها ببحار أنوار جلال الله تعالى ، غرقت. بل الأولى أن يغلق فكره بروح من الأرواح الفلكية حتى يمكنه الانتفاع بها.

الحجة الثالثة : إنه لما كان المتولي لرعاية مصالح ذلك الطرف ، هو ذلك الروح المعين ، كان الإعراض عن طاعته ، إعراضا عن المنعم. فيستحق المقت والحرمان.

واعلم : أني لما سمعت هذه الوجوه من القوم قلت : إنها كلمات لا بأس بها في ظاهر الأمر ، إلا أن فيها عيبا عظيما ، وفحشا تاما. فقالوا لي : وما ذلك العيب؟ فقلت : إن وجود موجود واجب الوجود لذاته ، يدبر هذا العالم : معلوم. وأما إثبات هذه الأرواح ، وكونها مدبرة لهذا الطرف من الأرض فهو غير معلوم بل أمر مظنون غير متأكد بحجة قوية ، وبرهان تام. وإذا كان كذلك ، فالاشتغال بعبادة هذه الأرواح : إعراض عن المعبود الذي علم كونه معبودا ، وإقبال على عبادة شيء لم يعلم وجوده البتة. والعقل يقتضي الإعراض عن المجهول ، والإقبال على المعلوم. فأما ضده فهو على مضادة مقتضى العقل.

وهذا هو الدليل المذكور في القرآن ، في قوله تعالى : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ، لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ. فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ. إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) (٢) وتقريره : إن وجود الإله : معلوم لأنه لما دل الدليل على وجوب انتهاء الممكنات إلى موجود واجب الوجود لذاته فحينئذ حصل الجزم بوجوده. ولما فسد دليل من

__________________

(١) العبارة ملفقة من (م ، ل).

(٢) المؤمنون ١١٧.

٣٩١

قال : الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد. فحينئذ لا يمتنع كونه سبحانه مبدأ لجميع الممكنات. والعلم بأن هذا الموجود : إله واجب التعظيم : حاصل قطعا. أما سائر الأسباب ، فوجودها غير معلوم بالبرهان [وبتقدير كونها موجودة ، لكن لا يعلم كونها مؤثرة في هذا العالم بالبرهان (١)] وإذا ثبت هذا ، كان الاشتغال بعبادتها إعراضا عن المعلوم ، وإقبالا على ما لم يثبت وجوده بالبرهان [فهذا معنى قوله تعالى : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) (٢)]. ثم قال : (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) أي من جحد المعلوم ، وأثبت غير المعلوم : لم يفلح البتة. ثم قال بعده : (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ. وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) وهذا فيه لطيفة عجيبة : لأن المقصود بالعبادات (٣) : إما دفع المؤذي ، وإما الفوز بالراحة. ودفع المؤذي أهم من الوصول إلى الراحة ، فيكون مقدما عليه في الرتبة. ودفع المؤذي هو المغفرة والفوز بالراحة هو الرحمة. فلهذا قال : (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ) فقدم طلب المغفرة والفوز بالراحة ، على طلب الرحمة. ثم قال : (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ).

وفيه دقيقة أخرى : وهي أن هذه الأرواح الفلكية بتقدير كونها قادرة على دفع البلاء ، وإيصال الآلاء والنعماء. إلا أن قدرة المبدأ الأول عليه : أكمل وأفضل. لأنها محتاجة إلى واجب الوجود [لذاته (٤)] في ذواتها ، وفي صفاتها والمحتاج إليه أكمل وأفضل وأعلى وأقوى من المحتاج. وبتقدير ثبوت هذه الأرواح وتقدير كونها مدبرة لهذا العالم ، إلا أن الرجوع إلى واجب الوجود في طلب هذه الأشياء ، أولى من الرجوع إلى تلك الأرواح. لأنه فوق الكل في الكمال والرحمة والفضل والجود والكرم. ولهذا ختم الكلام بقوله : (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ).

