المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٧

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٧

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٥

الفصل الخامس عشر

في

بيان أن النفس بعد مفارقة

البدن تبقى عالمة مدركة للجزئيات

والذي يدل عليه (١) : إنّ إدراكات البدن وأفعاله. إما أن تكون موقوفة على الآلات الجسمانية ، وإما أن لا تكون. فإن كان الحق هو الثاني ، فحينئذ تكون النفس بعد مفارقة الآلات البدنية (٢) تتقوى على إدراكات الجزئيات ، وعلى الأفعال المخصوصة.

وأما القسم الأول وهو أن يقال : إن الإدراكات الجزئية الحاصلة للنفس ، موقوفة على الآلات الجسمانية. فهذا باطل قطعا وذلك لأن إدراكها لتلك الآلة ، إما أن يكون إدراكا كليا أو جزئيا. فإن كان كليا اختصاصها بهذا البدن المعين ، وبهذه الآلة المعينة ، أولى من اختصاصها بسائر الأبدان ، وبسائر الآلات. وإن كان ذلك [الأمر إدراكا (٣)] جزئيا ، فحينئذ لا يكون إدراكها لتلك الآلة الشخصية ، من حيث إنها هي بواسطة استعمال تلك الآلة. لأن استعمالها (٤) لتلك الآلة ، يتوقف على إدراكها لها. فإن كان إدراكها لها متوقفا على استعمالها لها ، لزم الدور. وإنه محال. فثبت بما ذكرنا : إن كون النفس مدركة للجزئيات ، غير موقوف على الآلات الجسمانية ، وإذا كان الأمر

__________________

(١) والذي يدل عليه وجوه الحجة الأولى ... إلخ [الأصل].

(٢) الجسمانية (م).

(٣) ذلك الإدراك (ل).

(٤) استعماله لها يتوقف (م).

٢٦١

كذلك ، وجب القطع بأن النفس بعد مفارقة البدن ، تبقى مدركة للجزئيات. وهذا أصل شريف منتفع به في علم المعاد.

وبهذا يظهر صدق قوله عليه الصلاة والسلام : «حتى إذا حمل الميت على نعشه ، رفرفت روحه [فوق النعش. وتقول : يا أهلي ويا ولدي. لا تلعبن بكم الدنيا ، كما لعبت بي. جمعت المال من حله ومن غير حلّه. فالمهنأ لغيري ، والتبعة عليّ. فاحذروا مثل ما حلّ بي (١)].

وهذا الفصل ، وإن كان صغير الحجم ، إلا أنه عظيم النفع.

[والله أعلم (٢)].

__________________

(١) في (م ، ط) روحه.

(٢) الحديث. ونص الحديث من (ل ، طا).

٢٦٢

الفصل السادس عشر

في

البحث عن علل النفوس الناطقة

اعلم : أن هذه النفوس البشرية. فيها ثلاث (١) مراتب في الاحتمالات :

أحدها : [أن نقول (٢)] إنها ليست محدثة. وليست أيضا ممكنة. بل هي أشياء واجبة الوجود لذواتها.

وثانيها : أن يقال إنها ليست واجبة الوجود لذواتها ، إلا أنها قديمة أزلية. كما يقول الفلاسفة في العقول الفلكية [والنفوس الفلكية (٣)].

وثالثها : أن يقال : إنها لا واجبة ولا أزلية ، بل هي ممكنة لذواتها ، محدثة حدوثا زمانيا.

أما القول الأول : فالدليل على بطلانه : الدلائل المذكورة في أن واجب الوجود لذاته، ليس إلا الواحد.

وأما القول الثاني : وهي أنها قديمة. فالقول فيه قد سبق.

وأما القول الثالث : وهو أنها ممكنة لذواتها ، محدثة زمانيا (٤)] فنقول : لما

__________________

(١) ثلاثة احتمالات (م ، ط).

(٢) من (طا ، ل).

(٣) من (طا ، ل).

(٤) زيادة.

