المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٧

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٧

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٥

الشهوة ، وقد يصير سببا لحصول الغضب. فلو كان الجوهر مدركا شيئا مغايرا للجوهر الذي يغضب ، وللجوهر الذي يشتهي ، فحين أدرك صاحب الإدراك ، لم يكن [شيئا (١)] من هذا الإدراك له أثر ولا خبر عند صاحب الشهوة ، ولا عند صاحب الغضب ، [فوجب أن لا يترتب على ذلك الإدراك ، لا حصول الشهوة ولا حصول الغضب (٢)] وحيث حصل هذا التأثير واللزوم ، علمنا : أن صاحب الإدراك هو بعينه صاحب الشهوة وصاحب الغضب.

الحجة الخامسة : إن حقيقة الإنسان : إنه جسم ، ذو نفس ، حساس ، متحرك بالإرادة. فشرط النفس أن تكون حساسة وأن تكون متحركة بالإرادة ، فصاحب الحس هو بعينه صاحب تلك الإرادة. والإرادة إن كانت إرادة الجذب فهي الشهوة ، وإن كانت إرادة الدفع فهي الغضب. فهذا يدل على أن الإدراك والشهوة والغضب صفات ثلاثة (٣) لذات واحدة. وهو المطلوب.

الحجة السادسة : إنا بينا بالبرهان القاطع : أنّ المدرك لجميع المدركات بجميع أنواع المدركات ، والقادر المريد الفاعل يجب أن يكون نفسا (٤) واحدة. وذلك برهان قاطع على بطلان قول من يقول بتوزيع هذه الصفات على الذوات المتباينة [والله أعلم (٥)].

واحتج القائلون بتعدد النفوس : بأن قالوا : إنا وجدنا النفس المدبرة لأمر الغذاء حاصلة في النبات ، وهي خالية عن النفس الغضبية. ورأينا النفس الشهوانية والغضبية حاصلة [في الحيوان ، وهي خالية (٦)] عن النفس النطقية ، والقوة الفكرية. ثم رأينا هذه الثلاثة حاصلة للإنسان. فعلمنا : أن

__________________

(١) من (م).

(٢) سقط (طا) ، (ل).

(٣) ثابتة (م).

(٤) شيئا (ط).

(٥) سقط (م) ، (ط).

(٦) سقط (م).

١٦١

كل واحدة من هذه الثلاثة [جوهر (١)] مستقل بنفسه ، منفرد بذاته ، إلا أنها اجتمعت في الإنسان. والجواب : إنه ثبت في مباحث الماهيات : أن الحقائق المختلفة لا يمتنع اشتراكها في آثار متساوية.

وإذا ثبت هذا فنقول : لم لا يجوز أن يقال : النفس النباتية مخالفة للنفس الإنسانية في الماهية ، إلا أن النفس الإنسانية مشاركة للنفس النباتية في تدبير الغذاء ، وإن كانت مخالفة لها في الذات والماهية ، وفي سائر الآثار؟ فإن النفس الإنسانية تقوى على تدبير الأحوال النطقية ، والنفس النباتية لا تقوى على ذلك.

وهذا الجواب في القوة الغضبية.

فإن قالوا : فإن النفس الواحدة. كيف تكون مصدرا للأفعال المختلفة؟.

فنقول : لم لا يجوز أن يصح ذلك بسبب الآلات المختلفة؟ فهذا تمام الكلام في إثبات وحدة النفس.

__________________

(١) من (ل).

١٦٢

الفصل الرابع

في

بيان أن المتعلق الأول للنفس هو

القلب وأن العضو الرئيسي المطلق هو القلب

[مذهب جمهور المحققين من الأنبياء والأولياء والحكماء : أن القلب هو العضو الرئيسي المطلق (١)] لسائر الأعضاء ، وأن النفس متعلقة به أولا ، وبواسطة ذلك التعلق تصير متعلقة بسائر الأعضاء.

وهذا هو مذهب «أرسطاطاليس» وأتباعه من القدماء والمتأخرين. ومذهب «جالينوس» وأتباعه من الأطباء : أن الإنسان عبارة عن مجموع نفوس ثلاثة : النفس الشهوانية ، وتعلقها الأول بالكبد. والنفس الغضبية ، وتعلقها الأول بالقلب. والنفس النطقية الحكيمة ، وتعلقها الأول بالدماغ. وهذه الأعضاء الثلاثة ، كل واحد منها مستقل بنفسه ، منفرد بخواصه وأفعاله.

والمختار : أن هذا باطل. والحق هو القول الأول. ويدل عليه وجوه : الحجة الأولى : [إنا قد بينا بالدلائل اليقينية (٢)] أن النفس واحدة. وإذا ثبت هذا ، وجب أن يكون العضو الرئيسي : هو القلب ، ويدل عليه التجربة والقياس ، أما التجربة : [فهي أن أكثر أصحاب التجارب ، يشهدون

__________________

(١) من (ل ، طا).

