المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٧

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٧

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٥

[فوجب أن لا تموت النفس بموت البدن (١)].

الحجة السابعة في بيان أن النفس لا تموت بموت البدن : هو أن النفس لها قوتان : نظرية : وهي القوة التي باعتبارها تقوى على استفادة العلوم التصورية والتصديقية من عالم المجردات. وقوة عملية : وهي القوة التي باعتبارها تقوى على تدبير هذا البدن ، وعلى التصرف فيه.

فأما القوة النظرية فهي غير مشروطة البتة بالبدن. وذلك لأن محل التصورات ليس إلا النفس. فإذا حصل في جوهر النفس استعداد لقبول تلك التصورات ، فاضت تلك التصورات عن العلل العالية على جوهر النفس وإذا حصل تصور الموضوع وتصور المحمول ، كان ذانك التصوران محال. يلزم من مجرد حصولها حصول التصديق. فحينئذ تحصل القضايا البديهية لا محالة. وإذا حصلت القضايا البديهية ، واتفق أن حصل فيها قضيتان مشتركتان في الحد الأوسط فحينئذ يكون حصول هاتين القضيتين في العقل ، موجبا لحصول العلم بتلك النتيجة. ثم إذا انضافت تلك النتيجة إلى نتيجة أخرى على الشرط المذكور ، حصلت نتيجة ثانية. وظاهر أن شيئا من هذه المراتب والدرجات لا يتوقف على اعتبار حال البدن وجودا وعدما. فثبت : أن النفس في قوتها النظرية غنية عن البدن ، وأما قوتها العملية فهي غنية أيضا عن البدن. وذلك لأن البدن محل لنفاذ تلك القدرة ، وما يكون محلا لنفاذ القدرة ، لا يكون علة لتلك القدرة.

وأيضا : البدن قابل للتصرف [عن النفس (٢)] فيمتنع أن يكون فاعلا في النفس ، لأن القابل من حيث إنه قابل ، لا يكون فاعلا. فثبت : أن النفس غنية في قوتها النظرية ، وفي قوتها العملية عن البدن.

أما أنها غنية في ذاتها عن البدن ، فلأنا سنقيم الدلالة على أن المؤثر في وجود الجوهر المجرد ، يمتنع أن يكون جسما أو حالا في جسم. فثبت بهذا البيان

__________________

(١) من (ل).

(٢) من (ل).

٢٢١

الظاهر : أن النفس غنية في ذاتها وفي صفاتها عن البدن. والغني مطلقا عن الشيء ، لا يجب فساده عند فساد ذلك الشيء. فوجب الجزم بأن النفس لا تموت بموت البدن ، ولا تضعف بضعفه. وهو المطلوب.

الحجة الثامنة : إنا قد ذكرنا في باب إثبات النفس : أنه لو لم تكن النفس باقية بعد موت البدن لكان [أخس الحيوانات هو الإنسان والتالي باطل فالمقدم باطل. بيان الملازمة : إن بتقدير أن لا تكون النفس باقية بعد موت البدن ، كان (١)] كمال السعادة ونهايتها هو الفوز بهذه اللذات الجسمانية ، والراحات البدنية. وحصول العقل يوجب تنقيض هذه [الحالة. وهي تنقيض هذه (٢)] اللذات ، وتنقيض هذه الراحات والسعادات.

وأما عدم العقل فإنه يوجب تكميل هذه الراحات ، وقوة هذه السعادات. فإذا كان لا كمال ولا سعادة إلا هذه اللذات البدنية والخيرات الجسمية. وكان العقل سببا لنقصانها تارة ، ولبطلانها أخرى ، وجب أن يكون العقل أخس الصفات وأدونها ، وأن يكون العاقل أخس ممن ليس بعاقل [فثبت : أنه لو لم تكن النفس باقية ، لكان الإنسان أخس الحيوانات ، لكن التالي باطل (٣)] فإن بديهة العقل حاكمة بأن الإنسان كالملك ، وسائر الحيوانات كالعبيد [له. وإن الإنسان العاقل كالملك ، والجهال كالعبيد له (٤)] وذلك يدل على أن النفس باقية بعد موت البدن.

الحجة التاسعة : إن العقول كلها حاكمة بأنه كلما كان الخوض في اللذات البدنية والخيرات الجسمية أقل ، كان ذلك الإنسان أكمل. وكلما كان الخوض فيها أكثر ، كان ذلك الإنسان أخس. والدليل عليه : أن الناس إذا اعتقدوا في إنسان أنه معرض عن اللذات الجسمية ، كالأكل والشرب والوقاع ، ومعرض

__________________

(١) من (طا ، ل).

(٢) سقط (ط).

(٣) من (ل ، طا).

(٤) من (ل ، طا).

٢٢٢

عن طلب الرئاسة [في الدنيا (١)] والتفوق على الأقران ، فإنه يعظم قدر هذا الإنسان في عقولهم. وترى الطالبين لهذه اللذات يخدمون ذلك الإنسان ، المعرض عنها ، خدمة العبيد للأرباب ، ويعدون أنفسهم بالنسبة إلى أولئك المعرضين ، كالبهائم بالنسبة إلى الملائكة.