__________________

(١) سقط (م) ، (ط).

(٢) من (طا ، ل).

(٣) بالذات (م).

(٤) من (م).

٣٩٢

التأويل الثالث لعبدة الأصنام : إن أصحاب الأحكام والطلسمات ، كانوا يطلبون الأوقات الصالحة للطلسمات التي تقوي آثارها وفوائدها. وذلك الوقت لا يوجد في الألوف من السنين إلا لواحد. فإذا وجده عمل عليه طلسما لذلك المطلوب الخاص. ثم إنهم يعظمونه ويرجعون إليه عند طلب تلك المنافع والفوائد.

التأويل الرابع : ما ذكره «أبو معشر ، جعفر بن محمد البلخي (١)» فقال : إن كثيرا من أهل الصين والهند ، كانوا يقولون بالله والملائكة. إلا أنهم اعتقدوا : أن الله تعالى جسم ، وأن له صورة كأحسن ما يكون من الصور. وهكذا حال الملائكة أيضا في صورهم الحسنة. وكانوا يعتقدون أنهم محتجبون عنا بالسماوات. فلهذا السبب اتخذوا صورة حسنة وتماثيل أنيقة المنظر ، حسنة الرؤيا (٢) فجعلوا أحسنها وأعظمها على صورة الإله ، وزينوه بالذهب والجواهر النفيسة. ثم صوروا صورا ، دون تلك الصور الأولى ، على اعتقاد أنها صور الملائكة ، وأخذوا يعبدونها ، ويواظبون على خدمتها وعلى هذا التقدير فدين عبدة الأوثان فرع على القول بالتجسيد والتشبيه.

التأويل الخامس : إنه كلما مات لهم رجل يعتقدون في علو درجته ، وكمال مرتبته عند الله : اتخذوا تمثالا على صورته. وغرضهم منه : تعظيم ذلك الرجل الميت. وزعموا : أنه يوم القيامة يكونون شفعاؤهم عند الله. وقد أخبر الله تعالى عنهم في قوله تعالى : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) (٣) وقوله : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) (٤).

التأويل السادس : إن جماعة من المجسمة يجوزون حلول الإله تعالى في أبدان الحيوانات والنباتات. فلما شاهدوا من تلك الأصنام آثارا مخصوصة. إما

__________________

(١) المنجم (م).

(٢) الرواء (ط).

(٣) الرمز ٣.

(٤) يونس ١٨.

٣٩٣

على سبيل الحقيقة ، وإما على سبيل المكر والخداع : وقع في قلوبهم : أن الإله تعالى حلّ فيها. فلهذا السبب اشتغلوا بعبادتها.

التأويل السابع : لعل المتقدمين اتخذوها محاريب لصلواتهم وطاعتهم ، ويسجدون إليها ، لا لها. كما نسجد إلى القبلة [لا للقبلة (١)] ولما طالت المدة في هذا العمل (٢) ظن الجهال من القوم : أنه يجب عبادتها.

فهذا جملة التأويلات المذكورة في هذا الباب.

واعلم أن اليونانيين كانوا قبل خروج «الإسكندر» عمدوا إلى بناء هياكل لهم ، معرفة بأسماء القوى الروحانية ، والأجرام المنيرة ، واتخذوها منازل للطاعة والعبادة. فواحد منها هيكل (٣) العلة الأولى وهو عندهم الأمر الإلهي. ثم هيكل العقل الصريح ، وهيكل السياسة المطلقة ، وهيكل النفس والصورة. وهي بأسرها مدورات ، وكان هيكل «زحل» مسدسا ، وهيكل «المشتري» مثلثا ، وهيكل «المريخ» مستطيلا ، وهيكل «الشمس» مربعا ، وكان هيكل «الزهرة» مثلثا في جوفه مربع ، وهيكل «عطارد» مثلثا في جوفه مستطيل ، وهيكل «القمر» كان مثمنا. ولهم في هذه الأشكال المخصوصة أسرار واجبة الرعاية بحسب أقوالهم [والله أعلم (٤)].

