المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٧

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٧

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٥

السؤال الثاني : إن مذهب الحكماء : أن علم الشيء بذاته ، هو نفسي ذاته.

وفي هذه الصورة يقولون : العقل والعاقل والمعقول : واحتجوا عليه : بأنه : لما ثبت أن تعقل الشيء عبارة عن صورة مساوية للمعقول في ذات العاقل. فنقول : علم الشيء بذاته. إما أن يكون صورة مغايرة لذاته ، حاصلة في ذاته. وإما أن يكون عين ذاته. والأول باطل. وإلا لزم اجتماع المثلين. وذلك محال. ولأن على هذا التقدير لم يكن أحدهما بالحالية ، والآخر بالمحلية أولى من العكس. ولما بطل هذا القسم ، ثبت أن علم النفس بحقيقتها المخصوصة : عين ذاتها. ولما كانت [ذاتها (١)] حاضرة في جميع أوقات دوام تلك الذات ، وجب أن يكون علمها بذاتها المخصوصة ، دائما بدوام ذاتها. وإذا كان الأمر كذلك ، امتنع أن يكون هذا العلم مطلوبا بالبرهان. لأن الحاصل لا يمكن تحصيله ثانيا.

فيثبت بهذه المباحث القوية : أن معرفة جوهر النفس يجب أن تكون معرفة بديهية أولية ، غنية عن [التعريف (٢)] والكسب والطلب. وأنتم قد جعلتموه من المباحث البرهانية ، فكان الإشكال لازما.

والجواب : إن المطلوب بالبرهان : هو أن جوهر النفس : جوهر ليس بمتحيز ، ولا حال في المتحيز. فالمطلوب بالبرهان هو هذا القيد السلبي ، والقيود السلبية أمور مغايرة للذات المخصوصة.

فإن قالوا : هب أن الأمر كذلك ، إلا أن المقتضي لذلك السلب للخصوص هو تلك الحقيقة المخصوصة. فإذا كان العلم [بتلك الحقيقة المخصوصة حاصلا كان العلم (٣)] بعلة ذلك السلب حاصلا [والعلم بالعلة

__________________

(١) سقط (م)

(٢) سقط (ط) ، (ل)

(٣) من (طا) ، (ل)

٤١

يوجب العلم بالمعلول ، فوجب أن يكون العلم بذلك السلب حاصلا (١)] على سبيل الدوام. قلنا : السلب نفي محض ، فلا يمكن جعله من مقتضيات الماهية.

فإن قالوا : إذا كان الأمر (٢) كذلك ، امتنع كون الحد الأوسط موجبا له ، فوجب أن تتعذر معرفته بواسطة البرهان.

فنقول : الجواب الأولى هو أن يقال : إنا نجد بالضرورة اختلاف الناس في هذا المطلوب (٣) ونعلم بالضرورة أنه بحث غامض. فما ذكرتموه من السؤال تشكيك في البديهيات.

__________________

(١) سقط (م)

(٢) العقول (م)

(٣) القول والمطلوب (م)

٤٢

الفصل الثاني

في

حكاية دلائل القائلين

بأن النفس يجب أن تكون جوهرا جسمانيا

وقبل الخوض في المقصود لا بد من تقديم مقدمة.

وهي : إن العلوم على قسمين : منها بديهية. ومنها : كسبية. والكسبيات موقوفة على البديهيات ، إذ لو كان كل علم كسبيا ، لزم إما الدور ، وإما التسلسل. وهما محالان. لأن الموقوف على المحال : محال.

فوجب أن لا يحصل شيء من العلوم أصلا. فثبت : أن القول بأن جميع العلوم كسبية ، يوجب القول بنفي العلوم أصلا ، وما أفضى إثباته إلى نفيه ، كان إثباته باطلا. فثبت : أن الاعتراف بحصول العلم ، يوجب الاعتراف بحصول العلم البديهي ، وإذا ثبت هذا فنقول : إنه لا معنى للعلم البديهي ، إلا العلم الذي تحكم بصحته فطرة عقول العقلاء ، من غير حاجة فيه إلى بحث ونظر وتأمل.

إذا عرفت هذه المقدمة ، فنقول : الذي يدل على أن النفس جسم مخصوص وجوه :

الحجة الأولى : إن العلم بصفات النفس : بديهي ، ومتى كان كذلك (١)

__________________

(١) ومتى كان العلم بالصفة بديهيا ، كان العلم بالذات بديهيا (ط).

٤٣

كان العلم بالذات بديهيا ، وهذا يقتضي أن يكون علمنا بذاتنا المخصوصة علما بديهيا ، وإذا ثبت هذا وجب أن تكون ذاتنا عبارة عن هذا البدن. فهذه الحجة مبنية على مقدمات [ثلاث (١)] :

المقدمة الأولى : إن علمنا بصفات نفوسنا : علم بديهي. والذي يدل عليه : أني أعلم بالضرورة : أني (٢) أبصرت وسمعت وقلت وعرفت ، وتفكرت ، واشتهيت ، وغضبت [ودخلت الدار وخرجت وسافرت إلى البلدة الفلانية ورجعت منها (٣)] ومن نازع في كون هذه العلوم ، علوما بديهية ، فقد نازع في أجلى العلوم البديهية وأقواها. فثبت : أن علمنا بصفات أنفسنا : علم بديهي.