حتى إن المزور إذا أراد استتباع الخلق ، أظهر من نفسه ـ على سبيل التزوير ـ قلة الرغبة في هذه الخيرات البدنية ، والراحات الجسمية ، ويتوصل بها إلى استخدامهم ، والأمر والنهي عليهم. وهذا يدل على أن تقرر في عقول جميع الخلق : أن التقليل من هذه اللذات ، يوجب الكمال ، وأن التكثير منها يوجب النقصان. والمقدمة التي شهدت بصحتها بدائه العقول ، وصرائح الأفكار ، لا بد وأن تكون مقدمة حقة يقينية.

إذا ثبت هذا فنقول : لو لم تكن النفس باقية ، لكان كمال السعادة في الاستكثار من هذه اللذات ، وكمال الشقاوة في التقليل منها. والتالي كاذب ، فالمقدم كاذب مثله. بيان الشرطية : إن السعادة والبهجة لا معنى لها ، إلا ما يوجب اللذة والسرور. وهذه اللذة والسرور إما أن تحصل بعد الموت ، أو قبل الموت. فإن كانت النفس لا تبقى بعد موت البدن ، امتنع حصول اللذة والبهجة والسرور بعد موت البدن ، فلم يبق للسعادة حصول إلا قبل الموت ، فوجب أن يكون الاستكثار من هذه اللذات والخيرات ، استكثارا من السعادة ، والتقليل منها تقليلا من السعادة. وذلك يدل على صحة ما قلنا : إنه لو لم تكن النفس باقية ، لكان كمال الإنسان (٢) : من الاستكثار من هذه اللذات البدنية ، والراحات الجسمانية. وقد بينا في المقدمة [الأولى (٣)] أن هذا باطل ، فوجب أن يكون القول بأن النفس غير باقية باطلا قطعا.

واعلم : أنا نكتب فصلا طويلا في بيان أن السعادات النفسانية ـ أعني

__________________

(١) من (ل ، طا).

(٢) السعادة (ل).

(٣) سقط (طا ، ل).

٢٢٣

العلوم ـ أفضل من السعادات البدنية. وكل دليل نذكره هناك ، فإنه يقوي هذا الدليل على كون النفس باقية.

الحجة العاشرة : ما ذكرنا : أن الإنسان يجب أن يكون مخلوقا للخير والراحة ، وإلا لكان إما أن يكون مخلوقا للشر والإيذاء ؛ أو لمحض العبث. وكلاهما لا يليق بالحكيم الرحيم. فثبت : أنه مخلوق للخير والرحمة. ثم ذلك الخير والرحمة ، إما أن يكون حاصلا قبل الموت أو بعده ، والأول باطل ، لأن الدنيا مملوءة من الشرور والآفات والمكروهات والمخافات ، فوجب أن يكون محل تلك الخيرات ما بعد الموت ، وذلك يوجب القطع بأن النفس لا تموت بموت البدن.

الحجة الحادية عشر : إن الدلائل العقلية والنقلية متطابقة على أنه لا بد من البعث والقيامة. والقول [بأن البعث والقيامة إنما يحصل لهذه الأبدان باطل. لأن ذلك لا يصح إلا مع القول (١)] بإعادة المعدوم على ما بيناه : وهو محال. فوجب أن يحصل البعث والقيامة للنفس ، وذلك يقتضي إعادة المعدوم ، وهو محال. فثبت بما ذكرناه : أن القول ببقاء النفس بعد موت الجسد هو القول الصحيح.

الحجة الثانية عشر : الآيات والأخبار الكثيرة الدالة على أن النفس تبقى بعد موت الجسد (٢) وقد سبق ذكرها [والله أعلم (٣)].

__________________

(١) سقط (م) ، (ط).

(٢) البدن (م).

(٣) سقط (م).

٢٢٤

الفصل العاشر

في

تقرير الوجوه الاقناعية في بيان

أن النفس باقية بعد موت الجسد

الحجة الأولى : إن جمهورا من العقلاء أطبقوا على أن أفضل أقسام البشر : الأنبياء والأولياء والحكماء الإلهيون. أما الحكماء الطبيعيون والرياضيون فالفائدة في وجودهم : لأجل مصالح الحياة العاجلة. ولما كانت هذه الحياة خسيسة ، كان الخادمون لها غير موصوفين بالشرف.

وإذا ثبت هذا فنقول : أجمع الأولياء والأنبياء والحكماء الإلهيون : على أن النفس باقية بعد موت البدن ، وذلك لأن هؤلاء الفرق الثلاثة حرفتهم وطريقتهم : الإعراض عن الدنيا والإقبال على عالم الآخرة ، كما قال تعالى :(وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً ، وَخَيْرٌ أَمَلاً) (١) وما كانوا يلتفتون إلى أحوال هذه الحياة ، وما كانوا يسعون في إصلاحها ، بل كأنه لا حرفة لهم إلا تزييف هذه الطريقة وتهجينها. ومن أراد [تحقيق (٢)] ذلك ، فليطالع الكتب المشتملة على شرح أحوال الأنبياء ، في الزهد في الدنيا ، والإقبال على [عبادة (٣)] الله تعالى.

وأما الحكماء. فمن أراد معرفة أحوالهم وسيرهم [في هذه الطريقة ،

__________________

(١) الكهف ٤٦ والتكملة من (طا ، ل).

