المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٧

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٧

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٥

السؤال الثاني : سلمنا أنه جسم. فلم لا يجوز أن يكون جسما كثيفا؟ قوله : «لو كان كذلك ، لوجب أن يراه كل أحد ممن له حس سليم» قلنا : هذه المسألة قوية ، سبق الاستقصاء فيها في كتاب «الحس والمحسوس».

السؤال الثالث : سلمنا أنه جسم. فلم لا يجوز أن يكون جسما لطيفا؟ قوله : «لو كان كذلك ، لتمزق وتفرق عند هبوب الرياح الشديدة».

قلنا : هاهنا احتمالات :

أحدها : لم لا يجوز أن يقال : إنها لطيفة. بمعنى أنها شفافة غير ملونة؟ فلا جرم لا تجب رؤيتها عند الحضور ، إلا أنها صلبة في ذواتها قوية في تركيبها ، فلا جرم تبقى مصونة عن التفرق والتمزق.

وثانيها : إن الإنسان. إما أن يكون عبارة عن النفس ، أو عن الجسم. فإن كان الأول فجوزوا مثله في الجن وسقطت هذه الشبهة. وإن كان الثاني ، فحينئذ يجب أن يقال : إنه جسم محفوظ باق من أول العمر إلى آخره ، في داخل هذا البدن المتفرق المتحلل. وبالطريق الذي عقلتم ذلك ، فاعقلوا مثله في بقاء الجن والشياطين مدة طويلة ، مع كونها كثيفة.

وثالثها : أليس أن من المتكلمين من قال : «الإنسان جزء لا يتجزأ في القلب ، وأما سائر أجزاء البدن ، فهي كالآلات» وعلى تقدير أن يكون الإنسان جسما ، فهذا القول أقوى الأقوال. فلم لا يجوز أن يكون الحال في الجن [والشياطين (١)] كذلك؟.

وأما الجواب عن الشبهة الثانية : فهو أن مراتب القدر مختلفة ، فلا يبعد أن يقال : إنهم وإن قدروا على الأفعال الشاقة ، إلا أنه لا قدرة لها على التصرف في أبدان البشر ، إلا بشرط خاص. وعند فقدان ذلك الشرط لا تحصل تلك القدرة.

الجواب عن الشبهة الثالثة : إن ما ذكرتموه معارض بوجه آخر. وهو أن

__________________

(١) سقط (طا) ، (ل).

٣٢١

الأنبياء عليهم‌السلام ، أطبقوا على إثبات الجن والشياطين. فالطعن في عدمهم (١) يوجب الطعن في نبوءة الأنبياء.

فإن قالوا : إذا كان القول بوجودهم ، يوجب الطعن في نبوتهم ، فالقول بعدمهم يوجب الطعن أيضا. فهذا الطعن لازم على كلا التقديرين. فنقول : لنا في إثبات النبوءة طريق عجيب نذكره في باب النبوات ، ولا يتوجه عليه شيء مما ذكرتموه.

وأما الجواب عن الشبهة الرابعة والخامسة : فإنهما من باب الإقناعيات الضعيفة. وكل من له عقل سليم ، أمكنه التقصي عنهما.

__________________

(١) وجودهم (م).

٣٢٢

الفصل الثاني

في

الطرق الدالة على إثبات الجن والشياطين

اعلم : أنا بينا : أنه لم يوجد دليل يدل على نفيهم (١) وفساد القول بهم. وظاهر أيضا : أنه لم يوجد دليل عقلي يوجب الجزم بوجودهم. فيبقى الكلام فيهم في حيز التوقف. إلا أنا رأينا الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ مطبقين على إثباتهم ، وعلى القول بوجودهم ـ وذلك حجة قوية من المقدمات المقبولة ـ ورأينا المعزمين مطبقين متفقين على وجودهم ، حتى وضعوا لكل رئيس من رؤسائهم : عزيمة معينة. وزعموا : أنهم ينتفعون بهم ، ويجدون منهم آثارا صالحة. ورأينا أكثر الزهاد وأرباب المجاهدات والمكاشفات ، يزعمون : أنهم شاهدوا الجن ، وتكلموا معهم. فإن اتفق لإنسان أن يعتبر هذه الأحوال ، ويشاهد شيئا منها ، فذاك هو البغية الأسنى ، والمقصد الأقصى.