والمقدمة الثانية : وهي قولنا : إن العلم بصفة النفس إذا كان بديهيا ، كان العلم بذات النفس ، يجب أن يكون بديهيا. فالدليل عليه (٤) : أن علمي بأني أبصرت وسمعت وعقلت ونظرت : حكم على نفسي بثبوت هذه الصفات لها. والحاكم بشيء على شيء ، لا بد وأن يكون قد سبق له تصور الطرفين أولا ، فلو كان علمي بوجود نفسي علما كسبيا ، فقبل ذلك الكسب : أكون شاكا في وجود نفسي. ومن كان شاكا في وجود النفس يمتنع أن يكون عالما بحصول الصفات المخصوصة بها. ولما دللنا على أن هذا العلم علم بديهي ، وجب أن يكون العلم بوجود النفس بديهيا. وهذا هو المسألة المشهورة عند العقلاء بأنه متى كان العلم بصفة الشيء بديهيا ، وجب أن يكون العلم بأصل الذات بديهيا.

والمقدمة الثالثة : إنه لما ثبت : أن علم كل أحد بنفسه المخصوصة ، علم بديهي. وجب أن تكون النفس هو هذا البدن ، أو شيء داخل فيه. والدليل

__________________

(١) سقط (ل).

(٢) بالضرورة عند قولي أنا أبصرت ... إلخ (م).

(٣) من (طا ، ل).

(٤) على ذلك (م).

٤٤

عليه : أن إثبات شيء سوى هذا البدن وسوى أجزاء هذا البدن : أمر استدلالي لا ضروري. وذلك مما لا نزاع فيه بين العقلاء. وعند هذا ينعقد قياس من الشكل الثاني. وهو أن يقال : نفس كل واحد : معلوم له بالبديهة. والشيء المجرد الذي لا يكون جسما ولا جسمانيا : غير معلوم بالبديهة. ينتج : أن النفس يمتنع أن تكون عبارة عن الموجود الذي ليس بجسم ولا بجسماني. وهو المطلوب.

الحجة الثانية لمنكري هذا الجوهر المجرد : إنه لو كانت النفس عبارة عن جوهر مجرد ، ليس بجسم ولا حال في الجسم ، لكان قول القائل : تحركت وسكنت ودخلت الدار وخرجت منها ، وذهبت إلى السوق ، ورجعت منه إلى المسجد. كل ذلك [يوجب أن (١)] تكون أقوالا باطلة. لأن هذه الصفات ممتنعة الثبوت في حق الجوهر المجرد عن الجسمية. إلا أن هذه الأقوال معلومة الصحة بالبديهة. لأن كل عاقل قبل خوضه في هذه المضائق يعلم بالضرورة صدق قوله : دخلت الدار ، وخرجت منها. كما يعلم صدق قوله : علمت كذا ، وفهمت كذا. فالقدح فيه يكون قدحا في أظهر البديهيات.

فإن قالوا : حاصل هذا الدليل يرجع إلى التمسك بألفاظ الناس وإطلاقهم ، والألفاظ تحتمل الحقيقة والمجاز. فلعل مرادهم بقولهم : دخلت الدار وخرجت منها : أن «بدني» دخل الدار ، وخرج منها. وعلى هذا التقدير تسقط هذه الحجة.

فنقول في الجواب : إنا لا نمسك باللفظ المحض الذي يحتمل الحقيقة والمجاز ، بل نتمسك بشهادة صريح عقل كل أحد : بأنه هو الذي دخل في الدار وخرج منها ، [فشهادة العقل بمعاني هذه الألفاظ غير ، وشهادة العقل بذكر هذه الألفاظ غير (٢)] واعتمادنا في هذه الحجة : على القضية العقلية المعنوية ، لا على مجرد الإطلاقات اللفظية.

__________________

(١) من (م).

(٢) من (طا) ، (ل).

٤٥

والدليل القاطع عليه : أنه إذا كان الإنسان عبارة عن جوهر النفس ، كان البدن مركبا له ، ومحلا لتصرفه. فكان دخول بدنه في الدار وخروجه منها ، جاريا مجرى دخول فرسه في الدار ، وخروجه منها. لكن كل عاقل يدرك تفرقة [بديهية (١)] بين قوله : دخلت في الدار وخرجت منها ، وبين قوله : دخل فرسي الدار ، وخرج منها.

ولما كان القول بأن النفس جوهر مجرد ، يوجب زوال هذه التفرقة المعلومة بالبديهة ، وجب أن يكون القول بإثبات النفس : باطلا.

الحجة الثالثة : لو كانت النفس عبارة عن جوهر مجرد ، له تعلق بهذا البدن بالتصرف والتدبير ، لم يبعد في أول (٢) العقل أن ينقطع تعلق هذه النفس بهذا البدن ، وتصير متعلقة بالبدن الثاني ، وبالعكس. وعلى هذا التقدير ، فإذا رأينا بدن «زيد» ثم رأيناه بعد ذلك وجب أن نبقى شاكين في أن هذا الإنسان. هل هو الإنسان الأول؟ لأن بتقدير أن يتبدل المدبر الأول لهذا البدن ، بمدبر آخر ، فقد تبدل ذلك الإنسان بغيره. كما أنا لما رأينا بيتا وجوزنا أن ملك ذلك البيت قد انتقل إلى مالك آخر ، فحينئذ لا نقطع عند رؤية ذلك البيت في المرة الثانية ، بأن مالكه هو المالك الأول. بل نبقى شاكين فيه. فكذا هاهنا وجب أن يبقى الشك في أن هذا الإنسان الذي نراه الآن ، هل هو الإنسان الذي رأيناه أولا؟

ولما لم يحصل هذا الشك لأحد من العقلاء ، وثبت : أن على تقدير أن يكون الإنسان شيئا آخر ، غير هذا البدن ، وجب حصول هذا الشك ، علمنا : أن القول بأن الإنسان شيء غير هذا البدن ، قول باطل.

