المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٧

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٧

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٥

وذلك محال. فلهذا السبب بقيت الأيون والأوضاع فيه بالقوة ، ولم تخرج بكليتها إلى الفعل [فهو يتحرك لأجل استخراجها من القوة إلى الفعل (١)] هذا هو القول المختار عند هذين الرجلين الفاضلين ، ونقلاه عن الحكيم «أرسطاطاليس» وهو عندي بعيد جدا ، ولا يليق بالرجل العاقل الفاضل أن يميل عقله إليه. والقسم الثاني من القسمين المذكورين في التقسيم : أن يقال : إن مقصود الفلك من تلك الحركات [استفادة (٢)] كمالات نفسانية.

واعلم : أن الكمالات النفسانية أحد أمور ثلاثة :

إما الحياة ، وإما الإدراك ، وإما العقل ، وكل واحد من هذه الأقسام الثلاثة محتمل هاهنا.

أما الاحتمال (٣) الأول : وهو أن يقال : المقصود من هذه الحركة إبقاء قوة الحياة. فتقريره : أن يقال : الاستقراء دل على أن اللطافة والشفافية والنورانية والحركة وقوة الحياة والعقل : أمور متلازمة. إما دائما وإما في الأكثر.

وأما الكلمة والسكون [والموت (٤)] والجهل. فهي أمور متلازمة. إما دائما ، وإما في الأكثر. ألا ترى أن القلب لما كان ينبوع الحياة ، لا جرم كان دائم الحركة. فكذا هاهنا الفلك لما كان ينبوع الحياة ، لا جرم كان دائم الحركة ، ولما كان حياة الفلك أكمل وأشرف من هذه الأجسام ، لا جرم كانت حركاته أشرف الحركات. وهي المستديرة الخالية عن التفاوت والاختلاف ، الموصوفة بكل ترتيب ونظام. وأما جرم الأرض. فلما كان معدن الظلمة والكثافة ، لا جرم كان معدن السكون والجمود. فالموت والسكون متلازمان ، والحياة والحركة متلازمتان. ولما كانت الحياة في عالم الأفلاك ، أبقى وأشرف ، كانت الحركات هناك أكمل وأشرف.

__________________

(١) سقط (ل).

(٢) سقط (طا).

(٣) القول (م).

(٤) سقط (طا ، ل).

٣٦١

وأما البحث عن أن الحركة الموجبة للحياة ، أو الحياة هي الموجبة للحركة ، أو هما معلولا علة منفصلة فذلك غير معلوم.

وأما الاحتمال الثاني : وهو أن يقال : المقصود للأفلاك من تلك الحركات : اكتساب العلوم والمعارف ، والمبالغة في تكميلها. فهذا أيضا محتمل. وتقريره : إنا نعلم أن الإنسان حال ما يحاول تحصيل المعارف الكسبية ، فإنه يستعين بالفكر والتأمل ، وذلك لا يمكن إلا بتحريك الأرواح الدماغية على وجوه مخصوصة. وإذا كان ذلك كذلك ، لم يمتنع أيضا أن يقال : إن مراتب العلوم غير متناهية. واللذة الحاصلة من تحصيل العلوم والمعارف : أقوى اللذات وأكمل السعادات. فهذه النفوس الفلكية مستغرقة (١) بتحصيل هذا النوع من السعادات ، وأنه لا يمكنها تحصيل هذا المطلوب إلا بواسطة هذه الحركات المخصوصة ، فكانت مواظبة الأفلاك على هذه الحركات ، لأجل أن يتوصل بها إلى استفادة المعارف والعلوم. ولما كان لا نهاية للعلوم والمعارف ، فلا جرم لا نهاية لحركاتها ، لأجل أنه تحصل الوصلة بها ، إلى تحصيل تلك المطالب. فهذا احتمال ممكن ، وهو أقرب إلى العقول من استخراج الأيون والأوضاع.

وأما الاحتمال الثالث : وهو أن تكون حركاتها لطلب الكمال في القوة العقلية (٢) فهذا الاحتمال ممكن. وتقريره من وجوه :

الأول : وهو قول أصحاب الأحكام. وهو أنه ثبت أن للكواكب في هذه المدارات خصوصيات (٣) مختلفة. فبعض تلك البروج لها شرف ، وبعضها هبوط. وكذا القول في البيت والمثلثة والحدود والوجوه [والفرج (٤)] وسائر الأقسام المذكورة في علم الأحكام. وأيضا : فإن الأحكاميون ذكروا أن بين تلك الكواكب صداقة وعداوة ، وأن كل واحد منها يحاول إعانة غيره على فعله تارة ،

__________________

(١) مشغوفة (م).

(٢) الفعلية (ل).

(٣) حصصا (ل ، طا).

(٤) من (ل).

٣٦٢

وينازعه في فعله أخرى. وعلى هذا التقدير فلا يمتنع أن تكون أفعالها ، لأجل طلب تلك الزوائد في القوة والقدرة.