ومن الناس من يحتج عليهم بوجوه أخرى :

الحجة الأولى : إن الإنسان إذا ألف الخلوة والوحدة ، واشتغل بالتصفية والرياضة ، وجد في نفسه ، كأن مناجيا يناجيه بكلمات مرتبة منظومة معلومة ، ورأى أشخاصا موصوفة بصور مخصوصة وصفات مخصوصة. فنقول : هذه الكلمات وهذه الأشخاص. إما أن تكون عدما محضا ونفيا صرفا ، وإما أن

__________________

(١) نفيها (م).

٣٢٣

تكون أمورا موجودة في الذهن والخيال ، وإما أن تكون أشياء موجودة في الأعيان كائنة في الجود. والقسمان الأولان باطلان ، فيبقى الثالث. وذلك هو الجن والشياطين. تناجيه وتناديه في سره وفي قلبه وباطنه.

وإنما قلنا : إن القول بأن تلك الكلمات الواردة في الخواطر ، وأن تلك الصور المشاهدة في الباطن ، يمتنع أن تكون عدما محضا ونفيا صرفا. وذلك لأنا نسمع تلك الحروف من القلب والباطن ، ونفهم معانيها ، ونميز بينها وبين غيرها. فلو (١) جاز القول بأنها مع اتصافها بهذه الصفات المعينة والخواص المعينة عدم محض ، ونفي صرف. لم يمتنع أيضا في كون هذه الصور المخصوصة (٢) بهذه الحواس (٣) كونها عدما محضا ونفيا صرفا. وكل ذلك باطل محال.

وأما القسم الثاني : وهو أنها موجودات في الأذهان ، لا في الأعيان. فهذا باطل قطعا. ويدل عليه وجهان (٤) :

الأول : إنا لو جوزنا أن تكون هذه الألفاظ المترتبة المتعاقبة ، وأن تكون هذه الصور المخصوصة المتميزة عما يغايرها ، بألوانها وأشكالها : موجودات في الأذهان لا في الأعيان ، فلنجز في هذه الصور [المحسوسة (٥)] : كونها كذلك. ويلزم منه السفسطة.

والثاني : إن محل هذه الصور. إما أن يكون جسما مخصوصا كدماغ أو قلب ، وإما أن يكون جوهرا مجردا. والأول باطل. [لأن الصور العظيمة يمتنع انطباعها في المحل الصغير. والثاني أيضا (٦) باطل]. لأن الجوهر المجرد لا يحصل فيه جوانب مختلفة ، ولا أجزاء متباينة. وإذا كان كذلك ، كانت الصورة

__________________

(١) فلو كانت عدما محضا مع اتفاقها بهذه ... إلخ (م).

(٢) المحسوسة (م).

(٣) الحواس (س) الخواص (ل).

(٤) وجوه [الأصل].

(٥) من (ل).

(٦) سقط (طا ، ل).

٣٢٤

المنطبعة فيه ، يمتنع أن يحصل فيها الجوانب المختلفة ، والأجزاء المتباينة بحسب الأحياز والجهات. وإذا كان كذلك ، كانت الصورة الحالة في الجوهر المجرد يمتنع أن يكون لها شكل ، وجوانب متميزة. بحسب الجهات. وإذا كان الأمر كذلك ، فكل ما كان موصوفا بهذه الصفات ، يمتنع حلوله في الجوهر المجرد. فثبت بهذا البيان الذي لخصناه : أن هذه الألفاظ الذهنية ، وهذه الصور المتخيلة ، إما أن تكون عدما محضا ، ونفيا صرفا. وإما أن تكون موجودات [إلا أنه لا وجود لها إلا في الأذهان. وإما أن تكون موجودات (١)] في الأعيان ، وثبت بطلان القسمين الأولين. فبقي القسم الثالث. وهو أنها أشخاص موجودة في الأعيان ، وأنها تتراءى للناس وتخاطبهم. ثم هاهنا دقيقة أخرى : وهي أنه كلما كان اشتغال الإنسان بالمحسوسات (٢) أكثر ، كانت تلك الخيالات أضعف. وكلما كان انقطاعه عن المحسوسات أكثر ، كان بقاؤه في الفكر والخلوة أكثر ، فكان ظهور هذه الأحوال أكثر. فهذا يقوى في العقل وفي الخواطر : أنه لا يزال يتزايد ذلك الظهور ، ويقوى ذلك التجلي ، حتى ينتهي إلى الانكشاف التام لتلك الأشخاص الروحانية. وهذا كلام قوي في هذا الباب.

