المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٧

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٧

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٥

القدر القليل من تلك البخارات التي هي الأرواح (١) لما حصل لها ذلك القدر من الصفاء والنورانية ، صار المتعلق الأول للنفس الناطقة تلك الأجسام ، وصارت الأعضاء إنما تجد قوة الحياة وقوة الإحساس ، لأجل وصول تلك الأرواح إليها. فالأجرام الفلكية مع غاية صفائها وإشراقها وجلالة جوهرها ، أولى أن تكون متعلقة للنفوس العالية المشرقة الإلهية.

وأما القوة الثانية من قوى النفس وهي الحركة الإرادية : فإنا نرى أن القلب كلما كان في الحركة ، كانت القوة النفسانية باقية. فلما صار القلب مع كثافته مستعدا لقبول الحياة ، بواسطة كونه دائم الحركة. فالأجرام الفلكية مع نهاية سرعتها في الحركات ، أولى بأن تكون موصوفة بالحياة. وبالجملة : فالنور يناسب الإدراك ، والعلم والحركة يناسب الفعل. فإذا كان لا مناسبة [لأنوار تلك الأجسام إلى أنوار هذا العالم ، ولا مناسبة (٢)] لحركات تلك الأجرام إلى حركات هذه الأجرام ، وجب الجزم بأنه لا مناسبة لحياة تلك الأجسام في الشرف والجلالة ، إلى حياة هذه الأجسام.

الحجة الرابعة : قد دلت الشواهد (٣) الرياضية : على أن جميع العناصر الأربعة ، بالنسبة إلى كلية الأفلاك ، كالمركز بالنسبة إلى الدائرة العظيمة. وبديهة العقل حاكمة : بأن الحياة أفضل من الجمادية. فلو كانت الأجرام الفلكية خالية عن الحياة ، لكان معظم مخلوقات الله تعالى ناقصة خالية عن آثار رحمة الله تعالى وحكمته ، وذلك بعيد. وأيضا : فالأجسام الفلكية لا نسبة لها في البقاء والنقاء والصفاء إلى هذه الأجسام الخسيسة العنصرية. والحياة والعقل ، لا نسبة لهما في الشرف والفضيلة إلى الجمادية والموت. فتخصيص الأجرام الخسيسة بالصفات الشريفة العالية ، وإخلاء الأجرام الشريفة العالية عن الصفات الشريفة على مضادة الرحمة والحكمة. وذلك في غاية البعد.

__________________

(١) للأرواح (ط).

(٢) سقط (ط).

(٣) الدلائل (م).

٣٤١

الحجة الخامسة : أجسام العالم بحسب القسمة العقلية على أربعة أقسام : لأنها إما أن تكون موصوفة بالحكمة والحياة الشريفة [الباقية وتكون خالية عن الشهوة والغضب والموت. وإما أن تكون موصوفة بالشهوة والغضب وتكون خالية عن الحكمة والحياة الشريفة (١)] وإما أن تكون موصوفة بالأمرين معا. وإما أن تكون خالية عن الأمرين معا.

أما القسم الثاني : وهو الجسم الموصوف بالشهوة ، الخالي عن الحكمة. فهو موجود. وهو البهائم والسباع والطيور [والحشرات (٢)].

وأما القسم الثالث : وهو الموصوف بالأمرين معا. فهو أيضا موجود. وهو الإنسان.

وأما القسم الرابع : وهو الخالي عن الأمرين معا. فهو أيضا موجود. وهو النبات والمعادن والجمادات.

فبقي القسم الأول : وهو الجسم الموصوف بالحياة الشريفة ، والحكمة التامة ، والمعرفة المشرفة. فليس هاهنا جسم يمكن وصفه بهذه الصفات إلا الأجرام (٣) العالية الفلكية. فلو لم تكن موصوفة بهذه الصفات ، لصار هذا القسم من أقسام الأجسام مفقودا. ولا شك أن هذا القسم أشرف الأقسام ، وأعلاها درجة ، وأعظمها مرتبة. فلو لم يوجد هذا القسم ، لخلت أقسام مخلوقات الله تعالى عن أشرف الأقسام وأجلها. ولوقع الاقتصار على تخليق الأجسام الخسيسة ، والامتناع عن تخليق القسم الأشرف الأعلى ، لكان ذلك يوجب فساد النظم في تدبير هذا العالم. والإله الحكيم المقدس. متعالي عن ذلك. فوجب القطع بدخول هذا القسم في الوجود وذلك لا يحصل إلا مع القول بأن الأفلاك والكواكب أحياء عاقلة.

الحجة السادسة : إنا قد بينا في كتاب «القدم والحدوث» في صفات

__________________

(١) من (طا ، ل).

(٢) سقط (طا) ، (ل).

(٣) أجرام الأفلاك (ل).