٢٦٣

ثبت أنها ممكنة لذواتها. فسواء قلنا : إنها قديمة أو محدثة. فإنه لا بد لها من مؤثر وموجود ، وذلك الموجد إما أن يكون متحيزا ، أو حالا في المتحيز [أو لا متحيزا ولا حالا في المتحيز (١)] لا جائز أن يكون متحيزا لوجوه :

الأول : إنا بينا : أن المتحيزات متماثلة في تمام الماهية. فلو كان واحد منها علة لشيء ، لكان كل واحد منها علة لمثل ذلك الشيء. وذلك باطل.

والثاني : إن الفلاسفة يقولون : إن الشيء الواحد ، لا يكون قابلا وفاعلا معا. والأجسام قابلة ، فوجب أن لا تكون فاعلة.

والثالث : إن المتحيز أضعف وجودا من الجوهر المجرد لأن المتحيز محتاج إلى المكان والجهة ، والمجرد غني عنهما. والأضعف لا يكون علة للأقوى.

والرابع : إن النفوس البشرية عالمة بالحقائق ، قادرة على الأفعال. والجسم من حيث إنه جسم ، ليس كذلك. فالنفوس أشرف من الأجسام ، والأشرف لا يكون معلولا للأخس.

والخامس : إن الأجسام إنما تؤثر بمشاركة الوضع. والمراد من هذا الوضع : أن المؤثر الجسماني يؤثر في القريب [منه (٢)] أولا. ثم يؤثر ثانيا فيما اتصل بذلك القريب. ثم يؤثر ثالثا فيما اتصل بذلك الثاني. وهذا هو المراد من قولنا : إن المؤثر الجسماني إنما يؤثر (٣) بواسطة الوضع.

والدليل على أن الأمر كذلك : [هو أنه لو لم يكن الأمر كذلك (٤)] لكان تأثير هذا المؤثر الجسماني في القريب والبعيد سواء. ولما لم يكن الأمر كذلك علمنا : أنه إنما يؤثر بمشاركة الوضع.

وإذا ثبت هذا فنقول : الذي يمكن وصفه بالبعد والقرب من الجسم ،

__________________

(١) سقط (م) ، (ط).

(٢) سقط (م) ، (ط).

(٣) يفعل (م).

(٤) من (طا ، ل).

٢٦٤

ليس إلا الجسم. ولما كان قبول الأثر من الجسم مشروطا بكون القابل قريبا منه ، فما يمتنع وصفه بالقرب والبعد ، وجب أن لا يكون للجسم فيه أثر. لكن النفس جوهر مجرد ، فيمتنع كونه معلولا للجسم.

والسادس : إن الاستقراء يدل على أن المجانسة والمشاكلة [بين العلة وبين المعلول معتبرة ، والمشاركات المجانسة مفقودة (١)] بين الجسم وبين النفوس المجردة ، فامتنع كون الجسم علة.

واعلم : أن أكثر هذه الوجوه يدل على أن النفس يمتنع كونها معلولة (٢) للأعراض الجسمانية. وإذا بطل هذان القسمان ، ثبت : أن النفس الناطقة معلولة لجوهر مجرد عن الجسمية. ثم نقول : إن هذا الموجود المجرد قسمان : النفس ـ وهو الذي يفعل بواسطة آلة جسمانية والعقل ـ وهو الذي لا يتوقف تأثيره في الغير على اختيار آلة جسمانية ـ والأول باطل. لأنا بينا : أن كون الآلة الجسمانية معتبرة ، إنما يعقل في حق الجسم ، الذي يحصل لتلك الآلة الجسمانية. قرب منه تارة ، وبعد منه أخرى. ولما لم تكن النفس الناطقة جسما ، علمنا : أنه لا يمكن [أن يقال (٣)] : إن موجدها ، أوجدها بواسطة آلة جسمانية. فثبت : أن موجدها (٤) ليس من جنس النفوس ، بل من جنس العقول. وإذا ثبت هذا فنقول : إن ذلك العقل هو العقل الأخير المدبر لما تحت كرة القمر ، وهو العقل الفعال [والدليل عليه : أنه لا يمكن أن تكون هذه النفوس معلولات واجب الوجود. لما ثبت أنه فرد منزه من جميع جهات الكثرة ، فيمتنع أن يصدر عنه معلولات واجب الوجود. لما ثبت أنه فرد منزه عن جهات الكثرة ، فيمتنع أن يصدر عنه معلولات كثيرة ، ولا يمكن أيضا أن يكون من معلولات شيء من العقول المدبرة للأفلاك التسعة (٥) وإلا فقد صدر

__________________

(١) سقط (م).