(٢) سقط (م).

(٣) سقط (م).

٢٢٥

فليطالع الكتب المشتملة على شرح أحوالهم (١)] ولا سيما طريقة «سقراط» و «أفلاطون» وأما «أرسطاطاليس» فلأجل أنه كان وزيرا ل «الإسكندر» وأستاذا له ، كثرت الدنيا عنده ، فجعلوه عيبا عليه. وذلك يدل على إطباق أكابر الحكماء على أن طلب الدنيا : مذموم ، والإقبال على الآخرة هو الطريق المحمود. ولو لم تكن النفس باقية بعد الموت (٢) ، لكانت طريقة الأنبياء والحكماء في تهجين حب الدنيا ، وتحسين طلب الآخرة : طريقة باطلة فاسدة. ولكانت طريقة الفسقة والكفرة في طلب الدنيا هي الطريقة الحقة. ولما كان ذلك معلوم الفساد بالضرورة ، وجب القطع بأن النفس باقية بعد موت البدن.

الحجة الثانية : طريقة الاحتياط. فنقول : إن هذا البدن كان معدوما من الأزل إلى يوم الولادة ، وسيبقى معدوما من يوم الموت إلى الأبد. ومن المعلوم : أن هذا الزمان الواقع فيما بين الأزل والأبد : قليل قليل ، بالنسبة إلى الكثير الكثير. فإن اعتقدنا أن النفس باقية بعد موت البدن ، واعتقدنا أن لها سعادة وشقاوة بعد ذلك ، ثم احترزنا عن اللذات الجسمانية ، وأقبلنا على طلب الخيرات الروحانية ، فإن أصبنا في هذا الاعتقاد ، فقد تخلصنا من العذاب المؤبد ، ووصلنا إلى الثواب المؤبد. وإن أخطأنا في هذا الاعتقاد لم يفتنا إلا الفوز بهذه اللذات البدنية ، في هذه المدة القليلة ، المتوسطة بين الأزل والأبد.

وأما إن اعتقدنا : أن النفس فانية (٣) وأنه ليس لها سعادة ولا شقاوة بعد الموت. فإن أصبنا في هذا الاعتقاد ، وصلنا إلى (٤) هذه اللذات القليلة المنغصة في هذه الأيام القليلة. وإن أخطأنا في هذا الاعتقاد ، وصلنا إلى العذاب المؤبد ، والشقاء المخلد.

وإذا عرفت هذا ، فقد ظهر أن اعتقاد أن النفس باقية بعد موت البدن ، أقرب إلى الاحتياط ، فوجب المصير إليه.

__________________

(١) سقط (طا ، ل).

(٢) البدن (م).

(٣) غير باقية (طا ، ل).

(٤) إلى وجدان هذه (م).

٢٢٦

وهذا هو الذي قاله الإمام الأجل «علي بن أبي طالب» ـ رضي الله عنه وأرضاه :

قال المنجم والطبيب كلاهما

لا تحشر الأموات. قلت : إليكما

إن صح قولكما فلست بخاسر

أو صح قولي ، فالخسار عليكما

والحجة الثالثة من الوجوه الإقناعية في بقاء النفس بعد موت البدن : إنا نرى أهل المشرق والمغرب من الزمان الأقدم ، إلى الآن : مطبقين على ذكر موتاهم. تارة بالصلاة والرحمة والخير ، إن اعتقدوا فيهم الظلم والجور. ولو لم تكن النفس باقية بعد موت البدن ، لكان هذا الكلام باطلا. لأن الصلاة والدعاء والرحمة تضرع إلى إله (١) العالم في إيصال خير إليه ، واللعن والشتم طلب من إله العالم إيصال شر وعذاب إليه. ولو كانت النفس تموت بموت البدن وتعدم عند عدمه ، لكان إيصال الخير والشر إليه محالا. فيلزم أن يقال : إن جميع أهل العالم من الزمان الأقدام ، قد أطبقوا على الباطل [ومعلوم : أن ذلك بعيد (٢)].

فإن قالوا : إن هذا الدعاء وهذا الشتم ، إنما يذكره أرباب الملل والنحل لجهلهم بحقائق الأشياء ، وأما الحكيم العاقل الكامل فإنه لا يفعله البتة.

فنقول : إن ذلك الذي نسميه بالحكيم الفاضل الكامل إذا غفل عن شبهاته وضلالاته ، وعاد إلى أصل فطرته ، ومقتضى طبيعته (٣) الأصلية ، فإن كان قد ناله خير كثير من إنسان ، ومات ذلك الإنسان ، فإنه إذا تذكر ما وصل إليه من الخيرات ، فلا بد وأن تحمله فطرته الأصلية على أن يذكره بالرحمة والدعاء. وإن كان قد ناله منه شر كثير ، فإذا تذكر تلك الأحوال ، فلا بد وأن يذكره باللعن والشتم. وذلك يدل على أن مقتضى الفطرة الأصلية هو الإقرار

__________________

(١) إلى الله في (ل).

(٢) سقط (ل ، طا).

(٣) جبلته (م).

٢٢٧

ببقاء النفس ، وإن العدول عنه ليس إلا بسبب الشبهات العارضة.

