المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٧

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٧

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٥

إدراك الكليات ، فهو العقل. ثم زعموا : أن الحس يدرك المحسوس ، مع مادته المعينة.

وأما الخيال فإنه يجرد بعض التجريد عن تلك المادة. ولذلك فإن تخيل الإنسان للأشياء ، لا يتوقف على حضورها في الأعيان. وأما العقل فإنه يجردها عن المادة تجريدا تاما.

واعلم : أن هذه كلمات مألوفة معهودة ، ولم يبحثوا عنها البتة. والبحث فيها من وجوه :

الأول : إن الصورة العقلية عرض شخصي ، حال في نفس شخصية. وتلك النفس قامت بها علوم كثيرة وميول وإرادات وأخلاق. فهذه الصورة العقلية مقارنة لها بأسرها ، ومصاحبة لها.

فكيف يمكن أن يقال : إنها صورة مجردة؟ فإن قالوا : [المراد من كونها مجردة أنه إذا حذفت عنها هذه المقارنات (١)] كانت مجردة. قلنا : فلم لا يقال (٢) أيضا : إن الصورة الحسية صورة مجردة بهذا التأويل.

الثاني : إن القول بإثبات الصور المجردة : قول متناقض. لأن كونها مجردة : قيد زائد على ماهياتها ، مقارن لها. فالقول بكونها مجردة يمنع من كونها مجردة.

الثالث : إنهم بينوا في المنطق : أن الكلي له أنواع خمسة : الجنس والفصل والنوع والخاصة والعرض العام.

أما الجنس والفصل فهما جزءا قوام الماهية. والعرض الحال في نفسي ، يمتنع كونه جزءا من قوام الماهية الموجودة في الخارج.

وأما النوع فهو الماهية ، والماهية الموجودة في الخارج ، كالفلك والشمس

__________________

(١) سقط (م) و ، (ط).

(٢) فلم قلتم إن (م).

٢٨١

والقمر : يمتنع أن تكون هي عين العرض الحال في نفسي ، أو أن يكون مساويا له.

وأما الخاصة والعرض العام فهما من الصفات القائمة بالماهيات الخارجية ، فيمتنع أن تكون تلك الصفات عين العرض الحال في نفسي. فثبت : أن القول بأن الصورة الحالة في النفس ماهية كلية مجردة : كلام ليس له البتة حقيقة ولا أصل. بل الحق : أن الحال في النفس: هو العلم بهذه الماهيات والشعور بها وهذا العلم عرض معين وصفة معينة حالة في نفس معينة في زمان معين فكان القول بأن تلك الصورة : صورة كلية مجردة : كلاما فارغا عن المعنى.

والتقسيم الثالث : أن نقول : الإبصار يتوقف على شرائط فكذا البصيرة.

والشرط الأول : [للإبصار (١)] أن لا يكون المبصر في غاية الجلاء. كالشمس. فإن البصر يتحير فيها لقوتها. ولا في غاية الخفاء. كالذرات ، ومراتب الممتزجات. وكذا المعقول إذا كان في غاية الجلاء مثل المفارقات. فإن العقل يعجز عن إدراكه. وإن كان في غاية الخفاء ، كمراتب الأنواع الأخيرة من الكيفيات البسيطة والمركبة ، فالعقول عاجزة عن الوقوف عليها بالتمام.

فأما المرتبة المتوسطة. وهي الكميات والكيفيات الظاهرة. فالعقول تقدر على الوصول إليها.

والشرط الثاني : إن المبصر إذا كان حاضرا ، فلما لم يحرك الإنسان حدقته من جانب إلى جانب ، تحريكات كثيرة : لم ير المبصر. فكذلك النفس الناطقة ، ما لم تحرك عينها الروحانية من معقول إلى معقول : لم تتمكن من الإبصار ، وتلك التحريكات هي المسماة بالفكر والروية ونظر العقل. وكما أن نظر العين عبارة عن تقليب الحدقة ، من جهة إلى جهة طلبا للرؤية فكذلك نظر العقل عبارة عن تقليب حدقة العقل (٢) من جانب إلى جانب طلبا لإدراك المعقول.

__________________

(١) مضيئة (م).

(٢) العين (ط).

٢٨٢

والشرط الثالث : إن القوة الباصرة لا يمكنها إدراك المبصرات ، إلا عند صيرورة الهواء مضيئا ، بسبب طلوع الأشياء النيرة. فكذلك العقل لا يقدر على الإبصار إلا عند طلوع النيرات الروحانية. ثم نيرات العالم الجسماني أربعة : الشمس والقمر والكواكب والنار. وأعظمها : الشمس ، ثم القمر ، ثم الكواكب ، ثم النار. فكذلك نيرات العالم الروحاني أربعة: المبدأ (١) الأول ـ تعالى وتقدس ـ وبعده الروح الأعظم ، الذي هو أشرف الأرواح المقدسة ، وبعده درجات الملائكة ، مثل : مراتب الكواكب ، وبعده العقل البشري وهو بمنزلة النار.