(٢) محلا (ل).

(٣) سقط (ل).

(٤) موجد النفس (م).

(٥) السبعة (م).

٢٦٥

عن الواحد أكثر من الواحد. ولما بطل الكل ، ثبت : أن الموجد لهذه النفوس ، ليس إلا العقل الأخير ، المدبر لما تحت كرة القمر. وهو العقل الفعال (١)].

هذا غاية الكلام في تقرير هذه الطريقة. وهي مبنية على أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد. وقد عرفت ضعفه وفساده. وإذا ثبت هذا ، ظهر أنه لا يمتنع أن تكون الأرواح المدبرة للأجسام الفلكية ، والأجرام الكوكبية ، هي المؤثرة في وجود هذه النفوس الناطقة.

وإذا قلنا : إن هذه الأرواح البشرية أنواع مختلفة ، لم (٢) يمتنع أن يكون بعضها من معلولات [نفس (٣)] فلك «زحل» وبعضها (٤) من معلولات نفس فلك «المشتري» وعلى هذا الترتيب فقس. ولا يمتنع أيضا أن يكون طائفة من معلولات الروح المدبرة ل «الشعري» اليمانية ، وطائفة ثانية من معلولات الروح المدبرة لكوكب آخر من الكواكب الثابتة.

واعلم : أن كل كمال يحصل للحيوان (٥) فهو أثر من آثار تلك العلة. فيكون كمال تلك الحالة حاصلا لتلك العلة ، ويكون الحاصل [منه عند المعلول (٦)] كالأثر الضعيف ، بالنسبة إلى [اعتبار ذلك الكمال (٧)] فلهذا السبب سمي أصحاب الطلسمات تلك الأرواح التي هي المبدأ لهذه الطائفة من النفوس البشرية ، بالطباع التام. لأن تلك الصفة في ذلك الشيء ، الذي هو الأصل تامة كاملة. وفي هذه النتائج [والفروع قليلة ناقصة. وذلك الجوهر

__________________

(١) سقط (طا).

(٢) لم يكن بعضها (م).

(٣) سقط (ل).

(٤) وطائفة ثانية من (م).

(٥) للمعلول (ط) للحصول (م).

(٦) الحاصل مع المعلول كالأثر (ل).

(٧) الاعتبار في تلك العلة (م).

٢٦٦

الذي هو العلة يكون بالنسبة إلى هذه النتائج (١)] كالأب بالنسبة إلى الأولاد ، والأصل [بالنسبة إلى الفرع. وكما أن الأب انجذابه إلى أولاده أكثر من انجذابه إلى أولاد غيره. فكذلك (٢)] لا يمتنع أن يكون اهتمام حال كل روح من الأرواح الفلكية بالنفوس البشرية ، التي هي كالأولاد ، أتم من اهتمامها بنتائج سائر الأرواح.

ولهذا السبب يقول أصحاب الطلسمات : أخبرني طباعي التام بكذا ، وأرشدني إلى كذا.

واعلم : أن [الحق : أن هذا النوع من الكلام ليس فيه إلا بيان مجرد الاحتمال. ثم إن اتفق (٣)] لأرباب المكاشفات وأصحاب المشاهدات ، تجارب تقوي هذا الاحتمال : قوي الاعتقاد فيه. وإلا فهي باقية في بقعة الإمكان (٤).

واعلم : أن هذا البرهان الذي ذكرناه في أن العلل الموجبة لذوات النفوس ، لا بد وأن تكون شيئا من العقول الفلكية [أو النفوس الفلكية (٥)] فهو بعينه برهان على أن السبب لحدوث العلوم والأخلاق في جوهر النفوس البشرية [يجب أن يكون شيئا من العقول الفلكية ، أو النفوس (٦)] الفلكية ، ولما كان منهاج الكلام فيه واحدا ، لا جرم اقتصرنا على المذكور ، وتركنا الإطناب فيه. والله أعلم.

