المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٧

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٧

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٥

فنقول : هذا أيضا باطل. لأن تلك الشرائط ، إما أن تكون باقية ، وإما أن لا تكون باقية. فإن كانت [باقية عاد التقسيم المذكور في كيفية عدمها بعد بقائها (١)] وإن لم تكن باقية امتنع كونها شرائط لوجود النفوس. لأن النفوس باقية وتلك الأشياء غير باقية. وكون الباقي مشروط الوجود بما لا يبقى : محال. فثبت بهذا البيان والتقرير : أن النفوس الناطقة غير قابلة للعدم والفساد. وهو المطلوب.

واحتج القائلون بأنها قابلة للفساد : بأن قالوا : ثبت أنها حادثة ، فوجب كونها قابلة للعدم. فقابلية العدم ، إن كانت من اللوازم ، وجب بقاؤها أبدا ، فوجب كونها قابلة للعدم بعد وجودها. فتكون قابلة للفساد. وإن لم تكن تلك القابلية من [لوازم تلك الماهيات كانت صفة عارضة لها. فقابلية تلك القابلية ، إن كانت من اللوازم عاد الإلزام ، وإن لم تكن من (٢)] اللوازم كانت مسبوقة بقابلية أخرى إلى غير النهاية. وهو محال. والجواب : هذا الكلام بناء على أن النفوس حادثة ، والبحث فيه ما تقدم. ثم نقول : الفرق بين إمكان الحدوث وبين إمكان الفساد بعد الوجود : قد ذكرناه. فلا فائدة في الإعادة [والله أعلم(٣)].

__________________

(١) سقط (م) ، (ط).

(٢) سقط (ل).

(٣) من (طا ، ل).

٢٤١
٢٤٢

الفصل الثاني عشر

في

أنه هل يعقل وجود نفس واحدة ،

تكون متصرفة في بدنين. ووجود نفسين

يكونان متصرفتين في بدن واحد؟

اعلم : أن هذه المباحث غامضة. ولقائل أن يقول : أما تعلق النفس الواحدة بالأبدان الكثيرة ، يجب أن لا يكون ممتنعا. وذلك لأن تعلق النفس بالبدن ، ليس إلا على سبيل التصرف والتدبير. وكون الشيء الواحد متصرفا في مملكتين وفي بيتين غير ممتنع ، فوجب أن لا يمتنع ذلك. والذي يزيده تقريرا : أن السبب لعشق النفس على التعلق بالبدن : هو أن تستعمل هذه الآلات البدنية في تحصيل اللذات الجسمانية ، والراحات البدنية. ومعلوم أن استعمال بدنين أكثر وأقوى في إفادة هذا المعنى ، فوجب أن يكون تعلق النفس بالأبدان الكثيرة واجبا. فإن لم يجب ذلك ، فلا أقل من الإمكان على سبيل الندرة.

وأما تعلق النفوس الكثيرة بالبدن الواحد فهذا [أيضا (١)] محتمل من وجوه :

الأول : هو أن النفوس الكثيرة إذا كانت متماثلة في تمام الماهية ، وكانت متشابهة في الأخلاق والصفات ، فحينئذ تكون متشاركة في جميع الأمور التي لأجلها تعلقت بذلك البدن ، فلم يكن تعلق بعضها به ، أولى من تعلق الباقي به ، فوجب تعلقها بأسرها بذلك البدن.

__________________

(١) سقط (ل).

٢٤٣

والثاني : إنه لا يمتنع أن يقال : إن طائفة من النفوس المفارقة لأبدانها ، تكون مساوية لهذه النفوس الحاضرة ، مساواة في الجوهر وفي الصفات ، وكان هذا البدن الحاضر عظيم المشابهة بأبدان تلك النفوس المفارقة ، وكانت تلك النفوس المفارقة مشتاقة إلى تلك الأبدان المنقوصة (١) المنقضية ، فإذا دخل هذا البدن في الوجود ، تعلقت تلك النفوس المفارقة بهذا البدن ، ضربا من التعلق ، وصارت معينة لهذه النفوس القائمة في الحال ، على أحوالها وصفاتها ومهماتها. فإن كانت خيرة كانت تلك النفوس أعوانا للخير ، وهو المراد بملائكة الأرض ، وإن كانت شريرة كانت تلك النفوس أعوانا للشر ، وهو المراد بالشياطين ، الذين هم الأرواح الخبيثة الأرضية.

