المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٧

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٧

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٥

تحصيل هذه اللذات بالخزي والنكال ، وعلى المستغرق فيها بالسعادة والكمال. وفساد التالي، يدل على فساد المقدم.

الحجة الثامنة : كل شيء يكون في نفسه كمالا وسعادة ، وجب أن لا يستحي من إظهاره. ويتبجح بفعله. ونحن لا نعلم بالضرورة : أن أحدا من العقلاء لا يفتخر بكثرة الأكل، ولا بكثرة المباشرة ، ولا بكونه مستغرق الوقت والزمان في هذه الأعمال ، [وأيضا : (١)] فالناس لا يقدمون على الوقاع إلا في الخلوة ، وأما عند حضور الناس فلا. فإن أحدا من العقلاء لا يجد من نفسه تجويز الإقدام عليه ، وذلك يدل على أنه تقرر في عقول الخلق أنه فعل خسيس ، وعمل قبيح ، فيجب إخفاؤه عن العيون. وأيضا : فقد جرت عادة السفهاء بأنه لا يشتم بعضهم بعضا إلا بذكر ألفاظ الوقاع ، وذلك يدل على أنه مرتبة خسيسة ، ودرجة قبيحة. وأيضا : لو أن واحدا من السفهاء أخذ يحكي عند حضور الجمع العظيم : أن فلانا كيف يواقع زوجته؟ فإن ذلك الرجل يستحي من ذلك الكلام ، ويتأذى من ذلك القائل. وكل هذا يدل على أن ذلك الفعل ليس من الكمالات والسعادات ، بل هو عمل باطل وفعل قبيح.

الحجة التاسعة : كل فرس أو حمار ، كان ميله إلى الأكل والشرب والإيذاء أكثر ، وكان قبوله للرياضة أقل : كانت قيمته أقل. وكل حيوان كان أقل رغبة في الأكل والشرب ، وكان أسرع قبولا للرياضة : كانت قيمته أكثر. ألا ترى أن الفرس الذي يقبل الرياضة والعدو الشديد ، فإنه يشترى بثمن رفيع. وكل فرس لا يقبل هذه الرياضة ، فإنه يوضع على ظهره الإكاف ، ويسوى بينه وبين الحمار ، ولا يشترى إلا بالثمن القليل. فلما كانت الحيوانات التي هي غير ناطقة ، لا تظهر فضائلها بسبب الأكل والشرب والوقاع ، بل بسبب تقليلها منه ، وبسبب قبول الأدب وحسن الخدمة لمولاه ، فما ظنك بالحيوان الناطق العاقل.

الحجة العاشرة : إن سكان أطراف الأرض ، لما لم تكمل معارفهم

__________________

(١) سقط (ط).

٣٠١

وأخلاقهم وعقولهم ، لا جرم كانوا في غاية الخسة والدناءة. ألا ترى أن سكان [الإقليم الأول، وهم الزنوج ، وسكان (١)] الإقليم السابع وهم الصقالبة ، لما قل نصيبهم من المعارف [الإلهية (٢)] الحقيقية ، والأخلاق الفاضلة ، لا جرم تقرر في عقول العقلاء : خسة درجاتهم، ودناءة مراتبهم ، وأما سكان وسط المعمورة ، لما فازوا بالمعارف الحقيقية ، والأخلاق الفاضلة ، لا جرم أقر كل واحد ، بأنهم أفضل طوائف البشر وأكملهم. وذلك يدل على أن فضيلة الإنسان وكماله ، لا تظهر إلا بالعلوم الحقيقية ، والأخلاق الفاضلة.

__________________

(١) سقط (طا) ، (ل).

(٢) من (ل).

٣٠٢

الفصل الثالث والعشرون

في

البحث عن نفوس سائر الحيوانات

أما الفلاسفة المتأخرون فقد اتفقوا على أنها قوى جسمانية ، وأنه يمتنع أن يكون لها نفوس مجردة. ولم يذكروا في تقرير هذا حجة ولا شبهة. وليس لأحد أن يقول : لو كانت نفوسها نفوسا مجردة ، لوجب كونها مساوية للنفوس البشرية في تمام الماهية. ويلزم وقوع الاستواء في العلوم والأخلاق ، وذلك محال.