__________________

(١) سقط (طا ، ل).

(٢) سقط (ل).

(٣) سقط (م).

(٤) هو لا يتفق. وما يحدث هو من وساوس الشياطين. وقد بينا في تعليقاتنا على كتاب النبوات ـ وهو الجزء الثامن من المطالب العالية ـ أن الطلاسم لا أصل لها. وإنما هي من المعميات والألغاز التي ابتدعها اليهود في زمان الأسر البابلي. وبينا : أن أرباب المكاشفات لا يدرون ما يفعل بهم ، فكيف يدرون ما يفعل بغيرهم؟

(٥) سقط (م).

(٦) سقط (م). وكلمة البشرية : سقط (ل).

٢٦٧
٢٦٨

الفصل السابع عشر

في

بيان أن اشتغال النفوس البشرية

بالدعاء والتضرع. هل يعقل أن يكون فيه

فائدة أم لا؟

من الناس من أنكر هذه التأثيرات ، واحتج على صحّة ذلك الإنكار بوجوه :

الحجة الأولى : إن الممكنات بأسرها منتهية إلى ذات الوجود ، فإن اقتضى شيء من لوازم ذات واجب الوجود ، حدوث ذلك الشيء. وجب أن يحصل ، سواء وجد ذلك الدعاء ، أو لم يوجد. وإن لم يوجد في لوازم ذات واجب الوجود ما يوجب حصول ذلك الأثر ، لم ينتفع بالدعاء أصلا.

الحجة الثانية : إن المعترفين بنفاذ علم الله تعالى في جميع المحدثات. قالوا : ذلك الشيء إن كان معلوم الوقوع : وقع. ولا حاجة إلى الدعاء. وإن كان معلوم اللاوقوع : لم يقع. ولا فائدة في الدعاء.

الحجة الثالثة : إن مبادي حدوث الحوادث في هذا العالم ، ليس إلا العلل العالية الفلكية. فلو قلنا : إن قبل الدعاء ما كانت تلك الحوادث : توجد. وبعد الدعاء : تدخل في الوجود. لكنا قد أثبتنا للنفوس البشرية على ضعفها نوعا من التأثير في العلل العالية [وذلك بعيد جدا (١)

الحجة الرابعة : إن الأسباب العالية. إما أن يكون تأثيرها بالإيجاب [والطبع (٢)] أو بالقصد والاختيار. فإن كان الأول ، لم يكن في الدعاء فائدة.

__________________

(١) سقط (م) ، (ط).

(٢) من (ل).

٢٦٩

وإن كان الثاني ، فعلم تلك الأسباب العالية الفعالة العالمة بمصالح هذا العالم : أكمل وأتم وأوفى من علم البشر. فإن كان الأصلح حصول ذلك الشيء ، فتلك العلل العالية لا تبخل بها البتة. وإن كان الأصلح عدم ذلك الشيء ، كان طلب تحصيله بالدعاء : جهلا. وحكمة العلل العالية تمنعها عن الإقدام على فعل ما لا ينبغي.

الحجة الخامسة : إن الأسباب العالية الفلكية إن كانت فاعلة لذلك الفعل ، لم يكن في هذا الدعاء فائدة. وإن كانت ممتنعة من ذلك الفعل ، كان اشتغال هذا الإنسان بطلب تحصيل ذلك الفعل ، يجري مجرى المنازعة مع الأسباب الفلكية. والضعيف إذا قاوم القوي ، لم يستفد منه إلا المقت والرد والحرمان.

الحجة السادسة : إن المشتغل بالدعاء. إما أن يكون قد حصل في قلبه نوع من المكاشفات الروحانية ، أو لم يحصل ذلك. فإن لم يحصل ذلك ، كان ذلك الدعاء مجرد تحريك اللسان ، ولا فائدة فيه إلا تكثير الهذيان. وإن حصل فيه ذلك الكشف. فإن كان الكشف قويا تاما ، صارت النفس مستغرقة في تلك الأضواء والأنوار ، تبقى النفس مع ذلك المقدار من ذلك الكشف ، طالبة لهذه الأغراض الجسمانية (١) راغبة في تحصيلها. كانت تلك القوة الحاصلة من تلك المكاشفة ضعيفة جدا. وحينئذ لا تفيد شيئا.