__________________

(١) سقط (طا ، ل).

(٢) العمر (م).

(٣) علة هيكل (ط).

(٤) من (طا ، ل).

٣٩٤

الفصل الثامن

في

شرح صفات الملائكة

بحسب ما وجدنا في الكتاب الكريم

اعلم : أنه لا خلاف بين العقلاء في أن أشرف أقسام [الحسن والكمال للعالم العلوي هو وجود الملائكة فيه. كما أن أشرف أقسام (١)] الزينة في العالم الأسفل ، هو وجود الإنسان العاقل فيه. إلا أن الناس اختلفوا في ماهية الملائكة. وطريق ضبط الأقوال أن نقول :

إنها إما أن تكون متحيزة ، أو لا تكون متحيزة.

أما القسم الأول. ففيه أقوال :

الأول : إنها أجسام لطيفة هوائية نورانية ، تقدر على التشكل بأشكال مختلفة [وأنها ذوات باقية ، مبرأة عن الذبول والانحلال والضعف والاختلال (٢)] ومسكنها السموات. وهذا قول أكثر المسلمين.

الثاني : قول طوائف من عبدة الأصنام. وهو أن الملائكة في الحقيقة هي هذه الكواكب ، الموصوفة بالإسعاد والإنحاس. فإنها أحياء ناطقة. فالسعود ملائكة الرحمة ، والنحوس ملائكة العذاب.

الثالث : قول الثنوية. وهو أن هذا العالم مركب من أصلين قديمين.

__________________

(١) من (طا ، ل).

(٢) من (طا ، ل).

٣٩٥

وهما النور والظلمة. وهما جوهران حساسان مختاران قادران ، متضادان في النفس والصورة ، مختلفان قادران ، في الفعل والتدبير. فجوهر النور فاضل خير نقي طيب الريح كريم النفس ، يسر (١) ولا يضر ، وينفع ولا يمنع ، ويحيى (٢) ولا يبلى. وأما جوهر الظلمة فهو على ضد ذلك. ثم إن جوهر النور لم يزل يولد الأولياء. وهم الملائكة ، لا على سبيل التناكح ، بل على سبيل تولد الحكمة من الحكيم ، والضوء من المضيء. وجوهر الظلمة لم يزل يولد الأعداء [وهم الشياطين (٣)] لا على سبيل التناكح ، بل على سبيل تولد السفه من السفيه. فهذه الأقوال الثلاثة هي أقوال من جعل الملائكة أشياء متحيزة جسمانية.

والقسم الثاني : وهو ان الملائكة ذوات قائمة بأنفسها. وليست متحيزة ولا حالة في المتحيزات ، ففيه (٤) قولان :

الأول : قول طوائف من النصارى : وهو أن الملائكة في الحقيقة : هي الأنفس الناطقة ، المفارقة لأبدانها مع الصفاء والخيرية. وذلك لأن هذه النفوس المفارقة ، إن كانت صافية خيرة ، فهي الملائكة. وإن كانت خبيثة كدرة ، فهي الشياطين.

والثاني : وهو قول جمهور الفلاسفة : إن الملائكة عبارة عن جواهر مجردة عن الجسمية وعلائقها. وإنها بالماهية مخالفة للنفوس البشرية [ولا نسبة لعلومها إلى علوم النفوس البشرية الناطقة ولا لقدرها إلى قدر النفوس الناطقة البشرية. وأنها أكمل منها قوة وأكثر علما. وأنها بالنسبة إلى النفوس البشرية جارية مجرى الشمس بالنسبة (٥)] إلى الضوء القليل ، والبحر الأعظم بالنسبة إلى القطرة. ثم إن هذه الجواهر على قسمين : منها ما هي مستقلة بتدبير أجسام الأفلاك

__________________

(١) ييسر ولا يعسر (م).

(٢) ويحيى الذليل (ل).