فإن قالوا : التجويز الذي ذكرتم قائم على كل التقديرات ، لاحتمال أن الشخص الأول فني ، وحدث شخص آخر يساوي الأول في الصورة والخلقة.

__________________

(١) من (طا) ، (ل).

(٢) ثانيا (م).

٤٦

إما بإيجاد الفاعل المختار ، وإما لأجل حدوث شكل غريب في الفلك ، اقتضى حدوث هذا المعنى.

فنقول : موضع الإلزام : إنا مع القطع بأن هذا الجسد [هو الجسد (١)] الذي رأيناه أولا لم يبق الشك في أن هذا الإنسان هو الإنسان الأول.

ومعلوم : أن السؤال المذكور ، لا يتوجه على هذا الكلام.

الحجة الرابعة : إن نفسي جوهر ، موصوف بأنه علم وتفكر وتذكر وأبصر وسمع وذاق وشم واشتهى وغضب وتحرك وسكن. ثم إن الموصوف بهذه الصفات ليس إلا هذه البنية (٢) أو ما يكون داخلا فيها فوجب أن تكون نفسي عبارة عن هذا البدن أو ما يكون داخلا فيه. ولا بد في تقرير هذه الحجة من تقرير أمرين :

الأول : إن نفسي عبارة عن الجوهر الموصوف بهذه الصفات. والدليل عليه : أني لا أشك أني إذا رأيت المبصرات ، فأنا أبصرتها. وإذا سمعت الحروف والأصوات ، فأنا سمعتها. لأن التاء في قولي أبصرتها وسمعت وفهمت وعرفت : ضمير النفس. ولا فرق بين قولك : أبصرت وسمعت ، وبين قولك : أنا موصوف بإبصار كذا ، وسماع كذا. ولما كانت بديهة العقل حاكمة بأني [أبصرت وسمعت ، كانت تلك البديهة حاكمة بأني أنا (٣)] الموصوف بهذه الصفات.

وأما الثاني : فهو في بيان أن الموصوف بهذه الصفات هو هذه البنية. فالدليل عليه : أني كما أعلم بالضرورة أن ذوق الطعام (٤) غير حاصل في أخمص الرجل ، وفي الساق.

__________________

(١) من (م).

(٢) إلا هذا البدن ، وهذه البنية ... إلخ (م).

(٣) المقدمة الأولى (م ، ط).

(٤) الأطعمة (م ، ط).

٤٧

[اعلم بالضرورة : أن ذوق الطعام حاصل في اللسان (١)] وأن سماع الصوت حاصل بالأذن ، وكذا القول في سائر الإحساسات. وأيضا (٢) : الإنسان يعلم بالبديهة أنه يجد الفكر والتخيل من جانب الدماغ ، ويجد العلم والإدراك من ناحية القلب. وجميع هذه الشواهد دالة على أن هذه الإدراكات مختصة بهذه الأعضاء.

فثبت : أن جوهر النفس [جوهر مخصوص (٣)] موصوف بهذه الصفات ، وثبت : أن الموصوف بهذه الصفات : هو هذه الأعضاء ، فوجب القطع بأن جوهر النفس إما هذه البنية ، وإما أجسام سارية في هذه البنية مشابكة لها. مداخلة فيها (٤).

الحجة الخامسة : إن النفس لو كانت جوهرا مفارقا للبدن ، ولا تعلق لها بالبدن ، إلا تعلق التدبير والتصرف ، كتعلق الملاح بالسفينة ، والجمال بالمحمول ، فكما أن الملاح يمكنه أن يترك تدبير هذه السفينة ، ويشتغل بتدبير سفينة أخرى ، وجب أن تتمكن النفس من أن تترك تدبير هذا البدن ، وتشتغل بتدبير بدن آخر. يعني : أن مدبر هذا البدن ، ينتقل إلى تدبير ذلك البدن ، ومدبر ذلك البدن ينتقل إلى تدبير هذا البدن. ولما كان ذلك ممتنعا ، علمنا : أن النفس ليست إلا هذا البدن. فإن قالوا : لم لا يجوز أن يقال : هذه النفس لها عشق طبيعي ، وشوق ذاتي ، إلى تدبير هذا البدن ، فلهذا السبب يمتنع انتقالها إلى تدبير بدن آخر.

والجواب عن الأول : إن القول بالاتحاد باطل ، مشهور البطلان. لأنهما بعد الاتحاد إن بقيا (٥) معا. فهما اثنان لا واحد ، وإن عدما معا ، وحدث ثالث فهذا ليس من الاتحاد في شيء وإن بقي أحدهما وعدم الآخر. فهذا أيضا ليس

__________________

(١) سقط (ل).

(٢) وأيضا : أعلم (م) ، (ط).

(٣) وكذلك (م ، ط).

(٤) من (طا ، ل).

(٥) قيدا معا (ل). فنيا (طا).

