المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٩

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٩

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٥

١
٢

٣
٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة المؤلف

[رب أنعمت فزد (١)]

قال مولانا الداعي إلى الله ، أبو عبد الله «محمد بن عمر بن الحسين» الرازي ـ قدس الله روحه [ونور ضريحه (٢)] ـ :

الحمد لله المتعالي بكبريائه عن علائق [عقول (٣)] المخلوقات ، المتعظم بسناء صمديته عن مناسبة الكائنات والممكنات. مبدع المفردات والمركبات ، ومخترع الذوات والصفات ، وموجد الحيوان والنبات ، ومقدر الحركات والسكنات ، ومنشئ الباقيات والمتغيرات. داحى المدحوات ، وسامك المسموكات ، ومصلح أحوال الأحياء والأموات ، ومحصل الأرزاق والأقوات ، في جميع الأو قات. تقدست حياته عن السقم والألم والممات ، وتنزهت حكمته عن الشكوك والأوهام والشبهات. وتبرأت إرادته عن الميول والأمانى والشهوات ، وتعالت قدرته عن الاحتياج إلى الآلات والأدوات ، وتعظمت خلاقيته عن جر المنافع والخيرات ، ودفع المضار والآفات. يرزق الوحوش في الفلوات ، ويحفظ الحيتان في قعور البحار الزاخرات ، ويعلم ذرات الأمواج

__________________

(١) من (م).

(٢) سقط (ط).

(٣) سقط (ل).

٥

المتلاطمات ، ويخلص المتحيرين من معضلات البليات ، ويجيب المضطرين عند الإخلاص في الدعوات. فبوجوب وجوده تقطع سلسلة الحاجات ، وبجود جوده يتناهى تصاعد درجات الافتقارات والضرورات.

فسبحانه. هو الله الذي لا يعزب عن فضاء قضائه مثقال ذرة في الأرض [ولا (١)] في السموات.

أحمده. على ما أفاض علينا من الخيرات ، ودفع عنا من البليات.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة تبقى آثار أنوارها على كرور الدهور والشهور والساعات وتترقى آثار بيناتها إلى مصاعد الخيرات ، ومعارج البركات.

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، المؤيد بأظهر المعجزات ، وأبهر البراهين والبينات. وهو القرآن العظيم ، البالغ في كمال الفصاحة إلى أبلغ الغايات ، وأقصى النهايات ، وعلى آله وأصحابه ، صلاة توجب لهم مزيد الدرجات والكرامات. وسلم تسليما.

«أما بعد».

فهذا كتاب في غاية الجلالة والمرتبة ، ونهاية الشرف والمنقبة ، لاشتماله على جميع المباحث التي لا بد من عرفانها في مسألة الجبر والقدر ، ووصلت إليها غايات القدر. متوسلا به إلى رضوان الله العظيم ، وإحسانه العميم. وسألت الله سبحانه أن يعصمني من الغواية في الرواية ، ويسعدني بالإعانة على الإبانة. إنه خير موفق ومعين.

ومجموع (٢) الكتاب مشتمل على مسألة «خلق الأفعال» والكلام في هذه المسألة مرتب على مقدمة وأبواب.

وبالله التوفيق

__________________

(١) من (م ، ل).

(٢) عبارة الأصل : ومجموع الكتاب مشتمل على ثلاث مسائل : أ ـ في خلق الأفعال. ب ـ في إرادة الكائنات. ج ـ في الحسن والقبح. وبالله التوفيق المسألة الأولى في خلق الأفعال. والكلام في هذه المسألة مرتب على مقدمة وأبواب ... الخ. وليس في الكتاب كله إلا المسألة الأولى.

٦

خلق الأفعال

٧
٨

المقدمة

في

بيان تفاصيل مذاهب الناس في هذا الباب

أعلم : أنا نعلم بالضرورة : أن القادر على الفعل إذا دعاه الداعي إليه ، ولم يمنعه منه مانع. فإنه يحصل ذلك الفعل. وهذا القدر معلوم.