ومراتب الأرواح البشرية على نوعين : منها ما يكون إشراقها وقوتها بسبب التصفية وتطهير النفس عن غير الله تعالى ، وبعضها بسبب تركيب البراهين اليقينية. والأولون هم [الملائكة (٢)] والأنبياء والأولياء. والثاني هم الحكماء.

واعلم : أن نور العقل له عيوب (٣) كما أن النار لها عيوب.

فالأول : [إن نور النار ممزوج بدخان كثير يسود الثوب ، ويجفف الدماغ ، وكذلك نور العقل ممزوج بدخان الشبهات.

والثاني : إن نور النار فيه إشراق وإحراق ، وكذلك (٤)] نور العقل فيه إشراق ، وهو إذا وقع على الدلائل ، وإحراق إذا وقع على الشبهات.

والثالث : إن نور السراج ينطفئ بأدنى سبب ، وكذلك سراج العقل ينطفئ بأدنى شبهة.

والرابع : إن السراج إنما يضيء إذا وضع في بيت صغير ، وإما إذا وضع في صحراء واسعة فإنه يقل ضوؤه ، ويصير كالمظلم. وكذلك سراج العقل ،

__________________

(١) المدبر (م).

(٢) سقط (طا ، ل).

(٣) عيون (م).

(٤) سقط (م).

٢٨٣

إنما يظهر نوره إذا استعمل في المطالب الحقيرة ، كالحساب (١) والهندسة. فأما إذا استعمل (٢) في المطالب العالية ، فإنه ينطفئ. بل نقول : إن الروح لما طلب معرفة نفسه ، صار كالمنطفئ ، وحصلت له هذه الشبهات المشروحة في هذا الكتاب.

والخامس : ظهور نور السراج ، مشروط بأن يحصل بينه وبين قرص الشمس حائل. فإذا وضع في مقابلة قرص الشمس : انطفأ. وكذلك سراج العقل ، إذا وضع في مقابلة عالم الأرواح المطهرة : انطفأ.

والسادس : إن نور السراج وإن طال بقاؤه ، ولكنه بالآخرة ينطفئ. وإن قدرنا أنه يستمر ، لكنه إذا طلعت الشمس تبطل ضوءه. وكذلك نور سراج العقل. إما أن ينطفئ لطريان الغفلات والشبهات ، أو إن بقي إلى آخر العمر (٣) لكنه عند موت البدن تتجلى له من عالم الغيب أنوار ، لا يبقى لنور عقله في مقابلتها أثر.

__________________

(١) كالحسابيات والهندسيات (ل).

(٢) وضع (م).

(٣) الأمر (م).

٢٨٤

الفصل العشرون

في

نسبة الأعضاء والقوى إلى جوهر النفس

اعلم : أن الحكماء ذكروا في هذا الباب أمثلة كثيرة.

فالمثال الأول : هو أن جوهر النفس كالملك ، والبدن كالمملكة له. ولهذا الملك جندان: جند يرى بالبصر [وهو : الأعضاء الظاهرة والباطنة : وجند يرى بالبصيرة (١) وهو القوى المركوزة في تلك الأعضاء.

واعلم : أن لوجود هذه القوى معونة في تكميل مصالح النفس تارة ، وفي تكميل مصالح البدن أخرى.

أما النوع الأول من المعونة : فهو أن كمال النفس الناطقة في أن تعرف الحق لذاته ، والخير لأجل العمل به. لكن عمل الخير مشروط بتقدم العرفان ، ولكنها خلقت في أول الفطرة خالية عن معرفة أكثر الأشياء ، فأعطيت الحواس الظاهرة والباطنة ، حتى أن النفس إذا أحسست بالمحسوسات ، تنبهت لمشاركات بينها ، ومباينات. فيتميز عند الحس (٢) ما به حصلت المشاركة من الأشياء ، عما به حصلت المباينة بينها. ثم إن تلك الصور على قسمين:

منها : ما يكون مجرد تصوراتها ، موجبا جزم الذهن بإسناد بعضها إلى

__________________

(١) سقط (ل).

(٢) النفس (م).

٢٨٥

البعض ، بالنفي أو بالإثبات. ومنها : ما لا يكون كذلك. فالأول : هو البديهيات. والثاني : هو النظريات. فهذا بيان معونة الحواس ، في تكميل جوهر النفس. وأما معونتها في تكميل جوهر البدن فهو أنا بينا : أن البدن حار رطب ، فيكون أبدا في التحلل والذبول. ولهذا السبب يحتاج إلى إيراد بدل ما تحلل عنه ، ولا بد من التميز بين ما يكون ملائما ، وبين ما يكون منافيا. فهذا البيان معونة الحواس في تكميل جوهر البدن.

واعلم : أن السعي في إصلاح مهمات البدن ، يفيد السعي في إصلاح مهمات جوهر النفس إنما دخلت هذا (١) العالم الجسماني ، لتكتسب العلم النافع والعمل الصالح. لكن آلة النفس في هذا الكسب هو هذا البدن ، وما لم تكن الآلة صالحة لم يقدر المكتسب على الاكتساب بها. فثبت : أن الاشتغال بإصلاح مهمات البدن ، سعي في إصلاح مهمات النفس.

