المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٧

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٧

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٥

توجب موت البدن وشقاوته وقوته. وأن حياة البدن وسعادته ويقظته ، توجب موت النفس وشقاوتها ونومها. وذلك من أدل الدلائل على أن النفس شيء غير البدن ، وغير كل واحد من أجزائه [وأبعاضه (١)] وهو المطلوب.

الحجة (٢) التاسعة في بيان أن النفس ليست جسما : هو أن نقول : لو كانت النفس العاقلة الفاهمة الفاعلة جسما ، فكان إما أن يكون مجموع هذا البدن أو جزءا داخلا فيه ، أو جسما خارجا عنه. والكل باطل ، فبطل القول بكون النفس جسما. إنما قلنا : إنه لا يجوز أن تكون عبارة عن مجموع هذا البدن ، وذلك لأنا نعلم بالضرورة : أن أكثر أجزاء هذا المجموع خال عن الفهم والإدراك ، فإن العظام لا حس لها ، والأخلاط لا حس لها البتة ، والرباطات أيضا لا حس لها ، وهذا بحسب الأعضاء البسيطة.

وأما بحسب الأعضاء المركبة ، فنحن نعلم بالضرورة : أن الرجلين واليدين وكثيرا من الأعضاء الظاهرة والباطنة ، ليست محلا للعقل والفهم والإدراك. وإذا ثبت أن أكثر الأعضاء البسيطة والمركبة خال عن العلم والفهم والإدراك ثبت : أنه لا يمكن أن يقال : إن مجموع البدن هو هذا العالم القادر المريد الفاعل. وإنما قلنا : إنه لا يجوز أن يكون العالم القادر المريد الفاعل جسما في داخل البدن ، فلأن بتقدير أن يكون الأمر كذلك ، يكون ذلك الجسم (٣) فاعلا بالمماسة ، وفاعلا بالاعتماد على سائر الأجسام. لكن من المعلوم أنه كل ما كانت الحاجة إلى الآلات أقل ، كان ذلك الفعل أسهل. وكل ما كانت الحاجة إلى الآلات أكثر ، كان ذلك الفعل أشق. ولا شك أن ذلك الجسم لا يكون مماسا لجميع أجزاء البدن ، لأن الجسم الواحد يمتنع حصوله في الأماكن الكثيرة دفعة واحدة ، فلزم أن يقال : إن تأثيره في بعض أجزاء البدن أسهل من

__________________

(١) سقط ((ط).

(٢) هذه الحجة والحجة العاشرة في الأصول : مذكورة في نهاية الفصل السابع وموضوعه : الدلائل السمعية على أن النفس غير البدن.

(٣) يكون الأمر : غير (ل).

١٢١

تأثيره في سائر الأجزاء. ومعلوم أنه ليس كذلك. ولأن تأثيره في الإبصار بالعين ، مثل تأثيره في السماع بالأذن. فثبت : أن تأثير النفس في استعمال جميع الأعضاء بالسوية.

وقد دللنا : على أنه لو كان جسما داخلا في البدن ، لما حصلت هذه التسوية ، فحينئذ يلزم أن لا تكون النفس جسما موجودا في البدن.

فإن قالوا : لم لا يجوز أن يقال : النفس جسم مشابك للبدن ، فبعض أجزائه مشابك في العين ، وبعضها في الأذن ، وبعضها في القلب [وبعضها في الدماغ (١)] وبهذا التقدير فيتولى كل جزء من أجزاء النفس ، جزءا من أجزاء البدن. فنقول : هذا باطل من وجوه (٢) :

الأول : إنه على هذا التقدير يكون الإنسان عبارة عن مجموع أجزاء كثيرة متفرقة في أعضاء مختلفة. ونحن قد دللنا في الفصل المتقدم على أن الإنسان يجب أن يكون شيئا واحدا موصوفا بجميع العلوم وبجميع العلوم وبجميع الإدراكات ، وبجميع القدر ، وأن يكون هو بعينه فاعلا لجميع الأفعال. وذلك يبطل هذا الذي ذكرتم.