(٣) سقط (ل).

(٤) المتحيزات. وعلى هذا التقدير ففيه [الأصل].

(٥) من (طا ، ل).

٣٩٦

[والكواكب. كنفوسنا الناطقة بالنسبة إلى أبداننا (١)] وهي المسماة بالنفوس الفلكية. ومنها ما هو أعلى شأنا من أن يكون لها تعلق بعالم الأجسام. وهي العقول المجردة. وقد ذكر دلائل الفلاسفة في إثبات هذه الموجودات على سبيل الاستقصاء.

واعلم : أن الأخبار الكثيرة واردة في شرح كثرتها قال عليه‌السلام : «أطت السموات. وحق لها أن تئط. ما فيها موضع قدم ، إلا وفيه ملك ساجد أو راكع».

وروى أن «بني آدم : عشر الجن. ثم إن الجن وبني آدم : عشر حيوانات البر (٢) والطير. وهؤلاء كلهم عشر حيوانات البحر. وكلهم عشر ملائكة الأرض. وكلهم عشر ملائكة السماء الدنيا. وكلهم عشر ملائكة السماء الثانية».

وعلى هذا الترتيب إلى «ملائكة السماء السابعة» ثم الكل في مقابلة «ملائكة الكرسي» شيء قليل جدا. ثم كلهم عشر ملائكة «السرادق الواحد» من سرادقات العرش ، ثم إنه ما من مقدار من أجزاء السموات السبع والكرسي والعرش. إلا وفيه ملك ساجد ، أو راكع ، أو قائم.

ولهم زجل بالتسبيح والتقديس. ثم كل هؤلاء في مقابلة الملائكة ـ الذين هم سكان سائر العوالم الموجودة خارج هذا العالم ـ كالقطرة في البحر ، والذرة في الأرض. ولا يعلم عددهم إلا الله عزوجل.

واعلم : أن الله تعالى ذكر في القرآن : أصنافهم وأوصافهم.

أما الأصناف : فأعلاهم درجة : حملة العرش وهو قوله : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ) (٣).

__________________

(١) من طا ، وفي (ل). زيادة بعد أبداننا. هي : التي هي الأفلاك والأجرام.

(٢) البحر (م).

(٣) الحاقة ١٧.

٣٩٧

والمرتبة الثانية : الحافون حول العرش. وهو قوله تعالى : (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) (١)

والمرتبة الثالثة : أكابر الملائكة. ومنهم جبريل ـ عليه‌السلام ـ وصفاته في القرآن كثيرة.

إحداها : إنه صاحب الوحي إلى الأنبياء [عليهم‌السلام (٢)] قال : الله تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ) (٣).

وثانيها : إنه تعالى : قدمه في الذكر على ميكائيل ، فقال : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) (٤) والسبب فيه : أن جبريل صاحب الوحي والعلم. وميكائيل صاحب الأغذية ، والأرزاق الجسمانية. والخيرات النفسانية [أفضل من الخيرات الجسمانية (٥)] فلا جرم كان جبريل أفضل من ميكائيل.

وثالثها : إنه تعالى جعل جبريل ثاني نفسه. فقال : (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) (٦)

ورابعها : إنه سماه «روح القدس» فقال : (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) (٧).

وخامسها : إنه ينصر أولياء الله ، ويقهر أعداء الله. مثل : قصة «بدر» (٨).

وسادسها : إنه مدحه بصفات ست. فقال : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ، ذِي قُوَّةٍ ، عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ ، مَكِينٍ ، مُطاعٍ ، ثَمَّ أَمِينٍ) (٩) ورسالته : أنه

__________________

(١) آخر الزمر.

(٢) سقط (طا ، ل).

(٣) الشعراء ١٩٣ ـ ١٩٤.

(٤) البقرة ٩٨.

(٥) من (طا ، ل).

(٦) التحريم ٤.

(٧) المائدة ١١٠.

(٨) آل عمران ١٢٣.