الوجه الثاني : قالوا : لا شك أن واجب الوجود لذاته : المبدأ المفيض لجميع أقسام الخير والرحمة ، على جميع أجزاء العالم الروحاني والجسماني. ولا شك أن الحركات الفلكية : أسبابا لنظام هذا العالم. وعند هذا قالوا : «كمال حال الممكنات التشبه بالإله (١) بقدر الطاقة البشرية» ولهذا المعنى قال صاحب الشريعة : «تخلقوا بأخلاق الله تعالى» ونقل عن أوائل الفلاسفة (٢) أنهم قالوا : «الفلسفة [عبارة عن التشبه بالإله بقدر الطاقة البشرية» ولا شك أن هذا التشبه (٣)] حالة عالية شريفة. ولما كانت الأفلاك أكمل حالا من البشر ، في علومها ومعارفها ، وأنواع فضائلها ، كانت أولى بتحصيل هذا التشبه ، بقدر ما يليق بها من الطاقة. فهي تتحرك حركات مشتملة على تحصيل مناظم هذا العالم الأسفل. إلا أن مقصودها الأصلي ليس هو العناية بهذه السافلات ، بل مقصودها الأصلي : هو التشبه بالإله تعالى في كونه مبدأ لحصول النظام والخير والرحمة.

الوجه الثالث : إنا بينا : أن الفلك حيوان. وهو مطيع لمعبوده ولخالقه. والعبادة عبارة عن مجموع أمور ثلاثة :

الاعتقاد بالقلب. والذكر باللسان. والخدمة بالبدن (٤). فالنفس الكلية لما كانت مواظبة على عبادة خالقها ومعبودها ـ وبدنها هو الفلك ـ كانت هذه الحركات جارية مجرى الركوع والسجود لله سبحانه وتعالى. فهذا هو القول في تعديد الوجوه الممكنة في أن الغرض للفلك من الحركة : استفادة الكمالات والسعادات من الأسباب العالية.

__________________

(١) بالإله (ل) بالله تعالى (م).

(٢) الحكماء (م).

(٣) سقط (م).

(٤) بالجسد (م).

٣٦٣

القسم الثاني : قول من يقول : غرضها من هذه الحركات : العناية بالسافلات. وهذا قول ذهب إليه عالم من الناس. الذين قالوا : إن الكواكب السبعة إذا صعدت إلى أوجاتها ، استفادت القوى الشريفة من العرش والكرسي ، فإذا نزلت إلى حضيضاتها أدت تلك القوى إلى العالم العنصري [وأفراد العالم العنصري (١)] داخلون في هذا التقسيم ..

وأما القسم الثالث : وهو [قول من يقول (٢)] : إن وصول الحركات ، لأجل الاستكمال بالعاليات. وأما جهاتها وكيفياتها ، فللعناية بالسافلات. وهذا قول اختاره «ثارمسطيوس» وفي المسألة قول آخر عجيب : وهو أن خارج الفلك الأقصى عوالم مملوءة من النور ، وتلك الأنوار مختلفة في درجات الكمال. فالفلك الأقصى يتحرك ليستفيد الكمالات المختلفة ، والقوى المتباينة من تلك الأنوار.

فهذا ضبط الأقوال الممكنة في هذا الباب.

__________________

(١) زيادة.

(٢) قولهم (طا ، ل).

٣٦٤

الفصل الرابع

في

تتبع هذه المذاهب

ونحن نرتبها على مسائل :

المسألة الأولى : اعلم : أن الأقوال الأربعة المبنية على أن هذه الحركات : طبعية ، قد سلف إبطالها.

وأما القول الخامس : وهو أنها إرادية ، إلا أنه ليس للأفلاك في تلك الحركات غرض معين. فاعلم : أن هذا بناء على أن القادر يمكنه أن يفعل فعلا معينا ، لا لغرض أصلا. والكلام المستقصى في إبطاله [قد سبق (١)] في باب «الدواعي والصوارف (٢)» ولا بأس بإعادة بعضها فنقول : هذا باطل من وجهين :

الأول : إنها إذا كانت متساوية بالنسبة إلى ذلك الفاعل ، كان إقدامه على البعض دون البعض : رجحانا لأحد طرفي الممكن على الآخر ، لا لمرجح. وهو محال.

الثاني : أن بتقدير أن يكون ذلك جائزا ، إلا أنه أمر اتفاقي. والأمور الاتفاقية ، لا تكون دائمة ولا أكثرية [فوجب أن لا تكون هذه الحركات دائمة ولا أكثرية (٣)] فإن قيل : الحركات العبثية كثيرة. مثل : عبث الإنسان بشعرة

__________________

(١) سقط (ط) ، (ل).

(٢) هو باب من الجزء الثالث من المطالب العالية.

(٣) سقط (م) ، (ط).

٣٦٥

واحدة من شعرات لحيته ، وعبثه بتبنة يأخذها من الطريق من غير غرض صحيح ، ويعبث بها. فهذه حركات إرادية ، مع أنه ليس فيها أغراض صحيحة. وأيضا : النائم ينقلب من أحد جنبيه إلى الثاني ، فتلك الحركة : حركة إرادية ، وليس فيها أغراض معينة. لأن النوم ضد العلم ، وعند عدم العلم ، لا يبقى الغرض.

وأيضا : الجائع إذا وضع عنده رغيف ، فإنه يبتدئ بكسر جانب معين منه ، دون سائر الجوانب. لا لغرض يتعلق بذلك الجانب بعينه.