فإنا نقول : الاستواء في التجرد (١) استواء في قيد سلبي. وقد عرفت أن الاستواء في القيود السلبية لا يوجب الاستواء في تمام الماهية. وأما سائر الناس. فقد اختلفوا في أنه : هل لها نفوس مجردة؟ وهل لها شيء من القوى العقلية أم لا؟ فزعمت طائفة من أهل النظر (٢) ومن أهل الأثر : أن ذلك ثابت. واحتجوا على صحته بالمعقول والمنقول. أما المعقول فهو أنهم قالوا : إنا نشاهد من هذه الحيوانات أفعالا لا تصدر إلا من أفاضل العقلاء ، وذلك يدل على أن معها قدرا من العقل. وبينوا ذلك بوجوه :

الأول : إن الفأرة تدخل [ذنبها (٣)] في قارورة الدهن ، ثم تلحسه. وهذا الفعل لا يصدر إلا لعلمها بمجموع مقدمات :

__________________

(١) في عدم التحيز (م).

(٢) العلم (م).

(٣) سقط (طا).

٣٠٣

فإحداها : أنها محتاجة إلى الدهن.

وثانيها : أن رأسها لا تدخل في القارورة.

وثالثها : أن ذنبها يدخل.

ورابعها : أن المقصود حاصل بهذا الطريق ، فوجب الإقدام عليه.

والثاني : إن النحل يبني البيوت المسدسة. وهذا الشكل فيه منفعتان لا تحصلان إلا من المسدس. وتقريره : أن الأشكال على قسمين : منها أشكال متى ضم بعضها إلى بعض ، امتلأت القرصة منها ، ومنها : أشكال ليست كذلك.

فالقسم الأول : كالمثلثات والمربعات فإنهما وإن امتلأت القرصة منهما ، إلا أن زواياهما ضيقة ، فتبقى معطلة. وأما المسبع والمثمن وغيرهما ، فزواياهم وإن كانت واسعة ، إلا أنه لا تملأ القرصة منهم ، بل يبقى بينهم فضاء [معطل (١)] وأما الشكل المستجمع لكلتا المنفعتين ، فليس إلا المسدس. وذلك لأن زواياه واسعة ، فلا يبقى شيء من الجوانب فيه معطلا ، وإذا ضمت المسدسات بعضها إلى بعض ، لم يبق فيما بينها فرجة ضائعة. وإذا ثبت أن الشكل الموصوف بهاتين الصفتين هو المسدس ، لا جرم اختارت النحل بناء بيوتها على هذا الشكل ، ولو لا أنه تعالى أعطاها من الإلهام والذكاء ، وإلا لما حصل هذا الأمر. وفيه أعجوبة ثانية. وهي : أن البشر لا يقدرون على بناء البيت المسدس إلا بالمسطر والفرجار. والنحل يبني تلك البيوت من غير حاجة إلى شيء من الآلات والأدوات.

واعلم : أن عجائب أحوال النحل في رئاسته ، وفي تدبيره لأحوال الرعية ، وفي كيفية خدمة الرعية لذلك الرئيس : كثيرة ، مذكورة في كتاب «الحيوان».

الثالث : إن النملة تسعى في إعداد الذخيرة لنفسها ، وما ذاك إلا لعلمها

__________________

(١) من (م).

٣٠٤

بأنها قد تحتاج في الأزمنة المستقبلة إلى الغذاء ولا تكون قادرة على تحصيله في تلك الأوقات، فوجب السعي في تحصيله في هذا الوقت ، الذي حصلت فيه القدرة على تحصيل الذخيرة.

ومن عجائب أحوالها أمور ثلاثة :

أحدها : إنها إذا أحست بنداوة المكان ، فإنها تشق الحبة نصفين لعلمها بأن الحبة لو بقيت سليمة ، ووصلت إليها النداوة لنبت منها النبات فتفسد الحبة على النملة. أما إذا صارت مشقوقة نصفين لم تنبت.

وثانيها : إنه إذا وصلت النداوة إلى تلك الأشياء ، ثم طلعت الشمس ، فإنها تخرج تلك الأشياء من جحرها ، وتضعها [في الشمس (١)] حتى تجف.

وثالثها : إن النملة إذا أخذت في نقل متاعها إلى داخل الجحر أنذر ذلك بنزول الأمطار وهبوب الرياح. وهذه الأحوال تدل على حصول ذكاء عظيم ، لهذا الحيوان الصغير.

الرابع : إن العنكبوت ، تبني بيوتها على وجه عجيب. وذلك لأنها ما نسجت [الشبكة التي هي (٢)] مصيدتها ، إلا بعد أن تفكرت أنه كيف ينبغي [أن يكون (٣)] وضعها ، حتى تصلح لاصطياد الذباب بها. وهذه الأفعال (٤) فكرية ، وليست أقل من الأفكار الإنسانية.