الحجة الثانية : إن هذه الوساوس التي تخطر بالبال والكلمات التي تقع في القلوب ، لا بد لها من فاعل. وفاعلها. إما ذلك الإنسان ، وإما غيره. والأول باطل. لأن ذلك الإنسان قد يكون في غاية النفرة والكراهية لتلك الخواطر حتى إنه قد يحتال بالحيل الكثيرة في أن يدفعها عن نفسه فلا يقدر عليها البتة. وإذا كان كذلك ، امتنع أن يكون فاعلها هو هذا الإنسان ، فوجب أن يكون المتكلم بتلك الخواطر ، والناطق بها : فاعل آخر غير الإنسان ، وأن ذلك الفاعل يقدر على إيصال نطقه إلى باطن الإنسان. ولا نعني بالجن إلا هذا الفاعل.

__________________

(١) من (س ، ل).

(٢) كلما كان اشتغال الناس بالمحسوسات أقل ، وكان بقاؤهم في الفكر وفي الخلوة أكثر ، كان ظهور ... الخ (ل ، س).

٣٢٥

قالت الفلاسفة : «لم لا يجوز أن يكون فاعل تلك الكلمات ، وتلك الألفاظ : هو القوة المفكرة ، المنتقلة من صفة إلى صفة ، ومن حالة إلى حالة؟ ونقول : هذا الكلام طال عهد الإنسان بسماعه ولهذا السبب تمكن في قلوبهم».

وهو باطل قطعا ويدل عليه وجهان :

الأول : إنا بينا في المقالات المتقدمة : أن الموصوف بجميع أنواع الإدراكات [والمتصرف (١)] بجميع أنواع التصرفات [في هذا البدن يجب أن يكون شيئا (٢)] واحدا. وهو الإنسان. وإذا كان كذلك ، امتنع أن يقال : الفكر عمل شيئا آخر سوى الإنسان. لأنا قد دللنا على أن الإنسان لم يفعل هذه الألفاظ ، لأنه لا يريدها. بل يكرهها. فبطل هذا الكلام.

الثاني : إن هذا الذي سميتموه بالقوة المفكرة. إما أن يكون هو الإنسان ، وإما أن يكون صفة من صفاته وحالة من أحواله ، وإما أن يكون فاعلا مستقلا بنفسه ، قد تقدم على الأفعال باختيار نفسه. والأول باطل. لأنا بينا أن الإنسان لا يريد هذه الحالة. والثاني باطل. لأن الصفة القائمة بذات الإنسان ، لا يمكنها أن تقدم على فعل ، على خلاف إرادة الإنسان. ولما بطل هذان القسمان ، ثبت أن الفاعل لتلك الكلمات فاعلا آخر غير الإنسان ، وغير مجموع صفاته. فنقول : ذلك الفاعل لا يمكنه أن يأتي بتلك الكلمات ، إلا إذا كان عالما قادرا. فإنه إن لم يكن عالما بأحوال تلك الكلمات ، يمتنع منه القصد إلى تكوينها. لأن القصد إلى ما يكون معلوما محال. فذلك الفاعل عالم بحقائق الأشياء ، وقادر على تكوين تلك الكلمات. وهو شيء مغاير لذات الإنسان ، ولمجموع صفاته. فذلك الشيء إما أن يكون عرضا حالا في جسم ، وإما أن يكون جوهرا قائما بذاته. والأول باطل. لأن العلم الضروري حاصل بأن العرض القائم بالغير ، لا يكون حيا عالما قادرا فاعلا للأفعال الشاقة. ولما بطل

__________________

(١) سقط (م) ، (ط).

(٢) سقط (م) ، (ط).

٣٢٦

هذا ، ثبت أنه ذات قائمة بالنفس ، عالمة ، قادرة على الإتيان بأفعال على خلاف إرادة الإنسان ، وقادرة على إيصال تلك الكلمات إلى باطن قلب الإنسان. ولا نريد بالجن والشياطين إلا هذا. فنحن سميناه بهذا الاسم ، وأنتم سميتموه بالقوة المفكرة. فالنزاع ليس إلا في اللفظ. وأما المعنى فمتفق عليه. فهذا تمام الكلام في هذا الباب.

الحجة الثالثة : إن أصحاب التجارب قد جربوا عمل الترآبي (١) والصبيان يشاهدون حضور صور مخصوصة. والرجل يأمر الصبي ، حتى يسأل تلك الصور عن أمور مخفية ، وأحوال مكنونة. ثم إن ذلك الصبي يقول : إنهم قالوا : كذا وكذا. فإذا جرب ، وجد الأمر على وفق تلك الإنذارات. وذلك يدل على ما قلناه [والله أعلم (٢)].