٣٤٢

السموات : أن بحركاتها تنتظم مصالح هذا العالم. وهي المبادي لحدوث الصور والأعراض في هذا العالم. ثم قد ثبت في أول العقل : أن كل كمال حصل في معلول عن علة ، فتلك العلة بذلك الكمال أولى من ذلك المعلول. ولا شك أن الحياة والإدراك والعلوم كمالات ، فوجب أن تكون الأجرام الفلكية أولى بهذه الكمالات من هذه الأجسام الرخوة الخسيسة. والذي يزيل الشبهة عن هذا الباب : أن من مارس علم الأحكام ، ووقف على أسرارها : علم أنه متى وقع كوكب من الكواكب المناسبة لحالة من الأحوال ، في موضع قوي مناسب من طالع مولد إنسان. فإن ذلك الإنسان يصير وحيد عصره ، وفريد دهره في تلك الحالة. فإذا كان هذا التعلق البعيد لتلك الكواكب بهذه الأجرام الرخوة ، يوجب الكمال. فالقول بأن تلك الذوات المقدسة النيرة الطاهرة الشريفة ، أولى بهذه الكمالات مما ينادى [بصحته (١)] صريح العقل ، وأصل الفطرة.

الحجة السابعة : قال صاحب كتاب «إخوان الصفاء» : «إنه سبحانه وتعالى ما ترك قعور البحور مع شدة ملوحتها إلا وخلق فيها أجناسا من الحيوان ، وأنواعا من السمك والحيتان ، وما ترك جو الهواء فارغا خاليا ، حتى خلق فيه أجناسا من الطير يسبح فيها ، كما يسبح السمك في الماء. وما ترك هذه المفاوز اليابسة ، وهذه الجبال الحجرية الصلدة ، حتى خلق فيها أجناسا من الوحوش والحشرات ، وما ترك شطوط الأنهار وبطون الأودية ، حتى ملأها من الحيوانات الخسيسة ، كالبق والبعوض والديدان والذباب. وما ترك لب النبات وثمر الشجر ، وداخل الحب ، إلا وملأها من الحيوانات. فكيف يليق بحكمته أن يترك هذه الأفلاك المضيئة المشرقة الواسعة ، مع شدة مناسبتها للحياة : خالية عن الحياة والإدراك والشعور : بل الحق هو ما ذكره صاحب الشريعة الحقة. وهو قوله عليه‌السلام : «أطّت السماء ، أطا ، وحق لها أن تئط. فما منها موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو قاعد أو راكع أو ساجد».

__________________

(١) من (م).

٣٤٣

الحجة الثامنة : أطبق جمهور العقلاء : على أن السموات منازل الملائكة ومساكنهم. ولا شك أن الملائكة ليسوا أجساما كثيفة ـ على ما ستأتي براهين ذلك ـ فوجب كونها أرواحا مدبرة لتلك الأجساد ، فتكون الأفلاك بالنسبة إليها ، كالأجساد بالنسبة إلى الأرواح ، وتكون الكواكب بالنسبة إليها ، كالقلوب. وهذا تمام ما أردنا ذكره في هذا الباب.

واحتج المانعون من كون الأفلاك أحياء عاقلة بوجهين :

الأول : إن هذه الأفلاك والكواكب تتحرك على نهج واحد ، لا يتغير البتة. والمتحرك بالإرادة لا يكون كذلك.

الثاني : إن جرم الشمس في غاية السخونة ، ولما كانت السخونة النارية مانعة من الحياة ، فالسخونة العظيمة التي في جرم الشمس أولى أن تكون مانعة من الحياة.

والجواب عن الحجة الأولى من وجوه :

الأول : إنه حق (١) أن كل ما كان طبيعيا ، فإنه يبقى على نهج واحد ، لكن لا يلزم منه أن كل ما بقي على نهج واحد ، فإنه يكون طبيعيا. لما ثبت : أن الموجبة الكلية لا تنعكس كنفسها.

والثاني : إن محرك هذه الأفلاك هو الله تعالى عند الكل ، فهي حركات صادرة عن الفاس المختار ، مع أنها باقية على نهج واحد ، فلم لا يجوز أن يكون الأمر كذلك ، مع أنها صادرة عن إرادة ذلك الفاعل (٢)؟.

والثالث : إن المريد إذا فعل فعلا مخصوصا ، فإنما فعل ذلك الفعل ، لأجل حصول تلك الإرادة [فلو قدرنا بقاء تلك الإرادة (٣)] بحالها ، لوجب بقاء

__________________

(١) الأولى : قوله أن كل ما ... الخ (م).

(٢) الفلك (م).

(٣) سقط (طا).

٣٤٤

ذلك الفعل بحاله. ضرورة أنه لم يلزم من دوام المؤثر ، دوام ذلك الأثر ، لكن بقاء تلك الإرادة بحالها ، أمر ممكن. وإلا لانتهت تلك الإرادة إلى وقت ، يمتنع بقاؤها. فيلزم انتقالها من الإمكان الذاتي ، إلى الامتناع الذاتي. وهو محال. فثبت : أن بقاء تلك الإرادة ممكن. وثبت : أنه يلزم من بقائها بقاء ذلك الأثر ، والموقوف على الممكن. ممكن. فيلزم القطع بأن بقاء الفعل الاختياري على حالة واحدة : ممكن من غير تغير وتبدل. وهو المطلوب.