الخامس : إن الجمل والحمار إذا سلكا طريقا في الليلة الظلماء ففي المرة الثانية يقدر على سلوك ذلك الطريق من غير إرشاد مرشد ، أو تعليم معلم. حتى أن الناس إذا ضلوا في ذلك الطريق ، وقدموا الجمل وتبعوه ، يجدون الطريق المستقيم عند متابعته. وأيضا : فإن الإنسان لا يمكنه الانتقال من بلد

__________________

(١) سقط (ل).

(٢) من (طا ، ل).

(٣) من (ل).

(٤) أحوال (ل).

٣٠٥

إلى بلد ، إلا عند الاستدلال بالعلامات المخصوصة. إما الأرضية كالجبال والرياح ، أو السماوية كأحوال الشمس والقمر والكواكب. وأما القطا ، فإنه يطير في الهواء من بلد إلى بلد طيرانا سويا من غير غلط ولا خطأ. وكذلك الكراكي ، تنتقل من طريق من أطراف العالم ، إلى طرف آخر ، لطلب الهواء الموافق من غير غلط ولا خطأ البتة. وهذا فعل يعجز عنه أفضل البشر ، وهذا النوع من الحيوان قادر عليه.

السادس : إن الدب إذا أراد أن يفترس الثور ، علم أنه لا يمكنه أن يقصده ظاهرا. فيقال : إنه يستلقي في ممر ذلك الثور ، فإذا قرب ذلك الثور ، جعل قرنيه فيما بين ذراعيه ، ولا يزال ينهش ما بين ذراعيه حتى يثخنه. وأيضا : إنه يأخذ العصا ويضرب الإنسان ، حتى يتوهم أنه مات فيتركه. وأيضا : يصعد الشجر أخف صعود ، ويأخذ الجوز بين كفيه ، ويضرب ما في أحد كفيه على ما في الكف الآخر ، ثم ينفخ فيه ، ويزيل القشور ويأكل اللب.

السابع : يقال : إن الثعلب إذا اجتمع البق الكثير ، والبعوض الكثير في جلده. أخذ بفيه قطعة من جلد حيوان ميت ، ثم إنه يضع يديه ورجليه في الماء ، ولا يزال يغوص فيه قليلا قليلا ، [فإذا أحس البق والبعوض بالماء أخذت تصعد إلى المواضع الخارجة من الثعلب من الماء ، ثم إن الثعلب لا يزال يغوص قليلا قليلا (١)] وتلك الحيوانات ترتفع قليلا قليلا. فإذا غاص كل بدنه في الماء وبقي رأسه خارج الماء ، تصاعدت كل تلك الحيوانات إلى رأسه ، ثم إنه يغوص برأسه في الماء قليلا قليلا ، فتنتقل تلك الحيوانات إلى الجلدة الميتة ، وتجتمع فيها. فإذا أحس الثعلب بانتقالها إلى تلك الجلدة ، رماها في الماء ، وخرج من الماء سليما فارغا عن تلك الحيوانات المؤذية. ولا شك أنها حيلة عجيبة في دفع تلك المؤذيات.

الثامن : يقال : إن من خواص الفرس (٢) أن كل واحد منها يعرف

__________________

(١) من (ل ، طا).

(٢) الخيل (م).

٣٠٦

صوت الفرس الذي قابله ، والكلاب تتعالج بالعشبة (١) المعروفة بها. والفهد إذا سقي الدواء، المعروف بخانق الفهد ، طلب زبل الإنسان فأكله. والتماسيح تفتح أفواهها لطائر مخصوص يدخل في أفواهها ، وينظف ما بين أسنانها ، وعلى رأس ذلك الطائر ، شيء كالشوك. فإذا هم التمساح بالتقام ذلك الطائر ، تأذى من ذلك الشوك ، فيفتح فاه ، فيخرج ذلك الطائر. والسلحفاة تتناول بعد أكل الحية صعترا جبليا ، ثم تعود. قد شوهد ذلك.