__________________

(١) قد جربوا أعمالا ، والصبيان ... الخ (م).

(٢) سقط (م).

٣٢٧
٣٢٨

الفصل الثالث

في

البحث عن حقيقة الالهام

والوسوسة واستقصاء القول فيهما

اعلم : أن الأفعال الإنسانية لها مبادي ثلاثة ، مرتبة بعضها على بعض. فأعلاها وأبعدها عن وقوع الفعل : العلم والإدراك. وذلك لأنه ما لم يقع في قلبه : أن الفعل الفلاني راجح [النفع ، أو خالص النفع ، فإنه لا يفعله. وما لم يقع في قلبه أن الفعل الفلاني راجح الضرر (١)] أو خالص الضرر أو معادل الضرر ، فإنه لا يتركه. وقد بالغنا في تقرير هذه القاعدة في باب «الدواعي والصوارف» من هذا الكتاب. ولأجل أن الإنسان لا يفعل فعلا ، إلا لطلب الخير ، سمي هذا الفاعل فاعلا مختارا. والمرتبة الثانية ـ وهي المرتبة المتوسطة ـ أنه إذا حصل اعتقاد النفع الخالص أو الراجح ، ترتب عليه على سبيل اللزوم : حصول ميل قوي متأكد [في الفعل. وإذا حصل اعتقاد الضرر الخالص أو الراجح ترتب عليه على سبيل اللزوم حصول ميل قوي متأكد في الترك (٢)].

والمرتبة الثالثة ـ وهي المرتبة الأخيرة القريبة المتصلة بالفعل ـ أن الأعضاء إذا كانت سليمة قوية على الفعل والترك. فإذا انضم ذلك الميل المتعين إلى تلك القدرة القائمة بالعضو ، صار مجموع ذلك الميل وتلك القدرة : مؤثرا في حصول الفعل وهذا كلام ملخص معلوم قد سبق تقريره في باب الدواعي والصوارف».

__________________

(١) من (طا ، ل).

(٢) العبارة من (طا ، ل).

٣٢٩

وإذا ثبت هذا ، فنقول : وسوسة الشياطين وإلهام الملك. إما أن يقعا في المرتبة الأخيرة ، أو في المرتبة المتوسطة ، أو في المرتبة الأولى. لا جائز وقوعها في المرتبة الأخيرة ، لأن تأثير مجموع القدرة مع الميل في الفعل : أمر ضروري لازم. والواجب لذاته ، يمتنع أن يكون لغيره فيه أثر. ولا جائز أيضا أن يحصل للإلهام والوسوسة أثر في المرتبة المتوسطة. لأن تأثير اعتقاد أنه مشتمل على النفع الخالص أو الراجح في وجود إرادة الفعل : تأثير ذاتي ضروري [وكذلك تأثير اعتقاد أنه مشتمل على الضرر الخالص أو الراجح في وجود كراهية الفعل تأثير ضروري (١)] والأشياء الضرورية ، يمتنع أن يكون لغيرها فيها أثر. ولما بطل هذان القسمان ، تعين أن يكون تأثير الوسوسة والإلهام في المرتبة الأولى فقط مثل : أنه كان ناسيا [لما في المعصية الفلانية من اللذة والطيب والراحة ، فالشيطان يذكره بهذه الحالة. أو كان ناسيا لما (٢)] في الطاعة الفلانية من البهجة والسعادة والآثار التامة الكاملة ، فالملك يذكره ذلك.

ولما تلخص هذا البحث الشريف العالي ، ظهر بهذا صدق ما ورد في الكتاب الإلهي. حيث أخبر عن الشيطان أنه قال : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ ، إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ ، فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ، فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) (٣) وهذا بحث شريف في غاية الجلالة. ولما شرفنا الله بفضله ورحمته بالإرشاد إلى هذه الأسرار الروحانية. فلنفرع عليها ما يليق بها من التفاريع :

الفرع الأول : إن الشيطان لا يقوى على إلقاء الوسوسة ، إلا بإعانة من القوى المزاجية ، والقوى النفسانية. وذلك لأنا قد بينا : أن الناس مختلفون في الميل إلى بعض الأشياء ، والنفرة عن بعض الأشياء. فالذي يريده هذا ، يبغضه ذاك ، وبالعكس. وأقسام هذه الاختلافات بحسب الرغبة في المال والجاه ، وبحسب أقسام المطعومات والمشروبات والمنكوحات. والتفرجات : مختلفة غير مضبوطة. فإذا أراد الشيطان حمله على فعل من الأفعال القبيحة ،

__________________

(١) من (طا ، ل).