والوجه الرابع في الجواب : ما ذكره «بطليموس» في كتاب «الثمرة» فقال : «إن المختار إذا طلب الأفضل ، لم يبق بينه وبين الطبيعة فرق» وتفسيره : إن الأفضل [في كل شيء لا يكون إلا واحدا. فإذا كان الفاعل المختار حكيما وطلب الأفضل (١)] لم يجد إلا ذلك الواحد فلا جرم وجب بقاؤه على ذلك الفعل. وذلك يمنع من وقع التغير في فعل الفاعل الحكيم.

والجواب عن الحجة الثانية : أن نقول : قد بينا في الطبيعيات : أن أجرام الأفلاك والكواكب غير موصوفة بالحرارة والبرودة. ولا يلزم من خلوها في ذاتها عن الحرارة والبرودة. أن لا تكون في التسخين والتبريد مؤثرة. ألا ترى أن الحركة توجب السخونة ، مع أن اتصافها بالسخونة محال. والغضب الشديد يوجب السخونة ، مع أن اتصاف الصفة المسماة [بالغضب (٢)] بالسخونة محال.

والوجه الثاني في الجواب : [أن نقول (٣)] هب أنها موصوفة بالسخونة الشديدة. فلم قلتم : إن ذلك يمنع قبول الحياة؟ فإنا نشاهد أن السمندر يتكون في النار ، والنعامة تبتلع الحديدة المحماة. وأمثال هذه الدلائل ، لو لا أنه ذكرها بعض الناس ، وإلا لكان يجب على العاقل أن لا يلتفت إليها.

__________________

(١) سقط (م) ، (ط).

(٢) سقط (ل).

(٣) سقط (ل).

٣٤٥

وليكن هاهنا آخر كلامنا في إثبات أن السموات والكواكب : أحياء ناطقة.

ويتفرع عليها بحثين (١) : البحث الأول : إن الحكماء لما أقاموا الدلالة على إثبات هذا المطلوب ، قالوا : ثبت أن أكثر العالم بكليته حيوان واحد مطيع لله سبحانه وتعالى. قالوا : وليس لأحد أن يقول بأن هذه العناصر موجودة في داخل السموات ، مع أنها ليست موصوفة بالحياة. فكيف يقال : العالم كله حيوان واحد؟ وأجابوا عنه : بأن نسبة جملة العناصر إلى ثخن السموات ، أقل من نسبة المدرة الصغيرة إلى كل الأرض. ومن نسبة القطرة إلى كل البحر. ثم إنا لو قدرنا أن إنسانا ابتلع مدرة صغيرة. فوجود تلك المدرة الصغيرة في جوفه لا يمنع من القول بأن هذا الإنسان حيوان ، فكذا هاهنا.

بل نقول : أكثر أجزاء هذا البدن المحسوس خالي عن الحس والحركة والإدراك. فإن العظام والرباطات خالية عن هذه الحالة. والأخلاط والرطوبات خالية عن هذه الحالة. وإذا كان خلو هذه الأجرام الكثيرة ، لا يمنع من القول بأن هذه الجثة (٢) حيوان. فخلو جملة العناصر ، مع أنها بالنسبة إلى جملة الأفلاك كالعدم ، بأن لا يمنع منه القول بأن جملة العالم حيوان واحد : أولى.

البحث الثاني : إن الكتاب الإلهي ناطق بكون الأجرام الفلكية موصوفة بالحياة. ويدل عليه وجوه :

الأول : قوله تعالى : (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (٣) والجمع بالواو والنون لا يليق إلا بالعقلاء.

الثاني : قوله تعالى : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ، رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (٤)

__________________

(١) أبحاث (الأصل)

(٢) هذا البدن (م).

(٣) يس ٤٠ واستدلال المؤلف خطأ. فإن سبحها مماثل لسبح الآلات الميكانيكية والآلات لا تعقل.

(٤) يوسف ٤ والآية لبيان حلم ، لا لبيان حال في يقظة.

٣٤٦

وهذه الضمائر لا تليق إلا بالعقلاء.

والثالث : قوله تعالى : (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) (١) والأمر لا يتوجه إلا على الأحياء (٢).

فهذا تمام الكلام في هذا الباب.

__________________

(١) فصلت ١٢.

(٢) الأمر ليس كالأمر الموجه للعقلاء. ولكن الأمر كما قال قتادة والسدى : «خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها وأفلاكها».