الوجه الثاني في الجواب : إن بتقدير أن يكون الأمر كما ذكرتم ، إلا أنه يلزم أن يكون كل واحد من تلك الأجزاء مستقلا بالتصرف في ذلك العضو المخصوص (٣) ولو كان الأمر كذلك ، لوجب أن لا يكون اشتغال بعض تلك الأجزاء بفعله الخاص به ، مانعا للجزء الآخر من فعله الخاص به. ومعلوم : أن هذا حاصل. فإن الإنسان إذا اشتغل بالغضب ، امتنعت الشهوة عليه ، وإذا اشتغل بالشهوة ، امتنع الغضب عليه [وإذا اشتغل بالفكر امتنع كلاهما عليه (٤)].

__________________

(١) من (ل).

(٢) وجهين [الأصل].

(٣) في (طا ، ل) وضع الناسخ عبارات سهوا ومحلها في الفصل الرابع عشر.

(٤) من (م ، ط).

١٢٢

والوجه الثالث في الجواب : إن هذا السؤال إنما يتم لو قلنا : إنه حصل مع كل جزء من أجزاء البدن : جزء من أجزاء النفس. حتى يقال : بأن كل واحد منها يحرك ذلك الجزء من غير احتياج إلى شيء من الآلات ، فحينئذ تكون نسبة النفس إلى جميع الأعمال على السوية. ومعلوم أن ذلك [باطل (١)] وإلا لزم أن تكون جميع الأعضاء متساوية في كونها عضوا واحدا رئيسا ، مستقلا بقبول قوة الحياة. ومعلوم : أنه ليس كذلك. لأن القلب والدماغ أقوى في تعلق النفس بهما من سائر الأعضاء. فثبت بهذه البيانات : أنه لا يجوز أن تكون النفس جسما ساريا في البدن.

وأما القسم الثالث : وهو أن يقال : النفس جسم مغاير للبدن وغير داخل فيه ، فهذا بعيد عن العقل ، ولم يقل به أحد. ولما بطلت الأقسام الثلاثة بقي القسم الرابع ، وهو أن النفس جوهر مجرد عن الجسمية وعلائقها ، وأن نسبته إلى جميع الأجزاء على السوية ، فلم يكن اشتغاله باستعمال بعض الأجزاء ، أشق عليه من استعمال سائر الأعضاء [وهو المطلوب (٢)].

الحجة العاشرة : لو كانت النفس هذا البدن ، أو عضوا من أعضاء هذا البدن ، لامتنع الحشر والنشر والثواب والعقاب ، ولو كان الأمر كذلك ، لكان الإنسان أخس الحيوانات (٣) ولكان تكوينه وإيجاده عبثا محضا. وهذه اللوازم باطلة ، فكان القول بأن النفس عين هذا البدن ، أو عضو من أعضائه : باطلا. فنفتقر في تقرير هذا الدليل إلى [تقرير(٤)] مقدمات.

المقدمة الأولى : في بيان أن النفس ، لو كانت عبارة عن هذا البدن ، أو عن عضو من أعضائه ، لكان القول بالبعث والقيامة باطلا. فتقريره : إنا نشاهد أن هذا البدن مع جميع أعضائه وأجزائه يتفرق ويتمزق ، ويصير فانيا

__________________

(١) سقط (م) ، (ط).

(٢) سقط (م) ، (ط).

(٣) من جميع الموجودات (م).

(٤) سقط (ل).