(٢) من (طا ، ل).

(٣) إبراهيم ٢٢.

٣٣٠

ذكره ما فيه من اللذات والراحات بما يميل طبعه إليه. وإذا أراد الملك منعه عنه ذكره ما فيه من المكروهات التي ينفر طبعه عنها.

والفرع الثاني : وهو أن أصحاب المكاشفات اضطربوا في ذكر الفرق المضبوط بين الخواطر الشيطانية ، وبين الخواطر الرحمانية (١) ، وطالت كلماتهم فيه. وأنا أقول : إنا قد بينا : أن السعادات العقلية المتعلقة بعالم المفارقات ، أكمل وأفضل من السعادات المتعلقة بعالم الجسمانيات. فكل ما دعاك إلى شيء من الروحانيات ، فهو الداعية الرحمانية ، وكل ما دعاك إلى شيء من لذات هذا العالم وخيراته ، فهو الداعية الشيطانية. إلا أن هاهنا مغلطة يجب التنبه لها. فإنه ربما ظن في الفعل في أول الأمر أنه من الداعية الرحمانية ، ولا يكون كذلك ، بل يكون من الداعية الشيطانية. وربما كان بالضد منه. ومثاله : أن من واظب على العلوم الحقيقية والزهد الخالص في الدنيا ، فهذا قد يظن به أنه داعية رحمانية ، لكن قد لا يكون الأمر كذلك ، وذلك إذا كان مقصوده من ذلك العلم المباهاة على الأقران ، وطلب الرئاسة في عالم الجسمانيات ، ومن واظب على ترك الالتفات إلى الأمور المعتبرة في العرف والعادة ، فهذا قد يظن به أنه داعية شيطانية. لكن قد لا يكون كذلك. إذا كان مقصوده منه : فطم النفس عن الالتفات إلى هذه الدنيا وطيباتها.

فيجب في كل فعل في القلب ميل إليه [أن ينظر فيه (٢)] فإن كان المقصود الأخير منه : التوجه إلى عالم الغيب فهو الداعية الرحمانية ، وإن كان المقصود منه رعاية مصلحة من مصالح هذا العالم الجسماني ، فهو الداعية الشيطانية. وهذه أبحاث عميقة ، ينتفع بها في الدين (٣) والدنيا. ونسأل الله [التوفيق (٤)] والخير والرحمة والكرم والنعمة.

__________________

(١) الروحانية (م).

(٢) زيادة.

(٣) الدنيا والآخرة (ل ، طا).

(٤) من (ل).

٣٣١
٣٣٢

المقالة الخامسة

في

تفاصيل الكلام في

الأرواح العالية الفلكية

٣٣٣
٣٣٤

الفصل الأول

في

اقامة الدلالة على أن

الأفلاك والكواكب : أحياء ناطقة

اعلم : أن أهل الظاهر إذا سمعوا هذا الكلام استبعدوه. وهذا الاستبعاد مستبعد منهم جدا. وذلك لأنهم يروون خبرا (١) عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : «إن الشمس عند الغروب ، يذهب بها ، إلى ما تحت العرش ، وعند الطلوع تسجد لله تعالى سجدة ، ثم تطلع» ومعلوم أن السجود لا يصح منها إلا إذا كانت عارفة بربها. وذلك يقتضي إثبات الحياة والقدرة والعلم ، فوجب بمقتضى هذا الخبر : كون الشمس حيوانا مطيعا لله عزوجل. وسنذكر في فصل مفرد : أن الآيات الكثيرة من القرآن تدل على أن الأمر كذلك. إذا عرفت هذا فنقول : اختلف أهل البحث والنظر فيه :

أما الفلاسفة : فقد أطبقوا على أن الأفلاك والكواكب : أحياء عاقلة.