٣٤٧
٣٤٨

الفصل الثاني

في

بيان صفة النفس الفلكية

كلام (١) الشيخ الرئيس في أكثر كتبه ، يدل على أن النفس الفلكية المباشرة لتحريك جسم السماء : قوة جسمانية سارية في ذلك الجسم. فإنه قال في «النجاة» وفي «الشفاء» : «نسبة النفس الفلكية إلى جسم الفلك ، كنسبة النفس الحيوانية التي لنا إلينا» وذكر في «الإشارات» : «إن له مع ذلك نفسا ناطقة. نسبتها إلى جسم الفلك ، كنسبة النفس الناطقة التي لنا إلينا» وأيضا : أثبت أن لكل فلك عقلا على حدة ، فعلى هذا الطريق وجب أن يحصل لكل فلك أمور ثلاثة : النفس الحيوانية ، والنفس الناطقة ، والعقل المجرد. أما النفس الحيوانية ، فقد احتج على إثباتها بأن قال : المبدأ القريب لهذه الحركة : إرادة جزئية ، وإذا كان كذلك وجب أن يحصل لذلك المبدأ : علوم جزئية. وإذا كان كذلك ، وجب أن تكون تلك القوة جسمانية».

فهذه مقدمات ثلاث :

المقدمة الأولى : في إثبات قوله (٢) : «المبدأ القريب لهذه الحركة : إرادة جزئية» فالدليل عليه وجهان :

الأول : إن الماهية الكلية ، مشترك فيها بين الجزئيات. والقصد إلى

__________________

(١) عنوان الفصل في (م) في صفة النفس الملكية الفلكية.

(٢) قولنا (ل) قوله (م).

٣٤٩

القدر المشترك بين الجزئيات لا يفيد القصد إلى واحد من تلك الجزئيات. وإذا كان كذلك ، امتنع وقوع شيء منها.

أما قولنا : «الماهية [الكلية : ماهية (١)] مشترك فيها بين الجزئيات» فالأمر فيه ظاهر ، لأن الحركة مثلا ماهية مشترك فيها بين الحركة من هذه النقطة ، إلى تلك. وبين سائر الحركات. وأما أن القصد إلى القدر المشترك فيه لا يكون قصدا إلى شيء من تلك الجزئيات : فلأن ما به المشاركة مغاير لما به الممايزة ، وغير مستلزم له. فالقصد إلى ما به المشاركة ، لا يكون قصدا إلى ما به الممايزة. وإذا كان كذلك ، فلو وقع جزء واحد من جزئيات ذلك الكلي ، لكان ذلك وقوعا من غير المرجح والمخصص. وهو محال. فثبت : أن الحركة الجزئية [المعينة (٢)] إذا كانت إرادية ، فإن المؤثر في وقوعها : إرادية جزئية معينة.

والثاني : إن الإرادة الكلية باقية. وبقاء العلة يوجب بقاء المعلول ، فلو كان المقتضي لهذه الحركة المعينة إرادة باقية ، لزم من بقاء تلك الإرادة ، بقاء الجزء المعين من الحركة. وبقاء الجزء المعين من الحركة : محال. إذ لو بقي ذلك الجزء ، لانقطعت الحركة وصارت سكونا. ولا يمكن أن يقال : المؤثر في حصول ذلك الجزء المعين من الحركة ، هو تلك الإرادة الباقية ، لكن بشرط زوال الجزء السابق (٣) من الحركة. لأن على هذا التقدير ، يلزم جعل عدم الحادث السابق ، جزءا من علة وجود الحادث اللاحق. وذلك محال. ولما بطل هذا ، ثبت : أن العلة لحصول هذه الحركات المتعاقبة : إرادات جزئية متعاقبة. وهو المطلوب.

والمقدمة الثانية : إن صاحب الإرادات الجزئية ، لا بد وأن يكون صاحب التصورات الجزئية ، والإرادات (٤) الجزئية. وهذا حق. لأن القصد إلى تكوين

__________________

(١) سقط (ل).

(٢) سقط (ل).

(٣) السابق لأنه يلزم أن يكون العدم جزءا من علة ... الخ (م).

(٤) والإدراكات (م).

٣٥٠

الشيء ، مشروط [بالعلم. فالقصد إلى تحريك الجسم من هذا الحد ، إلى ذلك الحد ، يجب أن يكون مشروطا (١)] بتصور هذا الحد بعينه ، وتصور ذلك الحد بعينه. وذلك يدل على أن صاحب الإرادات الجزئية (٢) لا بد وأن يكون صاحب التصورات الجزئية.

[والمقدمة الثالثة : قولنا : صاحب التصورات الجزئية (٣)] يجب أن يكون قوة جسمانية ويمتنع أن يكون موجودا مجردا. تقريره : ما سبق ذكره من أن النفس المجردة عن الجسمية : يمتنع كونها مدركة للجزئيات بل المدرك للجزئيات هو القوة الجسمانية.

وإذا ظهرت هذه المقدمات الثلاث ، لزم القول (٤) بأن النفس الفلكية : قوة جسمانية. وهو المطلوب. وهذا تمام الكلام في تقرير هذا الكلام. والاعتراض عليه من وجهين (٥) :

الأول : لا نسلم أن المبدأ (٦) القريب للحركات الجزئية ، يجب أن يكون إرادة جزئية.