ثم اختلف العقلاء بعد ذلك على أقوال :

القول الأول : إن المؤثر في حصول هذا الفعل ، هو قدرة الله تعالى ، وليس لقدرة العبد في وجوده أثر. وهذا قول «أبي الحسن الأشعري (١) وأكثر

__________________

(١) رأى الأشعري المتوفى سنة ٣٢٤ : أن العبد منفذ لما كتبه الله عليه من قبل أن يولد من بطن أمه. ودليله على ذلك الحديث الذي رواه في كتاب الإبانة من أن الملك يكتب العمر والرزق والشقاوة أو السعادة للمرء من قبل ولادته. ثم إن الأشعري موه على رأيه هذا لئلا يتهمه الناس بالجبر ، بقوله بنظرية الكسب. ومعناها : أن قدرة الله (القديمة) تقترن بقدرة العبد (الحادثة) حال حصول الفعل. وللإنسان كسب ، لأنه وضع يده على الفعل. والحق : أن الكسب لا حقيقة له. لأنه إذا اقترنت قدرة الله مع قدرة الانسان ، فقدرة الله هي التي ستغلب. وإذا ظهر أن العبد لا قدرة له ، ظهر أن مذهب الأشعري هو مذهب الجبرية. وفي ذلك يقول الشاعر

مما يقال ولا حقيقة عنده

معقولة تدنو إلى الأفهام :

الكسب ، عند الأشعري ، والحال

عند البيهشي ، وطفرة ، النظام

يقول الأشعري ـ نقلا عن الشهرستاني ـ : «إن الله تعالى أجرى سنته بأن يخلق عقيب القدرة الحادثة أو تحتها أو معها : الفعل الحاصل ، إذا أراده العبد وتجرد له ، وسمى هذا الفعل كسبا فيكون خلقا من الله تعالى إبداعا وإحداثا وكسبا من العبد مجعولا تحت قدرته».

٩

أتباعه. كالقاضي «أبي بكر الباقلاني (١) و «ابن فورك» ثم حصل هاهنا بين «الأشعري» وبين «القاضي» اختلاف من وجه آخر. فقال الأشعري : قدرة العبد كما لم تؤثر في وجود الفعل البتة ، لم تؤثر أيضا في شيء من صفات ذلك الفعل وقال القاضي : «قدرة العبد وإن لم تؤثر في وجود ذلك الفعل ، إلا أنها أثرت في صفة من صفات ذلك الفعل ، وتلك الصفة هي المسماة بالكسب» قال : «وذلك لأن الحركة التي هي [طاعة والحركة التي هي (٢)] معصية قد اشتركا في كون كل منهما حركة ، وامتازت إحداهما عن الأخرى بكونها طاعة أو معصية. وما به المشاركة غير ما به الممايزة. فثبت : ان كونها حركة غير ، وكونها طاعة أو معصية فذات الحركة ووجودها واقع بقدرة الله تعالى. أما كونها طاعة أو معصية فهو صفة واقعة بقدرة العبد».

هذا تلخيص مذهب «القاضي» على أحسن الوجوه.

القول الثاني : إن المؤثر في وجود ذلك الفعل هو قدرة الله تعالى ، مع قدرة العبد.

ثم هاهنا احتمالان :

أحدهما : أن يقال : إن قدرة الله تعالى مستقلة بالتأثير [وقدرة العبد أيضا مستقلة بالتأثير (٣)] إلا أن اجتماع المؤثرين المستقلين على الأثر الواحد : جائز(٤).

__________________

(١) «والقاضي أبو بكر الباقلاني تخطى عن هذا القدر قليلا. فقال : «الدليل قد قام على أن القدرة الحادثة لا تصلح للإيجاد ، لكن ليست تقصر صفات الفعل أو وجوده واعتباراته على جهة الحدوث فقط. بل هاهنا وجوه أخر ، وراء الحدوث من كون الجوهر متحيزا قابلا للعرض ، ومن كون العرض عرضا ولونا وسوادا وغير ذلك. وهذه أحوال عند مثبتي الأحوال» قال : «فجهة كون الفعل حاصلا بالقدرة الحادثة أو تحتها : نسبة خاصة ، يسمى ذلك كسبا. وذلك هو أثر القدرة الحادثة» قال : «فإذا جاز على أصل المعتزلة أن يكون تأثير القدرة أو القادرية القديمة في حال هو الحدوث والوجود ، أو في وجه من وجوه الفعل. فلم لا يجوز أن يكون تأثير القدرة الحادثة في حال هو صفة للحادث أو في وجه من وجوه الفعل ، وهو كون الحركة مثلا على هيئة مخصوصة؟»

(٢) من (ط ، ل).

(٣) سقط (م).