والجواب : أما العبث. فنقول : إن القوة المحركة لها مراتب :

فالمرتبة القريبة هي القوة المركوزة في الأوتار والعضلات : وهي صالحة للفعل ولضده ، وما دامت هذه الصلاحية من الجانبين باقية ، امتنع أن تصير مصدرا للفعل المعين. فإذا انضاف إليها ميل جازم ، حصل الرجحان. وذلك الميل مرتب على أن يعتقد الإنسان أن له في ذلك الفعل مصلحة ومنفعة. فإذا حصل هذا الاعتقاد ، حصل الميل. وليس من شرط ذلك الاعتقاد : أن يكون مطابقا [بل سواء كان مطابقا (١)] أو لم يكن. فإنه إذا حصل الاعتقاد الجازم ، ترتب عليه الميل. وأيضا : فتلك المنفعة قد تكون منفعة خسيسة ، وهي نفس التذاذه بذلك الفعل ، وقد تكون منفعة شريفة تحصل بها آثار كاملة ، ونتائج شريفة.

إذا عرفت هذا فنقول : المقدم على الفعل العبثي إنما يقدم عليه ، لو انضاف إلى القوة العضلية تلك الإرادة المترتبة على ذلك الاعتقاد. ومعلوم أن ذلك الاعتقاد يكون مقدّرا بمقدار معين ، وتلك الإرادة أيضا محدودة بحد معين فمجموع تلك القدرة مع تلك الإرادة ، ومع ذلك التصور ، يوجب تلك الحركة المقدرة بالمقدار المخصوص. فذلك المجموع له في ذلك الفعل غاية معينة [وهي الانتهاء إلى ذلك الحد المعين. فالحركة حصلت لها هاهنا غاية معينة] (٢).

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) سقط (م) ، (ط).

٣٦٦

إلا أنه بقي هاهنا أمران :

أحدهما : إن ذلك الذي تخيله خيرا ، قد لا يكون في نفس الأمر كذلك ، وحينئذ يسمى ذلك الفعل باطلا ، لا بمعنى إنه ليس له غاية بحسب ذلك الاعتقاد ، بل بمعنى أنه ليس له غاية تستحق في نفسها جعلها غاية.

الثاني : إنه ربما كانت الغاية في تلك الحركة ، ليست إلا الوصول إلى ذلك الحد المعين. فهذا يكون غاية لتلك الحركة ، بمعنى أنه ما أريد من تلك الحركة إلا الوصول إلى تلك الغاية المعينة. وقد يقال : إن هذه الحركة عبث ، بمعنى أن هذه الغاية لما كانت خسيسة لم يكن بين وجودها وعدمها فرق معتبر ، إجراء للحقير مجرى المعدوم.

وأما النائم فنقول : إنه ما لم يتخيل النائم مكروها أو مطلوبا [لم يترك شيئا ولم يفعل شيئا. وأقصى ما في الباب : إنا بعد الانتباه لا نتذكر ذلك المطلوب وذلك المهروب (١)] إلا أنه لا يلزم من حصول ذلك التخيل في ذلك الوقت ، علمنا بعد النوم بأنه كان ذلك التخيل حاصلا في ذلك الوقت. وأما قوله : «الجائع يبتدئ بكسر الرغيف من أحد الجوانب ، لا لغرض معين» فنقول : إنه ما لم يتخيل أمرا صالحا لذلك الترجيح ، لم يحصل ذلك التعين. وهو كونه ألذ وأوفق أو كونه أقرب. أو شيء آخر ، يكون حاصلا في الذهن. إلا أنه يزول عن الذهن في الحال ، فلا يمكن التعبير عنه لهذا السبب.

المسألة الثانية في الرد على من يقول : المقصود من تلك الحركات : إصلاح هذه السافلات : فنقول : الذي يدل على فساد هذا القول وجهين (٢) :

الحجة الأولى : إن كل من كان أكثر أفعاله لرعاية حال الغير ، كان كالخادم لذلك الغير. والخادم أخس من المخدوم. ثم إذا كان المخدوم خسيسا ، كان خادمه بالغا إلى النهاية القصوى في الخساسة. وأشرف موجودات

__________________

(١) سقط (م).

(٢) وجوه [الأصل].

٣٦٧

هذا العالم العنصري ، هو في نهاية الضعف ، في علومه ، وفي أفعاله الفاضلة. فجعل تلك الأجسام العالية المقدسة الشريفة خادمة لهذه الأجسام الخسيسة ، مما لا يقبله العقل. فإن قيل : أليس المقصود من النبي رعاية مصالح الأمة [ومن السلطان رعاية مصلحة الرعية (١)] ومن الراعي رعاية الغنم. ولم يلزم كون النبي أدون حالا من الأمة. فكذا هاهنا؟ قلنا : لا نسلم أنه لا فائدة في وجود النبي إلا رعاية مصالح الأمة ، بل في وجوده فوائد عالية رفيعة (٢) فإنه لأجل نبوته تستكمل ذاته بالمعارف القدسية ، والأنوار الإلهية. من جملتها : إرشاد الخلق إلى الحق. ونظيره في مسألتنا : أن يقال : إن للأفلاك في حركاتها : فوائد كثيرة. ومن جملتها : مصالح السافلات. وبهذا التقدير [سيندفع السؤال (٣)] وهذا هو القول الذي اختاره «ثامسطيوس» وهو أن الفلك يستفيد من المبادي العالية أنواعا من البهجة والسعادة ، ثم إنه يختار الجهة المعينة ، لكونها أنفع للسافلات. وذلك عين (٤) المذهب الذي نحن فيه الآن.