__________________

(١) إن هذا الخبر تصوير لحالة خضوعها لله تعالى. ولا يدل على أن الأفلاك والكواكب : أحياء ناطقة. وإنما يدل على ما يدل عليه قوله تعالى : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ : ائْتِيا ـ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ـ قالَتا : أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت ١١] وقول الله تعالى لهما فيه وجهان. أحدهما : أنه قول تكلم به. والثاني : أنها قدرة منه ظهرت لهما ، فقامت القدرة مقام الكلام في بلوغ المراد «وقالتا : أتينا طائعين» فيه أيضا وجهان. أحدهما : أنه ظهور الطاعة منهما حيث انقادا وأجابا ، فقام مقام قولهما. والثاني : بل خلق الله فيهما الكلام ، فتكلمتا كما أراد تعالى [انظر تفسير القرطبي] والصحيح : أن نقول : ليست الأفلاك والكواكب أحياء ناطقة ، لتنتفي شبه العابدين للقمر والكواكب. فإنهم يدعون أن للقمر والكواكب حياة كحياة البشر ، وإذا كانت الآيات تحتمل أكثر من معنى ، فالمعنى المناسب لعظمة الله أحق بالقبول من غيره.

٣٣٥

وأما أهل الكلام فبالغوا في إنكاره.

والذي يدل على أن الأفلاك والكواكب أحياء عاقلة : وجوه بعضها برهانية ، وبعضها إقناعية وقد ذكرنا مرارا : أن هذه المطالب العالية الشريفة الرفيعة ، يجب أن يبالغ الإنسان في معرفتها بأي طريق كان ، سواء كان برهانيا أو إقناعيا.

الحجة الأولى : وهي الحجة الفلسفية القديمة ـ قالوا : ثبت إما بالحس وإما بالبرهان: أن الأفلاك والكواكب متحركة بالاستدارة ، وكل متحرك فحركته إما أن تكون طبيعية أو قسرية أو إرادية. والأولان باطلان ، فتعين الثالث. وذلك يقتضي كون الأفلاك أحياء. أما بيان الحصر : فهو أنه قد ثبت في باب خواص الواجب والممكن : أن كل جسم يصدر عنه أثر مخصوص ، لا بالقسر ولا بالعرض ، فإنه يجب أن يكون ذلك لقوة موجودة فيه ، تناسب ذلك الأثر. إذ لو لم يكن ذلك ، لكان حال ذلك الجسم بالنسبة إلى ذلك الأثر كحال سائر الأجسام بالنسبة إليه ، وكان ذلك التخصيص رجحانا لأحد طرفي الممكن المتساويين على الآخر ، لا لمرجح. وهو محال. فنقول : ذلك الأثر ، إذا لم يكن بالقسر ، فلا بد وأن يكون لقوة موجودة فيه. وتلك القوة إما أن يكون لها شعور بما صدر عنها ، وهي القوة الحيوانية الإرادية ، أو لا يكون لها شعور بذلك الأثر ، وهي القوة الطبيعية المحضة. وأما إذا صدر عنه ذلك الأثر بالقسر ، فهو الذي يكون بالقسر. فقد ثبت : أن كل جسم يختص بأثر ، فذلك الأثر إما أن يكون طبيعيا أو قسريا أو إراديا. وذلك يدل على صحة الحصر المذكور. وإنما قلنا : إنه يمتنع أن تكون حركة الفلك طبيعية ، لأن الحركة تقتضي إزالة حالة حاصلة. فتلك الحالة ، إما أن تكون طبيعية أو لا تكون ، فإن كانت طبيعية مع أنا فرضنا أن الطبيعية تقتضي إزالتها ، فحينئذ يلزم أن يكون وجود تلك الحالة [طبيعيا (١)] وأن يكون زوالها طبيعيا ، وذلك

__________________

(١) سقط (ل).

٣٣٦

يوجب الجمع بين النقيضين. وهو محال. فثبت : أن الطبيعة (١) لا توجب الحركة ، إلا عند حصول حالة منافرة للطبيعة. فلا جرم أن الطبيعة توجب إزالتها. وإذا كان كذلك ، فلو كانت حركة الفلك طبيعية [لكانت تلك الحركة هربا عن حالة منافرة بالطبع. وذلك محال لوجهين :

الأول : إنه لو كان الأمر كذلك (٢)] لكانت تلك الحركة مستقيمة. لأن الخط المستقيم أقصر من المستدير. ومتى أمكن اتصال الجسم إلى الحالة الطبيعية بالطريق الأسهل ، امتنع العدول إلى الطريق الأصعب. فثبت : أن كل حركة طبيعية ، فهي مستقيمة بالطبع. فينعكس انعكاس النقيض : أن ما لا يكون مستقيما ، لا يكون طبيعيا.