(٤) في كتاب «الإبانة عن أصول الديانة» استدل الأشعري بهذا الحديث :

١٠

والثاني : أن يقال : قدرة الله تعالى مستقلة بالتأثير ، وقدرة العبد غير مستقلة بالتأثير ، وإذا انضمت قدرة الله تعالى إلى قدرة العبد ، صارت قدرة العبد مستقلة بالتأثير بتوسط هذه الإعانة. ويقال إن هذا القول هو مذهب الأستاذ «أبي إسحاق» إلا أنه يحكى عنه أنه قال «قدرة العبد تؤثر بمعنى».

والقول الثالث : إن حصول الفعل عقيب مجموع القدرة مع الداعي واجب. وذلك لأن القادر من حيث إنه قادر يمكنه الفعل بدلا عن الترك ، وبالعكس. ومع حصول هذا الاستواء ، يمتنع رجحان أحد الطرفين على الآخر. فإذا انضاف إليها (١) حصول الداعي : حصل رجحان جانب الوجود. وعند ذلك يصير الفعل واجب الوقوع. وهذا القول هو المختار عندنا.

ثم القائلون بهذا القول. إما أن يقولوا : المؤثر في دخول الفعل في الوجود : مجموع القدرة مع الداعي ، وإما أن يقولوا : ليس المؤثر في دخول الفعل في الوجود هو مجموع القدرة والداعي. وهؤلاء أيضا فريقان :

فأما الذين زعموا : أن مدبر [هذا (٢)] العالم موجب بالذات. قالوا : إن عند حصول القدرة مع الداعي يحصل الاستعداد التام ، لدخول ذلك الفعل في الوجود إلا أن هذه القوى الجسمانية ليست لها صلاحية الإيجاد والتأثير فعند حصول الاستعداد التام يفيض الوجود من واهب الصور ، على تلك الماهيات وتصير موجودة. فحصول القدرة والداعي يفيد الاستعداد التام. وأما الوجود والحصول ، فذاك من واهب الصور. وهذا مذهب جمهور الفلاسفة.

وأما الذين زعموا : أن مدبر هذا العالم فاعل مختار. قالوا : إن مجموع

__________________

ـ «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه : أربعين يوما نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يبعث الله إليه ملكا ، ويؤمر بأربع كلمات ، ويقال له : اكتب عمله ورزقه وأجله وشقى أو سعيد. ثم ينفخ فيه الروح» والحديث صريح في إثبات مذهب الجبر ، والحديث أيضا صريح في إنكار «الكسب» الذي قال به الأشعري للتوفيق بين الحنابلة وبين المعتزلة. وصريح في إنكار «صورة الفعل» عند الباقلاني وصريح في إنكار «السبب والمسبب» عند الجويني وموافق لرأي الغزالي.

(١) أي القدرة.

(٢) سقط (ط ، ل).

١١

القدرة والداعي يستلزم حصول الفعل ، إلا أن الملزوم واللازم إنما يحصلان بقدرة الله تعالى كما أن الجوهر والعرض متلازمان ، ومع ذلك فإنهما لا يوجدان إلا بقدرة الله تعالى.

والقول الرابع : إن المؤثر في حصول الفعل هو قدرة العبد على سبيل الاستقلال. وهذا هو قول المعتزلة (١) ثم هؤلاء اختلفوا في مواضع :

فالأول : إن تأثير القدرة في حصول الفعل. هل هو موقوف على حصول الداعي؟ أما «أبو الحسين» فقد اضطرب قوله فيه. فكلما تكلم مع الفلاسفة في قولهم : لم خصص الله إحداث العالم بالوقت المعين ، دون ما قبله أو ما بعده؟ قال : «الفعل لا يتوقف على الداعي» وكلما تكلم في سائر المسائل مع أصحابه. قال : «الفعل يتوقف على الداعي ، وأن الرجحان من غير المرجح : باطل في بدائه العقول».

وأما مشايخ المعتزلة فأكثرهم [لا يوقفون (٢)] حصول الفعل على الداعي. ثم إذا قلنا : إن الفعل يتوقف على الداعي. فهل يصير الفعل واجب الوقوع عند حصول الداعية الخالصة؟ فالأليق بكلام «أبي الحسين» أنه يسلم الوجوب. وقال صاحبه «محمود الخوارزمي» : «إن الفعل عند (٣) حصول الداعي يترقى من حد التساوي ، ولكن لا ينتهي إلى حد الوجوب ، بل يصير أولى بالوقوع».