(٢) سقط (ط).

١٦٣

بأن أول عضو يتخلق من البدن ، هو القلب.

وأما القياس (١)] فمن وجهين (٢) :

الأول : إن المني جسم مركب من الطبائع الأربعة ، والهوائية والنارية غالبة عليه. والدليل عليه : أن بياض الرطوبات ، إنما يحصل بسبب اختلاط [الأجزاء (٣)] الهوائية بها ، كما يكون في البرد ، فوجب أن يكون بياض المني لهذا السبب. ويتأكد ما ذكرناه : بأن المني إذا ضر به البرد رق ، وزال بياضه ، مع أن البرد أولى بالتكثيف. وذلك يدل على أن بياضه ، إنما كان لأجل أنه اختلط به أجزاء كثيرة من الأجزاء النارية والهوائية ، فلما ضر به البرد ، فارقته تلك الأجزاء النارية والهوائية ، فزال بياضه.

وإذا ثبت هذا فنقول : إنه تعالى قدر بحكمته : أن الأجزاء الأرضية والمائية الموجودة في المني ، تصير مادة للأعضاء ، وأما الأجزاء الهوائية والنارية التي في المني ، فإنه تعالى يجعلها مادة للأرواح [الإنسانية (٤)] إلا أن تلك الأجزاء الكثيفة واللطيفة تكون مختلطة بعضها بالبعض في أول الأمر ، لكن الجنسية علة الضم ، فلا جرم تنضم الأجزاء اللطيفة بعضها إلى البعض ، والأجزاء الكثيفة بعضها إلى البعض. ولما كان اللطيف سريع التحلل ، اقتضت الحكمة الإلهية جعل تلك الأجزاء اللطيفة في وسط ذلك الجسم ، وجعل تلك الأجزاء الكثيفة محيطة بها ، وصونا لها. وعند هذا يصير جرم المني كالكرة المستديرة ، ويكون باطن تلك الكرة مملوءا من تلك الأجزاء اللطيفة الهوائية والنارية ، ويكون ظاهرها متولدا من تلك الأجزاء الكثيفة. وذلك الموضع الذي صار موضعا لتلك الأجزاء اللطيفة ، هو الموضع الذي إذا استحكم ، صار قلبا. فلهذا السبب قال أهل التشريح : «أول الأعضاء حدوثا ، هو القلب ، وآخرها موتا هو القلب».

__________________

(١) من (ل ، طا).

(٢) وجوه : الأصل.

(٣) من (م).

(٤) سقط (ل).

١٦٤

والوجه الثاني في بيان أن أول الأعضاء حدوثا هو القلب : إن البدن (١) لا يتكون ولا يتولد إلا بواسطة الحرارة الغريزية ، وهذه الحرارة إنما تقوى وتكمل إذا كانت مجتمعة ، ومجمعها هو القلب. فوجب أن يكون [تكوّن (٢)] القلب سابقا على تكون سائر الأعضاء. فثبت : أن النفس واحدة ، وثبت : أن أول الأعضاء حدوثا هو القلب. ودلت التجارب الطبية : على أن المتعلق الأول للنفس هو الروح ، فوجب أن يكون تعلق النفس بالقلب ، قبل تعلقها بسائر الأعضاء ، فوجب أن يكون العضو الرئيسي المطلق ، هو القلب.

الحجة الثانية : إن العقلاء يجدون الفهم والإدراك والعلم من ناحية القلب. فعلمنا : أن القلب محل للعلم بواسطة تعلق النفس بالقلب ، وإذا كان محل [العلم هو القلب وجب أن يكون محل (٣)] الإرادة هو القلب [لأن المريد للشيء يجب أن يكون عالما به ، وذلك الذي هو المريد يجب أن يكون بعينه عالما. وإذا كان محل الإرادة هو القلب ، وجب أن يكون محل القدرة هو القلب. لأن (٤)] ذلك الذي هو القادر يجب أن يكون بعينه هو المريد. فثبت : أن مجموع كل هذه الصفات هو القلب. قال «جالينوس» : «مسلم : أن القلب محل الغضب. فأما أنه محل الإدراك والشعور ، فباطل» وجوابه : أن الغضب عبارة عن دفع المنافي ، ودفع المنافي لا يصح إلا بعد الشعور بكونه منافيا ، فلما سلم أن القلب محل الغضب ، لزمه تسليم أن القلب محل العلم والإدراك.

الحجة الثالثة : لا نزاع في أن النفس الحيوانية يجب كونها حساسة (٥) متحركة بالإرادة، فإذا تعلقت النفس الحيوانية بالقلب ، وجب أن تكون تلك النفس حساسة متحركة الإرادة ، وذلك يقتضي أن يصير القلب منبعا للإدراك

__________________

(١) الحيوان (م).