أما قوله : «القصد الكلي مشترك فيه بين الجزئيات ، فيمتنع كونه علة لجزئي بعينه» فنقول : الكلام عليه من وجوه :

السؤال الأول : أن نقول : هب أنكم عللتم تلك الحركات الجزئية بتلك الإرادات الجزئية ، وعللتم تلك الإرادات الجزئية ، بتلك التصورات الجزئية. فبم تعللون تلك التصورات الجزئية؟ فإن عللتموها بأشياء أخرى جزئية

__________________

(١) سقط (م) ، (ط).

(٢) الإدراكات لا بد (م).

(٣) من (طا ، ل).

(٤) الجزم (م).

(٥) وجوه [الأصل].

(٦) المحرك (م).

٣٥١

حادثة ، عاد الطلب فيها ، ويلزم إما الدور وإما التسلسل [وهما محالان (١)] وإما القول بأن الحادث المتقدم : علة لحدوث الحادث المتأخر [وإما طريق رابع (٢)] وكيف ما كان فليعقل مثله في نفس تلك الحركات.

وأقول (٣) : وحق الله : أني لشديد التعجب من هذا الشيخ الرئيس. كيف غفل (٤) عن أمثال هذه الأمثلة الظاهرة الجليلة ، المتبادرة إلى فهم كل عاقل.

السؤال الثاني : هب أن القصد الكلي مشترك فيه. إلا أنه لم لا يجوز أن يتخصص تأثير ذلك الكلي ، لأجل تخصص القابل؟ وبيانه : إن جوهر الفلك لما انتهى إلى نقطة معينة في حركته ، فإن الوقوف عليه ، والرجوع من تلك النقطة ، إلى ما وراءها محال. والانتقال منها إلى جانب آخر محال. فلم يبق إلا أن تتحرك من تلك النقطة على سبيل تتميم تلك الدورة إلى نقطة أخرى. فثبت : أن جوهر الفلك لا يقبل إلا تلك الحركة المعينة ، فلم لا يجوز أن يقال : الفاعل ، وإن كان صاحب القصد الكلي ، إلا أنه يخصص الأثر ، لأجل أن القابل ما كان قابلا إلا له؟ وهذا هو عين مذهبهم. فإنهم قالوا : العقل الفعال عام الفيض. وإنما تتخصص الآثار والصفات لأجل تخصص القوابل ، فكذا هاهنا.

السؤال الثالث : إن القصد إلى الشيء ، مشروط بالعلم به. فعلى هذا. القصد إلى الحركة المعينة [مشروط (٥)] بالعلم بها [والعلم بها (٦)] من حيث إنها تلك [مشروط بتحقق تلك ، من حيث إنها هي. فلو جعلنا حصول تلك الحركة من حيث إنها تلك (٧)] الحركة المخصوصة [معللا بالقصد إليها (٨)] من حيث إنها هي. وقع الدور. وهو محال. فثبت بهذه الأسئلة الثلاثة : ضعف ما ذكروه في الوجه الأول.

__________________

(١) من (طا ، ل).

(٢) من (طا ، ل).

(٣) قال المصنف وأقول (طا ، ل).

(٤) من (ل).

(٥) سقط (طا).

(٦) سقط (م).

(٧) سقط (م).

(٨) فلو كان العلم بها (م).

٣٥٢

وأما الوجه الثاني وهو قوله : «القصد الكلي باق. والباقي لا يكون علة للمتغير».

فنقول : لا نسلم أن القصد الكلي باق. وهذا السؤال ذكره الشيخ فقال : «لم لا يجوز أن يكون مبدأ هذه الحركة المتعاقبة : إرادات كليه متعاقبة ، وتصورات كلية متعاقبة؟ مثلا : إنه يريد الانتقال من أحد الحدين إلى الثاني [ومن الثاني إلى الثالث وهكذا ، حتى تتم الدائرة. وكونه مريدا للانتقال من أحد الحدين إلى الثاني (١)] إرادة كلية.

والجواب الصحيح عن هذا السؤال عندي : أن يقال : إنه لا يخلو إما أن يريد الانتقال من هذا الحد إلى ذلك الحد ، أو يريد الانتقال من حد إلى حد من غير تعيين ذلك الحد. فإن كان الأول ، كانت تلك الإرادة جزئية. وكان ذلك التصور جزئيا. وهو المطلوب.