الحجة الثانية : إن كل من فعل فعلا لغرض. فهو مستكمل بذلك الغرض. فلو فعلت الأجرام العالية أفعالها ، لمصالح السافلات [لكانت مستكملة بهذه السافلات. ومعلوم أنها أشرف وأعلى من هذه السافلات (٥)] فيلزم كون الأكمل مستكملا بالأخس والأنقص. وهو محال. ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يقال : إن الكامل الشريف العالي ، قد يستكمل في بعض الأحوال بالخسيس النازل؟ ألا ترى أن السلطان قد ينتفع برعيته ، والمولى قد ينتفع بعبده ، والإنسان قد ينتفع بالخبز والماء ، مع أنه أشرف منهما.

واعلم : أن هذين الدليلين ، لا شك أنهما من باب الإقناعيات. إلا أنه ثبت أن [الأرض (٦)] بالنسبة إلى الأفلاك والكواكب [العلوية (٧)] كالمركز في

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) شريفة (ل).

(٣) سقط (طا) ، (ل).

(٤) غير (ل ، طا).

(٥) سقط (م) ، (ط).

(٦) العالم العنصري (م).

(٧) سقط (طا ، ل).

٣٦٨

الدائرة. وأنه لا يبقى لها وجود بالنسبة إليها. ويبعد في العقل : أن يقال : الفلك الأعظم على جلالته ، وفلك الثوابت على عظمته ، وجملة الثوابت على غاية جلالتها ، وجميع الأفلاك السبعة مع ما فيها من السيارات الرفيعة ، والشمس على غاية جلالتها ، كلها دائمة الحركة والفعل لأجل مصالح هذا العالم ، الذي أشرف أقسامه هو الإنسان. ثم إن حاصل الإنسان من العلم والفضائل ليس إلا القليل. فهذا في العقل نفرة شديدة عنه. [والله أعلم بالحقائق (١)].

المسألة الثالثة في إبطال قول من يقول : المقصود [للأفلاك (٢)] من الحركات إخراج الأيون والأوضاع من القوة إلى الفعل :

اعلم : أن هذا الوجه كأنه [أضعف (٣)] الوجوه وأبعدها عن العقل ، ثم الذي يدل على فساده وجوه :

الأول : إنه لو كان مقصود الفلك من الحركة إخراج تلك الأيون والأوضاع من القوة إلى الفعل ، لوجب أن تكون تلك الحركات واقعة على أسرع الوجوه. وهذا باطل فذاك باطل.

وبيان الملازمة : أنه إذا كان مقصود [فلك الثوابت (٤)] من الحركة : إخراج الأيون والأوضاع من القوة إلى الفعل فلم لا يخرجها [فلك الثوابت (٥)] وفي مقدار اليوم الواحد. فإن القادر إذا أمكنه تحصيل مقصوده في زمان قليل ، فإنه لا يعدل عنه ولا يوقف تحصيله على زمان طويل؟ فإن قالوا : لم لا يجوز أن يقال : إن هيولى كل فلك لا يقبل إلا ذلك النوع [من الحركة. ولأجل أن تلك الهيولى لا يقبل إلا ذلك النوع ، من الحركة (٦)] وجد ذلك النوع دون

__________________

(١) من (طا ، ل).

(٢) سقط (م) ، (ط).

(٣) سقط (ل).

(٤) الفلك (م).

(٥) من (م).

(٦) سقط (م) ، (ط).

٣٦٩

غيره؟ فنقول : فإذا جاز هذا ، فقولوا : إن هيولى كل فلك مستلزمة لذاتها ، حصول ذلك النوع من الحركة. فلهذا السبب وقعت تلك الحركة ، دون سائر الحركات. وعلى هذا التقدير، فيبطل كل ما ذكرتموه.

الحجة الثانية : إن الحركة من المشرق إلى المغرب كما أنها تفيد إخراج الأيون والأوضاع من القوة إلى الفعل ، فكذلك الحركة المضادة لها ، تفيد هذا المقصود. وإذا كان جميع أنواع الحركات يفيد هذا المقصود ، لم يكن بعضها أولى من بعض ، ولا يمكن الجمع بينهما. فلم يبق إلا تركها [بأسرها (١)] فما ذكرتموه يوجب نفي الحركة ، لا حصولها.

الحجة الثالثة : إنا لو فرضنا إنسانا أخذ يعدو في [جميع (٢)] مشارق الأرض ومغاربها. ويقول : لا غرض لي في هذه الحركة : إلا إخراج الأيون والأوضاع من القوة إلى الفعل ، لقضى كل عاقل عليه بالجنون. فإن قالوا : الفرق بين البابين : أن هذا الإنسان خالي عن أكثر الكمالات المهمة ، فكان اشتغاله باستخراج الأيون والأوضاع ، مانعا له من تلك الكمالات ، بخلاف الفلك فإنه كامل في جميع الصفات ، إلا في هذا المعنى ، فكان اشتغاله بتحصيلها كمالا ، بالنسبة إليه.

قلنا : أنتم ما ذكرتم برهانا يقينيا في أن نفس الفلك وجسده كاملة في جميع الصفات، إلا في هذا المعنى. فكان كلامكم باطلا. بل قد بينا : أنه لا يمتنع أن يكون مقصوده من هذه الحركة : سائر الوجوه التي عددناها.