وأما القسم الثالث : وهو أن يحصل نفسان في بدن واحد. وتحصل نفس في أبدان كثيرة. فقد ذكرنا كيفية تقريره في الفصول السالفة.

واعلم : أن هذه المباحث إنما تتوجه على من يقول : النفس جوهر مجرد قائم بذاته (٢) لا تعلق لها بذلك البدن ، إلا على سبيل التصرف والتدبير.

ومن المباحث اللائقة بهذا الباب : أن يقال : إذا قلنا : إن النفس جوهر ليس بجسم ولا بجسماني ، ولا تعلق لها بهذا البدن ، إلا تعلق التصرف والتدبير. مثل تصرف الملك في البلدة ، والمالك في البيت. وثبت أيضا : أنه لا داعي للنفس على التصرف في هذا البدن ، إلا لأجل أن تستعمل هذه الأعضاء وهذه الآلات ، في تحصيل اللذات الجسمانية ، والراحات البدنية ، والشهوات النفسانية. فحينئذ جرى تعلق هذه النفس بهذا البدن ، مجرى من أراد أن يعمل عملا ، ولا يمكنه الإتيان بذلك العمل إلا بواسطة آلة مخصوصة. فهو يحب تلك الآلة ، ليتوصل بها إلى تحصيل ذلك العمل ، إلا أنه لا تكون محبته مقصورة على تلك الآلة بعينها ، بل إذا وجدت هذه الآلة صحيحة صالحة لذلك المقصود ، استعملها [فإن رأى آلة أصلح من الأولى ، ترك الأولى واستعمل

__________________

(١) المفروضة فإذا (م).

(٢) قائمة بذاتها (م).

٢٤٤

الثانية. فإذا انقضى (١) زمان ، واتفق أن صارت الآلة الثانية مختلة ، والآلة الأولى صالحة ، ترك الثانية ورجع إلى استعمال الأولى. وإذا عرفت هذا فنقول : لو كانت النفس جوهرا مجردا مباينا عن البدن ، لكان يجب أن يصح عليها أن تنتقل من هذا البدن إلى بدن آخر ، ثم بعد حين تعود إلى هذا البدن ، كما بيناه في استعمال الآلات. وحيث لم يكن الأمر كذلك ، صار قولنا : النفس جوهر مجرد ليس بجسم ولا بجسماني : مشكلا.

واعلم : أنه لا يمتنع في العقل أن يكون لكل نفس خاصية ، ولكل بدن خاصية. لا تصلح تلك النفس [إلا لذلك البدن ، ولا يصلح ذلك البدن إلا لتلك النفس (٢)] ووصول العقول [البشرية (٣)] إلى أسرار مخلوقات الله سبحانه وتعالى على سبيل التمام والكمال : محال [والله أعلم (٤)].

__________________

(١) سقط (م) ، (ط).

(٢) سقط (م) ، (ط).

(٣) سقط (ل).

(٤) من (طا ، ل).

٢٤٥
٢٤٦

الفصل الثالث عشر

في

بيان أن النفوس الناطقة مدركة

للكليات والجزئيات معا. وأنها هي المباشرة

لجميع الأفعال بنفسها ، وإن كانت

تلك المباشرة موقوفة على استعمال الآلات

ظاهر كلام الشيخ الرئيس : مشعر بأن النفس الناطقة ، لا تقوى إلا على إدراك الكليات والمجردات (١) وأما الإدراكات الجزئية ، فإنها موزعة على الحواس الظاهرة والباطنة.

واحتجوا على أن النفس لا تدرك الجزئيات بوجوه عامة ووجوه خاصة. أما الوجوه العامة فأربعة :

الأول : إن العقلاء ببداءة عقولهم يعلمون أن رؤية المرئيات [حاصلة (٢)] في البصر لا غيره ، وسماع الأصوات حاصل في الأذن لا في غيرها ، بل نقول : كما أن البديهة حاكمة بأن اللسان غير مبصر ، والعين غير ذائق ، فهي أيضا حاكمة بأن اللسان ذائق ، والعين مبصرة. ولو قلنا : إن الموصوف بإدراك هذه المحسوسات هو النفس ، لزم بطلان هذه الاختصاصات المعلومة.