الحجة الرابعة : إن الإنسان قد يرى أباه وأمه في المنام ، ويسألهما عن أشياء ، وهما يذكران أجوبة صحيحة ، وربما أرشداه إلى دفين دفنه في موضع لا يعلمه أحد.

وأقول (١) : «إني حين كنت صبيا في أول التعلم ، وكنت أقرأ مسألة حوادث لا أول لها. فرأيت في المنام أبي ، فقال لي : أجود الدلائل : أن يقال : الحركة انتقال من حالة إلى حالة أخرى. فهي تقتضي بحسب ماهيتها : كونها مسبوقة بالغير. والأول ينافي كونه مسبوقا بالغير. فوجب أن يكون الجمع بينهما محالا».

وأقول : «والظاهر : أن هذا الوجه ، أحسن من كل ما قيل في هذه المسألة».

وأيضا : سمعت أن «الفردوسي» الشاعر ، لما صنف كتابه المسمى ب «شاهنامه» على اسم السلطان «محمود بن سبكتكين» وأنه ما قضى حقه كما يجب وما راعاه كما يليق بذلك الكتاب ، ضاق قلب «الفردوسي» فرأى في المنام «رستم» فقال له : إنك قد مدحتني في هذا الكتاب كثيرا ، وأنا في زمرة الأموات ، فلا أقدر على قضاء حقك. ولكن اذهب إلى الموضع الفلاني ، واحفر فيه ، فإنك تجد فيه دفينا ، فخذه. فكان «الفردوسي» الشاعر يقول : إن «رستم» بعد موته أكثر كرما من «محمود» حال حياته.

وأيضا : سمعت أن أصحاب «أرسطاطاليس» كل ما أشكل عليهم بحث موضوع ، ذهبوا إلى قبره ، وبحثوا في تلك المسألة فكانت المسألة تنفتح ، والإشكال يزول. وهذه الأحوال مما تفيد ظنا غالبا (٢) أن نفوس الأموات باقية بعد موت أبدانها.

الحجة الخامسة : إنا نشاهد أن كل بناء بني للخير والدين ، فإنه يبقى

__________________

(١) قال المصنف (م).

(٢) قال المصنف (م).

٢٢٨

زمانا طويلا مع ضعفه ورخاوته ، وكل بناء بني للدنيا مثل قصور الملوك والأكابر ، فإنه ينهدم في أسرع مدة مع غاية قوته [وإنا نرى أهل الزهد والطاعة والعلم ، يبقى ذكرهم بعد موتهم دهرا داهرا وزمانا طويلا (١)] وأيضا : نرى أن ثياب أهل الزهد والطاعة والعلم تبقى بعد موتهم دهرا داهرا وزمانا طويلا [وتبقى آثارهم وبلياتهم زمانا طويلا (٢)] مع أنها تكون في غاية الرخاوة والضعف. ولقد رأيت سجادة متخذة من الخرق الضعيفة ، بقيت بعد موت صاحبها مائة وعشرين سنة ، بل نقول : بقاء ثوب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بقي نيفا وستمائة سنة. وأما ثياب الملوك والسلاطين فإنها مع غاية شرفها وصفاقتها ، تفنى في أقل مدة. وأيضا : نرى الرجل العالم أو الزاهد مع فقره وغاية ضعفه وعدم التفات الناس إليه ، يبقى ذكره [بعد موته مئات وألوفا من السنين ، وأما الجبابرة والسلاطين فإنه لا يبقى ذكرهم (٣)] في الدنيا إلا أياما قلائل. ثم إنها تنقرض وتزول ، ولا يبقى منهم في الدنيا لا أثر ولا خبر.

إذا عرفت هذا فنقول : هذا الاستقراء يدل على أن كل ما له تعلق بحضرة الجلال ، فإنه يبقى بحسب قوة ذلك التعلق ، وكل ما له تعلق بعالم الجسم والهيولى (٤) ، فإنه يكون سريع الدثور والفناء. إذا ثبت هذا فنقول : إن النفس الناطقة إذا أشرقت بنور معرفة واجب الوجود ، وتقوت بتلك القوة التي لا نهاية لها في العدة والشدة والمرة ، وجب أن تبقى بقاء مصونا عن الفساد ، دائما بدوام السبع الشداد. وتمام التقريب : إني لما رأيت نظرت تلك السجادة المركبة من تلك الخرق السخيفة ، وأنها بقيت مدة مائة وعشرين سنة ، قلت في نفسي : امتياز هذه الخرق السخيفة بهذا البقاء عن سائر الثياب الصفيقة النفيسة ، إنما حصل لأجل أنه اتفق أنه وقع عليها رجل ذلك الرجل الذي كان مدبر بدنه : نفسا أشرقت بنور معرفة الله تعالى فلأجل هذا التعلق البعيد ،

__________________

(١) من (م).

(٢) من (م).

(٣) سقط (م).

(٤) والقبول (م).

٢٢٩

وجدت هذه الخرق الضعيفة : هذا البقاء الطويل. فإذا صار هذا التعلق البعيد سببا لحصول هذا البقاء ، فما ظنك بجوهر النفس الناطقة ، مع أنها هي الظرف والوعاء لنور الجلال ، وضوء عالم الإله.