والثاني : إن العلم بكون العبد موجدا لأفعال نفسه : علم ضروري (٤) أو نظري؟ فالجمهور من مشايخ المعتزلة اتفقوا على أنه علم نظري. وأما «أبو

__________________

(١) يقول القاضي عبد الجبار في المجموع : «إن الفعل إنما يقع من أحدنا ، لمكان الدواعي. ولولاها لم يقع. فيجب أن يكون القادر ، من يصح اختصاص الدواعي به» [ص ٢٦ المجموع في المحيط بالتكليف]

(٢) سقط (ل).

(٣) في (م).

(٤) نظري أو ضروري (ط).

١٢

الحسين» فانه يزعم : أنه علم ضروري. وهو الذي اختاره «محمود الخوارزمي».

والثالث : إن الأقوال الثلاثة الأول مشتركة في القول بالجبر. لأن بتقدير صحة كل واحد من [تلك (١)] الأقوال الثلاثة ، لا يكون العبد مستقلا بالإيجاد. فإن صدور الفعل عن العبد إذا كان (٢) موقوفا على إعانة الله ، أو كان موقوفا على حصول القدرة مع الداعي ، أو كان بحال متى حصلت القدرة مع الداعية وجب الفعل. ومتى لم يحصلا ، أو لم يحصل واحد منهما امتنع وقوع الفعل فكان الجبر لازما.

فهذا هو القول في تفصيل المذاهب الممكنة في هذه المسألة. واعلم (٣) : أن هاهنا أبحاثا غامضة في تعيين محل النزاع ، لا بد من التنبيه (٤) عليها. وهي من وجوه :

فالبحث الأول : إن [المعتزلى (٥)] إما أن [يقول (٦)] : إن حصول الفعل عقيب مجموع القدرة والداعي : واجب. أو يقول : إنه غير واجب. فإن قال : إنه واجب. فقد بطل الاعتزال بالكلية. لأن تلك الدواعي لا يمكن أن يستند كل واحد منها إلى داعية أخرى ، لامتناع التسلسل والدور. بل لا بد من انتهائها إلى داعية تحصل بفعل الله تعالى. وإذا كان كذلك ، فنقول : عند حصول القدرة والداعية ، لما كان الفعل واجبا ، وعند فقدانها أحدهما لما كان الفعل ممتنعا : فحينئذ يلزم الجبر ، ولم يحصل للعبد استقلال ، لا بالفعل ولا بالترك في شيء. وأما إن قال المعتزلي : إن حصول الفعل عند حصول القدرة مع الداعي : غير واجب. فنقول : فعلى هذا

__________________

(١) سقط (م ، ل).

(٢) كان نفسه موقوفا (م).

(٣) والرابع : الأصل.

(٤) البينة (ط).

(٥) المعتزلة (ل).

(٦) يقولوا (ل).

١٣

التقدير. عند حصول مجموع القدرة مع الداعي ، يمكن أن يحصل الفعل تارة ، وأن لا يحصل أخرى. لأن كل ما كان ممكنا ، لم يلزم من فرض وقوعه محال. فليفرض أن القدرة مع الداعي كان حاصلا ، واستمرا. ثم تارة حصل الفعل ، وأخرى لم يحصل. فهذا الحصول ما كان من العبد البتة ، بل كان لمحض الاتفاق من غير سبب. لأن مجموع القدرة والداعي لما حصل بتمامه. عند عدم الفعل تارة. وعند حصوله أخرى ، ولم يتجدد أمر من الأمور عند حدوث الفعل ، حتى يقال : الفعل إنما حدث في ذلك الوقت لأجله. فعلى هذا التقدير يكون (١) حدوث الفعل في ذلك الوقت محض الاتفاق ، ولم يكن ذلك في وسعه ، ولا في اختياره. وهذا أيضا : محض الجبر. لأنه لا سبيل له البتة إلى إيقاع الفعل ، بل إن اتفق وقوعه مع ذلك القدر من القدرة والداعي ، فقد وقع. وإن لم يتفق وقوعه لم يقع. ولم يكن البتة رجحان أحد الطرفين على الآخر ، بأمر من جهة العبد [البتة (٢)].