٤٨

باتحاد ، لأن الموجود ليس (١) نفس المعدوم. وأيضا : البدن جسم مركب من الأخلاط المتضادة ، والأجزاء المتكاثرة ، والنفس جوهر مجرد عن الحجمية والعرضية ، فكيف يعقل أن يصير أحدهما عين الآخر؟

والجواب عن الثاني : وهو قولكم : النفس المعينة لها عشق طبيعي ، وشوق ذاتي ، إلى تدبير هذا البدن. فنقول : هذا أيضا ضعيف. لأن عشق البدن (٢) لا يصح إلا [ممن يقدر (٣)] على الالتذاذ بالمحسوسات ، وإلا على الانتفاع بما في عالم الجسمانيات من المنافع والراحات. فأما أن تكون النفس عاشقة لهذه الآلهة بعينها ، مع أنه يمكنها تحصيل المقصود بسائر الآلات. فهذا محال. والدليل القاطع عليه : أن النفس متى جزمت وقطعت بأن تحصيل هذه اللذات والطيبات بهذا الطريق : ممكن. وبالطريق الثاني أيضا : ممكن. وأنه لا رجحان لأحد الطريقين على الثاني في كثرة الفوائد والمنافع. فههنا (٤) يمتنع أن يكون للنفس ميل إلى أحد الطريقين بعينه دون الثاني. فكذا هاهنا ، مطلوب النفس هو الانتفاع باللذات الجسمانية والراحات الشهوانية. ولما كانت الأبدان بأسرها متساوية في الإفضاء إلى هذا المطلوب ، وجب أن تكون نسبة النفس إليها بأسرها على السوية. ومتى كان الأمر كذلك ، كان قولهم : إن النفس المعينة عاشقة لهذا البدن المعين عشقا طبيعيا : قول (٥) باطل.

الحجة السادسة : إن علمي بنفسي أظهر العلوم وأقواها.

والدليل عليه : أن علمي بما يغاير نفسي ، تابع لعلمي بنفسي ، والتابع يمتنع أن يكون أقوى من المتبوع. وإذا ثبت هذا فنقول : لو كانت نفسي موجودا مجردا ، لا داخل العالم ، ولا خارج العالم ، ولا متصلا بالعالم ولا منفصلا عنه.

__________________

(١) لا يكون (م).

(٢) النفس (ل).

(٣) سقط (ل).

(٤) فههنا يستحيل (م).

(٥) أمرا (ل).

٤٩

[كما أن الباري سبحانه وتعالى ـ موجود (١)] لا داخل العالم ، ولا خارجا عنه ، ولا متصلا بالعالم ، ولا منفصلا عنه ، لكنت أعلم بالضرورة : أني موجود وموصوف بهذه الصفة. ومعلوم أن ذلك باطل. لأن كثيرا من العقلاء زعموا : أن إثبات هذا الموجود [بهذه الصفة (٢)] : محال في العقول ، حتى قالوا : إن إله العالم يجب أن يكون متحيزا ، ومختصا بالحيز والجهة.

وأما العقلاء الذين سلموا ثبوت هذا المعنى في حق الله تعالى ، فلم يخطر ببال أحد منهم : أنه في نفسه موصوف بهذه الصفة. فثبت : أن نفس الإنسان ، لو كان موصوفا بهذه الصفة ، لكان العلم بكونه كذلك ، علما ضروريا ، وثبت : أن التالي باطل ، فكان المقدم (٣) باطلا.

ولمجيب أن يجيب عنه ، فيقول : هذه القيود سلبية ، والعلم بالماهية ، مغاير للعلم بقيودها السلبية ، وغير موجب له.

الحجة السابعة : هذا الجسد محل للإدراكات الجزئية والكلية ، ومحل للقدرة على [الإدراكات (٤)] والتحريكات الإرادية. ومتى كان الأمر كذلك ، وجب أن يكون هذا الجسد وما فيه هو الإنسان. فهذه الحجة مبنية على مقدمات.

المقدمة الأولى : وهي [إن هذا الجزء محل للإدراكات. فالدليل عليه (٥)] أن هذا أن هذا الجسد. إما أن يقال : حصل فيه قوة شعور وإدراك ، أو لم يحصل فيه البتة قوة الشعور والإدراك.

والقسم الثاني : باطل. لأن كل جسم يكون خاليا عن قوة الشعور والإدراك ، يكون جمادا محضا ، فإنا لا نعقل بين الجماد وبين الحيوان : فرقا.

__________________

(١) سقط (طا ، ل).

(٢) سقط (ط) ، (ل).

(٣) فالمقدم باطل (م).

(٤) من (م).

(٥) سقط (طا ، ل).

٥٠

إلا هذا المعنى ، وهو أن الجماد لا شعور له البتة ، ولا إدراك له البتة ، فلو كان جسم البدن خاليا عن الشعور والإدراك ، لكان جمادا محضا. لكنا نعلم بالضرورة : أن أبدان الحيوانات حال كونها أحياء ، ليست جمادات [محضة (١)] وكيف لا نقول ذلك ، وإن من وضع إصبعه على الجمر فإنه يحس بالألم في ذلك الموضع؟ ولو وضع إصبعه على الجمر ، فإنه يحس بنوع آخر من الألم في ذلك الموضع. فالقول بأن البدن جماد محض لا شعور فيه ، ولا إدراك : إنكار لأعظم البديهيات.