وحكى بعض الثقات المحبين للصيد : أنه شاهد الحباري تقاتل الأفعى وتنهزم عنها إلى بقلة تتناول منها ، ثم تعود. ولا تزال تفعل ذلك وكان ذلك الشخص قاعدا في كنّ غائر ـ كما يفعله الصيادون ـ وكانت البقلة قريبة من ذلك الموضع ، فلما اشتغلت الحبارى بالأفاعي ، قلع الرجل تلك البقلة ، فعادت الحبارى إلى منبتها ، وأخذت تدور حول منبتها دورانا متتابعا ، ثم سقطت ، وماتت. فعلم ذلك الرجل أنها كانت تتعالج بأكلها من لسعة الأفعى ، وتلك البقلة هي الخس البري.

وأما ابن عرس فإنه يستظهر في قتال الحية بأكل السذاب. فإن النكهة السذابية مما تكرهها الأفعى. والكلاب إذا تدور بطونها أكلت سنبل الحنطة. وإذا جرحت اللقالق بعضها بعضها ، عالجت تلك الجراحات بالصعتر الجبلي.

فتأمل من أين حصل لهذه الحيوانات هذا الطلب ، وهذا العلاج؟

التاسع : إن القنافذ قد (٢) تحس بريح الشمال والجنوب قبل الهبوب ، فتغير المدخل إلى أجحرتها.

يحكى أنه كان بالقسطنطينية : رجل قد جمع مالا كثيرا ، بسبب أنه كان ينذر بالرياح قبل هبوبها ، وينتفع الناس بذلك الإنذار ، وكان السبب فيه : قنفذ في داره يفعل الفعل المذكور.

__________________

(١) بالعسة (ط).

(٢) يد (م).

٣٠٧

العاشر : إن الخطاف ، صناع حسن في إيجاد العش لنفسه من الطين ، وقطع الخشب ، فإذا أعوزه الطين ، ابتل وتمرغ في التراب ، لتحمل جناحاه قدرا من الطين ، وإذا أفرخ بالغ في تعهد الفراخ ، ويأخذ ذرقها بمنقاره ، ويرميه عن العش ، ثم يعلمها إلقاء الذرق بالتولية نحو طرف العش [وترابط أرجلها في العش بالشعور ما دامت صغارا ، حتى لا يتحرك فتسقط من العش (١)].

الحادي عشر : إذا قرب الصائد من مكان فراخ البجعة (٢) ظهرت له البجعة ، وقربت منه ، تطمعة ، لأجل أن يتبعها ثم تذهب إلى جانب آخر سوى جانب فراخها.

الثاني عشر : ناقر الخشب. قل ما يجلس على الأرض ، بل يجلس على الشجر ، وينقر الموضع الذي يعلم أن فيه دودا.

الثالث عشر : الغرانيق. تصعد في الجو جدا عند الطيران. فإن حصل ضباب أو سحاب يحجب بعضها عن بعض ، أحدثت عن أجنحتها حفيفا مسموعا ، ويصير ذلك الصوت سببا لاجتماعها ، وعدم تفرقها ، وإذا نامت نامت على فرد رجل ، وقد اضطبعت الرءوس ، إلا (٣) القائد فإنه ينام مكشوف الرأس ، فيسرع انتباهه. وإذا أحس أحدها بآفة أو صوت ، صاح منبها الباقين.

الرابع عشر : النعامة. إذا اجتمع لها من بيضها عشرون أو ثلاثون. قسمتها إلى ثلاثة أثلاث ، فتدفن ثلثا منها في التراب ، وثلثا تتركه في الشمس ، وثلثا تختضنه. فإذا خرجت الفراريج ، كسرت ما كان في الشمس ، وسقت تلك الفراريج ما فيها من الرطوبات التي ذوبتها الشمس ، ورققتها ، فإذا قويت تلك الفراريج ، أخرجت الثلث الثالث الذي دفنته في الأرض [وثقبتها (٤)]

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) القبجة (ل ، طا).

(٣) إلى (ل).

(٤) من (ل).

٣٠٨

وقد اجتمع فيه النمل والذباب والديدان والحشرات ، فتجعل تلك الأشياء طعمة لتلك الفراريج ، فإذا تم ذلك ، صارت تلك الفراريج ، قادرة على الرعي والطلب. ولا شك أن هذا الطريق حيلة عجيبة في تربية الأولاد.

ولنكتف من هذا النوع ، على هذا القدر الذي ذكرنا. فإن الاستقصاء فيه مذكور في كتاب «الحيوان»

وقد ظهر منها أن هذه الحيوانات قد تأتي بأفعال يعجز أكثر الأذكياء من الناس. ولو لم تكن عاقلة فاهمة ، وإلا لما صح منها شيء من ذلك. فهذا ما يتعلق بالعقل.