فثبت : أن المعتزلي. إن قال : إن وقوع الفعل عقيب القدرة والداعي : واجب [البتة (٣)] فقد قال بالجبر ، من حيث لا يشعر به [وإن قال : إنه غير واجب. فقد قال أيضا بالجبر ، من حيث لا يشعر به (٤)] فيثبت : أنه لا يمكنه أن يعبر عن نفي الجبر بعبارة معلومة ، إلا وتلك العبارة مشتملة على الجبر. فإن قال قائل : إني أقول : إن عند حصول القدرة والداعي يقع الفعل ، ولا أقول : إن ذلك الوقوع واجب أو غير واجب. وهذا القدر يكفيني في التعبير (٥) عن مذهبي. فنقول : هب أنك لا تذكر إلا الوقوع. إلا أنا نقول : ذلك الوقوع. إما أن يكون مع الوجوب ، أو لا مع الوجوب. وعلى كل من التقديرين : فالجبر لازم. فكان الجبر لازما على كل التقديرات.

__________________

(١) يكون كل (م).

(٢) من (ط ، ل).

(٣) سقط (ط ، ل).

(٤) من (ط).

(٥) التعيين (ط).

١٤

فهذا بحث شريف لا بد من الوقوف عليه في هذا الباب.

البحث الثاني : لقائل من المعتزلة أن يقول : الجبر لا يتأتى إلا مع القول بكون الباري موجبا بالذات لا فاعلا بالاختيار. لأن حاصل كلام الجبرية هو : أن عند حصول القدرة والداعية الخالصة يجب الفعل ، وعند فقدان هذا المجموع يمتنع الفعل. وهذا هو القول بالجبر. إلا أن هذا الكلام بعينه وارد في فاعلية الله. لأن كل ما لا بد منه في فاعلية الله تعالى. إن كان حاصلا في الأزل ، وجب حصول العالم معه ، وإن لم يكن أزليا ، افتقر حدوثه إلى سبب آخر ، ولا يتسلسل بل ينتهي إلى الصفات الأزلية. وحينئذ يعود هذا السؤال.

قالوا : فثبت : أن دليلكم في إثبات الجبر ، إن تم وكمل فهو ، يوجب القول بالجبر شاهدا أو غائبا. وذلك يوجب القول بقدم العالم ، وبكونه تعالى موجبا بالذات ، لا فاعلا بالاختيار. كما هو قول الفلاسفة.

وأما إن قلنا : إن صدور الفعل عن القادر لا يتوقف على الداعية ، وإن توقف عليها لكن صدور الفعل عند حصول الداعية غير واجب. فهذا قول المعتزلة. وبطل القول بالجبر في الشاهد [والغائب (١)] فثبت : أن الحق. إما القول بالجبر شاهدا وغائبا ، كما هو قول الفلاسفة. أو القول بنفيه شاهدا وغائبا ، كما هو قول المعتزلة. فأما القول بإثباته في الشاهد ، ونفيه في الغائب ، كما هو قولكم فكلام متناقض.

فهذا هو الكلام الأقوى من جانبهم.

واعلم : أن بتقدير أن يتوجه على القول بالجبر هذا الإلزام ، إلا أن القول بالقدر يتوجه عليه ، ما هو أقبح [منه (٢)] وأفحش. وذلك لأنا بينا : أن القول بالقدر لا يتم إلا إذا قيل : إن رجحان الفاعلية على التاركية ، يحصل لا لمرجح. وعند هذا القول. إما أن يكون [الإمكان محوجا إلى مؤثر ، أو لا

__________________

(١) من (ل).

(٢) من (ط).

١٥

يكون (١)] كذلك. فإن كان الإمكان محوجا إلى المؤثر ، لزم احتياج كل ممكن إلى المرجح. وعلى هذا ، يكون رجحان الفاعلية على التاركية ، لا بد وأن يكون معللا بعلة موجبة. وحينئذ يلزم الجبر. وأما إن كان الإمكان غير محوج إلى المرجح ، فعند ذلك لا خفاء أن يستدل بالإمكان على المؤثر. وحينئذ [يلزم (٢)] نفي الصانع بالكلية. سواء كان موجبا أو مختارا. فثبت أن [القول (٣)] الحق : إما القول باحتياج جميع الممكنات إلى المؤثر ، وحينئذ يلزم الجبر. أو القول باستغناء جميع الممكنات عن المؤثر ، وحينئذ يلزم نفي المؤثرات أصلا. فأما القول بأن الإمكان محوج إلى المؤثر في موضع دون موضع ، كما هو قول المعتزلة : فهو قول متناقض باطل. فثبت : أنه إن لزم على القول بالجبر : إثبات أن مؤثر العالم موجب بالذات ، لا فاعل بالاختيار ، لزم (٤) على القول بالقدر أن يكون رجحانا وجود العالم على عدمه لا لمؤثر أصلا ـ والأول ـ وإن كان قبيحا ـ فلا شك أن هذا الأخير أقبح منه ، وأفحش بكثير على أنا سنذكر الفرق اليقيني بين الشاهد والغائب إن شاء الله تعالى.