فثبت : أنه حصل في أبدان الحيوانات : قوة شعور وإحساس بالأشياء المخالفة [والموافقة (٢)] ولا نريد من قولنا : إن النفس مدركة للجزئيات إلا ذلك.

والمقدمة الثانية : في بيان أن هذا البدن مدرك للكليات. فنقول :

الدليل على صحة هذه المقدمة : إنا بينا : أن البدن مدرك للجزئيات ، وكل ما كان مدركا للجزئيات ، فإنه يجب أن يكون مدركا للكليات. والدليل عليه : إن هذا الألم عبارة عن الألم مع قيد كونه هذا ، ومدرك المركب ، لا بد وأن يكون مدركا لمفرداته ، لما ثبت في المنطق في باب الذاتي المقوم : إن تصور المركب ، مسبوق بتصور مفرداته. فثبت : أن مدرك هذا الألم مدرك للألم ، والألم ماهية كلية ، فثبت : أن مدرك الجزئيات ، يجب أن يكون مدركا للكليات. وأيضا : قد بينا أن البدن يبصر هذا الإنسان ، وهذا الإنسان عبارة عن الإنسان مع قيد كونه هذا. فمبصر هذا الإنسان يجب أن يكون قد أبصر الإنسان. وأبصر كونه هذا. لكن الإنسان من حيث إنه إنسان ماهية كلية. فالقوة الباصرة قد أدركت الماهية الكلية.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إن القوة الباصرة لما أدركت هذا الإنسان ، فهي ما أدركت إلا مجرد كونه هذا ، فأما الإنسان فهو غير مبصر.

__________________

(١) من (م).

(٢) من (م).

٥١

وأيضا : فهب أن القوة الباصرة أدركت الإنسان إلا أن الإنسان من حيث إنه إنسان ، لا كلي ولا جزئي ، ولكنه إنسان [فقط (١)] فلا يلزم منه أن تكون القوة الباصرة مدركة للكليات.

فنجيب عن الأوّل : بأنا إذا أدركنا هذا السواد وهذا البياض. فإما أن يكون المرئي ، مجرد كون هذا : هذا. وذاك : ذاك. من غير أن تتعلق القوة الباصرة بماهية السواد والبياض ، وإما أن يكون المرئي مجموع كونه هذا ، مع كونه سوادا ، أو مجموع كونه ذاك بياضا. أما الأول فباطل لوجوه :

أحدها : إنا قد دللنا على أن التعين قيد عدمي ، فيمتنع كونه مرئيا.

وثانيها : إن بتقدير أن يكون [التعين أمرا ثابتا ، فإن تعين هذا وتعين ذاك. كل واحد منهما يتشاركان في كونه تعينا (٢)] فهذا التعين وذلك التعين شخصان داخلان تحت نوع واحد ، ولا مخالفة بينهما في الماهية أصلا. فإذا أحسسنا بهذا السواد وهذا البياض ، وفرضنا أن المحسوس ليس إلا مجرد كونه هذا وذاك ، وثبت أن مجرد كونه هذا وذاك شخصان داخلان تحت نوع واحد وأنه لا مخالفة بينهما في الماهية ، فحينئذ يلزم أن لا يحس من طريق الإبصار بكون السواد والبياض متخالفين. ولما كان ذلك باطلا بالبديهة ، علمنا : أنه ليس المحسوس بحس البصر ، هو مجرد كونه هذا وذاك ، بل كونه سوادا أو بياضا [أيضا محسوس بحس البصر (٣)].

وثالثها : إن بتقدير أن يكون التعين أمرا ثابتا ، وأن يكون المحسوس هو التعين. إلا أن التعين أيضا ماهية كلية ، فيكون المحسوس [بالبصر أيضا أمرا كليا. إلا أن يقال : المحسوس (٤)] ليس هو التعين بل تعين التعين. ثم يعود الكلام [الأول (٥)] فيه ، ويلزم التسلسل.

__________________

(١) من (م).

(٢) من (طا) ل.

(٣) سقط (م).

(٤) سقط (م).

(٥) من (م).

٥٢

فثبت بهذه الوجوه : إنا إذا أحسسنا بهذا السواد وبهذا البياض ، فقد حصل الإحساس بالسواد والبياض.

وأما السؤال الثاني ، وهو قوله : «هب أنا أدركنا السواد بحس البصر ، لكن لم قلتم : إنا أدركنا بحس البصر السواد من حيث إنه كلي»؟

فجوابه : إنا قد بينا في المنطق : أن الكلي قد يراد به الكلي المنطقي ، وهو نفس الكلية ، وقد يراد به [الكلي (١)] العقلي وهو مجموع الماهية [مع قيد كونها كلية. وقد يراد به الكلي الطبيعي ، وهي تلك الماهية (٢)] التي يمكن أن يحكم العقل عليها ، بكونها كلية. وكلامنا في هذا المقام في بيان أن الكلي الطبيعي مدرك بالقوة الحساسة. أما الكلي المنطقي والعقلي فلا حاجة إلى ذكر هما في هذا الباب. ثبت بما ذكرنا : إن النفس مدركة للجزئيات ، وكل ما كان مدركا للجزئيات ، فإنه يجب أن يكون مدركا للكليات الطبيعية.