(٢) من (ط).

(٣) سقط (م) ، (ط).

(٤) من (ل) ، طا).

(٥) جسمانية (ل ، طا).

١٦٥

والشعور وللقوة المحركة أيضا. وذلك يبطل قول «جالينوس» إن منبع الإدراك والحركة بالإرادة هو الدماغ.

الحجة الرابعة : إن الحس والحركة الإرادية ، إنما تحصل بالحرارة : وأما البرودة فعائقة عنهما ، ويدل على صحة ما ذكرناه : التجارب الطبية ، وإذا ثبت هذا ، فنقول : القلب منبع للحرارة ، والدماغ منبع للبرودة. فجعل القلب منبعا للحس والحركة الإرادية أولى من جعل الدماغ مبدأ لهما.

الحجة الخامسة : كل أحد إذا قال «أنا» فإنه يشير إلى صدره ، وإلى ناحية قلبه. وهذا يدل على أن [كل أحد يعلم بالضرورة (١)] أن المشار إليه بقوله «أنا» حاصل في القلب ، لا في سائر الأعضاء.

الحجة السادسة : إن أظهر آثار النفس الناطقة هو النطق ، فوجب أن يكون معدن النفس الناطقة ، هو الموضع الذي منه تنبعث آلة النطق ، لكن آلة النطق هو الصوت ، والصوت إنما يتولد من إخراج النفس ، وإخراج النفس إنما يحصل بفعل القلب لأن القلب يستدخل النسيم الطيب للروح (٢) فإذا تسخن ذلك النسيم واحترق ، أخرجه إلى الخارج. وإذا كان إدخال النسيم وإخراجه مقصودا للقلب ، ومصلحة له ، كان إسناد هذا الفعل إلى القلب ، أولى من إسناده إلى الدماغ ، الذي لا حاجة به البتة إلى النفس.

أجاب «جالينوس» عن هذه الحجة : بأن الصوت لا ينبعث من القلب ، بل من الدماغ. ويدل عليه وجوه :

الأول : إن الآلة الأولى للصوت هي الحنجرة. والدليل عليه : أنك إذا خرقت (٣) قصبة الرئة أسفل من الحنجرة ، لم تسمع لهذا الحيوان صوتا لأنك إذا فعلت بهذا الحيوان هذا الفعل ، لم يصل الهواء الخارج إلى الحنجرة بل تفرق وانتشر. وإذا لم يصل الهواء إلى الحنجرة ، وكانت الحنجرة هي الآلة للصوت.

__________________

(١) سقط (م).

(٢) للترويح (ل).

(٣) حرفت (ط).

١٦٦

لا جرم يبطل الصوت. فثبت : أن الآلة لحدوث الصوت هي الحنجرة. والحنجرة مؤلفة من ثلاثة غضاريف ، وهذه الغضاريف إنما تتحرك [بعضلات كثيرة ، وتلك العضلات إنما تتحرك (١)] بالأعصاب والأعصاب ثابتة من الدماغ. فثبت : أن فاعل الصوت هو الدماغ.

والوجه الثاني في بيان أن فاعل الصوت هو الدماغ : إنا نشاهد عضل البطن يتمدد عند التصويت بالصوت العنيف. وأما القلب ، فإنه لا يناله التعب عند التصويت.

الثالث : إن القلب إذا كشف عنه ثم قبض عليه ، فإنه لا يبطل من الحيوان صوته ، وإن كشف عن الدماغ ثم ضغط ، بطل في الحال صوت ذلك الحيوان.

فثبت بهذه الوجوه الثلاثة : أن مبدأ الصوت هو الدماغ ، لا القلب. وعند هذا البيان يصير هذا الكلام حجة [واضحة (٢)] على صحة أن محل القوة الناطقة هو الدماغ.

والجواب : إنا بينا أن سبب حدوث الصوت : خروج النفس. وبينا : أن سبب خروج النفس هو القلب ، فلزم القطع بأن السبب الحقيقي [لحدوث الصوت (٣)] هو القلب. وأما الوجوه التي ذكرتم ، فهي تدل على أن الدماغ محتاج إليه في حدوث الصوت ، وفي تكوين آلات حدوث الصوت ، وذلك لا يقدح في قولنا.

الحجة السابعة : إن القلب موضوع في موضع يقرب أن يكون وسطا من البدن ، وهذا هو اللائق بالرئيس المطلق ، حتى يكون ما ينبعث [منه (٤)] من القوى وأصلا إلى جميع أطراف البدن ، على القسمة العادلة. والدماغ موضوع

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) ظاهرة (م) وهي ساقطة من (ل).

(٣) من (ل).

(٤) من (ل).

١٦٧

في أعلى البدن ، فكان القلب أولى [من الدماغ في (١)] أن يكون ملكا للبدن على الإطلاق.