وإن كان الثاني : فالقصد إلى الانتقال من مطلق الحد إلى مطلق الحد الآخر ، لا يقتضي أن يكون ذلك الانتقال واقعا من هذا الحد بعينه ، إلى ذلك الحد الآخر بعينه. لأن الانتقال من «الحمل» إلى «الثور» يصدق عليه أنه انتقال من حد إلى حد ، والانتقال من «الثور» إلى «الحمل» يصدق عليه أيضا : ذلك المفهوم. وكذا الانتقال من نقطة «الحمل» إلى جانب الشمال تارة ، وإلى جانب الجنوب أخرى. كل ذلك انتقال من حد إلى حد. فثبت : أن إرادة الانتقال من حد إلى حد ، نسبتها إلى جميع الحركات على السوية. ومتى كان الأمر كذلك ، امتنع أن تصير تلك الإرادة ، سببا لتعين البعض دون البعض. فثبت : أن هذا السؤال مدفوع. لأنه يتوجه عليه الأسئلة الثلاثة ، التي أوردناها على الوجه الأول. فظهر بهذا البيان : أن هذا الكلام ضعيف جدا.

السؤال الثاني : سلمنا : أن المباشر لتحريك جسم السماء ، يجب أن يكون صاحب الإرادات (٢) الجزئية. وسلمنا : أن صاحب الإرادات الجزئية

__________________

(١) من (طا ، ل).

(٢) الإرادة (ل).

٣٥٣

يجب أن يكون صاحب الإدراكات الجزئية. لكن لم قلتم : إن صاحب الإدراكات الجزئية. يجب أن يكون قوة جسمانية؟ فإنا بينا في المقالات السالفة : أن المدرك للكليات والجزئيات هو النفس. ولنذكر هاهنا وجوها.

الأول : إن غرض النفس عندكم من تحريك الفلك هو التشبه بالعقل ، على ما سيأتي تفسير هذا التشبه. وإرادة التشبه بالغير ، مشروطة بمعرفة صفة ذلك الغير ، فوجب أن تكون النفس المحركة لجسم السماء ، عالمة بالعقل المجرد. فثبت : أن الشيء الذي يباشر تحريك جسم الفلك ، هو الذي يكون مدركا لذلك العقل المجرد. [ولكمالاته. وإدراك المجردات لا يصح إلا من الجوهر المجرد (١)] فيلزم : أن تكون النفس الفلكية لكونها صاحبة الإدراكات الجزئية : قوة جسمانية ، ولكونها مدركة للعقل المجرد : جوهرا مجردا. فالشيء الواحد جسماني ومجرد. وذلك باطل قطعا.

واعلم أنه لا خلاص عن هذا الكلام ، إلا بالقدح في إحدى مقدمات ثلاث : إما أن يقولوا : صاحب الإدراكات الجزئية ، لا يجب أن يكون جسمانيا ، أو يقولوا : ليس الغرض للنفس من تحريك الفلك هو التشبه بالعقل ، أو يقولوا : القوة الجسمانية يصح عليها إدراك المجردات. [وأي واحد (٢)] من هذه الثلاثة ، قالوا به : فقد تركوا أصلا من أصولهم المشهورة ، وقاعدة من قواعدهم المعتبرة.

الثاني : إنا نعلم بالضرورة : أنه يمكننا أن نقول : «زيد إنسان» والحاكم بهذا الحكم يجب أن يكون مدركا لزيد ، من حيث إنه هو. وللإنسان الذي هو مفهوم كلي. وإلا لحصل التصديق من غير تصور. وهو محال. لكن صاحب الإدراكات الكلية : هو النفس المجردة. فوجب أن يكون صاحب الإدراكات الجزئية أيضا : هو النفس. وإذا كان كذلك. فحينئذ يبطل قولهم : إن صاحب الإدراكات الجزئية يجب أن يكون قوة جسمانية.

__________________

(١) سقط (م) ، (ط).

(٢) وشيء (م).

٣٥٤

الثالث : إن النفس الناطقة جوهر مجرد. وهي مدبرة لهذا البدن المعين. فإما أن تدبر هذا البدن بإدراكات كليه وقصد كلي. وإما أن تدبره بإدراكات جزئية وقصد جزئي. فإن كان الأول ، فقد بطل قولكم : إن القصد الكلي لا يصدر عنه أفعال جزئية. وإن كان الثاني ، فقد بطل قولكم : إن الجوهر المجرد لا يكون صاحب الإدراكات الجزئية. وعلى كلا التقديرين ، فإنه يبطل كلامكم.

وأقول : حقا إني شديد التعجب من غفلة هؤلاء الأقوام عن هذه الكلمات الظاهرة. فهذا هو الكلام على دليلهم.