وأما المقدمة الثالثة : فهي في بيان أن البدن موصوف بالقدرة على التحريكات الإرادية (٣). والدليل عليه : أن المحرك بالإرادة هو الذي يحرك بواسطة القصد والاختيار. واختيار الشيء مشروط بإدراك ماهيته ، فإن ما لا يكون متصورا ولا مشعورا به ، فإنه يمتنع القصد إلى تكوينه. فثبت : أن الفاعل المختار يجب أن يكون مدركا. فلما كان البدن هو المدرك ، وجب أن يكون الفاعل المختار : هو البدن ، أو شيء موجود في البدن.

وأما المقدمة الرابعة : وهي أنه لما ثبت أن البدن موصوف بالإدراكات الجزئية ، والإدراكات الكلية ، وبالحركات الإرادية ، كان جوهر البدن موصوفا بمجموع هذه الصفات. ولا معنى للإنسان إلا الجوهر الموصوف بهذه الصفات وذلك يوجب القطع بأن الإنسان هو البدن أو جسم موجود فيه وإذا ثبت هذا

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) سقط (ط).

(٣) بالقوة على التحريك الإرادي (ط).

٥٣

فلو فرضنا جوهرا مجردا مفارقا لهذا البدن ، لكان ذلك الشيء موجودا مغايرا للإنسان. فيكون الإنسان هو هذا البدن الموصوف بهذه الإدراكات الجزئية والكلية [والحركات الإرادية (١)] وهذا بحث نفيس.

الحجة الثامنة للقائلين بأن النفس جسم : لهم (٢) أن يقولوا : لو كانت النفس جوهرا مجردا عن الحجمية والتحيز ، لامتنع أن يتوقف فعلها على مماسة محل الفعل. لأن ما لا يكون متحيزا ، امتنع أن يصير مماسا للمتحيز. وإذا كان الأمر كذلك ، فحينئذ يكون فعلها على سبيل الاختراع من غير حاجة إلى حصول مماسة وملاقاة بين الفاعل وبين محل الفعل. ولو كان الأمر كذلك ، لوجب أن يقدر الواحد منا على تحريك الأجسام ، من غير أن يماسها ، ومن غير أن يماس شيئا يماسها. وذلك لأن جوهر النفس ، لما كانت قادرة على تحريك البدن من غير حصول مماسة بينها وبين ذلك البدن ، علمنا : أن جوهر النفس قادر على تحريك الجسم من غير واسطة المماسة. وسائر الأجسام قابلة للحركة ، ونسبة جوهر النفس إلى كل الأجسام على السوية ، فلما قدرت النفس على تحريك بعضها من غير المماسة وجب حصول قدرتها على تحريك البقية من غير المماسة ، ولما كان ذلك باطلا [بالبديهة (٣)] علمنا : أن النفس لا تقوى على التحريك ، إلا بشرط أن تماس ما يماسه. وكل ما كان مماسا لشيء من الأجسام ، فهو متحيز. فوجب أن يكون النفس جوهرا متحيزا. وهو المطلوب.

فإن قالوا : لم لا يجوز أن يقال : أن تأثير النفس في تحريك بدنها الخاص ، غير مشروط بالمماسة. وتأثيرها في تحريك الأجسام موقوف على حصول المماسة بين بدنها وبين تلك الأجسام؟ فإنكم ما لم تبطلوا هذا الاحتمال ، لا يتم دليلكم.

__________________

(١) من (ل ، طا).

(٢) هي أن نقول (ل).

(٣) سقط (ط).

٥٤

والجواب : إنه لما كان قبول البدن لتصرفات النفس ، لا يتوقف على حصول المماسة بين النفس وبين البدن ، وجب أن يكون الحال كذلك في تحريك سائر الأجسام. لأن جميع الأجسام متساوية في قبول الحركة (١) ونسبة النفس : إلى جميعها على السوية. لأن النفس إذا كانت مجردة عن الحجمية وعلائق الحجمية ، كانت نسبة ذاتها إلى الكل على السوية [ومتى كانت ذات الفاعل بالنسبة إلى الكل على السوية (٢)] وذات جميع القوابل بالنسبة إلى ذات الفاعل بالسوية ، وجب أن يكون التأثير بالنسبة إلى الكل على السوية ، فإذا استغنى الفاعل في الفعل عن مماسة محل الفعل في حق البعض ، وجب أن يكون الحال كذلك [في حق الكل وإن افتقر إلى المماسة في حق البعض ، وجب أن يفتقر إليها في حق الكل (٣)].

وأقصى ما في الباب أن يقال : النفس كالعاشقة لهذا البدن ، إلا أن هذا العشق الشديد يقتضي أن يكون تعلقها بهذا البدن أكثر ، وأن يكون تصرفها في هذا البدن أكثر. فأما أن يتغير مقتضى ذاتها بالنسبة إلى هذه الأجسام. فذاك محال. وهذا برهان يفيد اليقين في هذا المطلوب.

الحجة التاسعة : الحكماء اتفقوا على أن حد الإنسان ، هو أنه جوهر جسماني ، مغتذ ، نامي مولد حساس ، متحرك بالإرادة ، ناطق. فالجوهر الجسماني هو الذات وكونه مغتذيا ، ناميا مولدا ، حساسا ، متحركا بالإرادة ، ناطقا : صفات ستة. وهي صفات الجوهر الجسماني ، فيجب أن يكون الإنسان عبارة عن الجسم الموصوف بهذه الصفات ، فالقول : بأن الإنسان جوهر مجرد موصوف بهذه الصفات مناقض لهذا الكلام.