الحجة الثامنة : إن الناس يصفون القلب بالذكاء والبلادة. فيقولون : لفلان قلب ذكي ، ولفلان قلب بليد.

قال «جالينوس» : الناس إذا وصفوا إنسانا بأن له قلبا قويا ، فمرادهم منه الشجاعة، وإذا قالوا : فلان لا قلب له ، فالمراد : «هو الجبن».

والجواب : إن الذي ذكره «جالينوس» يدل على أن القلب مكان للغضب ، ولا يدل على أنه يمتنع أن يكون القلب موضعا للفهم. [والله أعلم (٢)].

ولنذكر هاهنا الآيات والأخبار الدالة على أن موضع الفهم والشعور ، هو القلب.

أما الآيات فكثيرة :

الأولى : قوله تعالى : (قُلْ : مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ ، فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ) (٣) وقال في سورة الشعراء : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ) (٤) فهاتان الآيتان تدلان بصريحهما على أن التنزيل والوحي كان على القلب.

الحجة الثانية : قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى ، لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ ، أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (٥) وهذه الآية دالة بصريحها على أن أن محل الذكر والفهم هو القلب واعلم : أن في هذه الآية لطيفة عجيبة ، وبيانها : إنما يتم

__________________

(١) من (م).

(٢) سقط (م) ، (ط).

(٣) البقرة ٩٧.

(٤) الشعراء ١٩٢ ـ ١٩٤.

(٥) ق ٣٧.

١٦٨

بتقديم (١) سؤال. فإنه يقال : إن الواو العاطفة أليق بقوله : (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) لأن القلب عبارة عن محل إدراك الحقائق ، وإلقاء السمع عبارة عن الجد والاجتهاد في تحصيل تلك الإدراكات والمعارف ، ومعلوم : أنه لا بد من الأمرين معا ، فكان ذكر «الواو» العاطفة هاهنا ، [أولى (٢) من ذكر «أو».

والجواب : إنا نقول : بل «أو» القاسمة أولى هاهنا من «الواو» العاطفة ، وبيانه: أن القوى العقلية قسمان : منها ما يكون في غاية الكمال [والشرف (٣)] والإشراق ، ويكون مخالفا لسائر القوى العقلية بالكم والكيف. أما الكم فلأن حصول المقدمات البديهية والحسية والتجريبية بها أكثر ، وأما الكيف فلأن تركيب تلك المقدمات على وجه ينساق إلى تلك النتائج الحقة ، أسهل وأسرع.

إذا عرفت هذا ، فنقول : مثل هذه النفس القدسية تستغني في معرفة حقائق الأشياء عن التعلم والاستعانة بالغير ، إلا أن مثل هذا يكون في غاية الندرة.

وأما القسم الثاني : وهو الذي لا يكون كذلك ، فهو يحتاج في اكتساب العلوم النظرية إلى التعلم ، والاستعانة بالغير ، والتمسك بالقانون الصناعي الذي يعصمه عن الزلل.

إذا عرفت هذا فنقول : قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) : إشارة إلى القسم الأول ، وإنما ذكر القلب بلفظ التنكير ليدل ذلك على الكمال التام ، بدليل قوله تعالى : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى

__________________

(١) بتقديم مقدمة وهو الواو وأن القاطعة التي بقوله : (أَوْ أَلْقَى ...) الخ (م) وفي تفسير القرطبي : (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) أي عقل يتدبر به. فكنى بالقلب عن العقل ، لأنه موضعه ، قال معناه : مجاهد وغيره. وقيل : لمن كان له حياة ونفس مميزة. فعبر عن النفس الحية بالقلب ، لأنه وطنها ومعدن حياتها (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) أي: استمع القرآن (وَهُوَ شَهِيدٌ) أي قلبه حاضر فيما يسمع» واعلم : أن الآيات التي ذكرها المؤلف لبيان غرضه. لها أكثر من تأويل. في كتب المفسرين. وعلى ذلك فلا يكون رأيه بها قاطعا.

(٢) سقط (طا).

(٣) من (م).

١٦٩

حَياةٍ) (١) أي حياة عظيمة طويلة المدة ، فكذا هاهنا قوله : (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) أي لمن كان له قلب كامل في قوة الإدراك ، عظيم الدرجة في الاستعداد والوقوف على عالم القدس. وأما قوله : (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) : فهو إشارة إلى القسم الثاني ، وهو الذي يفتقر إلى الكسب والاستعانة بالغير ، وهذا من الأسرار التي عليها بناء علم المنطق. وقد لاح في درج هذه [الآية (٢)] ولما كان القسم الأول نادرا جدا ، وكان الغالب هو القسم الثاني ، لا جرم أمر الكلّ في أكثر الآيات بالطلب والاكتساب فقال : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ، فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها ، أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) (٣).