١٢٣

بالكلية. والشيء إذا فني وعدم فإعادته بعينه بعد فنائه : محال في بديهة العقل. فإن قالوا : لم لا يجوز أن يقال : الإنسان عبارة عن أجزاء مخصوصة ، فإذا مات الإنسان وتفرقت [تلك الأجزاء (١)] والأعضاء ، فالزائل إنما هو الصفات والأعراض ، وأما تلك الأجزاء فهي بأعيانها باقية. فلا جرم كان ذلك الإنسان باقيا بعينه. فإذا عادت تلك الأعراض إليه ، فإن هذا الإنسان الموجود في هذه الحالة ، هو عين الإنسان الذي كان موجودا قبل ذلك. فنقول: هذا باطل ، لأن بتقدير أن يكون الإنسان عبارة عن جسم مخصوص ، فإنه يمتنع أن يقال : ذلك الإنسان عبارة عن مجرد تلك الأجسام ، لأن تلك الأجسام ، قد كانت موجودة قبل أن تركبت واتصفت بتلك الصفات ، وما كان هذا الإنسان موجودا. وإذا مات ذلك الإنسان بعد حياته ، وتفرقت تلك الأجزاء. فتلك الأجزاء باقية ، مع أن ذلك الإنسان غير باق. فعلمنا : أن بتقدير أن يكون الإنسان جسما ، فإنه لا يكون الإنسان المخصوص عبارة عن مجرد الجسمية ، بل يجب أن يكون عبارة عن جسم موصوف بصفات مخصوصة. وهي : العلم والقدرة والحياة. وإذا كان الإنسان عبارة عن مجموع تلك الذوات مع هذه الصفات ، فعند فناء هذه الصفات ، قد عدم أحد الأجزاء المعتبرة في تحقق هذا الإنسان ، من حيث إنه هذا الإنسان.

ولما ثبت بحكم بديهة العقل : أن إعادة المعدوم : محال ، ثبت : أن عود ذلك العرض الذي هو أحد أجزاء ماهية ذلك الإنسان : محال. فيلزم : أن يكون عود ذلك الإنسان بعينه محالا. فثبت بما ذكرناه : أنه لو كان النفس عبارة عن هذا البدن ، أو عن عضو من أعضاء (٢) هذا البدن لكان القول بالبعث والقيامة : باطلا ، ولكان بقاء النفس بعد موت البدن : باطلا. وهذا برهان قوي في إثبات هذا المطلوب.

وأما بيان المقدمة الثانية : وهي قولنا : لو كان القول بالبعث باطلا ،

__________________

(١) سقط (طا ، ل).

(٢) أعضائه لكان (م).

١٢٤

وكان القول ببقاء النفس بعد موت (١) البدن باطلا ، لكان الإنسان أخس من جميع الحيوانات. فالدليل عليه : أن الإنسان إنما يتميز عن سائر الحيوانات بقوة العقل والعقل يوجب الشقاء في اللذات الجسمانية ، ويوجب السعادة في الكمالات العقلية ، المنتفع بها بعد الموت. والدليل عليه : أن العاقل يحمله عقله على التفكر في الماضي والحاضر والمستقبل.

أما التفكر في الماضي. فكل ما مضى من الأمور (٢) المكروهة. فإذا تذكره ، وقع في قبله حسرة شديدة ، بسبب حصولها في الماضي. وكل ما مضى من الأحوال الطيبة ، فإذا تذكره وقع في قلبه حسرة شديدة بسبب فوتها وزوالها.

وأما التفكر في الأحوال الحاضرة. فهذا إما أن يكون في خير أو شر. فإن كان في الخير ، فالعقل يوجب الغم من وجوه :

الأول : إنه يخاف زوالها فيحصل له ألم الخوف في الحال.

الثاني : إنه لا راحة إلا وفوقها مرتبة أخرى أعلى منها ، فإذا عرف العقل ذلك ، اشتاق إلى المرتبة القوية ، واستحقر المقدار الحاصل ، فيحصل الغم والألم.