المثال الثاني : قالوا : القلب في البدن يشبه الوالي في مملكته ، وقواه وجوارحه بمنزلة الصناع ، والقوة العقلية المفكرة كالمشير الناصح ، والشهوة كالعبد (٢) الذي يجلب الطعام إلى المدينة ، والغضب كصاحب الشرطة. ثم إن الشهوة التي كالعبد الجالب للطعام إلى المدينة قد يكون خبيثا مكارا ، مخادعا ، يتمثل بصورة الناصح ، إلا أن تحت نصحه : كل شر هائل ، وسم قاتل ، وتكون عادته منازعة الوزير الناصح ، في كل تدبير يدبره.

وكما أنه يجب على الملك العاقل ، أن يسلط وزيره الناصح ، على عبده الجالب للطعام ، وعلى صاحب الشرطة ، وأن لا يلتفت إلى تخليطهما في حق الوزير ، ليستقيم أمر المدينة. فكذلك النفس الناطقة متى استعانت بنور العقل ، واستضاءت بضوء العلم والحكمة ، وجعلت الشهوة والغضب مقهورين ، استقام أمر هذه الحياة الجسمانية. ومن عدل عن هذه الطريقة ،

__________________

(١) على (ل).

(٢) والشهوة كالذي يجلب (ل).

٢٨٦

كان كمن قال الله في حقه : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) (١).

المثال الثالث : البدن كالمدينة ، والنفس الناطقة كالملك ، والحواس الظاهرة والباطنة كالجنود ، والأعضاء كالرعية ، والشهوة والغضب كعدو ينازعه في مملكته ، ويسعى في إهلاك رعيته. فإن قصد الملك قهر ذلك العدو ، استقامت المملكة ، وارتفعت الخصومة. وإن لم ينازع عدوه ضيع مملكته ، واحتلت بلدته ، وصارت عاقبة أمره إلى الهلاك.

المثال الرابع : مثل النفس الناطقة ، مثل : فارس ركب لأجل الصيد. فشهوته فرسه ، وغضبه كلبه. فإن كان الفارس حاذقا ، وفرسه مرتاضا منقادا ، وكلبه معلما ، كان جديرا بالنجح. ومتى كان هو في نفسه أخرق ، وكان الفرس في نفسه جموحا ، والكلب غير معلم (٢) فلا فرسه تنبعث تحته على حسب إرادته ، ولا كلبه يسترسل بإشارته. فهو خليق بأن يعطب ، فضلا عن أن ينال ذلك الذي طلب.

المثال الخامس : اعلم : أن هذا البدن يشبه الدار الكاملة ، التي بنيت ، وأكملت بيوتها وخزائنها ، وأقيمت أبوابها ، وأعد فيها كل ما يحتاج إليه صاحب الدار.

أ ـ فالرأس كالغرفة في أعلا الدار. ب ـ والثقب في الرأس كالروازن في غرفة الدار. ج ـ ووسط دماغه كالأبواب في الدار. د ـ والفم كباب الغرفة. ه ـ والأنف كالطاق الذي فوق باب الدار. و ـ والشفتان كمصراعي الباب. ز ـ والأسنان كالبوابين. ح ـ واللسان كالحاجب. ط ـ والظهر كالجدار القوي ، الذي هو حصن الدار. ى ـ والوجه كصدر الدار. يا ـ والرئة التي هي الجاذبة للنفس البارد كالبيت الصيفي. يب ـ وجريان النفس فيها ، كالهواء الذي يجري في البيت الصيفي. يج ـ والقلب مع حرارته الغريزية كالبيت الشتوي. يد ـ وبيت المعدة مع نضج الغذاء فيها كالمطبخ. يه ـ والكبد مع حصول الدم فيها

__________________

(١) الجاثية ٢٣.

(٢) عقورا (م).

٢٨٧

كبيت الشراب. يو ـ والعروق التي يجري فيها الدم كمسالك الدار. يز ـ والطحال بما فيه من السوداء كالخوابي التي تصب فيها الدرديات. يح ـ والمرارة بما فيها من الصفراء الحادة كبيت السلاح. يط ـ والأمعاء بما فيها من ثقل الطعام كبيت الخلاء. ك ـ والمثانة بما فيها من البول كبيت البئر. كافي ـ والسبيلان في أسفل البدن كالمواضع التي تخرج منها القاذورات من الدار. كب ـ والرجلان كالمركوب المطيع. كج ـ والعظام مع بناء الجسد عليها كالخشب التي عليها بناء الدار. كد ـ واللحم في خلال العظام كالطين. كه ـ والعصب الذي ربط بعض العظام ببعض كالرسن الذي تربط به بعض الأشياء من بعض. كو ـ والتجويفات في جوف العظام كالصناديق في الدار. كز ـ والمخ فيها كالجواهر والأمتعة المخزونة في الصناديق.

فهذا ما يتعلق ببيوت هذه الدار.