فإن قالوا : لم لا يجوز أن يقال : القوة المدركة ، وإن كانت غير موجودة في هذه الأعضاء ، لكنها آلات لها. فإذا وقع للنفس التفات إلى العين [أبصرت (٣)] أو إلى الأذن: سمعت؟ قلنا : قلنا : النفس إذا التفتت إلى

__________________

(١) والجزئيات (ط).

(٢) سقط (ط).

(٣) سقط (م) ، (ط).

٢٤٧

اللسان ، فهذا اللسان هل يدرك الطعم أم لا؟ فإن أدرك فقد حصل المطلوب ، وإن لم يدرك فحينئذ نسبة اللسان إلى إدراك المذوقات ، كنسبة سائر الأعضاء إليه. وذلك يبطل هذا الاختصاص.

الثاني : إن التجارب الطبية دلت على أن الآفة ، إذا حلت في عضو من هذه الأعضاء ، اختلت تلك الأفعال ، وهذا ظاهر في الحواس الخمسة الظاهرة. وأما في الإدراكات الباطنة ، فالآفة إذا وقعت في البطن المقدم من الدماغ ، فسد التخيل. وإن وقعت في البطن الأوسط فسد التفكر. وإن وقعت في البطن الأخير ، فسد التذكر. ولو لا أن هذه القوى جسمانية ، وإلا لما كان الأمر كذلك.

الثالث : إن هذه الإدراكات الجزئية (١) حاصلة لسائر الحيوانات. فلو كان الموصوف بهذه الإدراكات نفسا مجردة ، لزم أن تكون نفوس الحيوانات : نفوسا مجردة. وهو بعيد.

الرابع : إنا إذا تخيلنا «الكرة» وجب أن يرتسم في هذا المدرك ، صورة الكرة بناء على أن الإدراك صورة مساوية للمدرك ، تحصل في المدرك. لكن من المحال أن ترتسم صورة الكرة ، فيما لا وضع له ولا مقدار.

وأما الوجوه الخاصة : فقد احتجوا على أن الإدراكات الظاهرة : جسمانية. بأن قالوا : لو كان المدرك للمحسوسات الظاهرة هو النفس ، لوجب أن لا يتوقف إحساس النفس بها ، على حضورها. وكان يجب أن يكون إدراك الإنسان للقريب والبعيد والغائب [والحاضر (٢)] واحدا. لأن النفس جوهر غير جسماني ، فيمتنع أن يكون لها قرب وبعد من الأجسام.

فإن قالوا : النفس إنما تدرك هذه المحسوسات بمعاونة (٣) هذه الآلات التي يصح عليها القرب والبعد. قلنا : العين إذا لم تكن فيها قوة باصرة ، لم يكن

__________________

(١) الجسدانية (م).

(٢) من (ل).

(٣) المفارقة لهذه (م).

٢٤٨

القرب والبعد حاصلا بالنسبة إلى الرائي ، بل بالنسبة إلى غيره. وذلك لا فائدة فيه.

واحتجوا على أن التخيل لا يحصل إلا بقوة جسمانية : بوجوه ثلاثة :

الأول : إنا إذا تخيلنا مربعا مجنحا [بمربعين متساويين (١)] فلا شك أنه يتميز أحد هذين الجناحين عن الثاني في الفهم والإدراك. والنفي المحض والعدم الصرف ، يمتنع وقوع الامتياز فيه. فهذان المربعان لا بد وأن يكونا موجودين ، وظاهر أنه قد يكون (٢) ذلك غير موجود في الخارج ، فهو في الذهن. فإما أن يكون محل أحد هذين المربعين متساويان في الماهية ، وفي جميع لوازم الماهية ، فلو حصلا (٣) في محل واحد ، لارتفع الامتياز بالصفات العرضية أيضا ، فوجب أن لا يبقى الامتياز أصلا. وذلك باطل. وأن العلم الضروري حاصل بأنا نميز أحدهما عن الآخر. ولما بطل هذان القسمان تعين الثاني ، وهو أن يكون محل أحد هذين المربعين مباينا عن محل المربع الثاني. وهذا لا يعقل إلا إذا كان محل هذا الخيال جسما [حتى يحصل (٤)] في أحد جزئي ذلك الجسم ، إحدى الصورتين. وفي الجزء الثاني منه ، الصورة الثانية.