الثالث : إن كل ما يحصل ، فإنه يزول الالتذاذ به ، وحصوله يقوي الرغبة في الأحوال المستقبلة. فهو يوجب الخوف الشديد ، والفزع التام. لأنه لا يعرف أنها تحصل على وفق المراد ، أو على خلاف المراد. مثبت بما ذكرناه : أن العقل يوجب حصول هذه الراحات الجسمانية ، منغصة مقرونة بالخوف والمكروه وألم القلب. وأما سائر الحيوانات ، فإنها لما كانت خالية عن العقل ، كان انتفاعها باللذات الجسدانية ، خاليا عن التنغيص الحاصل بسبب العقل ، فوجب أن يكون انتفاعها بهذه اللذات [الجسدانية (٣)] أكمل من انتفاع الناس بها.

__________________

(١) الموت باطلا (م).

(٢) المدركات (م).

(٣) سقط (ط).

١٢٥

إذا ثبت هذا ، فنقول : إن كون العقل موجبا للكمال والسعادة ، إنما يحصل بعد الموت. فإذا كان الغرض هو أن النفس لا تبقى البتة بعد موت البدن ، لم يحصل من العقل منفعة فيما بعد الموت ، وقد بينا أنه من أقوى الأسباب الموجبة لتنغيص هذه اللذات الجسدانية ولتكديرها ، وإبطال الانتفاع بها. وحينئذ يظهر [عن هذا (١)] أنه لو لم تكن النفس باقية بعد موت البدن (٢) لكان الإنسان أخس الحيوانات وأرذلها ، وأدناها قدرا وقيمة. فإن امتيازها عن غيرها ، ليس إلا بالعقل الذي لا فائدة فيه. إلا تنقيص [الخيرات (٣)] وتنغيص اللذات والطيبات. ولما شهدت بديهة العقل بأن هذا اللازم باطل ، وأن الإنسان أشرف الحيوانات وأعلاها قدرا وقيمة ، بسبب حصول هذا العقل له ، وظهر أن العقل سبب نقصان الخيرات الجسمانية العاجلة ، وجب القطع بأن كمال العقل [إنما حصل (٤)] وجلالته ورفعته ، إنما حصل بسبب أنه سبب لحصول الكمالات فيما بعد موت (٥) البدن. وهذا يدل على أن النفس غير البدن ، وعلى أنها باقية بعد موت البدن.

وأما بيان المقدمة الثالثة : وهي قولنا : لو لم تكن النفس باقية بعد موت البدن ، لكان خلق الإنسان عبثا. فالدليل عليه : أن هذا الإنسان إما أن يكون مخلوقا للخير والمصلحة والراحة ، أو يكون مخلوقا للضرر والبلاء ، أو لا يعتبر أحد هذين القسمين.

أما القسم الثاني ، فهو بعيد لما ثبت : أن الخير غالب ، والشر مغلوب.

وأما القسم الثالث ، فباطل لأن هذا المعنى ، كان حاصلا عند البقاء على العدم الأصلي. فلم يبق إلا أن الحق هو القسم الأول ، وهو أنه خلق للفوز بالجنة ، والراحة ، والحكمة ، والمصلحة. فنقول : محل الفوز بتلك

__________________

(١) من (م).

(٢) الجسد (م).

(٣) من (م).

(٤) من (ل ، طا).

(٥) الموت وهذا (م). ، (ل).

١٢٦

الخيرات ، إما في هذه الحياة الجسمانية وإما بعدها. والأول باطل. لأن دار الدنيا ، دار البلاء والعناء والشقاء. وسيأتي تقرير هذه المقدمات في كتاب «الأخلاق» عند مذمة هذه الحياة الجسمانية على سبيل الاستقصاء. ولما بطل هذا القسم ، ثبت : أن المقصود من تكوين هذه النفوس البشرية : فوزها بالخيرات والسعادات فيما بعد موت البدن. وهذا يدل على أن النفس غير البدن ، وغير جملة أجزائه وأبعاضه ، وعلى أن النفس باقية بعد موت البدن. إما في السعادة والسلامة ، أو في الشقاوة [والعذاب.