الثاني : إنه على التقدير الذي ذكرناه ، تكون الحركة هربا طبيعيا عن تلك الحالة ، والهرب الطبيعي عن الشيء يمتنع أن يكون عين الطلب الطبيعي لذلك الشيء ، لكن الحركة المستديرة عن النقطة المعينة ، عين الطلب لها ، فيمتنع كون الحركة المستديرة طبيعية. وإنما قلنا : إنه يمتنع كون الحركة الفلكية قسرية لوجوه :

الأول : إنه يمتنع انتهاء كل قسر إلى قسر آخر ، لغير نهاية ، بل يجب الانتهاء في هذه الحركة الدورية إلى ما لا يكون بالقسر.

والثاني : إن القسر لا يكون دائما ، ولا أكثريا. وهذه الحركة دائمة على نهج واحد.

الثالث : إن القسر هو الذي يكون على خلاف الطبيعة (٣) ولما ثبت أن حركات الأفلاك يمتنع كونها طبيعية ، ظهر أنه يمتنع أيضا كونها قسرية. فظهر بما ذكرنا : أن حركات الأفلاك إما أن تكون طبيعية أو قسرية [أو إرادية ويمتنع

__________________

(١) الطبيعية (ط).

(٢) سقط (م) ، (ط).

(٣) الطبع (م).

٣٣٧

كونها طبيعية أو قسرية (١)] فبقي أن تكون إرادية ، وهو المطلوب. فإن قيل : هذا الحصر ممنوع. ولم لا يجوز أن يقال : إن الله تعالى يحركها بقدرته ابتداء ، من غير اعتبار حال شيء من الوسائط والقوى؟ أما قوله : «لو لم يختص ذلك الجسم بخاصية ، لأجلها صار أولى بقبول الأثر الخاص ، وإلا لكان اختصاصه من بين سائر الأجسام ، بذلك الأثر المعين : رجحانا لأحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح. وهو محال» فنقول : كما أن ذلك الجسم اختص بذلك الأثر المعين ، فكذلك اختص بتلك القوة [المخصوصة التي جعلتموها مبدأ لذلك الأثر. فيلزم أن يكون اختصاص ذلك الجسم بتلك القوة (٢)] لأجل قوة أخرى. ويلزم إما الدور وإما التسلسل. وهو محال. وإن عقل أن يختص ذلك الجسم المعين بتلك القوة ، دون سائر الأجسام ودون سائر القوى ، لا لقوة أخرى. فلم لا يعقل مثله في اختصاص ذلك الجسم بذلك الأثر؟

السؤال الثاني : سلمنا الحصر. فلم لا يجوز أن يكون المحرك قوة طبيعية؟ قوله (٣) : «لأنه يقتضي كون الشيء الواحد مطلوبا مهروبا معا. وهو محال» قلنا : لا نسلم أن ذلك محال. ألا ترى أن الحجر حال نزوله يكون ثقله موجبا وصوله إلى نقطة معينة ، ثم عند وصول الحجر إليها ، ثقله يوجب انتقاله عنها. فتلك النقطة قد كانت مطلوبة لتلك الطبيعة. ثم إنها بعينها صار مهروبا عنها. فإذا كان هذا حاصلا في الحركة المستقيمة الواحدة ، فلم لا يجوز مثله في الحركة المستديرة؟ ثم نقول : هذا الذي الزمتموه في الحركة الطبيعة الواحدة ، قائم أيضا في الحركة الإرادية ، فإن الشيء كما أنه يمتنع أن يكون مطلوبا ومهروبا بحسب الطبيعة الواحدة ، فكذلك يمتنع أن يكون مطلوبا مهروبا بحسب الإرادة الواحدة. لأن الهرب الإرادي عن الشيء يمتنع أن يكون هو بعينه نفس الطلب الإرادي لذلك الشيء. فثبت : أن الإشكال الذي ذكرتموه في الطبيعة ، وارد عليكم في الإرادة.

__________________

(١) سقط (ل).

(٢) سقط (م) ، (ط).

(٣) أما قوله لأنه يقتضي (م).