الثاني : إن الصورة الخيالية متفاوتة في المقادير. فإن تخيل البحر (٥) أعظم من تخيل الذرة. وهذا التفاوت إما أن يكون بسبب المأخوذ عنه أو بسبب الآخذ. والأول باطل. لأنا قد نتخيل ما لا وجود له في الخارج. فبقي الثاني ، وهو أن تكون الصورة ، تارة ترتسم في جزء كبير ، فتكون تلك الصورة أكبر ، وتارة في جزء صغير فتكون [تلك الصورة (٦)] أصغر.

الثالث : إنه لا يمكننا أن نتخيل السواد والبياض في شبح خيالي واحد ،

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) لا يكون ذلك الخارج (م).

(٣) حصلت المربعات (م).

(٤) سقط (طا).

(٥) الجبل العظيم (م).

(٦) من (ل).

٢٤٩

ويمكننا ذلك في شبحين. ولو كان الشبحان لا يتميزان في الوضع ، لوجب أن لا يبقى فرق بين الممكن والمتعذر.

واحتجوا على أن القوة الوهمية جسمانية : بأن قالوا : إنا إذا حكمنا على هذا الشخص ، بأنه صديق أو عدو. فالحاكم بهذا الحكم يجب أن يكون هو بعينه مدركا لهذا الشخص ، ولمعنى الصداقة والعداوة ، وإلا لكان ذلك التصديق حاصلا قبل التصور ، وهو محال. ولما ثبت أن المدرك لصورة هذا الشخص ، يجب أن يكون جسمانيا (١) وجب أن يكون ذلك الحاكم أيضا جسمانيا.

واحتجوا على أن القوة المحركة جسمانية : بأن قالوا : لو كان المحرك لهذه الأجسام هو النفس ، لكان ذلك التحريك حاصلا من غير توسط آلة جسمانية ، ومن غير مماسة آلة. لأن ما لا يكون جسما ، يمتنع أن يكون مماسا للجسم. ولو كان الأمر كذلك ، لوجب أن يكون الإنسان قادرا على تحريك سائر الأجسام من غير حاجة إلى شيء من الآلات الجسمانية ، ولما كان ذلك باطلا ، ثبت أن محل القوة المحركة ، هو البدن ، لا جوهر النفس.

فهذه حكاية الوجوه التي ذكروها في هذا الباب على أحسن الوجوه ، وأقربها إلى العقل، وأبعدها عن الحشو والفضول.

والجواب عما ذكروه أولا : وهو قولهم : «إنا نجد الإبصار مختصا بالعين ، والسماع مختصا بالأذن» من وجوه :

الأول : إنا نقول : كما أنا نجد هذه الحالة ، فكذلك نجد الإدراك والعلم من ناحية القلب أو الدماغ ، على اختلاف المذهبين فيه. فإن دل ما ذكرتم على أن محل القوة الباصرة هو العين ، وعلى أن محل القوة السامعة هو الأذن ، وجب أن يدل ما ذكرناه على أن محل العلم والإدراك هو القلب. وحينئذ يبطل القول بإثبات النفس.

__________________

(١) جسما (م).

٢٥٠

الثاني : إن العقلاء ببدائه عقولهم [يعلمون (١)] أنه ليس المبصر هو العين ، ولا السامع هو الأذن ، ولا المتكلم هو الحنجرة. بل الإنسان هو المبصر بالعين ، وهو السامع بالأذن ، وهو المتكلم بالحنجرة. فعلمنا : أنه ليس الأمر كما زعموا من أن العلم البديهي حاصل بأن الرائي هو العين ، والسامع هو الأذن. بل العلم البديهي حاصل بأن للعين اعتبارا في حصول الإبصار. فأما إنها هي المبصرة ، أو هي آلة للإبصار ، فذلك متوقف فيه إلى قيام الدليل.

والجواب عما ذكروه ثانيا من أن الآفة إذا حلت (٢) في عضو ، اختل ذلك الفعل : فهو أن نقول : كما يختل الفعل لاختلال الفاعل ، فقد يختل أيضا لاختلال الآلة ولاختلال ما يجري مجرى الشرط لحصول الفعل. فالاستدلال بما ذكرتم على كونه فاعلا : خطأ.

والجواب عما ذكروه ثالثا من أنه يلزم من أن تكون نفوس سائر الحيوانات نفوسا مجردة: من وجهين :

الأول : إنهم ما ذكروا دليلا على أنه يمتنع أن تكون نفوس الحيوانات نفوسا مجردة. ثم لا يلزم من هذا القدر ، كونها مساوية للنفوس البشرية في تمام الماهية. لأن التجرد قيد عدمي والاستواء فيه لا يوجب التماثل في تمام الماهية.