وأما النقل : فقد تمسكوا في إثبات قولهم بآيات :

الأولى : قوله تعالى حكاية عن سليمان (يا أَيُّهَا النَّاسُ : عُلِّمْنا : مَنْطِقَ الطَّيْرِ ، وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) (١) وسمعت بعض تلامذتي يقول : لا يبعد أن يكون [المراد من (٢)] تعلم منطق الطير : هو دعوة عطارد (٣).

الثانية : قوله تعالى : (حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ. قالَتْ نَمْلَةٌ : يا أَيُّهَا النَّمْلُ : ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) (٤) الآية.

الثالثة : قوله تعالى : (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ ، فَقالَ : ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ ، أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ؟ لَأُعَذِّبَنَّهُ) (٥) وهذا التهديد لا يليق إلا مع العقلاء.

الرابعة : قوله تعالى حكاية عن الهدهد : (أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ. وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) (٦).

__________________

(١) النمل ١٦ والتكملة من (ل ، طا).

(٢) من (م ، ط).

(٣) كان يجب على الأستاذ أن يراجع تلميذه ويوبخه. وحكى المؤلف في موضع آخر أن هذا الرأي سمعه من بعض الفلاسفة.

(٤) النمل ١٨.

(٥) النمل ٢٠ ـ ٢١.

(٦) النمل ٢٢.

٣٠٩

الخامسة : قوله تعالى : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ. وَالطَّيْرَ) (١).

السادسة : قوله تعالى : (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ. كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) (٢) [قيل: معناه : كل من الطير قد علم صلاته وتسبيحه (٣)].

قال بعضهم : كنت جالسا عند «أبي جعفر الباقر» فقال لي : أتدري ما تقول هذه العصافير عند طلوع الشمس ، وبعد طلوعها؟ قلت : لا أدري. قال : فإنها تقدس ربها ، وتسأله قوت يومها.

وأقول (٤) : رأيت في بعض الكتب : أن في بعض الأوقات ، اشتد القحط ، وعظم حر الصيف. والناس خرجوا للاستسقاء [فلما فلجوا (٥)] قال : خرجت إلى بعض الجبال ، فرأيت ظبية جاءت إلى موضع ، كان في الماضي من الزمان مملوءا من الماء. ولعل تلك الظبية كانت تشرب منه. فلما وصلت الظبية إليه ما وجدت فيه شيئا من الماء ، وكان أثر العطش الشديد ظاهرا على تلك الظبية ، فوقفت وحركت رأسها إلى جانب السماء [مرارا (٦)] فأطبق الغيم وجاء الغيث الكثير.

ثم إن أنصار هذا القول : قالوا : لما بينا بالدلائل : أن هذه الحيوانات تهتدي إلى الحيل اللطيفة ، فأي استبعاد في أن يقال : إنها تعرف أن لها ربا مدبرا وخالقا؟.

فهذا تمام القول في دلائل هذه الطائفة.

واحتج المنكرون بكونها عاقلة عارفة (٧) : بأن قالوا : لو كانت عاقلة ، لوجب أن تكون آثار العقل ظاهرة في حقها. لأن حصول العقل لها ، مع أنه لا

__________________

(١) سبأ ١٠ والآية سقطت من (ل ، طا).

(٢) النور ٤١.

(٣) من (طا ، ل).

(٤) من (طا ، ل).

(٥) قال المصنف (م).

(٦) من (طا ، ل).

(٧) سقط من (ل).

٣١٠

يمكنها الانتفاع البتة بذلك العقل : عبث. وهذا لا يليق بالفاعل الحكيم. وآثار العقل غير ظاهرة فيها ، لأنها لا تحترز عن الأفعال القبيحة ، ولا تميز بين ما ينفعها وبين ما يضرها. فوجب القطع بأنها غير عاقلة.

ولمجيب أن يجيب فيقول : إن درجات العلوم والمعارف كثيرة ، واختلاف النفوس في ماهياتها : محتمل. فلعل خصوصية نفس كل واحد منها ، لا تقتضي إلا لنوع معين من العقل ، وإلا لقسم مخصوص من المعرفة. فإن كان المراد بالعقل جميع العلوم الحاصلة للإنسان ، فحق أنها ليست عاقلة. وإن كان المراد بالعقل معرفة نوع من هذه الأنواع. فظاهر أنها موصوفة بهذه المعرفة.