وقال صاحب المنطق : إن القسم الأول ، وإن كان غنيا عن الاستعانة بالمنطق ، إلا أنه نادر جدا ، والغلبة للقسم الثاني ، وكلهم محتاجون إلى المنطق. فانظر إلى هذه الأسرار العميقة ، كيف تجدها في الألفاظ القرآنية.

الحجة الثالثة : الآيات الدالة على أن استحقاق الجزاء ليس إلا على ما في القلب من السعي. قال الله تعالى : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ، وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) (٤) وقال : (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها ، وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) (٥) ثم بين في آية أخرى : أن محل التقوى ما هو؟ فقال : (أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) (٦).

الحجة الرابعة : قوله تعالى : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ ، كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) (٧) ومعلوم : أن السمع والبصر ، لا فائدة فيهما إلّا بما يؤديانه إلى القلب ، فكان السؤال عنهما في الحقيقة : سؤالا عن القلب.

__________________

(١) البقرة ٩٦.

(٢) من (م).

(٣) الحج ٤٦.

(٤) البقرة ٢٢٥.

(٥) الحج ٣٧.

(٦) الحجرات ٣.

(٧) الإسراء ٣٦.

١٧٠

ونظيره قوله تعالى : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) (١) ومعلوم : أن خائنة الأعين لا تكون إلا بما تضمره القلوب.

الحجة الخامسة : قوله تعالى : (جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ ، قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) (٢) فخص هذه الثلاثة بإلزام الحجة بسببها ، واستدعاء الشكر عليها. وقد ذكرنا : أنه لا طائل في السمع والبصر ، إلّا بما يؤديان إلى القلب ليكون القلب قاضيا ، وحاكما فيه.

الحجة السادسة : قوله تعالى : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ ، وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً ، فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ) (٣) فجعل هذه الثلاثة تمام ما ألزمهم من حجته. والمقصود من الكل : هو الفؤاد ، القاضي على كل ما يؤدي إليه السمع والبصر.

الحجة السابعة : قوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ ، وَعَلى سَمْعِهِمْ. وَعَلى أَبْصارِهِمْ: غِشاوَةٌ) (٤) فجعل العذاب لازما لهذه الثلاثة ، ونظيره قوله تعالى : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها) (٥).

الحجة الثامنة : إنه تعالى كلما ذكر الإيمان في القرآن ، أضافه إلى القلب. كقوله تعالى : (مِنَ الَّذِينَ قالُوا : آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ ، وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) (٦) وقال : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ ، وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) (٧) وقال : (كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ

__________________

(١) غافر ١٩.

(٢) السجدة ٩.

(٣) الأحقاف ٢٦.

(٤) البقرة ٧.

(٥) الأعراف ١٧٩.

(٦) المائدة ٤١.

(٧) النحل ١٠٦.

١٧١

الْإِيمانَ) (١) وقال : (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (٢) فثبت : أن محل هذه المعارف : هو القلب.

الحجة التاسعة : إن محل العقل ، هو القلب لقوله تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ، فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها) (٣) وقال : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) (٤).

وأيضا : فإنه تعالى أضاف أضداد العلم إلى القلب ، فقال : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) (٥) وقال : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) (٦) وقال : (وَقَوْلِهِمْ : قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) (٧) وقال : (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ ، تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ) (٨) وقال : (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) (٩). وقال : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ) (١٠). وقال : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ؟ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (١١) وقال : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ ، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (١٢).

الحجة العاشرة : قوله عليه‌السلام : «ألا إن في الجسد مضغة ، إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله. ألا وهي القلب» وهذا تصريح بأن العاقل المطلق : هو القلب. وأن سائر الأعضاء تبع له. وروى أن «أسامة بن زيد» لما قتل الكافر الذي قال : «لا إله إلا الله» قال له [النبي (١٣)] عليه‌السلام : «لم قتلته؟» فقال : لأنه قال هذه الكلمة عن خوف. فقال عليه‌السلام : «هلا شققت عن قلبه؟» وهذا يدل على أن محل المعرفة: هو القلب. وكان عليه‌السلام يقول : «يا مقلب القلوب ، ثبت قلبي على دينك».

__________________

(١) المجادلة ٢٢.

(٢) الحجرات ١٤.

(٣) الحج ٤٦.

(٤) الأعراف ١٧٩.

(٥) البقرة ١٠.

(٦) البقرة ٧.

(٧) النساء ١٥٥.

(٨) التوبة ٦٤.

(٩) الفتح ١١.

(١٠) المطففين ١٤.

(١١) محمد ٢٤ والتكملة من (ل ، طا).

(١٢) الحج ٤٦.

(١٣) من (ط).