الثاني : لم لا يجوز أن يقال : نفوس سائر الحيوانات قوى جسمانية ونفوس البشر نفوس مجردة. ثم إنهما وإن كانتا مختلفين بالماهية إلا أنهما يتشاركان في بعض اللوازم والآثار. لما ثبت : أن الاستواء في الصفات والآثار ، لا يدل على التماثل في الماهية؟.

والجواب عما ذكروه رابعا من أن النفس التي هي جوهر مجرد ، يمتنع أن ترتسم فيها صورة الكرة هو أن هذا بناء على أن الإدراك لا يتم إلا بارتسام صورة المعلوم في العالم [وقد بان بطلانه. وأيضا : فهذا الإشكال وارد عليهم

__________________

(١) سقط (ل).

(٢) وقعت (م) حصلت (ط).

٢٥١

في إدراك الكرة الكلية ، والمخروط الكلي (١).

والجواب عما ذكروه خامسا : من أنه لو كان الرائي هو النفس ، لوجب أن لا يختلف حال الرؤية ، بحسب القرب والبعد : أن نقول : العين وإن لم تكن هي الرائية ، إلا أنها آلة في حصول الإبصار ولا يبعد أن يختلف حال الإبصار بسبب اختلاف الحال في القرب والبعد بالنسبة إلى الآلة.

والجواب عما ذكروه سادسا : من تخيل المربع المجنح بالمربعين : من وجوه :

الأول : إنه كما يمكننا أن نتخيل مربعا مجنحا بمربعين متساويين على سبيل التعيين فكذلك يمكننا تخيل مثل هذا المربع على سبيل الكلية ، فيلزم أن يكون المدرك للكليات أيضا جسما وعلى هذا التقدير فصاحب الإدراكات الكلية الجزئية هو البدن ، فيلزمكم نفي النفس.

الثاني : إن موضع التخيل من الدماغ شيء صغير. فإذا انطبعت فيه صورة الجبل (٢) فقد انطبع في ذلك [الجسم (٣)] الصغير ، جزء من أجزاء تلك الصورة الكبيرة ، فالذي يبقى من الصورة الكبيرة ، إن لم يرتسم في شيء أصلا فقد جوزتم أن لا ترتسم الصورة الخيالية في شيء أصلا. وإذا جاز ذلك فجوزوا (٤) في كل جزء من أجزاء تلك الصورة مثله. وحينئذ يبطل دليلكم؟ وإن قلتم : إن بقية أجزاء تلك الصورة الكبيرة ترتسم في ذلك الموضع بعينه ، فحينئذ قد اجتمعت خيالات أجزاء تلك الصورة الكبيرة في المحل الواحد ، مع أنا نميز بينها بحسب الخيال. وهذا يدل على أن اجتماع الصورة الكبيرة في المحل الواحد ، لا يمنع من اقتدار الخيال على التمييز بينها. وإذا جاز هذا ، فلم لا يجوز ارتسام المربعين المجنحين (٥) في محل واحد ، مع أنه يبقى الامتياز في الإدراك؟

__________________

(١) من (ل).

(٢) الجسد (ط).

(٣) سقط (طا).

(٤) فلم لا يجوز في كل أجزاء (م).

(٥) الجناحين (ل).

٢٥٢

الثالث : إن الإنسان ربما طاف في العالم ، ورأى البلاد والجبال والبحار والمفاوز ، فلو وجب أن يحصل لكل جزء من أجزاء هذه الصورة جزء معين من الدماغ ، فهذا بعيد. لأن الجزء الصغير من الدماغ لا يفي بذلك ، وإن لم يجب هذا الامتياز فقد بطل قولكم (١).

والجواب عما ذكروه سابعا من أن اختلاف الصور الخيالية [في المقادير يجب أن يكون لاختلاف الآخذين في المقدار. فنقول : إن كان صغر المحل (٢)]. يقتضي صغر الصورة الحالة فيه ، وجب أن لا يقدر الإنسان على تخيل شيء ، إلا بمقدار ما يساوي جزءا من أجزاء دماغه.

وإن كان صغر المحل لا يوجب صغر الصورة ، ولا يمنع من كبرها ، فقد بطل دليلكم.