وبالجملة : فالحكم عليها بالثبوت والعدم : حكم على الغيب. ولا يعلم الغيب إلا الله تعالى.

وليكن هاهنا آخر كلامنا في النفوس الحيوانية [والله أعلم (١)].

__________________

(١) من (ل ، طا).

٣١١
٣١٢

المقالة الرابعة

في

البحث عن أحوال الأرواح

السفلية المسماة بالجن والشياطين

٣١٣
٣١٤

الفصل الأول

في

أن القول بالجن

والشياطين هل هو ممكن أم لا؟

البحث الأول (١) :

ذهب جمهور أرباب الملل والنّحل إلى أن فرق (٢) العقلاء المكلفين أربعة : الملائكة ، والبشر ، والجن ، والشياطين. واختلفوا في أنه : هل الجن نوع والشياطين نوع آخر؟ فقال قوم (٣) : الأمر كذلك. وقال آخرون : الجن هم الأرواح الطاهرة الخيرة ، والشياطين هم الأرواح المؤذية الشريرة.

وأما المجوس : فلهم غلو شديد في هذا الباب ، إلا أنهم قالوا : العالم له إلهان : أحدهما : خيّر كريم سخي رحيم. والثاني : شرير بخيل قاسي مؤذي. والإله الخيّر له أعوان وجنود ، وهم الملائكة. والإله الشرير المؤذي له أعوان وجنود ، وهم الشياطين والأرواح الخبيثة. والإله الخير : له السماء ، وجنده في السماء ، والإله الشرير [في الأرض ، وجنده أيضا في الأرض ، وهذا الذي يسمونه بالإله الشرير هو الذي يسميه المسلمون بإبليس. والمسلمون متى وقع في هذا العالم شر ، أو فتنة ، أو محنة. فإنهم ينسبونه إلى إبليس ،

__________________

(١) زيادة.

(٢) أكثر فرق (م).

(٣) بعضهم (م).

٣١٥

ويتضرعون إلى الله خوفا منه. وبالغوا في هذا الغلو إلى [درجة (١)] أن أول كلمة يذكرونها ، هي قولهم : «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» فيستعيذون من شره. ثم يقولون من بعده : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) وهذه درجة عظيمة موهمة للمقابلة.

إذا عرفت هذا [فنقول (٢)] قد اتفق أرباب الملل والنحل على وجود روح قوي من الأرواح المؤذية الخبيثة [الداعية إلى (٣)] الشرور. والاختلاف ليس إلا في الأسماء والألقاب.

وأما الثنوية : فهم أيضا مفرطون في هذا الاعتقاد. لأنهم يقولون : إله العالم هو النور والظلمة. وفي عالم الأنوار موجود هو النور المطلق ، وهو الإله الخير الرحيم ، وأنوار أخرى مختلفة بالعظم والصغر ، والقوة والضعف ، وهم الملائكة ، وهم أعوان النور الأعظم. وفي عالم الظلمات موجود ، هو الظلمة التامة الكاملة. وهو الإله المؤذي الشرير. وأرواح أخرى مختلفة بالعظم والصغر ، والقوة والضعف ، وهم الشياطين. وهم أعوان الظلام الأعظم. وهذا بعينه مذهب المشبهة من هذه الأمة.

فهذا تفصيل مذاهب أرباب الملل والنّحل في هذا الباب.

وأما الفلاسفة : فالمتأخرون منهم اتفقوا على إنكاره.

وأما المتقدمون : فلا أعرف مذهبهم في هذا الباب. إلا أني رأيت في كتاب «الأهوية والبلدان» ل «بقراط» أنه ذكر فيه : أن المياه الواقفة تورث من العلل والأمراض كذا وكذا. ومن جملتها : الصرع. ثم قال : «لا أريد به الصرع الذي يعالجه أصحاب الهياكل ، بل الصرع الذي يعالجه الأطباء» وهذا تصريح بأن الصرع قد يكون روحانيا وقد يكون جسمانيا.

__________________

(١) سقط (م).

(٢) زيادة.

(٣) سقط (م).

٣١٦

والبحث الثاني :

إن القائلين بإثبات الجن والشياطين. يحتمل أن يذكروا فيه وجهين (١) :

الأول : أن يقال : الجن أجسام هوائية ، تقدر على أن تتشكل بأشكال مختلفة ، وتقدر على أن تتولج في بواطن الحيوانات ، وتجري في منافذها الضيقة. ولا بعد فيه. فإن الهواء المستنشق يصل في الهواء (٢) إلى أعماق الأعضاء. فكيف يبعد مثله من حيوان هوائي الذات.