والمختار عندي : أن النفس الفلكية جوهر مجرد عن الجسمية وعلائقها. ومع هذا ، فإنها موصوفة بالإدراكات الجزئية ، والإرادات الجزئية. وكذلك أيضا موصوفة بالإدراكات الكلية ، والإرادات الكلية. فهي عارفة بربها ، وقاصدة بهذه الحركات : عبادة ربها وخالقها ومدبرها. وعلى هذا التقدير ، فقد زالت الشكوك والشبهات. ويتفرع على ما ذكرنا : فروع. وهي : أن المسمى بنفس الكل (١) هي نفس الفلك الأعظم. وذلك لأن سائر الأفلاك موجودة في باطن الفلك الأعظم. فهي كالأجزاء من الفلك الأعظم. ونفوسها كالقوى المتشعبة من نفس الفلك الأعظم ، كما أن القوى المتشعبة عن النفس الناطقة الموجودة في كل واحد من الأعضاء المخصوصة كالنتائج والآثار والشعب لجوهر النفس الناطقة. فثبت بما ذكرنا : أن تدبير الحق سبحانه لعالم الأجسام ، إنما ابتدأ من الفلك الأعظم ، الذي هو العرش. وذلك الابتداء إنما حصل بواسطة تلك النفس التي هي النفس الفلكية. وأما سائر النفوس الفلكية والعنصرية ، فهي نتائجها وشعبها وأولادها. وإليه الإشارة في الدعاء المشهور وهو قوله عليه‌السلام : «اللهم إني أسألك بمعاقد عزك؟؟؟ على أركان عرشك» فالمراد من معاقد العز : هو جوهر تلك النفس الكلية وشعبها ، المنبثة منها في أجزاء العرش.

__________________

(١) الفلك (م).

٣٥٥
٣٥٦

الفصل الثالث

في

تعديد مذاهب الناس في السبب

الموجب ، لكون الفلك متحركا بالاستدارة

الناس فريقان : منهم من يقول : إنه يتحرك حركة مستديرة على سبيل الطبيعية. ومنهم من يقول : إنه يتحرك حركة مستديرة بالقصد والإرادة.

أما الذاهبون إلى القول الأول. فقد ذكروا فيه وجوها كثيرة. فالقول الأول قول من يقول : ثبت بالدليل وجود خلاء خارج العالم ، لا نهاية له. والجسم الثقيل الذي لا علاقة فوقه ، ولا دعامة تحته ينزل. والجسم النازل بهذه الصفة ، لا بد وأن يستدير على نفسه حال نزوله. فسبب كون الفلك متحركا بالاستدارة ، هذا المعنى.

واعلم : أن بناء هذا المذهب على مقدمات :

إحداها : إثبات الخلاء. وأنه لا نهاية له خارج العالم. وقد عرفت الكلام فيه.

والثانية : إن أجرام الأفلاك ثقيلة.

وقد دللنا فيما تقدم على فساد هذا الرأي.

والثالثة : إنا قد بينا : أن الخلاء المتشابه الذي لا نهاية له ، لا يتميز فيه جانب عن جانب بشيء من الخواص ، فلم يكن كون بعضها فوقا ، وبعضها تحتا ، أولى من العكس. وإذا تساوت الجهات في جميع الصفات ، امتنع أن يقال : إن الفلك ينزل من جانب إلى جانب آخر نزولا أبديا.

٣٥٧

القول الثاني : إنه ثبت : أنه لا بداية لحركات الأفلاك ، وثبت أيضا : أن انقطاع تلك الحركات محال ، وأن رجوعها عن مجاريها إلى جانب آخر محال ، وإذا ثبت هذا فنقول: إنه لا جزء من أجزاء الحركة الفلكية ، إلا وقد حصل قبله جزء آخر من الحركة. وانتهاء الفلك بذلك الجزء السابق من الحركة ، إلى ذلك الحد المعين : أوجب حركته من ذلك الحد ، إلى حد آخر بعده. وإذا كان كذلك ، فكل جزء من أجزاء الفلك ، إنما حصل لأن الجزء المتقدم عليه ، أوجب وقوعه على ذلك الوجه [وعلى هذا التقدير فيكون وقوع هذه الحركة على هذا الوجه (١)] أمرا واجب الوجود لذاته (٢) والواجب لذاته لا يجوز تعليله بعلة منفصلة ، فامتنع تعليل كون الفلك متحركا بعلة منفصلة.

والقول الثالث : إن الفلك قديم المادة ، محدث الصورة. ومادته إنما هي الأجزاء التي لا تتجزأ. وتلك الذرات والهباءات. وعلى هذا القول ، ففي سبب حركته بالاستدارة قولان :

الأول : إن تلك الأجزاء. كان بعضها حارا ، وبعضها باردا ، فلما اختلطت وامتزجت اختلاطا محكما ، بحيث تعذر انفصال بعضها عن البعض ، صار ذلك سببا لحصول الحركة الدورية. ومثاله : أن الذهب إذا ذوب في البوتقة. فإنه بعد الذوب يستدير على نفسه. والسبب فيه : أن الجزء الذي يلاصق البوتقة تقوى سخونته جدا. ولأجل قوة السخونة يصعد ، والجزء المرتفع تضعف سخونته ، فيميل إلى أسفل. وأجزاء الذهب متلاحمة متصلة ، التحاما واتصالا ، يمنع انفكاك بعضها عن البعض. ولما طلب بعض تلك الأجزاء الصعود ، وبعضها الهبوط ، وتعذر انفصال البعض عن البعض ، صار ذلك سببا لحصول الحركة الدورية في جرم الذهب الذائب. فلا يمتنع أن يكون سبب استدارة الفلك هذه الحالة ، أو ما يشبهها ويناسبها.