ثم إن النفس الناطقة في هذه الدار ، كالملك [المتصرف (١)] فيبصر بالعين ، ويسمع بالأذن ويشم بالمنخرين ، ويذوق باللسان وينطق أيضا باللسان ويلمس باليدين ، ويعمل الصنائع بالأصابع ، ويمشي بالرجلين ، ويبرك على الركبتين ، ويقعد على الأليتين وينام على الجنبين ويستند بالظهر ويحمل الأثقال على الكتفين ، ويتخيل بمقدم الدماغ ويتفكر بوسط الدماغ ، ويتذكر بمؤخر الدماغ ، ويصوت بالحنجرة ، ويستنشق الهواء بالخيشوم ، ويمضغ بالأسنان ، ويبتلع بالمريء.

والمقصود من كل هذه الآلات : والأدوات : أن يكتسب حلية العلم ، وتصير هذه النفس منتقشة ، بنقش عالم الملكوت ، متحلية بحلية اللاهوت [الحي الذي لا يموت (٢)] [والله أعلم (٣)].

__________________

(١) سقط من (م).

(٢) من (م).

(٣) سقط (م).

٢٨٨

الفصل الحادي والعشرون

في

تعديد خواص النفس الانسانية

ونحن نذكر منها ستة (١) :

النوع الأول من الخواص : النطق. وفيه أبحاث :

البحث الأول : إن الإنسان الواحد ، لو لم يكن في الوجود إلا هو. وإلا الأمور الموجودة في الطبيعة ، لهلك أو ساءت معيشته. بل الإنسان محتاج إلى أمور أزيد مما في الطبيعة. مثل : الغذاء المعمول. فإن الأغذية الطبيعية لا تلائم الإنسان ، والملابس أيضا لا تصلح للإنسان ، إلا بعد صيرورتها صناعية. فلذلك يحتاج الإنسان إلى جملة من الصناعات. حتى تنتظم أسباب معيشته. والإنسان الواحد لا يمكنه القيام بمجموع تلك الصناعات ، بل لا بد من المشاركة ، حتى يخبز هذا لذاك ، وينتج ذاك لهذا.

فلهذه الأسباب احتاج الإنسان ، إلى أن تكون له قدرة على أن يعرف الآخر الذي هو شريكه ما في نفسه ، بعلامة وضعية. وهي أقسام :

فالأول : وهو أصلحها وأشرفها : الأصوات المركبة. والسبب في شرفها : أن بدن الإنسان لا يتم ولا يكمل إلا بالقلب ، الذي هو معدن الحرارة الغريزية. ولا بد من وصول النسيم البارد إليه ساعة بعد ساعة حتى يبقى

__________________

(١) عشرة. القسم الأول ... إلخ [الأصل].

٢٨٩

على اعتداله ولا يحترق. فخلقت آلات في بدنه ، بحيث يقدر الإنسان بها على الغريزية. ولا بد من وصول النسيم البارد إليه ساعة بعد ساعة ، حتى يبقى استدخال النسيم البارد في قلبه. فإذا مكث ذلك النسيم لحظة ، تسخن وفسد ، فوجب إخراجه. فالصانع الحكيم جعل النفس الخارج سببا لحدوث [الخروق (١) فلا جرم سهل تحصيل (٢)] الصوت بهذا الطريق.

ثم إن الصوت يسهل تقطيعه في المحابس (٣) المختلفة ، فحصلت هيآت مخصوصة ، بسبب تقطيع ذلك الصوت في تلك المحابس (٤) وتلك الهيئات المخصوصة هي الحروف فحصلت الحروف والأصوات بهذا الطريق [ثم ركبوا الحروف (٥)] فحصلت الكلمات بهذا الطريق ثم جعلوا كل كلمة مخصوصة ، معرفة لكل معنى مخصوص. فلا جرم صار تعريف المعاني [المخصوصة بهذا الطريق (٦)] في غاية السهولة. من وجوه :

الأول : إن إدخالها في الوجود في غاية السهولة.

والثاني : إن تكوّن الكلمات الكثيرة الواقعة في مقابلة المعلومات الكثيرة في غاية السهولة.

الثالث : إنه عند الحاجة إلى التعريف ، تدخل في الوجود ، وعند الاستغناء عن ذكرها تعدم. لأن الأصوات لا تبقى.

والقسم الثاني من طرق التعريف : الإشارة [إلا أن النطق أفضل من الإشارة لوجوه (٧)].

__________________

(١) الحروف (ط).

(٢) سقط (س ، ل ، طا).

(٣) المخارج فحصلت (م).

(٤) المخانق (م).

(٥) سقط (ط).

(٦) سقط (ط).

(٧) سقط (ط).

٢٩٠

الأول : إن الإشارة لا تتناول إلا المرئي الحاضر. وأما النطق فإنه يتناول المعدوم ، ويتناول ما لا تصلح الإشارة إليه. ويتناول ما تصح الإشارة إليه أيضا.

والثاني : إن الإشارة عبارة عن تحريك الحدقة إلى جانب معين. فالإشارة نوع واحد أو نوعان. فلا تصلح لتعريف الأشياء المختلفة ، بخلاف النطق. فإن الأصوات والحروف البسيطة والمركبة كثيرة.