فإن قالوا : نسلم أن الإنسان عبارة عن الجسم الموصوف بهذه الصفات ، إلا أنا نثبت جوهرا مجردا ، يدبر الجسم الموصوف بهذه الصفات. قلنا : فذلك

__________________

(١) الأثر (م ، ط).

(٢) سقط (ل).

(٣) سقط (ل).

٥٥

الجوهر المجرد منفصل عن الجسم الموصوف بالصفات المذكورة ، فيرجع كلامكم إلى أنكم أثبتم للإنسان مدبرا. وكلامنا الآن ليس إلا في البحث عن حقيقة الإنسان ، لا في البحث عن مدبر الإنسان ، فإن عندنا مدبر الإنسان ومدبر جميع العالم هو الله سبحانه وتعالى.

الحجة العاشرة : وهي الحجة التي عليها تعويل المتكلمين. إن كل عاقل إذا قلت له : ما الإنسان؟ وما حقيقته؟ فإنه يشير إلى هذا الهيكل المخصوص ، وهذه البنية المخصوصة. ولو قلت له : الإنسان شيء آخر سوى هذه البنية. فإن جمهور العقلاء ببدائه عقولهم يكذبونه.

وأيضا : أوائل العقول قاضية بأن الخطاب متوجه إلى هذه البنية والثواب والعقاب متوجه إليها والذم والترهيب متوجه إلى هذه البنية. ولو أن رجلا قال : المأمور والمنهي : شيء آخر ، مغاير لهذه البنية. لرأيت العقلاء بأسرهم مطبقين على تكذيبه. وكل ما شهدت بدائه العقول ، وصرائح الأذهان ببطلانه ، كان بطلانه بديهيا أوليا. فثبت : أن العلم بأن الإنسان هو هذه البنية المشاهدة ، وهذا الهيكل المخصوص : علم بديهي. فكان القدح فيه باطلا. فهذه جملة دلائل [نقاة (١)] النفس الناطقة [والله أعلم (٢)].

__________________

(١) سقط (طا ، ل). والمراد : دلائل نفي كون النفس جسما ، لا جوهرا مجردا. مثل الروح.

(٢) من (م).

٥٦

الفصل الثالث

في

حكاية الحجة التي هي

أقوى الوجوه في اثبات تجرد النفس

نقول : إنه حصل في الوجود موجودات غير قابلة للقسمة ، فوجب أن يكون العلم بها ، غير قابل للقسمة ، فوجب أن يكون الموصوف بذلك العلم : غير قابل للقسمة. وكل متحيز ، وكل حال في المتحيز : منقسم. فوجب أن يكون الموصوف بتلك العلوم : غير متحيز ولا حال في المتحيز.

واعلم : أن هذا الدليل مبني على أربع مقدمات :

المقدمة الأولى : في بيان أنه حصل في الوجود موجودات ، لا تقبل القسمة. ويدل عليه وجوه :

الأول : إن واجب الوجود لذاته ، غير قابل للقسمة بوجه من الوجوه ، لا القسمة المقدارية ، ولا القسمة العقلية ، الحاصلة من الجنس والفصل ، ولا القسمة [العقلية (١)] الحاصلة من المادة والصورة ، لأن كل منقسم فهو يحتاج إلى جزئه ، [وجزؤه غيره. فكل منقسم فهو محتاج إلى غيره (٢)] وكل محتاج إلى غيره فهو ممكن لذاته [فكل منقسم فهو ممكن لذاته (٣)] فيلزم أن كل ما يكون

__________________

(١) من (ل)

(٢) سقط (م)

(٣) من (ط ، ل)

٥٧

ممكنا لذاته ، فإنه يكون منزها عن التأليف والتركيب ، فيكون فردا محضا.

الثاني : إن النقطة يمتنع كونها منقسمة. وقد ذكرنا في المسألة المشتملة على إثبات الجوهر الفرد : وجوها كثيرة في تقرير هذا المطلوب. ومن جملتها : أن النقطة نهاية للخط ، فلو كانت النقطة منقسمة ، لم يكن كل واحد من نصفها نهاية للخط. وهذا يلزمه أن كل ما كان نهاية للخط ، يمتنع أن يكون منقسما.

الثالث : إن الوحدة أبعد الأشياء عن طبائع الكثرة. فالوحدة إن كانت موجودة فهو المطلوب ، وإن لم تكن موجودة كانت الكثرة موجودة [لكن الكثرة عبارة عن مجموع الوحدات فمتى كانت الكثرة موجودة كانت الوحدة موجودة (١)] فثبت : أنه لا بد من الاعتراف بوجود الوحدة على كل حال.

الرابع : لا شك أن في الوجود ماهيات موجودة ، فهذه الماهيات إما أن تكون بسيطة أو مركبة. فإن كانت بسيطة مفردة فهو المطلوب وإن كانت مركبة وكل مركب فإنما يتركب عن البسائط. فعلى جميع التقديرات لا بد من الاعتراف بوجود ماهية بسيطة مفردة عن جميع جهات التركيب.

فثبت بهذه الوجوه الأربعة : أنه قد حصل في الوجود موجودات لا تقبل القسمة.

وأما المقدمة الثانية : فهي في بيان أنه إذا كان المعلوم غير منقسم ، كان العلم المتعلق به غير قابل للقسمة. فنقول : الدليل عليه : هو أن ذلك العلم ، لو انقسم ، لكان كل واحد من جزئياته ، إما أن يكون علما بذلك المعلوم أو يكون علما بجزء ذلك المعلوم ، أو لا يكون علما بذلك المعلوم ولا بشيء من أجزائه ، والأقسام الثلاثة باطلة ، فبطل القول بكون ذلك العلم قابلا للقسمة.