١٧٢

وقال عليه‌السلام : «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن» وعنى به : أن صدور الفعل تارة ، والترك أخرى من العبد ، متوقف على أن يحصل في القلب داعي الفعل ، أو داعي الترك وحصول هذه الدواعي من الله تعالى. فعبر النبي عليه‌السلام عن تينك الداعيتين بالإصبعين. يعني : كما أن الرجل إذا أخذ شيئا بين إصبعين ، فإنه يقلبه كيف يشاء ، فكذلك القلب مسخر بين هاتين الداعيتين اللتين يخلقهما الله تعالى فيه. فهو تعالى يتصرف في قلوب العباد بواسطة خلق هذه الدواعي فيها. وهذا يدل على أن محل الدواعي والبواعث: هو القلب.

فإن قال قائل من الجهال (١) : كيف تمسكتم في المباحث الحكمية العقلية. بالآيات والأخبار؟ قلنا : هذا جهل. لأن الحكيم «أرسطاطاليس» ملأ كتبه من الاستشهاد بقول «أو ميروس (٢)» الشاعر ، فإذا لم يبعد منه ذلك ، فكيف يعاب علينا ، إن تمسكنا بهذا الكتاب العالي الشريف [والله أعلم (٣)].

__________________

(١) قال المؤلف في كتاب القضاء والقدر ـ وهو الجزء التاسع من كتاب المطالب العالية ـ : إن الاعتماد على الآيات القرآنية في إثبات مذهب الجبر لا يلزم الخصوم ، القائلين بالاختيار. وإنما الملزم لهم هو الحجج العقلية. وهو لا يلزم الخصوم ـ عنده ـ لأن ظني الدلالة. وقوله باطل. لأن الحجج العقلية ليست ملزمة لتفاوت العقول في الفهم.

(٢) أبقرس (ط).

(٣) من (ل ، طا).

١٧٣
١٧٤

الفصل الخامس

في

حكايات شبهات «جالينوس»

على مذهبه. والجواب عنها

اعلم : أنه احتج بوجوه :

الحجة الأولى : على أن معدن الإدراك هو الدماغ.

قال : إن الدماغ منبت العصب ، والعصب آلة للإدراك ، (١) وما كان منبتا للآلة التي بها الإدراك ، وجب أن يكون معدنا لقوة الإدراك.

وهذه الحجة مبنية على مقدمات ثلاثة :

أما المقدمة الأولى : وهي أن الدماغ منبت للعصب. فالدليل عليه : أن الأعصاب الكثيرة لا توجد إلا في الدماغ ، وأما القلب فلا يحصل فيه إلا عصبة صغيرة ، وإذا كان كذلك ، وجب أن يكون الدماغ هو المنبت للأعصاب.

وأما المقدمة الثانية : وهي قولنا : إن الأعصاب هي الآلات للحس والحركة. فالدليل عنه : أنك إذا كشفت عن عصبة وشددتها ، وجدت ما كان أسفل من موضع الشد ، فإنه يبطل عنه الحس والحركة ، وما كان أعلى منه مما يلي جانب الدماغ ، فإنه لا تبطل عنه قوة الحس والحركة الإرادية ، وهذا يدل على أن آلة الحس والحركة الإرادية : هي العصب.

__________________

(١) آلة الإدراك (ل).

١٧٥

وأما المقدمة الثالثة : وهي أنه لما كان الدماغ منبتا لآلة الحس والحركة الإرادية ، وجب أن يكون معدنا لهذه المعاني. فالدليل عليه : أنه لما كانت قوتا الحس والحركة ، إنما تصلان [من الدماغ (١)] إلى جميع أجزاء البدن ، بواسطة هذه الأعصاب ، وجب أن يكون المنبع والمعدن لهذه المعاني : هو الدماغ.

وهذا الكلام أحسن دلائل «جالينوس» على إثبات مذهبه.

واعلم : أن أصحاب «أرسطاطاليس» أجابوا عن هذه الحجة على مقامين (٢) :

المقام الأول : [لا نسلم : أن الدماغ هو المنبت للعصب. وأما دليل «جالينوس» عليه ، وهو أن الأعصاب كثيرة وقوية عند الدماغ ، وقليلة وصغيرة عند القلب. فقد أجابوا عنه من وجهين :

الأول (٣)] : قالوا : إن المقدمة الواحدة لا تنتج المقصود. بل هذه المقدمة التي ذكرتموها لا بد من ضم مقدمة أخرى إليها. وهي أن يقال : [القوة (٤)] والكثرة لا يحصلان إلا عند المبدأ ، [والقلة (٥)] والصغر ، لا يحصلان إلا عند البعد من المبدأ.

إلا أن هذه المقدمة غير برهانية ، بل هي منقوضة بأمور ثلاثة :

أولها : إن العصبة المجوفة الحاملة للقوة الباصرة ، تكون دقيقة جدا عند المنبت ، فإذا دخلت النقرة التي تكون فيها الحدقة ، غلظت تلك العصبة واتسعت ، وهذا نقض على تلك المقدمة التي عول عليها «جالينوس».