والجواب عما ذكروه ثامنا من أنه لا يمكننا أن نتخيل السواد والبياض في شبح جسم واحد ، ويمكننا ذلك في شبحي جسمين (٣) : فنقول : هذا وارد في القوة العقلية أيضا. فإنه لا يمكننا تعقل حصول السواد والبياض في جسم واحد ، ويمكننا ذلك في جسمين ، ثم لم يلزم منه كون [الصورة العقلية حالة في الجسم. فكذا هاهنا.

والجواب عما ذكروه تاسعا من أنه إذا ثبت كون (٤)] الخيال جسمانيا ، وجب أن يكون الوهم المتعلق به جسمانيا. أن نقول : بل نقلب هذا ، فنقول : لما كان إدراك معنى الصداقة والعداوة ، لا يمكن حصوله للجسماني ، كان إدراك الصورة الخيالية المتعلقة به ، وجب أن يكون بقوة جسمانية.

والجواب عما ذكروه عاشرا من أن القادر على تحريك البدن ، ليس هو النفس : أن نقول : إنه لا معنى لتدبير البدن وللتصرف فيه إلا تحريكه على وفق

__________________

(١) قولهم (م).

(٢) من (ل).

(٣) شبحين من جسمين (ل).

(٤) من (ل).

٢٥٣

الأغراض والمصالح ، فإن لم تقدر النفس على تحريك هذا البدن ، لم يبق لقولنا : النفس مدبرة للبدن ومتصرفة فيه : إلا اللفظ الخالي عن الفائدة.

فثبت بهذه البيانات : أن هذه الوجوه التي عولوا عليها في هذا الباب : في غاية الضعف [والسقوط. والله أعلم (١)].

__________________

(١) من (ل ، طا).

٢٥٤

الفصل الرابع عشر

في

اقامة الدلالة القاهرة على أن الموصوف

بجميع أقسام الادراكات ، والمباشر لجميع

التحريكات والتدبيرات لهذا البدن : هو النفس

نقول : الذي يدل على صحة ما ذكرناه وجوه :

الحجة الأولى : ما ذكرناه في إثبات (١) «النفس» ولا بأس بإعادة (٢) ذلك. فنقول : إنا إذا رأينا العسل حكمنا بأنه حلو ، والقاضي على الشيئين لا بد وأن يحضره المقضي عليهما. فههنا شيء واحد يدرك جميع المحسوسات. ثم إذا تخيلناها [ثم أحسسنا بها. حكمنا بأن ذلك المتخيل هو هذا المحسوس. فلا بد من شيء واحد ، هو المدرك ، وهو المتخيل. ثم إذا أحسسنا (٣)] تلك الصور ، أو تخيلنا تلك الخيالات حكمنا عليها تارة بالعداوة ، وأخرى بالصداقة. فلا بد من شيء واحد هو المدرك لتلك الصور ولتلك المعاني. ثم إن القوة الفكرية تقوى على تركيب تلك الصور ، وتلك المعاني ، بعضها بالبعض ، فيكون ذلك الشيء قادرا على التركيب والتحليل ، وعلى إدراك الصور والمعاني. ثم إن الإنسان يمكنه أن يحكم على كل واحد من الأشخاص بإدخاله (٤) تحت الماهية الكلية ، فلا بد من شيء واحد يكون بعينه موصوفا بالإدراكات الكلية والجزئية. ثم إن الفعل الاختياري عبارة عما إذا اعتقد في

__________________

(١) كتاب (م).

(٢) بإعادتها (طا ، ل).

(٣) من (طا ، ل).

(٤) بأنه داخل (م).

٢٥٥

شيء كونه نافعا ، يتولد من ذلك [الاعتقاد (١)] ميل وإرادة. ويترتب على ذلك الميل : صدور الفعل عن القادر. فلا بد من شيء واحد يكون موصوفا بجميع تلك الإدراكات [الكلية والجزئية (٢)] ويكون موصوفا بالميل والإدراكات ويكون هو الموصوف بالتحريك والتدبير.

فهذا برهان قطعي يقيني [لا مرية فيه (٣)] في أن الموصوف بجميع هذه الصفات ، يجب أن يكون شيئا واحدا ، وأن توزيع هذه القوى ، وهذه الإدراكات على المحال المختلفة ، والمواضع المتباينة : قول (٤) ضد مقتضى العقل.