أما أنه يمتنع أن يكون جزء ذلك العلم : علما بذلك المعلوم. فبيانه من وجهين (٢) :

__________________

(١) سقط (م)

(٢) وجوه [الأصل]

٥٨

الأول : إنه يلزم أن يكون الجزء مساويا للكل ، وذلك محال. لأنه إذا كان كل ذلك العلم علما بذلك المعلوم وأحد أجزاء ذلك العلم يكون أيضا علما بذلك المعلوم ، فحينئذ يلزم كون الجزء مساويا للكل من كل الوجوه ، وهو محال. فإن قالوا : لم لا يجوز أن يكون الكل مساويا للجزء في بعض الأحوال ، وإن كان مخالفا له من سائر الوجوه؟

قلنا : العلم بالشيء لا حقيقة له ولا ماهية له ، سوى كونه علما بذلك المعلوم ، وكل ما سوى هذا الاعتبار ، فإنه يكون خارجا عن ماهية كونه علما ، فإذا كان لا ماهية للعلم إلا هذا القدر. ثم قلنا : إن هذا القدر وقع الاشتراك فيه بين كل العلم ، وبين جزئه ، فحينئذ يلزم كون الجزء مساويا للكل من كل الوجوه ، وهو محال.

الثاني : وهو أنه إذا كان كل ذلك العلم علما بذلك المعلوم [وكان كل واحد من أجزاء ذلك العلم أيضا ، علما بذلك المعلوم ، فحينئذ يكون الموصوف بذلك عالما بذلك المعلوم (١)] لا مرة واحدة ، بل مرارا كثيرة. وذلك باطل.

الثالث : وهو أنا إذا فرضنا أن كل واحد من أجزاء ذلك العلم ، كان علما بذلك المعلوم ، فهل تنتهي تلك الأجزاء إلى جزء لا يقبل القسمة ، أو لا ينتهي إلى ذلك؟ فإن كان الأول فذلك الجزء من العلم ، علم بذلك المعلوم ، مع أنه لا يقبل القسمة. فقد وجدنا علما لا يقبل القسمة. وهو المطلوب. وإن كان الثاني فحينئذ يلزم أن يحصل لذلك العلم أجزاء لا نهاية لها ، لا مرة واحدة بل مرارا لا نهاية لها. وهو محال. وعلى تقدير تسليمه ، فالمقصود حاصل. لأن الكثرة عبارة عن اجتماع الوحدات ، فما لم تحصل الوحدة لم يحصل اجتماعها ، وحينئذ يحصل المقصود.

وأما القسم الثاني من الأقسام المذكورة في أول الدليل : وهو أن كل واحد

__________________

(١) سقط (ط)

٥٩

من أجزاء ذلك العلم يكون علما بجزء من أجزاء ذلك المعلوم. فهذا أيضا : باطل. لأن هذا إنما يعقل : إذا كان المعلوم منقسما. وكلامنا في المعلوم الذي لا يقبل القسمة.

وأما القسم الثالث : وهو أن يقال : كل واحد من أجزاء ذلك العلم ، لا يكون [علما بنفس (١)] ذلك المعلوم ولا شيء من أجزائه [علما بذلك المعلوم (٢)]

فنقول : إن تلك الأجزاء إذا اجتمعت. فهل حدث عن اجتماعها أمر زائد على تلك الأجزاء ، أو لم يحدث؟ فإن لم يحدث أمر زائد ، كان الحاصل هناك أمورا ليست [علما بذلك المعلوم ولا بشيء من أجزائه. فيلزم أن يقال : العلم بالشيء : ليس (٣)] علما به. هذا خلف. وإن حدث أمر زائد. فذلك الزائد إن قبل القسمة ، عاد التقسيم الأول فيه. وإن لم يقبل القسمة فهو علم لا يقبل القسمة. وذلك هو المطلوب [فثبت بما ذكرنا : أنه متى كان المعلوم غير منقسم ، وجب أن يكون العلم به غير منقسم. وهو المطلوب (٤)].

المقدمة الثالثة في بيان أنه متى كان العلم غير منقسم كان الموصوف بذلك العلم غير منقسم : فنقول : الذي يدل عليه : أن ذلك الموصوف ، إذا كان منقسما ، افترض فيه أجزاء وأقسام. وكل واحد من تلك الأجسام ، إما أن يكون موصوفا بكل ذلك العلم ، أو بجزء من أجزائه ، أو لا بكله ولا ببعضه. والأول : محال ، وإلا لزم حلول العرض الواحد في المحال الكثيرة. والثاني : محال ، وإلا لزم أن يكون ذلك العلم منقسما. وقد فرضناه غير منقسم ، هذا خلف. والثالث : محال ، لأنه إذا كان كل واحد من أجزاء ذلك المحل : خاليا عن ذلك العلم [وعن جميع أجزائه يلزم كون ذلك المحل خاليا عن كل ذلك العلم (٥)] مع أنا فرضناه موصوفا به. هذا خلف.

__________________

(١) : سقط (ل).

(٢) سقط (ط)

(٣) سقط (طا)

(٤) سقط (ط)

(٥) سقط (ط)

٦٠