الحجة الرابعة : وهي إن استخراج الأيون والأوضاع. إما أن يكون كمالا ، لا يصلح أن يكون مقصودا للعاقل ، وإما أن لا يكون. فإن كان الأول وجب أن يكون مقصود الفلك من الحركة : نفس الحركة. ولو كان الأمر كذلك ، لبطل قولكم : إن مقصود الفلك من الحركة التشبه بالعقل المفارق. وإن كان الثاني ، وهو أن هذه الاستخراجات أمور لا تصلح أن تكون مطلوبة

__________________

(١) سقط (طا ، ل).

(٢) من (ط).

٣٧٠

للعقلاء. فهذا يقدح في كون الفلك طالبا لها. وكل ذلك (١) يبطل قولهم.

الحجة الخامسة : إن الفلك إن كان معتوها مجنونا لا يعرف الحقائق ، فلا عبرة بحركته ولا بفعله ، فلعله تخيل تخيلات فاسدة ، لأجلها بقي مواظبا على الحركة. وإن كان عاقلا فنقول : إنه يعلم : أنه لا يمكنه استخراج شيء من باب الأيون والأوضاع ، من القوة إلى الفعل : إلا الواحد فقط. ولا يمكنه [أن يجمع بين اثنين منها (٢)] وإلا لزم حصول الجسم الواحد في مكانين. ونعلم أيضا : أن جميع تلك الأيون والأوضاع متماثلة في تمام الماهية ، ومتساوية في كلية الحقيقة. وإذا كان الأمر كذلك ، لم يكن في إبدال بعضها بالبعض فائدة البتة. وإذا عرفت هذا ، وجب أن يكتفي بالأين الواحد والوضع الواحد ، وإن يريح نفسه من المواظبة على هذه الأعمال الفاسدة. وذلك يوجب بقاء الفلك عن السكون ، وإعراضه عن الحركة بالكلية.

الحجة السادسة : لو كان المقصود من الحركة استخراج الأيون والأوضاع من القوة إلى الفعل ، فلأي سبب بقي مواظبا على استخراج الأيون والأوضاع الحاصلة في هذا المدار أبدا ، وبقي معرضا عن الأيون والأوضاع الحاصلة في سائر المدارات التي لا نهاية لها؟ إنه إذا حصل للمقصود الواحد طرق كثيرة ، وكان كل واحد منها مساويا للآخر في تمام الإفضاء إلى المطلوب ، كان البقاء على الواحد منها أبدا ، والإعراض عن البواقي : ممتنعا محالا. فلو كان [المقصود (٣)] ما ذكرتم ، لكان البقاء على هذه الحالة : محالا. وحيث حصل هذا البقاء ، ثبت أن ما ذكرتموه باطل.

الحجة السابعة : إنه إما أن يكون مقصود الفلك : طلب كلها ، أو طلب واحد منها بعينه ، أو طلب الواحد منها بغير عينه. والأول باطل. وإلا لكان ذلك طلبا للمحال ، وطلب المحال لا يوجد ، أو إن وجد لكنه لا يدوم.

__________________

(١) وذلك يبطل قولكم (ل).

(٢) الزيادة منها (م).

(٣) من (ل).

٣٧١

والثاني يقتضي أنه إذا وجد ذلك الواحد ، أن يقف. لأن كل من فاز بالمطلوب ترك الطلب. والثالث أيضا يقتضي أن يقف ، لأنه إذا كان مقصوده تحصيل واحد من تلك الأيون ـ أي واحد منها ـ فإذا فاز بالواحد منها ، فقد فاز بمقصوده. فوجب أن يقف [فثبت : أن هذا القول فاسد على جميع التقديرات.

الحجة الثامنة : إن الفلك جسم بسيط. فالنقط المفترضة فيه تكون متساوية في تمام الماهية. فالانتقال من نقطة إلى نقطة أخرى. يكون انتقالا من الشيء إلى ما يماثله من كل الوجوه. ومثل هذا لا يمكن أن يكون مطلوبا للعاقل الكامل (١) فثبت : أن هذا القول باطل. وبالجملة فضعفه وبطلانه أظهر من أن يحتاج فيه إلى الدليل والبرهان [والله أعلم (٢)].

المسألة الرابعة في الرد على «ثامسطيوس» في قوله : «إن أصل الحركة معلل بالاستكمال بالأسباب العالية. إلا أن جهات تلك الحركات ، لأجل العناية (٣) بالسافلات».

واحتج «الشيخ» على فساده بوجهين :

الحجة الأولى : قال : إن جاز أن يقال : الحركات إلى الجوانب المختلفة متساوية ، بالنسبة إلى الفلك. فاختيار الحركة المعينة ، لأجل أنها أنفع للسافلات ، جاز أن يقال : إن الحركة والسكون بالنسبة إليه على السوية. فاختاروا أصل الحركة ، لأنه أنفع للسافلات. ولمجيب أن يجيب ويقول : أنتم تقولون : الحركة كمال أول ، وأما السكون فهو عدم [الحركة ، وهو عدم (٤)] لذلك الكمال. والعقل حاكم بأنه يمتنع أن يكون وجود الكمال أو عدمه بالنسبة إلى الفلك على السوية. فأما الحركة إلى جهة مع الحركة إلى جهة أخرى ، فهما متساويان في كون كل واحد منهما كمالا ، فحينئذ لا يمتنع أن يكون رجحان

__________________

(١) من (ل ، طا).

(٢) من (ل ، طا).

(٣) مختل (م) محتمل (ط).

(٤) مختل (م) محتمل (ط).

٣٧٢

إحداهما على الأخرى ، لأجل العناية بالسافلات [فظهر الفرق.