الحجة الثانية في إثبات أن النفس مدركة للجزئيات : أن نقول : لما ثبت أن النفس جوهر ليس حالا في الجسم. فذلك الجوهر ، إما أن يكون متصرفا في هذا البدن ومدبرا له ، وإما أن لا يكون. فإن لم يوجد هذا التصرف والتدبير كان ذلك الموجود (٥) مباينا لهذا البدن بالكلية ، ولا تعلق بينهما أصلا. وأما إن كانت النفس مدبرة للبدن ، فإما أن يكون قصد النفس تدبير مطلق البدن ، أو تدبير هذا البدن. فإن كان الأول لم يكن ظهور أثرها في هذا البدن ، أولى من ظهور ذلك الأثر في بدن آخر. فحينئذ يكون حال جميع النفوس مع جميع الأبدان على السوية. وذلك باطل قطعا. وإما إن كان قصد النفس المعينة تدبير هذا البدن [من (٦) حيث إنه هذا البدن المعين. فنقول : القصد إلى تدبير هذا البدن من حيث إنه هذا البدن المعين ، مشروط بالعلم بهذا البدن ، ولما كانت النفس تريد تدبير هذا البدن ، وجب أن تكون عالمة بهذا البدن من حيث إنه هذا البدن. فتكون النفس عالمة بالجزئيات. فإن قالوا : النفس تعلم الجزئيات

__________________

(١) سقط (طا).

(٢) من (م).

(٣) سقط (ط).

(٤) قول لا على مقتضى (ل).

(٥) الواحد (م).

(٦) من أول «من حيث إنه هذا البدن» إلى «فليس إلا هذا البرهان وما يشبهه» ساقط من (طا ، ل). في هذا الموضع. والناسخ وضعها في الحجة التاسعة من الفصل السادس.

٢٥٦

لكن بواسطة الاستعانة بآلة جسمانية. فنقول : إن كلامنا الآن ليس في كيفية الآلات والأدوات ، بل في إثبات أن النفس مدركة للجزئيات وشاعرة بها ، من حيث إنها هي. فإن نازعتم فيه ، أوردنا عليكم الدليل المذكور. وإن سلمتموه فهو المطلوب.

والعجب من هؤلاء الفلاسفة : كيف غفلوا عن أمثال هذه الدلائل الظاهرة ، واشتغلوا بتركيب تلك الوجوه الضعيفة ، وملئوا الكتب منها ، واستمروا عليها في الأدوار المتطاولة ، والأعصار المتباعدة.

الحجة الثالثة في إثبات ما ذكرناه : إن العلوم إما نظرية وإما ضرورية. وقد ذكرنا مرارا : أنه لا بد من الاعتراف بالعلوم الضرورية ، وإلا لزم التسلسل والدور ، وهما محالان. فثبت : أنه لا بد من الاعتراف بالعلوم الضرورية والبديهية. وأجلى العلوم البديهية وأقواها وأكملها ما يحكم به صريح الفطرة ، وبديهة العقل. إذا عرفت هذا ، فنقول : كل واحد يعلم بالضرورة : أنه (١) هو الذي رأى المبصرات ، وسمع المسموعات ، وذاق المطعومات ، ولمس الملموسات ، وأدرك المشمومات ، وتصور المتخيلات ، واستحضر المذكورات والمنسيات ، وأنه هو الذي يحرك يده إلى الأخذ ، ويحرك رجله إلى المشي. ولو نازع منازع في كون الإنسان موصوفا بهذه الصفات ، وآتيا بهذه الأفعال ، لكان ذلك النزاع واقعا في أظهر العلوم الضرورية. وذلك يدل على أن صريح الفطرة شاهدة بأن الإنسان هو الموصوف بهذه الصفات ، وهو الفاعل لهذه الأفعال. ولما كان الإنسان عبارة عن النفس ، وجب أن تكون النفس هي الموصوفة بهذه الصفات ، وهي الآتية بهذه الأعمال.

فإن قالوا : فلم لا يجوز أن يكون المراد من قول القائل : أبصرت كذا ، وسمعت كذا ، هو أن قوة من القوى التابعة لذاتي أبصرت كذا. وقوة أخرى سمعت كذا؟ قلنا : فعلى هذا التقدير لم يكن الإنسان مبصرا للمبصرات ، ولا

__________________

(١) أن هذا الذي (ط).