والثالث : (١) إنه إذا كانت الأصوات والحروف إشارة إلى شيء ، فلا بد أن ذلك الشيء قامت به صفات كثيرة ، فلا يعرف بسبب تلك الإشارة : أن المراد تعريف الذات وحدها ، أو الصفة الثانية (٢) أو الصفة الثالثة. أو الرابعة ، أو المجموع؟ أما النطق فإنه واف بتعريف كل واحدة من هذه الأحوال بعينها.

والقسم الثالث : الكتابة. وظاهر أن المئونة في إدخالها في الوجود صعبة ، ومع ذلك فإنها مفرعة عن النطق. وذلك لأنا لو افتقرنا إلى أن نضع لتعريف كل معنى من المعاني البسيطة والمركبة : نقشا ، لافتقرنا إلى حفظ نقوش غير متناهية ، وذلك غير ممكن. فدبروا فيه طريقا لطيفا : وهو أنهم وضعوا بإزاء كل واحد من الحروف النطقية البسيطة نقشا خاصا. ثم جعلوا النقوش المركبة في مقابلة الحروف المركبة. فسهلت المئونة في الكتابة بهذا الطريق. إلا أن على هذا التقدير صارت الكتابة مفرعة على النطق ، إلا أنه حصل في الكتابة منفعة عظيمة. وهي أن عقل الإنسان الواحد يفي باستنباط العلوم الكثيرة. فالإنسان الواحد إذا استنبط مقدارا من العلم ، وأثبته في الكتاب بواسطة الكتابة ، فإذا جاء بعده إنسان آخر ، ووقف عليه ، قدر على استنباط أشياء أخر زائدة على

__________________

(١) عبارة غير (م) والثالث : إنه إذا أشار إلى شيء. فذلك الشيء ذات ، قامت بها صفات كثيرة ، فلا يعرف ... إلخ.

(٢) الفلانية (طا ، ل).

٢٩١

ذلك الأول. فظهر أن العلوم إنما كثرت بإعانة الكتبة. فلهذا قال عليه‌السلام : «قيدوا العلم بالكتابة» فهذا بيان طريقة (١) النطق ، والإشارة ، والكتابة.

البحث الثاني فيما يتعلق بهذا الباب : إن المشهور أن يقال في حد الإنسان : إنه حيوان ناطق. فقال بعضهم : إن هذا التعريف باطل ، طردا وعكسا.

أما الطرد فلأن بعض الحيوان ينطق (٢) وأما العكس فهو أن بعض الناس لا ينطق ، ولما أجيب عنه : بأن المراد منه : النطق العقلي ، لم يذكروا لهذا النطق العقلي تفسيرا ملخصا. ونقول : الحيوان (٣) نوعان :

منه ما إذا عرف شيئا ، فإنه لا يقدر على أن يعرف غيره ، حال نفسه. مثل : البهائم وغيرها. فإنها إذا وجدت من أنفسها أحوالا مخصوصة. فإنها لا تقدر على أن تعرف غيرها تلك الأحوال. وأما الإنسان فإنه إذا وجد من نفسه حالة مخصوصة ، قدر على أن يعرف غيره تلك الحالة الموجودة في نفسه. فالناطق الذي جعل فصلا مقوما ، هو هذا المعنى. والسبب فيه : إنا بينا : أن أكمل طرق التعريف هو النطق ، المعبر (٤) عن هذه القدرة بأكمل الطرق الدالة عليها. وبهذا [الطريق (٥) و] التقدير ، فإن تلك السؤالات لا تتوجه [والله أعلم (٦)].

البحث الثالث (٧) : إن هذه الألفاظ والكلمات ، لها أسماء كثيرة :

فالأول : اللفظ وفيه وجهان :

__________________

(١) حقيقة : غير (م).

(٢) قد ينطق (م).

(٣) الجواب (م ، ط).

(٤) فعبر (م ، ط).

(٥) من (طا ، ل).

(٦) من (طا ، ل).

(٧) الرابع (م).

٢٩٢

أحدهما : إن هذه الألفاظ. إنما تولدت بسبب أن ذلك الإنسان ، لفظ ذلك الهواء من حلقه. ولما كان سبب حدوث هذه الأصوات ، هو لفظ ذلك الهواء ، لا جرم سميناه باللفظ.

والثاني : إن تلك المعاني كانت كامنة [في قلب ذلك الإنسان فلما ذكر هذه الألفاظ صارت تلك المعاني الكامنة (١)] معلومة فكأن ذلك الإنسان لفظها من الداخل إلى الخارج.

والاسم الثاني : الكلام. واشتقاق هذه اللفظة من الكلم ، وهو الجرح. والسبب فيه: أن الإنسان إذا سمع [تلك (٢)] اللفظة ، فقد تأثر حسه بسماعها ، وتأثر عقله بفهم معناها. فلهذا السبب سمي بالكلمة (٣).

والاسم الثالث : العبارة. وهي مأخوذة من العبور والمجاوزة. وفيه وجهان :

الأول : إن ذلك النفس لما خرج منه ، فكأنه جاوزه وعبر عليه.