الحجة الثانية : قال : الدليل الذي دل على أنه يمتنع أن يكون أصل الحركة لأجل العناية بالسافلات (١)] هو أنه لا يمكن أن يستكمل العالي بالسافل. فكل من فعل فعلا لغرض ، فهو مستكمل بذلك الغرض. وهذا الدليل بعينه قائم في تعيين الجهات ، وفي اختيار الكيفيات. وكما بطل الأصل بالعناية بالسافلات ، فكذا القول في الكيفية.

ولمجيب أن يجيب ويقول : إن صريح العقل شاهد بأن كل من كان أكثر أفعاله لأجل رعاية مصالح الغير ، فإنه يكون كالخادم لذلك الغير. وذلك محال في الأفلاك ، بالنسبة إلى عالم العناصر. أما من كانت أفعاله لأجل أغراض عائدة إليه ، ومقاصد راجعة إليه ، ثم إنه اختار منها واحدا ، لأجل أنه أنفع للضعفاء والعاجزين ، فإنه لا يكون هذا الفاعل خادما لأولئك الضعفاء والعاجزين. فظهر الفرق.

فهذا بيان أن هذين الدليلين اللذين ذكرهما الشيخ الرئيس في إبطال قول «ثامسطيوس» في غاية الضعف.

المسألة الخامسة : قد حكينا عن بعضهم : أنهم قالوا : إنه سبحانه وتعالى مبدأ الخير ، وينبوع الرحمة على جميع الممكنات. وهذه الحركات المعينة للأجرام الفلكية ، سبب لنظم هذا العالم [ولعمارته (٢)] فمقصود الأفلاك والكواكب من حركاتها : التشبه بالإله تعالى ، في كونه مبدأ لحصول النظام والخير والرحمة.

واعلم : أن الشيخ أبطل هذا القول. فقال : «الحق الأول لا يقصد شيئا ، بل هو منفرد بذاته ـ باتفاق الفلاسفة ـ فوجب أن يكون التشبه به في أن لا يقصد شيئا. فأما القصد إلى فعل معين. فهذا مباين للشبه به ، إلا أن يقال : المقصود بالقصد الأول : فعل شيء آخر. وهذا النفع إنما حصل

__________________

(١) لا يمكنه (م).

(٢) هذا الكلام (ل).

٣٧٣

بالقصد الثاني ، على جهة الاستتباع ، وذلك لا نزاع فيه».

واعلم : أن هذا الكلام يحمل (١) على أنه ليس المراد من التشبه بالمبدإ الأول هو أنه يحاول أن يجعل نفسه مثل ذات واجب الوجود ، فإن ذلك محال. بل المراد : أنه يسعى في أن يحصل لنفسه ما يليق به من صفات الكمال والجلال. إذا عرفت هذا فنقول : الفلك لا يمكنه أن يتشبه بالمبدإ الأول في عدم القصد ، إلا أنه يمكنه (٢) أن يتشبه به في كونه مبدأ لفيضان الخيرات على المحتاجين. ولا يلزم من امتناع التشبه به في بعض الصفات ، امتناع التشبه به ، فيما يمكن. فظهر : أن هذه الكلمات (٣) : فاسدة [والله أعلم (٤)].

المسألة السادسة في ترتيب الأقوال (٥) المذكورة ، ونظمها على تقسيم صحيح معلوم :

اعلم : أنه ثبت أن الفلك متحرك بالإرادة. فهذا الفلك إما أن يكون له في هذا الفعل غرض ، وإما أن لا يكون. أما القسم الثاني وهو أنه ليس له فيه غرض. فهذا قد سبق الكلام فيه. فثبت القسم الأول. فنقول : ذلك الغرض إما أن يكون هو العناية بالسافلات ، وإما أن يكون استفادة الكمال من الأسباب العالية. والأول باطل. لما ثبت أنه لا يجوز أن تكون حركاتها لأجل العناية بالسافلات. فثبت : أن حركته لأجل استفادة الكمالات من الأسباب العالية. فنقول : تلك الكمالات إما أن تكون عائدة إلى جسم الفلك ، أو إلى نفس الفلك.

أما القسم الأول : فهو قول من يقول : المقصود من الحركة الفلكية استخراج الأيون والأوضاع من القوة إلى الفعل. وقد سبق إبطاله ، فبقي

__________________

(١) مختل (م) محتمل (ط).

(٢) لا يمكنه (م).

(٣) هذا الكلام (ل).

(٤) من (طا ، ل).

(٥) الأفعال (م).