الحجة السادسة : إنا نرى أن كل إنسان ، كان مقبلا على التعظيم لأمر الله تعالى ، والشفقة على خلق الله تعالى ، فإنه يكون عمره طويلا ، ويبقى طول عمرة مصونا عن الآفات والبليات. وكل من كان كثير الإقدام على القتل والإضرار ، فإنه يكون عمره قصيرا ، ولا بد وأن يقع في نوع من أنواع الآفات. وهذا هو الاستقراء الغالب. بل نقول : الحيوانات السليمة تطول أعمارها ، والحيوانات المؤذية تقصر أعمارها. ومعنى التعظيم لأمر الله : هو تكميل القوة النظرية التي للنفس. ومعنى الشفقة على خلق الله : تكميل القوة العملية التي للخلق. فهذا الاستقراء يدل على أن الاشتغال بتكميل هاتين القوتين يوجب إبقاء البدن بحسب الإمكان ، فلأن يوجب إبقاء جوهر النفس ، مع أن محل هاتين القوتين هو جوهر النفس كان أولى.

الحجة السابعة : إن أحوال الإنسانية على ثلاثة أقسام : فأدونها : الأحوال الجسمانية المحضة. مثل : الأبنية التي تبنى للخيرات ، كالمساجد والمدارس والخانقاهات ، وأوسطها : الأحوال التي تكون من جهة جسمانية ومن جهة روحانية [وهو الكلام. فإنه من حيث إنه صوت يتولد عن الآلات الجسمانية فهو من الجسمانيات (١)] ومن حيث إنه يدل على المعاني الروحانية النفسانية كان من الروحانيات. وأعلاها الأحوال النفسانية المحضة ، وهي العلوم الحقيقية والمعارف الصادقة.

إذا عرفت هذا فنقول : من الظاهر : أن الجسمانيات أقل قبولا للبقاء من الروحانيات. ثم إنا نرى كل ما ينسب إلى أصحاب الروحانيات من الجسمانيات ، فإنه ينتهي في البقاء إلى أقصى الغايات الممكنة. وإن شئت

__________________

(١) من (ل ، طا).

٢٣٠

فتعرف أحوال المسجد الحرام والمسجد الأقصى ، فإنك لا تجد في الدنيا بناء يساويهما في البقاء.

وأما المرتبة الثانية : فكل كلام يتعلق بالمعاني الروحانية ، مثل : صفات الإله سبحانه وتعالى ، وأفعال الخيرات. فإنه يبقى إلى أقصى الإمكان. وإن شئت فتعرف كتب الله تعالى المنزلة. كالتوراة والإنجيل والزبور والفرقان. ومثل : كتب الحكمة. على اختلاف أصنافها فإنها باقية على وجه الدهر ، فلما رأينا أن الجسمانيات لما تعلقت بالروحانيات بقيت بقاء عظيما ، مع أن الأصل في الجسمانيات هو الفناء والانقراض والانقضاء. فالنفس التي هي جوهرة روحانية محضة ، بحسب الذات ، وبحسب جميع الصفات ، ثم إنها محل معرفة الله تعالى ، التي هي الإكسير الأعظم الموجب للبقاء الدائم ، لأن تكون موصوفة [بالبقاء والنقاء مبرأة (١)] عن التغير والفناء ، كان أولى.

الحجة الثامنة : الاستقراء يدل على أن الإنسان ، كلما تجلى في قلبه نور معرفة الله تعالى ، وانكشفت له صفات جلاله وكبريائه ، فإنه تقوى نفسه وتكمل قوته ، ويصير بحيث لا يبالي بأعظم سلاطين العالم ، ولا يقع في عينه منصب أحد البتة.

وأما إذا زال ذلك الكشف والتجلي ، فإنه يعود إلى حالته الأولى بحيث يخاف من أقل الأشياء ، ويحذر أصغر الموجبات. يحكى أن «إبراهيم الخواص» كان في البادية ، ومعه بعض مريديه فاتفق في بعض الليالي ، أن وقع في مقام الكشف. فاضطجع هناك ، وأحاطت به السباع ، وأنه لم يلتفت إلى شيء منها. وأما المريدون فخافوا من تلك السباع ، فصعدوا بعض الأشجار خوفا منها ، وفي الليلة الثانية زالت تلك الحالة ، فاضطجع ، فوقعت بعوضة على يده ، فأظهر التوجع من وقع تلك البعوضة. فقال له بعض المريدين (٢) : لم

__________________

(١) من (ل ، طا).

(٢) ذلك المريد (م).

٢٣١

تلتفت في الليلة الماضية إلى السباع التي أحاطت بك ، وفي هذه الليلة أظهرت التوجع من هذه البعوضة.

فقال : أما الليلة الماضية فقد جاءني ضيف كريم ، وسلطان عظيم [من عالم الغيب (١)] فلأجل قوته ما كنت أبالي بتلك السباع. وأما في هذه الليلة فأنا وحدي مع نفسي ، فلا أطيق تحمل إيذاء هذه البعوضة.

فثبت بما ذكرنا : أن ظهور نور عالم الغيب يقوي جوهر الروح ، ويفيد النفس استيلاء على عالم الجسم. وإذا ثبت هذا ، فجوهر النفس عند القرب من الموت ، لا بد وأن يلتجئ إلى الله تعالى ، فتحصل المكاشفة ، فيقوى جوهر النفس قوة لا تبالي بخراب كل العالم ، فكيف تبالي بخراب البدن الضعيف.