(٩) التكوير ١٩ ـ ٢١.

٣٩٨

رسول الله إلى جميع الأنبياء. والرسل والأنبياء كلهم من البشر. وكرمه على عباد الله تعالى : أن جعله واسطة بينه وبين أشرف عباده في الأرض. وهم الأنبياء والحكماء. وقوته : أنه ما أخل بشيء من طاعات ربه أصلا. ومكانته عند الله : أنه مستغرق في تلك العبودية ، غير ملتفت إلى شيء آخر من الأغراض. وكونه مطاعا : أنه إمام الملائكة وأستاذهم. وكونه أمينا : فهو قوله (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ) (١).

ومن جملة أكابر الملائكة : إسرافيل وعزرائيل عليهما‌السلام. والأخبار الكثيرة دلت عليها. وثبت في الأخبار : أن عزرائيل هو ملك الموت. قال تعالى : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) (٢) ويجب أن يكون له شعب ونتائج وأعوان. كما قال تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ. تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) (٣) وقال تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا. الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) (٤) وأما إسرافيل عليه‌السلام فقد دلت الأخبار على أنه صاحب الصور ، كما قال : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ، فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ. ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى. فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (٥).

وسمعت (٦) أن بعض الفلاسفة كان يقول : «المراد من عزرائيل : النفس الكلية لفلك «زحل»

وأما أتباع عزرائيل فهي النفوس المتشعبة من تلك النفس السارية آثارها في هذا العالم الجسماني. وأما إسرافيل فهو : النفس الكلية لفلك «الشمس» والدليل عليه : «أن ثبت أن لإسرافيل ثلاثة أنواع من نفخ الصور وهي نفخة

__________________

(١) الشعراء ١٩٣ ـ ١٩٤.

(٢) السجدة ١١.

(٣) الأنعام ٦١.

(٤) الأنفال ٥٠.

(٥) الزمر ٦٨.

(٦) قال المصنف : وسمعت (م).

٣٩٩

الفزع ، ونفخة القيام ونفخة الصعق. وهذه الثلاثة حاصلة للشمس فإن عند غروبها يستولي الفزع على جميع الحيوانات ، فترجع كلها إلى أماكنها [وعند غروب الشفق تحصل نفخة الصعق ، لأن الحيوانات بأسرها تبقى في مساكنها (١)] مستلقية كأنها الأموات. وعند طلوعها من المشرق تقوم الحيوانات بأسرها ، وتقوى بعد ضعفها وتصير أحياء بعد موتها».

والمرتبة الرابعة من الملائكة المذكورين في القرآن : ملائكة الجنة وملائكة النار. أما ملائكة الجنة فقوله : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ. فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (٢) وأما ملائكة النار فقوله : (عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ. وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (٣) وكان بعض الفلاسفة يقول : «المراد بملائكة الجنة : أرواح فلك «المشتري» والمراد بملائكة النار : أرواح فلك «المريخ».

والمرتبة الخامسة : من الملائكة : الموكلون ببني آدم. لقوله تعالى : (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) (٤) وقوله : (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ)(٥).

وقال بعض الفلاسفة : «قد سبق تفسير الطباع التام لكل طائفة من طوائف النفوس البشرية. فتلك الأرواح المسماة بالطباع التام : هي التي تحفظها عن الآفات والمخافات. وأما أضداد تلك الجواهر المسماة بالطباع التام ، فهي التي تلقيها في المعاطب والمهالك».

والمرتبة السادسة : الملائكة الموكلون بأطراف هذا العالم. قال الله تعالى : (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا. فَالزَّاجِراتِ زَجْراً. فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) (٦) فالمراد بقوله :

__________________

(١) من (طا ، ل).

(٢) الرعد ٢٣ ـ ٢٤.

(٣) التحريم ٦.

(٤) ق ١٧.

(٥) الرعد ١١.

(٦) الصافات ١ ـ ٣.

٤٠٠