الحجة السابعة : إن الدعاء يجري مجرى تنبيه الغافل وإعلام الجاهل. فكأنه يقول لمعبوده : تركت الجود والفضل والرحمة. فأنا أعلمك أن الأولى فعله. ولا شك أن هذا مبالغة في سوء الأدب.

الحجة الثامنة : إن من حضر في مجلس السلطان القاهر ، فإن الأدب يقتضي أن لا يشافهه بالطلب. ورعاية هذا الأدب (٢) في حضرة ذي الجلال أولى.

__________________

(١) الخسيسة (ل).

(٢) الطلب (ل).

٢٧٠

الحجة التاسعة : إن العلل العالية منزهة عن البخل ، موصوفة بالجود ، وإفادة الرحمة فامتناعها عن ذلك (١) قبل الدعاء ، يدل على امتناعها في أنفسها. إما بحسب الامتناع الذاتي ، أو لأجل أنها على ضد المصلحة الملائمة (٢) للعالم.

الحجة العاشرة : اتفق جمهور أرباب الرياضيات : على أن الرضا بالقضاء : باب الله الأعظم. والإقدام على الدعاء : خوض في التصرف من غير الإذن. والسكوت بالقلب وباللسان. هو الرضا. فوجب أن يكون هذا هو المنهج الأكمل ، والطريق الأفضل.

فهذا بيان شبهات المنكرين للدعاء.

وأما المعترفون بأن الاشتغال بالدعاء : طريق نافع ، ومنهج مستقيم. فقد ذكروا فيه فوائد :

الفائدة الأولى : إن النفس بمقتضى جوهرها [وموجب فطرتها (٣)] : مجبولة على حب اللذات الجسمانية ، والأغراض العاجلة. وأما الإعراض عن هذه الطريقة ، والإقبال على الله بالكلية ، فعلى خلاف عادتها ، وعلى مناقضة فطرتها.

إذا عرفت هذا فنقول : الداعي إذا اعتقد أن له في الدعاء غرضا. فلأجل تحصيل ذلك الغرض تتوجه النفس إلى جانب جلال الله تعالى ، وتصر وتلح [في ذلك الطلب (٤)] وذلك الإصرار والإلحاح يوجب استغراق النفس في الإقرار بكمال قدرة الله تعالى ، ونفاذ (٥) قدرته ومشيئته في جميع أجزاء العالم الأعلى والأسفل. وبهذا الطريق يحصل للنفس هذه السعادة ، وكلما كانت المواظبة على هذه الطريقة أكثر ، كان الانقطاع عن العالم الأسفل أكثر ،

__________________

(١) ذلك الفعل (م).

(٢) مصلحة العالم (ل).

(٣) سقط (ل).

(٤) سقط (ل).

(٥) ونفاذ مشيئته (ل).

٢٧١

والانجذاب إلى العالم أتم وأكمل. ولا شك أن في هذه الحالة منفعة عظيمة شريفة [عالية مرغبة (١)] في الاشتغال بالدعاء.

الفائدة الثانية : لا شك أنه كما يعتبر في حصول الأثر ، حال الفاعل ، فكذلك يعتبر حال القابل. وأيضا : فتأثيرات تلك العلل العالية في حوادث هذا العالم ، لا شك أنها موقوفة على شرائط حادثة ، وإلا لدامت الآثار لدوام تلك المؤثرات.

إذا عرفت هذا فنقول : إنه لا يمتنع أن يكون تكيف نفس الداعي بالكيفية الحاصلة عند الدعاء كان شرطا لفيضان تلك الآثار عن تلك العلل العالية ، فعند حصول هذه الحالة ، تحدث تلك الآثار عن تلك العلل العالية. ولا يمتنع أيضا أن يقال : إن نفس الداعي عند الاستغراق في الدعاء ، يظهر فيها نور من أنوار عالم الغيب ، وأثر من آثار تلك الأرواح القاهرة. وحينئذ تقوى جوهر النفس البشرية ، ويحصل لها استعلاء في تلك الحالة ، وبواسطة تلك القوة [والقدرة (٢)] يحصل ذلك الحادث المطلوب.