الحجة التاسعة : لو فنيت النفس بفناء الجسد ، لكانت النفس محتاجة إلى البدن ، في بقاء ذاتها ، وأما الجسد فهو محتاج إلى النفس لا في بقاء ذاته ، بل في بقاء صفاته. وهي : الكيفيات المزاجية وعلى هذا التقدير فيكون احتياج النفس إلى البدن ، أكثر من احتياج البدن إلى النفس. وما كان أكثر حاجة ، كان أخس مما هو أقل حاجة. فلو ماتت النفس بموت البدن ، لزم كون النفس أخس من البدن. وهذا باطل. لأن الجسد مع النفس يكون شريفا ، وبدون النفس يكون في غاية الخساسة. فثبت : أن النفس لا تموت بموت البدن.

الحجة العاشرة : إن موت البدن عبارة عن تغير الصفات القائمة بتلك الأجسام ، فإن موت البدن لا معنى له إلا زوال تلك الكيفية المزاجية ، وزوال تلك الأعراض المعتدلة. فنقول: تعلق تلك الأعراض بتلك الأجسام ، أكمل وأقوى من تعلقها بالنفس المتصرفة في تلك الأجسام. ولما لم يكن زوال تلك الأعراض فناء تلك الأجسام (٢) مع ما بينهما من التعلق القريب فلأن لا يكون موجبا فناء النفس مع ما بينهما من التعلق البعيد ، كان ذلك أولى.

__________________

(١) سقط (طا ، ل).

(٢) فناء النفس (ط).

٢٣٢

فهذه مجموع الوجوه التي خطرت بالبال ، وحضرت في الخيال في أقل من ثلاث ساعات في هذا الباب وليس لأحد أن يعيب ذكر هذه الإقناعيات علينا. فإنا قد ذكرنا أن المطلوب إذا كان مهما جدا ، وكان شريفا عاليا ، وكان مشكلا ، كان التوصل إلى تحصيله ، تارة باليقينيات ، وتارة بالإقناعيات القوية والضعيفة من مقتضيات العقول السليمة [والله أعلم (١)».

__________________

(١) من (طا ، ل).

٢٣٣
٢٣٤

الفصل الحادي عشر

في

بيان أن النفس لا تقبل الهلاك والعدم

اتفق المتأخرون من الفلاسفة عليه. وذكر الشيخ الرئيس في تقريره حجة مشوشة مذكورة بعبارات معقدة. وأنا أذكرها مشروحة ملخصة بتوفيق الله مع المباحث الدقيقة ، والمضائق العميقة ، ثم أذكر عقيبها حجة أخرى ، أوضح وأكمل من الأولى :

الحجة الأولى : أن نقول : لو كانت النفس الناطقة قابلة للفساد ، لكانت مركبة من المادة (١) والصورة. وهذا محال. فذاك محال.

بيان الشرطية موقوف على مقدمات :

المقدمة الأولى : إن كل ما يكون قابلا للفساد ، [فإن قبول الفساد (٢)] يجب أن يكون مغايرا لحصول الفساد. بدليل أن قبول الفساد حاصل قبل حصول الفساد ، والحاصل قبل حصول شيء ، يجب أن يكون مغايرا لذلك الشيء ، فثبت : أن قبول الفساد [مغاير للفساد.

والمقدمة الثانية : قبول الفساد ، لا بد وأن يكون حاصلا حال حصول الفساد. وذلك معلوم بالضرورة.

__________________

(١) هيولى وصورة (م).

(٢) من (طا ، ل).

٢٣٥

والمقدمة الثالثة : إن قبول الفساد (١)] مفهوم غير مستقل بنفسه. بل لا بد من فرض شيء آخر. يكون ذلك الشيء موصوفا بذلك القبول.

وإذا ثبتت هذه المقدمات. نقول : الموصوف [بقبول الفساد (٢)] إما أن يكون هو عين ذلك الشيء أو جزء من أجزائه. والأول باطل ، لأن قابل الفساد لا بد وأن يكون حاصلا حال حصول الفساد ، ووجود الشيء يمتنع أن يكون حاصلا حال حصول فساده. وإذا بطل هذا القسم ، تعين القسم الثاني ، وهو أن تكون تلك الماهية (٣) لها جزء ، ويكون ذلك الجزء موصوفا بقبول الفساد. وإمكان الفساد هو بعينه إمكان الحصول ، فكل ما يصح عليه الفساد ، وله جزء ، يكون ذلك الجزء محلا لإمكان وجوده ، ولإمكان عدمه. وذلك الجزء هو المادة. كالطين الذي هو المادة للكوز ، بسبب أن الطين محل لإمكان حدوث صورة الكوز ، ولإمكان عدمها. فثبت : أن النفس لو كانت قابلة للفساد ، لكانت مركبة من المادة والصورة.