٣٣٨

والجواب أن نقول : اختصاص جسم الفلك بالقوة المعينة ، إنما كان لأجل أن هيولى ذلك الفلك مخالفة بالماهية لهيوليات سائر الأفلاك. فتلك الهيولي لما هي هي ، ما كانت مستعدة إلا لتلك القوة المخصوصة. وبهذا الطريق حصل الاستغناء عن قوة أخرى. فإن قالوا : لم لا يجوز أن يكون المقتضى للحركة الفلكية هو تلك الهيولى ، من غير حاجة إلى إثبات قوة أخرى وطبيعية أخرى؟ فنقول : هب أن الأمر كذلك ، إلا أن تأثير تلك الهيولى في تلك الحركة ، إما أن يكون مع الشعور ، أو لا مع الشعور. فإن كان مع الشعور فهو الإرادة. وإن كان لا مع الشعور فهو الطبيعة. ويعود التقرير بتمامه كما تقدم.

وأما قوله : «إن في الحركة المستقيمة أيضا يقتضي كون النقطة الواحدة مطلوبة بالطبع ، ثم تصير متروكة بالطبع» قلنا : هذا بعيد لأن الحجر النازل حال كونه متوجها إلى نقطة واحدة معينة ، لم يكن توجهه إلى تلك النقطة عين هربه عنها [وحال وصول الحجر إلى تلك النقطة يصير هاربا عنها. وهو حال هربه عنها ، غير متوجه إليها (١)] فثبت : أن في الحركة المستقيمة : ليس التوجه إلى الشيء ، عين الهرب منه ، ولا كذلك بالعكس ، بل هو قبل وصوله إلى تلك النقطة ، يكون طالبا لها وغير هارب عنها ، وعند وصوله إليها يكون هاربا عنها ، وغير طالب لها. بخلاف الحركة المستديرة ، فإن بتقدير كونها طبيعية يكون [عين (٢)] الهرب عن تلك النقطة عين الطلب لتلك النقطة المعينة ، وحينئذ يلزم المحال. فظهر الفرق بين الصورتين.

وأما قوله : «ما ذكرتموه في الطبيعة ، فهو لازم عليكم في الإرادة» فنقول : الفرق بين الصورتين : أن الطبيعة قوة واحدة ، ولا يعرض (٣) لها اختلاف أحوال ، وتبدل اعتبارات ، بخلاف الإرادة ، فإنها تابعة لتصورات

__________________

(١) سقط (م).

(٢) سقط (ل).

(٣) ويعرض (ل).

٣٣٩

مختلفة. فإذا اختلفت تلك التصورات ، اختلفت تلك الإرادات. فظهر الفرق بين الصورتين. فهذا هو الحجة البرهانية في المسألة. وما سواها وجوه إقناعية. وما بها بأس.

الحجة الثانية : إنا رأينا أن أكثف الأجسام وأشدها ظلمة هو الأرض. فلا جرم كانت في غاية البعد عن قبول الحياة. فلما امتزجت بسائر العناصر ، حصل فيها نوع من اللطافة والاعتدال. وبسبب حصول ذلك القدر من اللطافة والاعتدال استعدت لقبول قوة الحياة. ثم إن الماء ألطف من الأرض ، فلا جرم صارت الطبيعة المائية ، أقرب إلى قبول الحياة من الطبيعة الأرضية. ولهذا السبب فإنه أينما حصل الماء وامتزج بالأرض ، تولد منه أنواع النبات وأنواع الحيوان.

وأما الهواء فإنه أرق من الماء وألطف منه ، فلذلك صار مادة للحياة ، حتى أن قوما ظنوا أنه لا معنى للروح والنفس إلا هذا الهواء المتردد.

وأما النار الصرفة البسيطة الجارية مجرى الحرارة الغريزية ، فلا شك أنها هي السبب الكامل لحصول الحياة. ولذلك قالت الأطباء : أن القوة الحيوانية والحرارة الغريزية متلازمتان. فهذا الاستقراء يدل على أن الجسم كلما صار أبعد عن الكثافة العنصرية ، وأقرب إلى اللطافة ، والحرارة المعتدلة : صار أولى بقبول الحياة. ومعلوم : أن الأجرام الفلكية في غاية اللطافة والشفافية ، والنور والاعتدال. فوجب أن تكون تلك الأجسام ، أولى الأجسام بقبول الحياة والإدراك.

الحجة الثالثة من الوجوه الإقناعية : إن النفس الحيوانية لها قوتان : قوة الحس ، والحركة الإرادية.

أما قوة الحس : فإنها تحصل بواسطة أجرام لطيفة نورانية ، تنزل من القلب والدماغ في الشرايين والأعصاب ، فتفيدها قوة الحس والحياة. فذلك

٣٤٠