والثاني : إن ذلك المعنى عبر من القائل ، إلى فهم المستمع.

الاسم الرابع : القول. وهذا التركيب يفيد الشدة والقوة. ولا شك أن تلك اللفظة لها قوة. إما بسبب خروجها إلى الخارج ، وإما بسبب أنها تقوى على التأثير في السمع ، وعلى التأثير في العقل [والله أعلم (٤)].

النوع الثاني من خواص الإنسان : قدرته على استنباط الصنائع العجيبة ولهذه القدرة : مبدأ ، وآلة.

أما المبدأ : فهو الخيال القادر على تركيب الصور بعضها بالبعض.

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) من (ل).

(٣) فلأجل هذا المعنى سمي بالكلام (م).

(٤) من (طا ، ل).

٢٩٣

وأما الآلة : فهي البدن. وقد سماها الحكيم «أرسطاطاليس (١)» الآلة المباحة. وسنذكر تفسير هذه اللفظة في علم التشريح. إن شاء الله. وقد يحصل ما يشبه هذه الحالة للحيوانات الأخس (٢) كالنحل. في بناء البيوت المسدسة ، إلا أن ذلك لا يصدر عن استنباط وقياس ، بل عن إلهام وتسخير ، ولذلك لا تختلف ولا تتنوع. هكذا قاله الشيخ. وهو منقوض بالحركة الفلكية. وسنفرد لهذا البحث فصلا على الاستقصاء.

النوع الثالث من خواص الإنسان : الأعراض النفسانية المختلفة (٣) وهي على أقسام :

فأحدها : أنه إذا رأى شيئا لم يعرف سببه ، حصل له حالة مخصوصة في نفسه ، سماها بالتعجب.

وثانيها : إنه إذا أحس بحصول الملائم ، حصلت له حالة مخصوصة [تتبعها أحوال جسمانية. وهي : تمدد في عضلات الوجه ، مع أصوات مخصوصة (٤)] وهي : الضحك. وإن أحس بحصول المنافي والمؤذي ، حزن. فانعصر دم قلبه في الداخل ، فينعصر أيضا دماغه ، وتنفصل عنه قطرات من الماء. ويخرج من العين ما يسمى بالبكاء (٥)

وثالثها : ان الإنسان إذا اعتقد في غيره ، أنه اعتقد فيه أنه أقدم على شيء من القبائح ، حصلت حالة مخصوصة تسمى بالخجل.

ورابعها : إنه إذا اعتقد في فعل مخصوص أنه قبيح ، فامتنع عنه لقبحه ، حصلت هناك حالة مخصوصة وهي الحياء.

__________________

(١) أرسطو (م).

(٢) الأخس (ط). الآخر (م ، وغيرها).

(٣) النفسانية الإنسانية المختلفة (طا).

(٤) سقط (ط).

(٥) وتخرج من العين. وهي البكاء.

٢٩٤

وبالجملة : فاستقصاء القول في [تعديد (١)] الأحوال النفسانية : مذكور في باب الكيفيات النفسانية.

والنوع الرابع من خواص الإنسان : الحكم بحسن بعض الأشياء ، وقبح بعضها إما لأن صريح العقل يوجب ذلك عند من يقول به ، وإما لأجل أن المصلحة الحاصلة بسبب المشاركة الإنسانية ، اقتضت تقريرها ، لتبقى مصالح العالم مرعية. وأما سائر الحيوانات ، فإنها إن تركت بعض الأشياء مثل الأسد [المعلم (٢)] فإنه لا يفترس صاحبه. وليس ذلك مشابها للحالة الحاصلة للإنسان ، بل هيئة أخرى. لأن كل حيوان فإنه يحب بالطبع كل من ينفعه. فلهذا السبب يكون الشخص الذي يطعمه محبوبا عنده ، فيصير ذلك مانعا له عن افتراسه.

والنوع الخامس من خواص الإنسان : تذكر الأمور الماضية قيل : إن هذه الحالة لا تحصل لسائر الحيوانات. والجزم في هذا الباب ـ بالنفي والإثبات ـ مشكل.

والنوع السادس : الفكر والروية وهذا الفكر على نوعين : أحدهما : أن يتفكر لأجل أن يعرف حالة في نفسه ـ وهذا النوع من الفكر : ممكن في الماضي والمستقبل والحاضر ـ والنوع الثاني : التفكر في كيفية إيجاده وتكوينه. وهذا النوع من الفكر لا يمكن في الواجب والممتنع ، وإنما يمكن في الممكن. ثم لا يمكن في الممكن الماضي ، والحاضر وإنما يمكن في الممكن الاستقبالي. وإذا حكمت هذه القوة ، تبع حكمها حصول الإرادة الجازمة ، ويتبعها تأثير القوة والقدرة في تحريك البدن.

وهل لشيء من الحيوانات [إدراك (٣)] شيء من الكليات؟ المشهور :

__________________

(١) تقرير هذه (م).

(٢) سقط (طا ، ل).

(٣) سقط (ل).