وبيان أن كونها مركبة من المادة والصورة محال : هو أن تلك المادة ، إن كانت قابلة للفساد ، افتقرت إلى مادة أخرى ، ولزم إما الدور وإما التسلسل. وهما محالان. وإما الانتهاء إلى مادة لا مادة لها ، وحينئذ لا يكون قابلا للفساد. لما بينا : أن كل ما يقبل الفساد ، فله مادة. فالذي لا مادة له ، وجب أن لا يقبل الفساد. وعلى هذا التقدير فتلك المادة جوهر مجرد قائم بذاته. ولا معنى للنفس إلا ذلك. فلما كانت تلك المادة غير قابلة للفساد ، ثبت : أن النفس لا تقبل الفساد.

فإن قيل : الكلام عليه من وجوه :

السؤال الأول : إن قولكم لو كانت النفس قابلة للفساد ، لكانت مركبة من المادة والصورة [منقوص بصور :

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) من (طا ، ل).

(٣) الماهية مركبة لها ... إلخ (م).

٢٣٦

إحداها : الأعراض. مثل : السواد والبياض. فإنها قابلة للعدم (١)] وليست مركبة من المادة والصورة.

[وثانيها : الصورة قابلة للعدم. وليست مركبة من المادة والصورة (٢)] وإلا لزم أن تحصل للصورة صورة أخرى إلى غير نهاية.

وثالثها : إن العقول والنفوس الفلكية ، والنفوس الناطقة ، والهيولى : كلها ممكنات ، وليس لشيء منها مادة.

السؤال الثاني : لا نسلم أن قبول الفساد ، لا بد له من محل ، فإن هذا بناء على أن الإمكان والقبول صفة موجودة ، ولا بد لها من محل. وقد سبق بيان أن الإمكان لا يمكن أن يكون صفة موجودة.

السؤال الثالث : النفوس عندكم حادثة. وكما أن كل ما يقبل الفساد ، فإن إمكان فساده حاصل قبل (٣) وجوده ، فكذلك ما يكون حادثا ، يكون إمكان حدوثه حاصلا قبل وجوده ، فإن لزم من أحد الإمكانين كونه مركبا من المادة والصورة ، لزم من الإمكان الثاني ، كونه كذلك ، فكان يجب أن يلزم من كون النفس محدثة ، كونها مركبة من الهيولى والصورة. وحينئذ يبطل دليلكم.

السؤال الرابع : إن بتقدير أن تكون النفس مركبة من المادة والصورة ، فإنه يجب بقاء المادة ، لكن لا يجب بقاء الصورة ، وبتقدير أن تكون تلك الصورة شرطا لقيام الحياة والعلم والقدرة [بتلك المادة (٤)] وحينئذ لا يحصل للنفس سعادة ولا شقاوة ، وحينئذ يبطل ما هو الغرض الأصلي من بقاء النفس.

والجواب :

أما السؤال الأول : وهو النقيض بالصور المذكورة. فجوابه : أن نقول :

__________________

(١) سقط (م) ، (ط).

(٢) سقط (ل).

(٣) بعد (م).

(٤) سقط (م) ، (ط).

٢٣٧

الصور والأغراض قائمة بالمواد ، فيكون محل إمكاناتها هو تلك المادة. ألا ترى أن صورة الكوز ، قائمة بالطين فإنك تحكم بأن هذا الطين يمكن اتخاذ الكوز (١) منه. فثبت : أن محل إمكانات هذه الصور والأعراض تلك المواد. وهذا يدل على صحة قولنا : إن كل ما يقبل الفساد ، فلا بد له من مادة. وأما إمكانات العقول والنفوس الفلكية والهيولى. فنقول : إن هذه الأشياء باقية أبدا وأزلا ، فلا يمنع قيام (٢) إمكاناتها بها. أما الشيء إذا عدم بعد وجوده فإمكان عدمه ، حاصل عند عدمه ، وهو غير حاصل عند عدمه فيمتنع أن يكون إمكانه قائما به ، فوجب قيامه بغيره. فظهر الفرق.

وأما السؤال الثاني : وهو قوله : «إن هذا الكلام مبني على أن الإمكان صفة موجودة مفتقرة إلى المحل» فنقول : لا حاجة في تقرير هذا الدليل إلى إثبات أن الإمكان صفة موجودة. بل نقول : إمكان الفساد ، سواء كان موجودا أو معدوما ، فهو حاصل عند حصول الفساد. والمفهوم من هذا الإمكان ، سواء كان موجودا أو معدوما ، مفهوم غير مستقل بنفسه ، فلا بد من فرض شيء آخر يحكم العقل بجعل ذلك الإمكان صفة له ، وذلك الشيء لا بد وأن يكون حاصلا عند حصول ذلك الإمكان ، ولما امتنع (٣) أن يكون الذي عدم باقيا عند عدمه ، وثبت : أن إمكان الفساد حاصل عند حصول ذلك الفساد ، وجب القطع بأن محل ذلك الإمكان شيء آخر. والذي هو محل إمكان ذلك الشيء هو الهيولى. فثبت : أن النفس لو كانت قابلة للفساد ، فسواء قلنا : إن هذا القبول صفة موجودة ، أو معدومة. فإنه يجب كون النفس مركبة من الهيولى والصورة.

وأما السؤال الثالث : وهو قوله : «إذا كانت النفس محدثة ، فالإمكان السابق على حدوثها ، وجب أن يفتقر إلى المادة» فجوابه : إن ذلك الإمكان مفتقر إلى مادة ، ومادته هي البدن ، والبدن باق حال ذلك الحدوث ، فلم

__________________

(١) الطين (ط).