٢٥٧

سامعا للمسموعات ، بل شيء (١) من الأشياء المضافة إليه : [أبصر المبصرات ، وشيء آخر من الأشياء المضافة إليه : سمع المسموعات (٢)] فيصير هذا جاريا مجرى ما إذا قيل : إن عندي رأى فلانا ، وولدي سمع الكلام الفلاني. وإن العلم الضروري حاصل بالفرق بين ما سمعته أنا ، ورأيته أنا. وبين ما إذا رآه عبدي. وبالفرق بين ما إذا سمعت ذلك الكلام ، وبين ما إذا سمعه ولدي. لكن العلم الضروري حاصل بأني رأيت هذه المبصرات ، لكن بعيني. وذقت هذه المطعومات ، لكن بلساني.

وفي الجملة : فالعلم بأن الإنسان هو الموصوف بهذه الصفات والأحوال لا غيره : بلغ مبلغا لا يمكن حصول علم أجلى ولا أقوى منه ، حتى يتوسل (٣) بذلك العلم إلى تقرير هذه القضية. وليس يمكن إلا التنبيه على أن هذه القضية بديهية أولية. فأما تقريرها بقضايا أظهر وأوضح منها. فذلك من المحالات.

الحجة الرابعة على أن النفس مدركة للجزئيات : إن أهل المنطق اتفقوا على أن المحمولات والموضوعات على أربعة أقسام :

الأول : حمل الجزئي على الجزئي. كقولك : «زيد هو الذي عمل العمل الفلاني» فههنا الموضوع والمحمول جزئيان.

والثاني : حمل الكلي على الكلي. كقولك : «الإنسان حيوان».

والثالث : حمل الجزئي على الكلي (٤) كقولك [«بعض الإنسان هو زيد» فإن قولك : بعض الإنسان» مفهوم كلي.

الرابع : حمل الكلي على الجزئي. كقولك (٥)] «زيد إنسان» أو «زيد

__________________

(١) بل من الأشياء (ط).

(٢) من (ط).

(٣) يتوسل به إلى ذلك (م).

(٤) الجزئي (م).

(٥) من (ط).

٢٥٨

ليس بفرس» وأطبقوا على أن أكمل الأقسام في الحمل والوضع هو هذا القسم. وأيضا : أطبقوا على أن من حمل شيئا على شيء ، فإنه لا بد وأن يكون قد حضر عنده تصور الطرفين.

إذا ثبت هذا فنقول : الذي حكم بحمل الكلي على الجزئي ، لا بد وأن يكون قد حضر عنده تصور ذلك الجزئي ، وتصور ذلك الكلي. لكن صاحب التصورات الكلية هو النفس ، فيجب أن يكون صاحب هذه التصورات الجزئية أيضا هو النفس.

واعلم : أنه إن حصل في الدنيا برهان يجب قبوله والرجوع إليه فليس إلا هذا البرهان ، وما يشبهه (١)].

الحجة الخامسة في إثبات أن النفس مدركة للجزئيات : أن نقول : النفس إما أن تدرك نفسها المعينة المشخصة ، من حيث هي هي ، أو إنما تدرك الأمر الكلي المشترك فيه بين النفوس الكثيرة. فإن كان الأول ، كانت النفس مدركة للجزئي ، من حيث إنه شخص معين. وإن كان الثاني كانت النفس غافلة عن ذاتها المعينة. وإنما علمت ماهية النفس من حيث إنها نفس ، إلا أن هذا محال. لأن كل من علم شيئا ، أمكنه أن يعلم كونه عالما به [وإذا علم كونه عالما (٢)] فقد علم نفسه المعينة. فثبت : أن القول بأن النفس لا تدرك الجزئيات : قول باطل.

الحجة السادسة : إن النفس إذا حاولت تحريك جسم أو جذبه أو دفعه ، فإما أن يكون متعلق قصدها : هو الأمر الكلي أو الجزئي. فإن كان الأول كانت نسبة ذلك القصد إلى جميع الجزئيات بالسوية ، فلم يكن تخصيصه ببعض الجزئيات ، أولى من تخصيصه بالبواقي. وإن كان الثاني وجب أن يكون عالما بذلك الجزئي ، من حيث إنه هو هو. وذلك هو المطلوب.

__________________

(١) من أول «من حيث إنه هذا البدن» إلى «فليس إلا هذا البرهان وما يشبهه» ناسخ (طا ، ل) وضعه في الحجة التاسعة من الفصل السادس.

(٢) سقط (طا ، ل).

٢٥٩
٢٦٠