٢٩٥

إنكاره. وفيه موضع بحث. فإنها راغبة في كل ما يكون لذيذا عندها ، نافرة عن كل ما يكون مؤلما عندها. فوجب أن يتقرر عندها : أن كل لذيذ مطلوب ، وأن كل مؤلم مكروه. وأجيب عنه : بأن رغبتها إنما تكون في هذا اللذيذ. فكل لذيذ حضر عندها فإنها ترغب فيه ، من حيث إنه ذلك الشيء. فأما أن تعتقد أن كل لذيذ ، فهو مطلوب. فهذا ليس عندها.

واعلم : أن الحكم في هذه الأشياء بالنفي والإثبات : حكم على الغيب. والعلم بها ليس إلا لله العلي العليم (١).

__________________

(١) سبحانه وتعالى وتقدس (م ، ط).

٢٩٦

الفصل الثاني والعشرون

في

بيان أن اللذات العقلية

أشرف وأكمل من اللذات الحسية

اعلم (١) أن الغالب على الطباع العامية : [الحكم (٢)] بأن أقوى اللذات ، وأكمل السعادات : لذة المطعم والمنكح. ولذلك فإن جمهور الناس لا يعبدون الله تعالى إلا ليجدوا المطاعم اللذيذة في الآخرة ، وإلا ليجدوا المناكح الشهية [هناك (٣)].

وهذا القول مرذول عند المحققين من أهل الحكمة ، وأرباب الرياضة. ويدل عليه وجوه :

الحجة الأولى : لو كانت سعادة الإنسان متعلقة بقضاء الشهوة ، وإمضاء الغضب. لكان الحيوان الذي يكون هو أقوى في هذا الباب من الإنسان : أشرف منه. لكن الجمل أكثر أكلا من الناس ، والذئب أقوى في الإيذاء من الإنسان. والعصفور أقوى على السفاد من الإنسان ، فوجب كون هذه الأشياء أشرف من الإنسان. لكن التالي معلوم البطلان بالضرورة ، فوجب الجزم بأن سعادة الإنسان غير متعلقة بهذه الأمور.

الحجة الثانية : كل شيء يكون سببا لحصول الكمال والسعادة. فكل ما

__________________

(١) في (ل) عنوان الفصل هو : في بيان أن اللذات الحسية ليست من الكمالات.

(٢) سقط (طا ، ل).

(٣) من (ل).

٢٩٧

كان ذلك الشيء أكثر حصولا ، كانت السعادة [والكمال (١)] أكثر حصولا. فلو كان قضاء شهوة البطن والفرج سببا لكمال حال الإنسان ولسعادته ، لكان الإنسان كلما كان أكثر اشتغالا بقضاء شهوة البطن والفرج ، وأكثر استغراقا فيه ، كان أعلى درجة وأكمل فضيلة. لكن التالي باطل. لأن الإنسان الذي جعل عمره وقفا على الأكل والشرب والسفاد، يعد من البهائم ، ويقضي عليه بالدناءة والخساسة. وكل ذلك يدل على أن الاشتغال بقضاء هاتين الشهوتين ، ليس من باب السعادات والكمالات ، بل من باب دفع الحاجات والآفات.

الحجة الثالثة : إن الإنسان يشاركه في [لذة (٢)] الأكل والشرب ، جميع الحيوانات الخسيسة. فإنه كما أن الإنسان يلتذ بأكل السكر ، فكذلك يلتذ الجعل بأكل السرجين (٣) فلو كانت هذه اللذات البدنية ، هي السعادة الكبرى للإنسان ، لوجب أن لا يكون للإنسان فضيلة على هذه الحيوانات [الخسيسة ، بل نزيد فنقول : لو كانت سعادة الإنسان متعلقة بهذه اللذات الحسية ، لوجب أن يكون الإنسان أخس الحيوانات (٤)] والتالي باطل ، فالمقدم مثله.

وبيان وجه الملازمة : أن الحيوانات الخسيسة مشاركة للإنسان في هذه اللذات الحسية البدنية ، إلا أن الإنسان تنتقص عليه هذه المطالب بسبب العقل. فإن العقل سمي عقلا ، لكونه عقالا له ، وحبسا له عن أكثر ما يشتهيه ، ويميل طبعه إليه. فإذا كان التقدير أن كمال السعادة ليس إلا في هذه اللذات الحسية. ثم بينا : أن هذه اللذات الحسية حاصلة على سبيل التمام [والكمال (٥)] للبهائم والسباع من غير أن يكون الإنسان أخس الحيوانات. ولما كان هذا معلوم الفساد بالبديهة ، ثبت : أن هذه اللذات الحسية ، ليست موجبة للبهجة والسعادة.

__________________

(١) سقط (طا) ، (ل).

(٢) سقط (ل).

(٣) فكذلك الجمل يلتذ بتناول السرقين (طا ، ل). وفي (ل) تعليق في الهامش وهو : «لعله البرسيم».

(٤) من (طا ، ل).

(٥) سقط (طا).