والثاني : أن يقال : إنها نفوس مجردة ، ليست أجساما ، ولا حالة في الأجسام. وعلى هذا التقدير فههنا احتمالات.

الأول : أن يقال : إنها عالمة قادرة سامعة مبصرة ، من غير أن يكون لها حاجة في حصول هذه الصفات إلى آلات جسمانية. وتلك النفوس بنوعياتها (٣) مخالفة للنفوس البشرية.

والثاني : أن يقال : إنها تحتاج في كونها عالمة ، فاعلة إلى آلات جسمانية. إلا أن تلك الآلات جزء مخصوص من الهواء أو جزء (٤) معين من كرة الأثير. وتبدد أجزاء تلك الأجسام وتحللها [لا (٥)] يوجب موت تلك الأرواح. كما أن النفوس الإنسانية إنما تسمع وتبصر وتتفكر وتتخيل بواسطة أجسام لطيفة روحانية ، تتولد في القلب أو في الدماغ. ثم إن تلك الأجزاء تبدأ في التحلل والتفرق. ولم يلزم منه الطعن في كون الإنسان باقيا ، فكذا هاهنا.

الثالث : أن يقال : إن النفوس الناطقة التي فارقت أبدانها (٦) وبقيت دهرا داهرا ، وزمانا طويلا في إشراق المعارف القدسية. لا شك أنها قويت

__________________

(١) وجوها [الأصل].

(٢) الحال (م).

(٣) بعينها (م) بنوعها (ط).

(٤) وجزء (ل).

(٥) من (ل).

(٦) أجسامها (م).

٣١٧

[وكملت. فإذا اتفق حدوث بدن قريب الشبه من أبدان تلك النفوس المفارقة (١)] وتعلقت نفس بهذا البدن. كاملة المشابهة [في جوهرها (٢)] بتلك النفوس المفارقة ، لم يبعد أن يحصل لتلك النفوس نوع من أنواع التعلق بهذا البدن ، وبهذه النفس. وهذا أيضا محتمل.

والبحث الثالث من المباحث المتعلقة بهذا الباب :

أن هذه الأرواح المسماة بالجن والشياطين ، يجب أن تكون من [نتاج (٣)] الأرواح الفلكية ، ومن آثارها وشعبها. فالأرواح المتولدة المتشعبة من جوهر نفس «زحل» و «المريخ» هي المسماة بالنفوس الشريرة المؤذية. وأما الأرواح الخيرة السعيدة الطاهرة النقية ، فهي الأرواح المتولدة من أرواح السعديين. وعلى هذا الباب فقس.

وأما أرباب الملل والنحل فقانون قولهم يقتضي أن الروح الأعظم الشرير ، موجود برأسه ، ولا تعلق له بالأرواح الفلكية. والجن والشياطين شعبه ونتاجه وأولاده وأنصاره.

واحتج القائلون بإنكار الجن والشياطين من وجوه :

الحجة الأولى : إنها لو كانت موجودة ، لكانت إما أن تكون من الأجسام الكثيفة ؛ أو من الأجسام اللطيفة. والقسمان باطلان ، فبطل القول بوجودها. أما بيان أنه يمتنع كونها من الأجسام الكثيفة ، فلأنها لو كانت كذلك ، لوجب في كل من كان سليم الحس ، أن يبصرها. إذ لو جوزنا حضور مثل هذه [الموجودات ، مع (٤)] أنا لا نراها ، لم يمتنع أن يكون بحضرتنا جبال شاهقة ، وشموس مشرقة ، ورعود قاصفة ، ورياح عاصفة ، مع أنا لا نحس بشيء منها. وذلك يوجب القول بالسفسطة.

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) سقط (ط) ، (م).

(٣) نتائج (م) والكلمة ساقطة في البواقي.

(٤) سقط (ل).

٣١٨

وأما بيان أنه يمتنع كونها من الأجسام اللطيفة فذلك لأنها لو كانت كذلك ، لتفرقت وتمزقت عند هبوب الرياح القوية العاصفة ، فكان يجب أن تموت بأسرع الأسباب ، وأقل الموجبات. وأيضا : فالأجسام اللطيفة لا تكون قادرة على الأفعال الشاقة. والناس يصفونها بالقدرة على الأعمال الشاقة. ولما ثبت فساد القسمين ، ظهر أن القول بإثبات الجن والشياطين : باطل.