الفائدة الثالثة : إنا قد ذكرنا : أن لكل واحدة من هذه النفوس البشرية روحا من الأرواح العالية الفلكية ، وتكون هذه النفوس البشرية بالنسبة إلى تلك الروح (٣) كالأولاد بالنسبة إلى الأب. وكالعبيد بالنسبة إلى المولى ، فإذا أخذت النفس في التصفية عن العلائق الجسدانية ، ثم بالغت في الدعاء والتضرع ، انجذبت هذه النفوس إلى تلك الروح الفلكي ، الذي هو الأصل والمعدن والمنبع. وبسبب ذلك الانجذاب والاتصال يحصل في جوهر هذه النفس البشرية : قوة وقدرة وسلاطة على هيولى العالم العالم الأسفل ، فحينئذ تحصل آثار عجيبة وأحوال غريبة.

إذا عرفت هذا فنقول : اجتماع الجمع العظيم على الدعاء الواحد في

__________________

(١) سقط (ل).

(٢) من (س).

(٣) الأرواح (م ، س).

٢٧٢

المقصود الواحد : أقوى تأثيرا من إقدام الشخص الواحد على ذلك العمل لأن عند الاجتماع تنضم المؤثرات الكثيرة ، بعضها إلى البعض فيكون التأثير أقوى لا محالة ، وقد ضرب العلماء لهذا مثالا ، فقالوا القرانات مرتبة على أربع مراتب : القران الأصغر ، والأوسط ، والأكبر ، والأعظم.

والسبب في هذا التفاوت : أنه كلما كانت الكواكب أكثر ، وكان قرب بعضها من البعض أتم. كان التأثير أقوى. فلهذا السبب أمرت الشريعة الحقة بترتيب الاجتماعات على أربع مراتب.

فأولها : [أداء (١)] الصلوات الخمس في الجماعات. لأن القوم إذا اجتمعوا حصلت من تلك الجمعية آثار لا تحصل عند الانفراد.

وثانيها : صلاة الجمعة [في الأسبوع (٢)] فإن الجمعية هناك أكثر وأتم [مما في غيرها (٣)] فلا جرم تكون قوتها أكمل وأفضل.

وثالثها : صلاة العيد. فالجمعية فيها أتم وأكمل. وأكثر مما في صلاة الجمعة.

ورابعها : وهو القرآن الأعظم اجتماع العالم في موقف الحج. فإن الجمع العظيم من أهل المشرق والمغرب ، يجتمعون في ذلك الموقف ، ويوجهون أفكارهم وأذهانهم إلى استنزال الرحمة ، وطلب المعونة (٤) من الله تعالى. فلا جرم يحصل فيه من التأثير ، ما لا يحصل من سائر الوجوه. ولهذا الباب شرائط كثيرة سنذكرها في شرح السحر المبني على الأوهام ، وتصفية النفوس.

فهذا ما يمكن شرحه باللسان. ومن خاض في هذا الطريق وجد فيه من أنواع الفوائد ما لا يمكن ذكره باللسان ، ولا شرحه بالأقلام. والهادي إلى الحق ليس إلا الملك العلام.

__________________

(١) من (س).

(٢) من (م).

(٣) من (م).

(٤) المغفرة (س).

٢٧٣
٢٧٤

الفصل الثامن عشر

في

بيان كيفية الانتفاع بزيارة الموتى والقبور

[قال المصنف (١)] : سألني بعض أكابر الملوك عن هذه المسألة. وهو الملك «محمد بن سام بن الحسين الغوري» وكان رجلا حسن السيرة ، مرضي الطريقة ، شديد الميل إلى العلماء ، قوي الرغبة في مجالسة أهل الدين والعقل. فكتبت له فيه رسالة ، وأنا أذكر هاهنا ملخص ذلك الكلام. فأقول : الكلام فيه مبني على مقدمات :

المقدمة الأولى : إنا قد دللنا على أن النفوس البشرية ، باقية بعد مفارقة الأبدان.