وليكن هاهنا

وليكن هاهنا آخر كلامنا في إثبات النفس. والله أعلم (١)]

__________________

(١) من (ل ، طا).

١٢٧
١٢٨

الفصل السابع

في

الدلائل السمعية على أن النفس غير البدن

اعلم : أن جماعة من الذين قلت بضاعتهم في العلوم الحقيقية ، أخذوا يشنعون بأن القول بأن النفس غير البدن : قول مخالف للكتاب والسنة. فوجب الجزم بإبطاله. فلهذا السبب أوردنا [هذا الفصل (١)] في هذا الكتاب (٢) تنبيها على أن الكتاب والسنة مملوءان ، من الدلائل الدالة على هذا المطلوب. فنقول : أما الدلائل القرآنية فمن وجوه :

الحجة الأولى : إن القرآن دل على أن السعداء : أحياء بعد الموت ، وعلى أن الأشقياء أحياء بعد الموت. وذلك يدل على أن النفس غير البدن [وعلى أنها باقية بعد موت البدن (٣)].

أما بيان ذلك في حق السعداء : فهو قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ : أَمْواتاً. بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ، فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) (٤) ووجه الاستدلال : أن العلم الضروري حاصل بأن هذا البدن

__________________

(١) سقط (ل).

(٢) في هذا الباب (ل ، ط).

(٣) سقط (طا ، ل).

(٤) آل عمران ١٦٨ ـ ١٦٩ والتكملة من (طا ، ل) ويقول القرطبي في تفسيره «وصار قوم إلى أن هذا مجاز. والمعنى : أنهم في حكم الله مستحقون للتنعم في الجنة. وهو كما يقال :

١٢٩

بعد موته : ميت ، ولو جاز الشك في موته ، لجاز أن يقال : إن جميع الجمادات أحياء عاقلة ناطقة ، وذلك يوجب القول بالسفسطة وزوال العقل. فثبت بمقتضى بديهة العقل : أن بعد موت البدن ، يكون الجسد ميتا. والله تعالى نص على أن ذلك الإنسان حي بعد هذا الموت ، وحينئذ نقول : الإنسان ليس بميت بعد موت البدن ، وأما البدن وجميع اجزائه فإنه ميت بعد موته ، ينتج من الشكل الثاني [أن الإنسان (١)] شيء مغاير للبدن ، ولجميع أجزائه وأبعاضه. وهذا كلام في غاية القوة.

وأما تقرير هذا المعنى في حق الأشقياء : فهو قوله تعالى : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) (٢) وقوله : (أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) (٣) والمراد : أن شرح تعذيب أولئك الكفار والفساق وتعذيبهم ، لا يتم إلا إذا كانوا أحياء عقلاء يميزون بين العذاب وبين الراحة.

فهذا يقتضي كون أولئك الكفار والفساق أحياء بعد موت البدن ، وحينئذ يرجع القياس المنعقد من الشكل الثاني. وأيضا : فالقرآن والأخبار ناطقة بحصول ثواب القبر تارة ، وبحصول عذاب القبر. وذلك يدل على أن المكلف حي بعد موت هذا البدن ، وهذا يدل على القطع (٤) بأن المكلف شيء مغاير لهذا البدن.

__________________

 ـ موت التقى حياة لا فناء لها

قد مات قوم ، وهم في الناس أحياء

فالمعنى : أنهم يرزقون الثناء الجميل» أ. ه وعلى رأي القوم هذا : لا يكون نعيم في القبر. ويكون رأي الإمام الرازي غير ملزم إلا لمن يلزم نفسه به.

(١) سقط (ل).

(٢) غافر ٤٦ وفي تفسير القرطبي : أن الفراء النحوي جعل في الآية تقديما وتأخيرا. وعلى رأيه لا يكون عذاب في القبر. قال إن معنى الآية : ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب.