٢٩٨

الحجة الرابعة : إن هذه اللذات الحسية ، إذا بحث عنها ، فهي في الحقيقة ليست لذات. بل حاصلها يرجع إلى دفع الآلام.

والدليل عليه : أن الإنسان كلما كان أكثر جوعا ، كان التذاذه بالأكل أكمل ، وكلما كان الجوع أقل ، كان التذاذه بالأكل أقل. وأيضا : إذا طال عهد الإنسان بالوقوع ، اجتمع المني الكثير في أوعية المني ، فحصلت في تلك الأوعية دغدغة (١) شديدة ، وتمدد وثقل ، وكلما كانت هذه الأحوال المؤذية أكثر ، كانت اللذة الحاصلة عند اندفاع ذلك المني أقوى. ولهذا السبب فإن لذة الوقاع في حق من طال عهده الوقاع ، تكون أكمل منها في حق من قرب عهده به. فثبت : أن هذه الأحوال ، التي يظن أنها لذات جسمانية ، فهي في الحقيقة ليست إلا دفع الآلام. وهكذا القول في اللذة الحاصلة بسبب لبس الثياب ، فإنه لا حاصل لتلك اللذة ، إلا دفع ألم الحر والبرد. وإذا ثبت أنه لا حاصل لهذه اللذات ، إلا دفع الآلام. فنقول : ظهر أنه ليس فيها سعادة. لأن الحالة السابقة هي حصول الألم ، والحالة الحاضرة عدم الألم. وهذا العدم كان حاصلا عند العدم الأصلي. فثبت : أن هذه الأحوال ليست سعادات ولا كمالات البتة.

الحجة الخامسة : إن الإنسان من حيث يأكل ويشرب ويجامع ويؤذي ، يشارك سائر الحيوانات. وإنما يمتاز عنها بالإنسانية ، وهي مانعة من تكميل تلك الأحوال ، وموجبة لنقصانها ولتقليلها. فلو كانت هذه الأحوال عين السعادة ، لكان الإنسان من حيث إنه إنسان ، ناقصا شقيا خسيسا. ولما حكمت البديهة بفساد هذا التالي ، ثبت فساد المقدم.

الحجة السادسة : إن العلم الضروري حاصل بأن بهجة الملائكة وسعاداتها أكمل وأشرف من بهجة الحمار وسعادته. ومن بهجة الديدان والذبان وسائر الحشرات. ثم لا نزاع : أن الملائكة ليس لها لذة الأكل والشرب

__________________

(١) دعدعة (ط).

٢٩٩

والوقاع. وهذه الحيوانات الخسيسة حصلت لها هذه اللذات. فلو كانت السعادة القصوى ، ليست إلا هذه اللذات ، لزم كون هذه الحيوانات الخسيسة أعلى حالا ، وأكمل درجة من الملائكة المقربين. ولما كان هذا التالي باطلا ، كان المقدم مثله. بل هاهنا ما هو أعلى وأقوى مما ذكرنا. وهو أنه لا نسبة لكمال واجب الوجود [وجلاله وشرفه (١)] وعزته إلى أحوال غيره ، مع أن هذه اللذات الخسيسة ممتنعة عليه. فثبت : إن الكمال والشرف قد يحصلان بأحوال سوى هذه اللذات الجسمية.

فإن قالوا : ذلك الكمال ، لأجل حصول الإلهية. وذلك في حق الخلق محال ، فنقول: لا نزاع : في أن حصول الإلهية في حق الخلق محال ، إلا أنه عليه‌السلام قال : «تخلقوا بأخلاق الله» والفلاسفة قالوا : «الفلسفة عبارة عن التشبه بالإله ، بقدر الطاقة البشرية» فيجب أن نعرف تفسير هذا التخلق ، وهذا التشبه. ومعلوم : أنه لا معنى لهما إلا تقليل الحاجات ، وإفاضة الخيرات والحسنات. لا بالاستكثار من الشهوات واللذات.

الحجة السابعة : إن هؤلاء الذين حكموا بأن سعادة الإنسان ، ليست إلا في تحصيل هذه اللذات البدنية ، والراحات الجسمية. إذا رأوا إنسانا أعرض عن طلبها ، مثل أن يكون مواظبا على الصوم. مكتفيا بما جادت الأرض به ، عظم اعتقادهم فيه. وزعموا : أنه ليس من جنس البشر (٢) بل هو من زمرة الملائكة. ويعدون أنفسهم بالنسبة إليه أشقياء أراذل. وإذا رأوا إنسانا مستغرق الفكر والهمة في طلب الأكل والشرب والوقاع ، مصروف الهمة إلى تحصيل أسباب هذه الأحوال ، معرضا عن العلم والزهد والعبادة ، قضوا عليه بالبهيمية والخزي والنكال. فلو (٣) أنه تقرر في عقولهم : أن الاشتغال بتحصيل هذه اللذات الجسدانية نقص ودناءة ، وأن الترفع عن الالتفات إليها كمال وسعادة. وإلا لما كان الأمر على ما ذكرناه ، ولكان يجب أن يحكموا على المعرض عن

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) الإنس (ل ، طا).

(٣) ولأنه (ل).

٣٠٠