وثانيها : إن الحبة التي يتولد منها ساق الشجرة ، تكون أصغر بكثير من ساق الشجرة. فلم لا يجوز أيضا أن يقال : إن العصبة الصغيرة التي في

__________________

(١) من (م).

(٢) بوجهين (م).

(٣) سقط (م ، ط) واعلم : أن الوجه الثاني أوله : سلمنا أن ... إلخ.

(٤) القلة (م).

(٥) من (ل) ، (طا).

١٧٦

القلب ، تكون كالحبة التي منها انشعبت الأعصاب الكثيرة في الدماغ؟

وثالثها : لو صح ما ذكره «جالينوس» لوجب أن يقال : إن أصل العروق الضوارب هي النسيجة الشبيهة بالشبكة التي في الدماغ ، لا القلب. لأن في تلك النسيجة من العروق والضوارب ، عدد لا يحصى. وهي في غاية المشابهة لعروق الشجرة.

واعلم أن هذه النقوض التي ذكروها على «جالينوس» : وجوه متكلفة. ول «جالينوس» أن يجيب عنها. ولو لا ظهورها لأوردناها.

والوجه الثاني : سلمنا أن الكثرة والقوة لا يحصلان إلا عند المبدأ. إلا أنا نقول : لا نزاع أن القلب منبت الشرايين. ثم إن اجرام الشرايين من جنس أجرام الأعصاب. وإذا كان كذلك ، أمكن أن تكون الأعصاب متولدة من تلك الشرايين. وبهذا التقدير يكون القلب منبتا ومنشأ للعصب.

فيفتقر في تقرير هذا الكلام إلى إثبات مقدمات.

المقدمة الأولى : إن العروق من جنس الأعصاب. فالدليل عليه : أن أجرام العروق تتفشى وتنقسم إلى الشظايا الليفية التي لا حس لها ، وهي بيض لدنة ، عديمة الدم ، صلبة غير حساسة في أنفسها ، والأعصاب كذلك في جميع الصفات. والدليل على أن الأعصاب غير حسّاسة في أنفسها : إنك إذا شددت العصبة برباط قوي ، شدا قويا ، صار ما هو أسفل من موضع الشد : عديم الحس. وذلك يدل على أن العصب غير حساس في نفسه ، وإنما يجري إليه الحس من موضع آخر. فثبت : أن الشرايين والأعصاب من جنس واحد.

وأما المقدمة الثانية : وهي في بيان أن الأعصاب والشرايانات ، لما كانت من جنس واحد ، أمكن تولد الأعصاب من الشرايانات : فهو أنا نقول : إن هذا الشرايانات لما انقسمت وتشعبت ، ودقت وصغرت ، ونفدت في الدماغ ، التفّ بعضها على بعض ، وانضمت أجزاؤها واتصلت. فصارت على صورة الأعصاب. وتمام الكلام فيه : أن هذه الشرايين حين انفصلت عن القلب ،

١٧٧

كان يحتاج إليها في أن تكون حاملة للدم والروح الحيواني إلى [جوهر (١)] الدماغ ، فلما صغرت ونفذت في جوهر الدماغ ، وحصل هذا المقصود ، حصل الاستغناء عنها في هذا العمل ، فلا جرم صرفت إلى بعض وصارت على صورة الأعصاب ؛ وبهذا الطريق صارت الشريانات أعصابا. وإذا ثبت هذا ، فنقول : القلب هو المنبت للشريانات ، وهذه الشريانات هي التي تولدت الأعصاب منها ، فحينئذ يكون المنبت للأعصاب ، هو القلب. وهذا قول ذكره «خروسيس (٢)» وكان من أفاضل الحكماء وكان شريكا ل «أرسطاطاليس (٣)» في العلم. ونصرناه نحن بهذه البيانات. وبهذا الطريق يسقط كلام «جالينوس» بالكلية.

واعلم : أن «جالينوس» أجاب عن هذا الكلام من وجهين :

الأول : قال : الدليل على أن الأعصاب ليست من جنس الشريانات.

وجوه :

الأول : إن الشريانات نابضة ، والأعصاب ليست نابضة.

الثاني : إن الشريانات مجوفة ، والأعصاب ليست كذلك.

الثالث : إن الشريانات محتوية على الدم. بدليل أنها إذا ثقبت ، جلب ذلك الثقب على صاحبه من انفجار الدم أمرا صعبا ، والعصب كله لا دم فيه.

الرابع : إن الشريانات مؤلفة من طبقتين : إحداهما : تتحلل إلى أجزاء ذاهبة في العرض على الاستدارة ، والأخرى تتحلل إلى أجزاء تذهب على الاستقامة في الطول. وأما الأعصاب فهي تتحلل إلى ليف أبيض عديم الدم ، ذاهب على الاستقامة في الطول.