[والمقدمة الثانية :] (٢) إن تلك النفوس التي فارقت أبدانها أقوى من هذه النفوس المتعلقة بالأبدان من بعض الوجوه. وهذه النفوس أقوى من تلك من وجه آخر. أما أن النفوس المفارقة أقوى من هذه النفوس من بعض الوجوه : فهو أن تلك النفوس لما فارقت أبدانها ، فقد زال الغطاء والوطاء. وانكشف لها عالم الغيب ، وأسرار منازل الآخرة. فصارت العلوم التي كانت برهانية عند التعلق بالأبدان : ضرورية بعد مفارقة الأبدان. وكانت تلك

__________________

(١) من (م).

(٢) من (س) وفي (م) : «الأبدان وتلك النفوس ... إلخ».

٢٧٥

النفوس الروحانية حين كانت النفوس (١) بدنية كانت تحت غبار وبخار ، فلما زال البدن أشرقت تلك النقوش ، وتجلت وتلألأت ، فحصل للنفوس المفارقة عن الأبدان ، بهذا الطريق: نوع من الكمال.

وأما أن النفوس المتعلقة بهذه الأبدان ، أقوى من تلك النفوس المفارقة من وجه آخر : فلأن آلات الكسب والطلب باقية لهذه النفوس. فهذه النفوس بواسطة الأفكار المتلاحقة ، والأنظار المتعاقبة ، تستفيد في كل يوم علما جديدا ، وبحثا زائدا.

وهذه الحالة غير حاصلة (٢) للنفوس المفارقة.

والمقدمة الثالثة : (٣) إن تعلق النفوس بأبدانها ، تعلق يشبه العشق الشديد والحب التام. ولهذا السبب فإن كل شيء يطلب تحصيله في الدنيا. فإنما يطلب ليتوصل به إلى إيصال الخير والراحة إلى هذا البدن. وإذا ثبت هذا ، فإذا مات الإنسان ، وفارقت النفس هذا البدن. فذلك الميل يبقى ، وذلك العشق لا يزول إلا بعد حين. وتبقى تلك النفس عظيمة الميل إلى ذلك البدن ، عظيمة الانجذاب إليه. لا سيما على المذهب الذي نصرناه من أن النفوس الناطقة مدركة للجزئيات. ، وأنها تبقى موصوفة بهذا الإدراك بعد موت البدن (٤)] وإذا عرفت هذه المقدمات ، فنقول : إن الإنسان إذا ذهب إلى قبر إنسان ، قوي النفس ، كامل الجوهر شديد التأثير ، ووقف هناك ساعة ، وتأثرت نفسه من تلك التربة. حصل لنفس هذا الزائر تعلق بتلك التربة. وقد عرفت : أن لنفس ذلك الميت ، تعلق بتلك التربة. أيضا. فحينئذ يحصل لنفس هذا الزائر ، الحي ، ولنفس ذلك [الإنسان (٥)] الميت : ملاقاة ، بسبب اجتماعهما على تلك التربة. فصارت هاتان النفسان شبيهتان بمرآتين ،

__________________

(١) النفس (س).

(٢) زائلة (طا).

(٣) من هنا إلى موت البدن مكرر في الفصل التاسع عشر في (م) والنسخ المشابهة لها. وبدل المقدمة الثالثة : المرتبة الثانية.

(٤) موتها (م) ومن المقدمة الثانية إلى هنا : مكرر في الفصل التاسع عشر.

(٥) من (س)

٢٧٦

صقيلتين ، وضعتا بحيث ينعكس الشعاع من كل واحدة منهما إلى الأخرى. فكل ما حصل في نفس هذا الزائر الحي من المعارف البرهانية ، والعلوم الكسبية ، والأخلاق الفاضلة من الخضوع لله تعالى ، والرضا بقضاء الله تعالى ، ينعكس منه نور إلى روح ذلك [الإنسان (١)] الميت ، وكل ما حصل في نفس ذلك الإنسان من العلوم المشرفة والآثار القوية الكاملة فإنه ينعكس منها نور إلى روح هذا الزائر الحي. وبهذا الطريق تصير تلك الزيارة سببا لحصول المنفعة الكبرى ، والبهجة العظمى لروح الزائر ، ولروح المزور.