البحث الثالث : إن كثيرا من المحققين قالوا : إن مسألة الجبر والقدر ، ليست [مسألة (٥)] مستقلة بنفسها ، بل هي بعينها مسألة إثبات الصانع. وذلك لأن العمدة في إثبات الصانع تعالى ، هو أن الإمكان محوج إلى المؤثر والمرجح. فنقول : إن صحت هذه القضية ، وجب الحكم بافتقار كل الممكنات إلى المؤثر والمرجح. وحينئذ نقول : القدرة على الفعل ، وإن لم تكن صالحة للترك ، فالجبر لازم. وإن كانت صالحة للترك ، وجب أن لا يحصل رجحان الفاعلية على التاركية ، إلّا لمرجح. وذلك أيضا يوجب الجبر. فيثبت : أنه (٦) لو صلح قولنا : الممكن لا بد له من مرجح ، فالقول بالجبر لازم. وإن فسدت

__________________

(١) من (ط ، ل).

(٢) (م ، ط).

(٣) من (م).

(٤) ولزم (ط).

(٥) سقط (ل).

(٦) أنه إن صح (ط ، ل).

١٦

هذه المقدمة ، فحينئذ يتعذر علينا الاستدلال بإمكان الممكنات على إثبات الصانع. فثبت: إما القول بالجبر ، وإما القول بنفي الصانع.

فأما الحكم بأن الإمكان محوج في بعض الصور إلى المرجح ، وفي صور أخرى غير محوج إلى المؤثر ـ كما هو قول المعتزلة ـ فهو قول فاسد. ومثال هذه المسألة : سلسلة مركبة من خلق متشابهة في الخلقة ، والصورة ، والقوة ، والضعف. فإذا كان التقدير ما ذكرناه. وامتنع مع هذا التقدير أن يحكم على بعض تلك الخلق بالقوة ، وعلى بعضها بالضعف ، فكذا هاهنا : ما سوى الواحد الأحد ، الحق ، الواجب لذاته : لا بد وأن يكون ممكنا لذاته. وكل الممكنات مشاركة في طبيعة الإمكان. فإن كان الإمكان محوجا إلى المؤثر ، فليكن كذلك في كل الممكنات ، وإن لم يكن محوجا إلى المؤثر ، فليكن كذلك في كل الممكنات. فأما الحكم على بعضها بالاستغناء مع الاشتراك الكل في ماهية الإمكان ، فإنه محض التحكم (١) الباطل. وبالله التوفيق.

فهذا تمام الكلام في هذه المقدمة.

واعلم : أنه كان يجب [علينا (٢)] أن نبتدئ في الاستدلال (٣) بكتاب [الله تعالى (٤)] ثم بسنة رسوله ثم بالدلائل العقلية. تقديما للنص. إلا أنا لما تأملنا ، وجدنا الاستدلال بتلك النصوص لا يظهر كل الظهور ، إلا بعد الإحاطة بتلك العقليات. فلهذا السبب قدمنا الدلائل العقلية.

وبالله التوفيق

__________________

(١) التحكيم (م ، ط ، ل).

(٢) من (ط ، ل).

(٣) بالاستدلال (م ، ل).

(٤) من (ط ، ل).

١٧
١٨

الباب الأول

في

تقرير الدلائل العقلية على أن أفعال

العباد كلها بتقدير الله ،

وأن العبد غير مستقل بالفعل والترك

أعلم : أن الدلائل المذكورة في هذا الباب. إما عامة في جميع أنواع الأفعال ، وإما خاصة ببعض أنواع الأفعال.

أما العامة. ففيها : ما يدل على أن العبد لا يستقل بالفعل والترك ، من غير بيان : أن قدرته. هل تؤثر أم لا؟ وفيها : ما يدلا على أن قدرة العبد غير مؤثرة. ولهذا السبب : رتبنا هذا الباب على فصول ثلاثة.

١٩
٢٠