٣٧٤

القسم الثاني وهو أن يكون المقصود من تلك الحركة استفادة الكمالات النفسانية. إذا عرفت هذا ، فنقول : نفس الفلك موجود ، ممكن لذاته. والكمالات [النفسانية (١)] الحاصلة فيها أيضا : موجودات ممكنة الوجود لذواتها. فلا بد لجوهر النفس الفلكية ، والكمالات القائمة بها من مؤثر ، وذلك المؤثر إما الأعراض وإما الأجسام ، وإما جوهر مجرد يفعل [بآلة جسمانية ، وإما جوهر مجرد يفعل (٢)] من غير آلة جسمانية. والأقسام الثلاثة الأول باطلة بالدليل (٣) الذي ذكرناه في النفوس البشرية. بل هاهنا أولى. لأنه لما ثبت أن المؤثر في النفوس البشرية على حقارتها وضعفها ، يجب أن يكون جوهرا عقليا مجردا. فهذا القول في النفوس الفلكية العالية المقدسة : أولى. ثم إذا قلنا : إن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد ، فحينئذ يمتنع أن يكون المؤثر في وجودها هو الله سبحانه وتعالى. وحينئذ يثبت : أن هذه النفوس الفلكية معلولات في ذواتها ، وفي جميع الكمالات القائمة بها ، بجواهر (٤) مجردة في ذواتها وفي أفعالها عن عوائق الأجسام. ولما كانت جميع الكمالات الحاصلة للنفس الفلكية ، إنما حصلت من فيض ذلك الجوهر العقلي المجرد ، والنفس عالمة بأنه لا يمكنه اكتساب تلك الكمالات من ذلك الجوهر العقلي المجرد إلا بواسطة هذه الحركات ، كانت هذه الحركات شوقية لا محالة ، وكانت أيضا تشبيهية على [معنى (٥)] أن هذه النفس تحاول التشبه بذلك العقل في تمكين (٦) العلوم الحقيقية ، والمعارف القدسية. كما أن التلميذ الذي يعتقد في أستاذه كونه كاملا ، مكملا وأنه لا يمكنه اكتساب الكمالات إلا بالذهاب إليه ، وإلا بالاستفادة منه. فإنه يكون ذهاب ذلك التلميذ إلى ذلك الأستاذ : حركة شوقية. ورغبته في تحصيل تلك العلوم تشبيهية.

__________________

(١) سقط (ط ، ل).

(٢) سقط (ل).

(٣) بالدلائل (م).

(٤) فعلها جواهر (م).

(٥) من (ل).

(٦) تكثير (ل).

٣٧٥

فهذا ما وصل [إليه عقلي (١)] في هذه المباحث الضيقة مع الاعتراف بأنا إنما ذكرناها على سبيل الظن والحسبان ، لا على سبيل الجزم والبرهان. وكيف يستبعد ذلك ، والعقول البشرية قاصرة عن معرفة [أنفسها عرفانا كما ينبغي ، فبأن تكون قاصرة عن معرفة (٢)] هذه الأجرام البعيدة ، كان أولى.

وأما كلام الشيخ الرئيس في هذا الباب فموجود في كتبه. وما نقلناه : لأنا ما وجدنا فيه تقسيما مضبوطا ولا كلاما منظوما. والله [أعلم (٣)] بحقائق الأمور.

__________________

(١) إلينا (ل).

(٢) سقط (طا).

(٣) هو العالم (ل).

٣٧٦

الفصل الخامس

في

تعديد الطرق المذكورة

في اثبات العقول الفلكية

اعلم أن الوجوه المذكورة لهم في هذا الباب ثمانية :

الحجة الأولى : وهي الحجة المبنية على أن حركات الأفلاك [شوقية تشبيهية. وقد سبق تقريرها.

الحجة الثانية : أن قالوا قد ثبت أن حركات الأفلاك (١)] لا بداية لها [ولا نهاية (٢)] ولا بدّ لها من فاعل. وفاعلها إما أن يكون قوة جسمانية ، أو ذاتا مجردة. والأول باطل. لأن كل قوة جسمانية فإنها تنقسم بسبب انقسام محلها بناء على نفي الجوهر الفرد فبعض تلك القوة لا بد وأن يكون فعلها أقل من فعل كل القوة [وفعل بعض القوة متناه. فيجب أن يكون فعل كل تلك القوة متناهيا. فثبت : أن كل قوة جسمانية (٣)] ففعلها متناه. وما يكون فعله غير متناه ، وجب أن لا يكون قوة جسمانية. فوجب أن يكون جوهرا مجردا ، ولما ثبت : أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد. وجب أن يكون كل فلك مبدأ عقلي مجرد. وهو المطلوب [والكلام على هذا الدليل قد سبق مرارا كثيرة (٤)].

__________________

(١) سقط (م).

(٢) سقط (طا) ، (ل).

(٣) سقط (م).

(٤) سقط (م).

٣٧٧

الحجة الثالثة : إن الإله تعالى واحد فرد. فيكون معلوله واحدا فقط. وذلك المعلول ، إما أن يكون عرضا أو جسما ، أو هيولى ، أو صورة ، أو نفسا ، أو عقلا. والكل باطل إلا العقل. فوجب أن يكون المعلول الأول عقلا محضا. وقد سبق ذكر هذه الطريقة مع ما فيها من السؤالات الكثيرة.

الحجة الرابعة : قد دللنا على أن النفوس الناطقة : موجودات مجردة. ودللنا على أن المؤثر فيها يجب أن يكون جوهرا عقليا مجردا. فهذا الطريق أيضا يدل على وجود العقول.

الحجة الخامسة : إن العلوم الحادثة في جواهر النفوس الناطقة ، لأن لها من علل. وتلك العلل لا يجوز أن تكون من باب الأعراض والأجسام والجواهر المجردة ، التي تتوقف أفعالها على استعمال الآلات الجسمانية. فوجب أن يكون المؤثر فيها جوهرا مجردا عن الجسمية ، وعن لواحق الجسمية ، في ذاتها وفي صفاتها ، وفي كيفية تأثيراتها. وهو المطلوب.