__________________

(١) سقط (م).

(٢) أمرا واجبا لذاته (م).

٣٥٨

والقول الثاني : قول «ديمقراطيس» وذلك لأن مذهبه أن هذه الهباءات والذرات كانت متحركة ، حركة دائمة في الخلاء الذي لا نهاية له. ثم اتفق في بعضها أن تصادمت على وجه خاص ، وتعارضت في حركاتها وتمانعت. فتولد جرم الفلك لهذا السبب. ثم اتفق لبعض تلك الأجزاء أن كانت قوة حركاتها إلى بعض الجوانب ، أقوى من قوة الأجزاء التي تمانعها وتعارضها ، فلا جرم تحرك جسم الفلك إلى ذلك الجانب ، فاستدار على ذلك الوجه الخاص. ثم إن المغلوب لا يعود غالبا ، والمقهور لا يصير قاهرا. فلا جرم بقي الفلك على الحركة الخاصة إلى آخر الأبد.

فهذه الوجوه الأربعة مفرعة على قول من يقول : حركات الأفلاك طبيعية.

وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : إن حركاتها إرادية. فالقائلون بهذا القول فريقان :

منهم من قال : إنه ليس للأفلاك غرض معين في اختيار هذه الحركات. ومنهم من أثبت لها غرضا معينا.

أما الفريق الأول : فتقرير قولهم : إن الأجرام الفلكية بسائط وجميع النقط المفترضة فيها متشابهة في تمام الحقيقة ، ومتساوية في تمام الماهية. ومتى كان الأمر كذلك ، وجب أن يكون وقوع تلك الحركات على جميع المدارات المختلفة التي لا نهاية لها : ممكنا. إذ لو أمكن البعض ، وامتنع البعض ، لزم أن تكون الأشياء المتماثلة في تمام الماهية ، مختلفة في اللوازم والآثار. وذلك محال. فثبت : أن الكل (١) ممكن وأنه ليس للبعض رجحان على البعض لا في أصل الإمكان ولا في السهولة ، ولا في أثر من الآثار البتة. ومتى تشابهت الأفعال ، وتساوت على الوجه الذي ذكرناه لم يمتنع أن يختار الفاعل المختار أحد تلك الأقسام دون الأخرى لا لعلة. ومثاله : أن الجائع إذا خير بين أكل

__________________

(١) التمثل (ط).

٣٥٩

رغيفين ، والعطشان إذا خير بين شرب قدحين ، فإنه يختار أحدهما دون الآخر لا لمرجح. وكذلك النفس التي للفلك الأعظم ، ولسائر الأفلاك ، اختار كل واحد منها نوعا معينا من الحركة ، لا لغرض ولا لمرجح البتة.

والقول الثاني : قول من يقول : إن للفلك في حركته غرضا معينا معتبرا. وهؤلاء فرق ثلاث : منهم من يقول : ذلك الغرض : كمالات عالية ، يستفيدها من المبادي العالية لنفسه. ومنهم من يقول : ذلك الغرض عمارة هذا العالم ، وحصول نظامه. ومنهم من جمع بين الطرفين فقال : أصل حركاتها لأجل استفادة الكمالات من المبادي العالية. وأما جهات حركاتها ومقادير بطئها وسرعتها ، فلأجل مصالح هذا العالم العنصري.

وذكروا لهذا مثالا. وهو : أن رجلا كريم النفس ، كثير الخير. إذا أراد الذهاب إلى موضع لمهم له فيه. وكان إلى ذلك الموضع طريقان متساويان بالنسبة إليه من كل الوجوه. إلا أن ذهابه في أحد الطريقين ، يوجب حصول المنافع الكثيرة لطائفة من الضعفاء ، والعاجزين ، واندفاع الشرور الكثيرة عنهم. وذهابه في الطريق الثاني يوجب بطلان تلك الخيرات والمصالح ، فإن كونه في ذاته خيرا رحيما ، يقتضي أن يختار الطريق الأنفع للضعفاء ، ويترك الطريق العاري عن النفع.

فهذه أقوال ثلاثة مضبوطة.

أما القول الأول : وهو أن الغرض للفلك من هذه الحركات استفادة الكمالات وتحصيل السعادات.

فأقول : التقسيم الصحيح في هذا المقام. أن يقال : تلك الكمالات إما أن تكون جسمانية أو نفسانية. أما القسم الأول فهو المختار عند الحكماء المتأخرين. ك «أبي نصر الفارابي» و «أبي علي بن سينا». وذلك لأنهم قالوا : إن جوهر الفلك كامل في ذاته وفي جميع صفاته. ولم يبق فيه شيء بالقوة ، إلا وقد خرج إلى الفعل إلا في إيوانه وأوضاعه. فإن خروج كلها من القوة إلى الفعل محال. وإلا لزم حصول الجسم الواحد دفعة واحدة ، في أمكنة كثيرة ،

٣٦٠