النار يعرضون عليها غدوا وعشيا. والأحسن من رأيه : أن كلمة (النَّارُ) مجاز عن الشدائد التي أصابتهم في الحياة الدنيا ، وهي الأخذ بالسنين ونقص من الثمرات.

(٣) نوح ٢٥ وفي تفسير القرطبي : إن منكري عذاب القبر يقولون في تفسير الآية : «صاروا مستحقين دخول النار ، أو عرض عليهم أماكنهم من النار».

(٤) أن القطع (ل).

١٣٠

الحجة الثانية : وهي قريبة مما تقدم. إنا نرى جميع طوائف العالم ، وجميع الفرق متفقين على أنه إذا مات إنسان. فإن اعتقدوا فيه أنه كان حال الحياة ، موصوفا بالصفات المحمودة: ذكروه بالرحمة والتعظيم ، فتارة يقولون : صلوات الله عليه. وتارة يقولون : رحمة الله عليه. وإن اعتقدوا فيه أنه كان [حال الحياة (١)] موصوفا بالصفات المذمومة من الجهل والشرور والإيذاء : ذكروه باللعن والخزي والعذاب. ولو قدرنا أن الإنسان لم يبق حيا بعد موت البدن، لكان هذا الكلام عبثا باطلا ، فإن من لا يكون حيا ، استحال اتصال الرحمة والروح والراحة إليه ، واستحال أيضا إيصال الذم واللعن إليه. ولو كان الأمر كذلك ، لكان أهل المشرق والمغرب من الزمان الأقدم إلى هذا الزمان مطبقين على الفعل الباطل [والقول الفاسد ، وهذا بعيد. فإن إطباق الخلق العظيم على العلم الباطل (٢)] غير ممكن. فهذا يدل على أن فطر النفوس وبدائه العقول شاهدة بأن الإنسان شيء آخر غير هذا البدن ، وأنه يبقى بعد موته حيا ، فإن كان سعيدا كان أهلا للرحمة ، وإن كان شقيا كان أهلا للعنة.

الحجة الثالثة : إنه جرت عادة العقلاء بأنهم يذهبون إلى المزارات المتبركة ويصلون ويصومون عندها ، ويدعون الله في بعض المهمات ، فيجدون آثار النفع ظاهرة ، ونتائج القبول لائحة.

يحكى أن أصحاب «أرسطاطاليس» كانوا كلما صعبت عليهم مسألة ، ذهبوا إلى قبره ، وبحثوا فيها ، فكانت تنكشف لهم تلك المسألة ، وقد يتفق أمثال هذا كثيرا ، عند قبور الأكابر من العلماء والزهاد [في زماننا (٣)] ولو لا أن تلك النفوس باقية بعد موت الأبدان، وإلا لكانت تلك الاستعانة بالميت الخالي عن الحس والشعور [عبثا (٤)] وذلك باطل.

ومما يقوي هذا : هو أن الأحياء قد يصلون لأجل الأموات ، وقد يتصدقون لأجلهم. وقد يتفق كثيرا (٥) : أن الحي إذا نام عند قبر بعض

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) سقط (م ، ط).

(٣) من (م).

(٤) من (م).

(٥) هذا الاستدلال لا يليق بعقل المؤلف.

١٣١

الأموات ، فإنه يراه في المنام ، وقد يدله على أمر مخصوص ، وقد يدله على دفين ، كان هذا الحي غافلا عنه ، وقد ينبهه على بعض المهمات. وكل ذلك يدل على أن النفوس باقية بعد موت الأجساد ، وكل ما دل على أن النفس باقية بعد موت الجسد ، فإنه يكون دليلا على أن النفس غير الجسد.