(٢) فلا يمنع لزوم إمكانها (م).

(٣) ولما امتنع أن يكون ذلك الشيء باقيا عند عدمه (م).

٢٣٨

تحصل الحاجة إلى إثبات مادة لجوهر النفس. وأما الإمكان الحادث بعد الفساد ، فلا بد له من محل ومادة. وذلك المحل والمادة ، يمتنع أن يكون هو البدن. لأنه غير باق ، بعد الفساد [فوجب إثبات مادة لذات النفس ولجوهرها ، حتى يصير محلا لإمكان الفساد (١)] فظهر الفرق.

وأما السؤال الرابع : وهو قوله : «لم لا يجوز أن تكون الصورة الزائلة عند موت البدن ، شرطا لكون ذلك الجوهر القائم بالنفس موصوفا بالحياة والعلم والقدرة؟» فجوابه : إن كون النفس موصوفة بالحياة والعلم والقدرة ، لا يجوز أن يكون شرطا لتعلقها بالبدن. وذلك لأن تعلقها مشروط بكونها في ذاتها حية عالمة قادرة. فلو كان اتصافها بهذه الصفات ، مشروط بتعلق (٢) النفس بالبدن ، لزم افتقار كل واحد منهما إلى الآخر (٣) وذلك دور. وهو باطل. فهذا تمام الكلام في تقرير هذا الدليل [والله أعلم (٤)].

الحجة الثانية في بيان أن النفس الناطقة لا تقبل الفساد : إنها لو عدمت بعد وجودها ، لكان عدمها لا بد وأن يكون ، إما لوجود شيء ، كانت النفس محتاجة إلى عدمه ، أو لعدم شيء كانت النفس محتاجة إلى وجوده. والقسمان باطلان ، فبطل القول بعدمها. أما الحصر فظاهر ، وأما بيان فساد القسم الأول وهو أن النفس تعدم لوجود شيء كانت النفس محتاجة إلى عدمه.

فهو أن نقول : إن ذلك الشيء يجب أن يكون ضدا لجوهر النفس ، ويجب أن يقال: إن ذلك الضد ما كان موجودا حال بقاء النفس ، وإنما حدث بعد ذلك. وهو محال لوجوه:

الأول : إن المضادة حاصلة من الجانبين ، فلم يكن فناء النفس لأجل حدوث ذلك الضد ، أولى من اندفاع ذلك الضد ، لأجل قيام النفس ، بل هذا

__________________

(١) سقط (م) ، (ط).

(٢) بتعلقها بالبدن (ل).

(٣) الأجزاء (م).

(٤) من (طا ، ل).

٢٣٩

الثاني أولى لما قيل : إن الدفع أسهل من الرفع.

والثاني : إن طريان ذلك الضد الأول. فلو عللنا زوال الضد الأول ، بطريان الثاني. لزم الدور.

والثالث : إن الذي يفرض مضادا لوجود [هذه النفس (١)] إما أن يكون عرضا أو متحيزا ، أو جوهرا (٢) مجردا. والأولان باطلان. لأنا بينا : أن العرض والجسم أضعف حالا من الجوهر المجرد ، والأضعف لا يقوى على إعدام الأقوى ، ولأن الأجسام والأعراض موجودة مع هذه النفوس الحاضرة. وذلك يدل على انتفاء المضادة بينها وبين النفوس. والثالث أيضا محال. لأنا إن قلنا : النفوس الناطقة متماثلة ، فقد زال هذا الخيال ، لأن المضادة والمعاندة لا تحصل إلا عند اختلاف الطبائع والماهيات. وإن قلنا : إنها مختلفة في الماهيات. فالمضادة أيضا غير حاصلة. لأنا نعلم بالضرورة : أن جواهر النفوس غير متدافعة (٣) ولا متمانعة. بدليل : الاستقراء التام. فإن نفوس الناس الحاضرين لا يضاد بعضها بعضا. والاستقراء يفيد الظن الغالب.

وأما بيان فساد القسم الثاني : وهو القول بأن هذه النفوس عدمت لعدم شيء كانت النفوس محتاجة إليه. فهو أنا سنقيم الدلالة على أن العلل الموجدة لجواهر النفوس : موجودات مجردة دائمة مبرأة عن الحدوث والزوال. وكذلك العلل الموجدة للمعارف الحاصلة في جواهر النفوس : موجودات مجردة مصونة عن الفناء والزوال. وإذا كان الأمر كذلك ، امتنع أن يقال : إن هذه النفوس تعدم بعدم عللها. فلم يبق إلا أن يقال : إنه لا شك أن تأثير تلك العلل في وجود هذه النفوس [الحادثة قد كان موقوفا على شرط حادث ، وإلا لدام (٤)] المعلوم بدوام العلة ، فزالت هذه النفوس ، [لزوال (٥)] تلك الشرائط.

__________________

(١) لوجودها (م).

(٢) موجودا : غير (م).

(٣) مضادة (م).

(٤) النفوس يعدم لعدم عللها ، وإلا لزم المعلول .. (م).

(٥) سقط (ط).

٢٤٠