الحجة الثانية : إنا نرى المسلمين مطبقين على لعن الشياطين ، وإساءة القول فيهم ، ولو كانوا موجودين لتأذوا منهم. فإذا كانوا قادرين على الإضرار ، وجب أن يكون وقوع أهل الخير والدين في الضرر من جانبهم ، أكثر وأعظم من وقوع أهل الفساد فيه ، وحيث لم يظهر من هذا الباب أثر ولا خبر ، علمنا : أنه لا أصل لهذا الحديث.

الحجة الثالثة : إن أرباب الملل والنحل أطبقوا على تصديق الأنبياء عليهم‌السلام في دعواهم : أنهم مبعوثون إلى الخلق من قبل الله تعالى. والقول بالجن يوجب فساد دعواهم. لأنا لا نعرف الجن. وإذا كنا لا نعرفهم ، لم نعرف مقادير علومهم ، ولا مقادير قواهم وقدرهم. وعلى هذا التقدير ، فلا نوع من أنواع المعجزات ، إلا ويحتمل أن يكون ذلك النوع ، من هؤلاء الجن والشياطين. وحينئذ لا يبقى دليل على صحة قولهم في ادعاء الرسالة. فثبت : أن الإقرار بالجن والشياطين ، يوجب الطعن في النبوة.

فإن قالوا : هذا كلام ضعيف في دفع ذلك الإشكال القوي ، إذ لا يمتنع ممن يريد الإغواء والإضلال : أن يتحمل ذلك القدر من الطعن واللعن في تحصيل مراده.

الحجة الرابعة (١) : إنا نرى أرباب العزائم والتنجيمات واقعين في الفقر والجوع والعري ، والذلة والمسكنة. ولو كان لهذا الحديث أصل ، لكان الظاهر من حال أولئك الجن أن يخصوا أنصارهم وأحباءهم ـ وهم هؤلاء المعزّمون ـ

__________________

(١) الحجة الأولى : إنها لو كانت موجودة لكانت. إنا نرى .. إلخ (م).

٣١٩

بنوع من النعمة والكرامة. ولما لم نر شيئا من ذلك ، علمنا : أنه لا أصل لهذا الحديث.

وبالجملة : فالاستقراء يدل على أنه لا يتفاوت الحال البتة. لا بسبب الغلو في عداوتهم ، ولا بسبب الغلو في صداقتهم. وذلك يدل على أنه خيال محض.

الحجة الخامسة : إن هؤلاء الجن إن كانوا غير موصوفين بشيء من العقل البتة. فلا فائدة في التقرب إليهم ، وفي طلب الاتصال بهم. لأن المجنون المعتوه لا اعتماد على صداقته ولا على عداوته. وإن كانوا موصوفين بالعقل والفهم والإدراك ، وجب أن يكونوا باحثين عن مسائل الإلهيات والطبيعيات ، متفكرين في الدلائل [والشبهات (١)] وإذا كان الأمر كذلك ، وجب أن [يكون (٢)] ميلهم إلى المخالطة [بالعقلاء الأذكياء من البشر أكثر من ميلهم إلى المخالطة (٣)] بالجهال والأغمار. لكنا لا نرى أحدا من العقلاء المحقين المحققين يدعي ظهور الجن له البتة. وإنما يدعي هذه الواقعة : المجانين والأغمار من الناس [وذلك يدل على أن مدار هذا الباب ، إما على ترويج الأكاذيب على الأغمار ، وإما على الخلل والحيل في الخيالات والأفكار (٤)].

فهذا مجموع ما يمكن أن يقال في إنكار الجن والشياطين.

والجواب عن الحجة الأولى : أن يقال : إن قولكم : «لو كانت الجن والشياطين موجودة لكانت [إما أن تكون جسما كثيفا أو جسما لطيفا : مفرع على أنه لو كان موجودا لكان (٥) جسما. فلم قلتم : إن الأمر كذلك؟ ولم لا يجوز أن يكون جوهرا مجردا قائما بذاته ، وليس بجسم ولا حال في جسم؟ فإنكم ما لم تقيموا الدلالة على فساد هذا القسم ، لم يتم كلامكم.

__________________

(١) فضائل (طا ، ل).

(٢) أن لا يكون (م).

(٣) من (ط ، ل).

(٤) من (طا ، ل).

(٥) سقط (طا ، ل).

٣٢٠