الخامس : إنك إذا شددت العصبة ، حصل عدم الحس والحركة

__________________

(١) سقط (م).

(٢) مروستيس (م).

(٣) أرسطو (م).

١٧٨

الإرادية ، ولا يبطل منه حركة النبض. وإن شددت الشريانات ، بطل النبض ، ولم يبطل الحس والحركة.

السادس : إن العصب قد يمسك عن فعله كثيرا. والشريانات أفعالها دائمة. وهي النبض.

فثبت بهذه الوجوه : أن الشريانات [ليست من جنس الأعصاب.

والوجه الثاني في الجواب عن ذلك الكلام : قال «جالينوس» : إن أصل الشريان (١)] المتشعب من القلب ينقسم إلى قسمين :

قسم يصعد إلى جانب الرأس ، وقسم ينزل إلى أسفل البدن ، والقسم النازل إلى أسفل البدن ، لا شك أنه ينقسم ويتفرق إلى الشعب الصغار الدقاق ، ثم إنها بعد دقتها ، ما صارت أعصابا. فوجب أن يكون الحال كذلك في الشريانات الصاعدة إلى أعلى البدن.

هذا حاصل كلام «جالينوس» في إبطال قول «خروسيس» على ما ذكره في كتابه المسمى ب «آراء بقراط وأفلاطون» في أوراق كثيرة.

واعلم : أن هذين الجوابين عندي في غاية الضعف.

أما الجواب الأول : فبيان ضعفه : أن الصفات التي ذكرها «جالينوس» للشريانات: صفات حاصلة لها من وقت انشعابها عن القلب ، إلى وقت تشعبها إلى الأقسام الدقيقة ، ونفوذها في جوهر الدماغ.

فلم قلتم : إن هذه الصفات تبقى في تلك الشظايا الدقيقة بعد هذه الحالة؟ والدليل عليه : أن الروح الدماغي ، لا شك أنه كان متولدا في القلب ، ثم إنه تصاعد من القلب ، وبقي في النسيجة المتولدة تحت الدماغ مدة ، ثم إنه ينفذ في الدماغ ، فيحدث له حال كونه في الدماغ ، أحوال وصفات ، غير الأحوال والصفات التي كانت حاصلة ، حين كان في القلب.

__________________

(١) سقط (م) ، (ط).

١٧٩

فإذا جاز ذلك ، فلم لا يجوز أن يقال : إن الحال في الشرايين كذلك؟ فإن تلك الصفات التي ذكرها «جالينوس» كانت حاصلة للشرايين من وقت انشعابها من القلب إلى وقت نفوذها في جرم الدماغ. أما بعد ذلك فقد حدثت لها صورة أخرى ، وخلقة أخرى ، بخلاف الصورة الأولى.

وهذا الاحتمال لا يبطل بما ذكره «جالينوس» والدليل عليه : أن الفلاسفة اتفقوا على أن الطبيعة ، متى أمكنها الاكتفاء بالآلات القليلة ، لم تعدل عنه إلى إعداد الآلات الكثيرة. فههنا هذه الأجسام المسماة بالشريانات ، صورت بصور موافقة لتحصيل مطلوب معين ، وهو إيصال الدم والروح إلى الدماغ ، فلما حصل هذا المقصود ، فحينئذ تركب الطبيعة تلك الأجسام على صورة أخرى ، صالحة لمقصود آخر ، وهي صبورة الأعصاب. فثبت : أن الكلام الذي ذكره جالينوس لا يمكن جعله طعنا في مذهب «خروسيس».

وأما جوابه الثاني : فضعيف أيضا. وذلك لأن الروح القلبي ، كما صعد إلى الرأس في الشرايين الصغيرة ، فقد صعد أيضا إلى أسفل البدن في الشرايين الصغيرة. ثم إن القسم الصاعد إلى الرأس ، تغير عن حالته بسبب وصوله إلى جرم الدماغ ، وصار روحا دماغيا حاملا لقوة الحس والحركة.

وأما القسم النازل من الأرواح القلبية ، لما وصلت إلى الرجلين ، فلم يتغير عن حالته البتة. فلم لا يجوز أن يكون الحال في أجرام الشريانات كذلك؟ وتمام التقرير فيه : أنا ذكرنا أن الطبيعة تسعى في تقليل الآلة (١) ففي الدماغ احتاجت الطبيعة إلى إعداد آلة حاملة لقوة الحس والحركة ، فلا يبعد تكوين تلك الآلة من تلك الشظايا الشريانية. ولم توجد هذه الحاجة(٢) في الرجلين. فظهر الفرق ، وثبت بهذا البيان الذي ذكرناه : أن الكلام الذي ذكره «جالينوس» في إبطال الاحتمال ، الذي ذكره «خروسيس» في غاية الضعف والسقوط.

__________________

(١) الحاجة (م).

(٢) الحالة (ل).

١٨٠