فهذا هو السبب الأصلي في شرعية الزيارة. ولا يبعد أن يحصل فيها أسرار أخرى أدق وأغمض (٢) مما ذكرناه.

وتمام العلم بحقائق الأشياء ليس إلا عند الله سبحانه وتعالى.

__________________

(١) من (س).

(٢) وأحق (س).

٢٧٧
٢٧٨

الفصل التاسع عشر

الفصل التاسع عشر

في

مراتب النفوس في المعارف والعلوم

[التقسيم الأول : المراتب] (١)

اعلم : أن الحكماء ضبطوا تلك المراتب في أربع مراتب :

المرتبة الأولى : العقول الهيولانية. وهي نفوس الأطفال الخالية عن جميع المعارف والعلوم. إلا أنها قابلة للعلوم ، لا محالة. فسميت بالهيولانية لهذا المعنى.

والمرتبة الثانية : (٢) العقل بالملكة وذلك لأنا بينا : أن العلوم الكسبية لا يمكن تحصيلها إلا بواسطة العلوم البديهية. وهذه العلوم البديهية تحصل في العقول أولا ، ثم إن الإنسان يركب بعضها مع البعض ، فتصير تلك التركيبات موجبة لصيرورة المجهولات معلومة. ثم في هذه الدرجة يقع التفاوت من وجهين :

الأول : في كثرة تلك العلوم البديهية وقلتها.

والثاني : في أن صاحبها قد يكون بحيث يسهل عليه تركيب العلوم

__________________

(١) زيادة.

(٢) في الفصل الثامن عشر : أشرنا إلى عبارات مكررة. في (م) والتكرير هنا من : والمرتبة الثانية إلى قوله : العقل بالملكة. والكلام منضبط تماما في (س ، طا ، ل).

٢٧٩

البديهية ، بحيث تتأدى تلك التركيبات إلى حصول العلوم بالنتائج ، وقد يكون بحيث يصعب عليه ذلك. وقد يكون بحيث يتيسر عليه ذلك.

واعلم : أن مراتب السهولة والصعوبة غير مضبوطة ، بل كأنها غير متناهية. وكما أنه لا يبعد انتهاؤها في طرف النقصان ، إلى الغبي الذي لا يتيسر عليه الكسب والطلب أصلا ، فكذلك لا يبعد انتهاؤها في طرف الزيادة إلى الكامل ، الذي تحصل له تلك التركيبات على أكمل الوجوه ، وأحسن الترتيبات من غير سعي في الطلب. وأصحاب هذا الكمال هم الأنبياء المعظمون ، والحكماء الكاملون. ومن الصوفية من يسمى هذا النوع من العلم بالعلم اللدني. أخذا من قوله تعالى : (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) (١).

والمرتبة الثالثة : فهي العقل بالفعل (٢) وهو أن يحصل العلوم الكسبية تحصيلا تاما وافرا ، إلا أنها لا تكون حاضرة في عقله. ولكنها تكون بحيث متى شاء استحضارها ، قدر عليه من غير حاجة إلى مزيد عناء وتكلف.

والمرتبة الرابعة : أن تكون تلك العلوم حاضرة بالفعل ، مشرقة تامة كاملة مضبوطة (٣) وهذا هو المسمى بالعقل المستفاد ، وإذا بلغت النفس البشرية إلى هذا الحد ، فقد وصلت إلى آخر الدرجات البشرية ، وأول منازل الملائكة. فهذا هو شرح حال المعارف والعلوم ، بحسب التقسيم.

التقسيم الثاني : الإدراكات :

قالوا : الإدراك إما أن يكون إدراكا للجزئيات ، أو إدراك للكليات. فإذا كان إدراكا للجزئيات. فإما أن يكون ذلك الإدراك [مشروطا بكونه ذلك المدرك حاضرا وهو الحس أو لا يكون (٤)] مشروطا به ، وهو الخيال. وأما

__________________

(١) الكهف ٦٥.

(٢) الفعال (م).

(٣) : مضيئة (م.

(٤) سقط (ط).

٢٨٠