الحجة السادسة : ذكروا في باب الهيولى والصورة : أن الأجسام مركبة من الهيولى والصورة. وبينوا أن الصورة يمتنع خلوها عن الهيولى. وأن الهيولى يمتنع خلوها عن الصورة. فوجب الحكم بكونهما متلازمتين. ثم بينوا : أنه لما كان الأمر كذلك ، وجب الحكم بكون الهيولى ، وبكون الصورة ممكنين في ذاتيهما. وكل ممكن فلا بد له من مؤثر ، وذلك المؤثر يمتنع أن يكون جسما ، أو ما يكون قائما بالجسم. لأن البحث إنما وقع عن علة مقومات الأجسام. وعلة مقوم الشيء سابق على ذلك الشيء بمراتب. والسابق على الشيء بمراتب يكون مغايرا له. فعلة هيولى الأجسام وصورها موجود مجرد في ذاته وفي تأثيراته عن الأجسام. وذلك يمتنع أن يكون هو الله سبحانه وتعالى ، وما ذاك إلا العقول المجردة.

الحجة السابعة : هذه الأجسام الفلكية ممكنة الوجود. فلا بد لها من علل. ويمتنع أن يكون الحاوي علة للمحوى. وذلك لأن وجود المحوى وعدم

٣٧٨

الخلاء معا في الرتبة. والعلة متقدمة [على المعلول (١)] بالرتبة. فلو كان الحاوي علة للمحوى ، لكان متقدما عليه بالرتبة لكن وجود الحاوي متقدما على عدم الخلاء بالرتبة. وهذا محال. لأن الخلاء ممتنع لذاته. والحكم الثابت بالذات لا يمكن أن يتقدمه غيره. فثبت : أن الحاوي لا يمكن أن يكون علة للمحوى [وأما أن المحوى لا يمكن أن يكون علة للحاوي (٢)] فهو بعيد. هكذا قاله الشيخ. ولا أدري أي بعد فيه. فإن القلب وإن كان داخلا في البدن ، إلا أنه هو المدبر لكل البدن. فثبت : أن الأجسام الفلكية ليس شيء منها علة للباقي (٣) فوجب أن يكون عللها شيئا غير الأجسام ، ويمتنع أن يكون هو الله سبحانه وتعالى. لأن الواحد لا يكون علة إلا للواحد ، فلا بد من الإقرار بوجود الجواهر العقلية. وهو المطلوب.

ولقائل أن يقول : هذه الحجة مبنية على مقدمات :

الأولى : إن الخلاء ممتنع لذاته والكلام فيه قد تقدم.

والثانية : أنا نقول : هب أن الفلك المحوي ، ليس معلولا للفلك الحاوي. إلا أنه معلول للعقل الذي هو مع الفلك الحاوي. فإذا كان الفلك المحوي متأخرا [بالرتبة عن العقل الذي هو مع الفلك الحاوي ، وجب أن يكون متأخرا (٤)] عن الفلك الحاوي. لأن المتأخر عن المعلول (٥) متأخر.

فإن زعموا : أن المتأخر عن المعلول (٦) لا يجب أن يكون متأخرا بالرتبة.

فنقول : لم لا يجوز أن يقال : إن وجود المحوي وعدم الخلاء معا. ولا يلزم من كون المحوي متأخرا بالرتبة عن الحاوي ، أن يكون عدم الخلاء متأخرا

__________________

(١) سقط (طا).

(٢) سقط (م) ، (ط).

(٣) للثاني (م).

(٤) من (طا ، ل).

(٥) المنع (م).

(٦) الممتنع (م).

٣٧٩

بالرتبة عن الحاوي. فإنا لا نجد في العقل تفاوتا بين البابين؟

والعجب من الشيخ : أنه بعد ما أطنب في تقرير هذه الحجة في كتاب «الإشارات» وأورد عليه الأسئلة الكثيرة ، لم يورد عليه هذا السؤال الظاهر ، القريب من جميع الأفهام (١) السليمة.

والثالثة : قوله : «المحوي لا يمكن أن يكون علة للحاوي» هو ضعيف. لما بينا أن القلب محوي البدن مع أنه هو المدبر له. فلم لا يجوز أن يكون الأمر هاهنا كذلك؟.

والرابعة : إن هذا الدليل لا يتم في [آخر الأمر (٢)] إلا بالبناء على أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد. وفيه ما قد سبق تقريره.

الحجة الثامنة : قالوا : الجسم يمتنع أن يكون علة للجسم. قالوا : لأن الجسم مركب من الهيولى والصورة. فلو كان جسم علة لجسم ، لكان إما أن يكون له بهيولاه أو بصورته. ويمتنع أن يكون علة له بهيولاه. لأن الهيولى قابل. والشيء الواحد لا يكون قابلا وفاعلا معا. ويمتنع أن يكون علة لذلك المعلول ، بحسب صورته. لوجهين :

الأول : إن تأثير تلك الصورة في ذلك المعلول. إما أن يكون بمشاركة من هيولاها ، أو لا بمشاركة من [هيولاها (٣)] والأول باطل. وإلا لحصل للهيولى [تأثر بنوع ما (٤)] فيعود الأمر إلى ما ذكرناه من كون الشيء الواحد قابلا وفاعلا معا. وهو محال. والثاني باطل. لأن الصورة لو كانت غنية في فعلها عن الهيولى ، لكانت غنية في ذاتها عن الهيولى. لأن الموجودية فرع على الموجودية.

__________________

(١) الأذهان (م).

(٢) هذا اللزوم (م).

(٣) هذا الهيولي (م).

(٤) تأثير (ل).

٣٨٠