الحجة الرابعة : الآيات الدالة على أن الإنسان بعد موته يرجع إلى الله في السعادة والكرامة قال تعالى : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ، ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) (١) ولا شك أن المراد من هذه (النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) : هو ذلك المكلف الذي حصل له اطمئنان ، بأنه يجب الإعراض عن الجسمانيات ، والإقبال على عالم المفارقات والروحانيات. ثم إنه تعالى قال لهذه النفس : (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) وهذا الرجوع لا يحصل إلا بعد الموت ، ثم إنه تعالى وصفها حال الرجوع بهذه الصفات الثلاثة :

أولها : كونها مطمئنة في العلوم الحقة ، والأخلاق الفاضلة ، التي لا تزول بسبب زوال الجسد.

ثانيا : كونها راضية عن خالقها في جميع الأحوال.

وثالثها : كونها مرضية عند الله تعالى في جميع الاعتقادات والأخلاق. ثم لما وصفها الله تعالى بهذه الصفات قال لها : (فَادْخُلِي فِي عِبادِي ، وَادْخُلِي جَنَّتِي).

وكل ذلك تصريح بأن الشيء الذي هو الإنسان في الحقيقة باقي ، حي ، عاقل فاهم بعد موت هذا البدن [وإذا ثبت هذا فنقول : الإنسان باقي ،

__________________

(١) الفجر ٢٧ ـ ٣٠ والتكملة من (ل ، ط). وإلى ربك فيها تأويلان : ١ ـ إلى جسد صاحب النفس ـ وهذا يدل على أن النفس غير الجسد. ٢ ـ إلى ربك أي إلى الله تعالى ـ وهذا يدل على أن النفس هي الروح والجسد. وهو صحيح. والرجوع إلى الله في الآخرة ، أي ارجعي إلى ثواب ربك وكرامته. وادخلي في عبادي أي في الصالحين منهم ، وادخلي الجنة معهم.

١٣٢

حي ، عاقل ، فاهم بعد موت هذا البدن. والبدن (١)] ليس كذلك. وهذا يدل على أن الإنسان شيء مغاير لمجموع هذا البدن ، ولكل واحد من أجزائه وأقسامه.

ويقرب من هذه الآية قوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ، تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا. وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ. ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ. مَوْلاهُمُ الْحَقِّ. أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) (٢) فحكم عليهم بعد موتهم : بأنهم (رُدُّوا إِلَى اللهِ. مَوْلاهُمُ الْحَقِ) وذلك يقتضي بقاؤهم بعد موت البدن ، وعلى أنه تعالى يحاسبهم بعد موت البدن. وكل ذلك يدل على ما ذكرناه. فإن قالوا : فلم لا يجوز أن يكون المراد بهذا الخطاب : جزء [مخصوص (٣)] من أجزاء البدن؟ فنقول : فعلى هذا التقدير يكون المكلف المثاب والمعاقب والمخاطب والمعاتب ، ليس إلا ذلك الجزء ، فيكون الإنسان هو ذلك الجزء ، لا هذا البدن. ولا شيئا من الأعضاء المحسوسة كالقلب والدماغ. ونحن لا نطلب إلا هذا القدر في هذا المقام (٤).

الحجة الخامسة : قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) (٥) فذكر المراتب الخمسة في التغيرات الجسمانية. ثم قال في المرتبة السادسة منها ، وهي مرتبة تعلق الروح بالبدن : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) [وهذا يدل على أن الروح ليس من عالم الأجسام ، وإلا لكان ذلك أيضا تغيرا للجسم من حالة إلى حالة أخرى ، فكان من جنس المراتب الخمسة المتقدمة. وكما لم يقل في شيء منها : (ثُمَ‌ أَنْشَأْنَاهُ‌ خَلْقاً آخَرَ)] وجب أن لا يذكر هذا

__________________

(١) من (ل ، طا).

(٢) الأنعام ٦١ ـ ٦٢ والتكملة من (طا ، ل) وفي تفسير القرطبي : (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ) أي ردهم الله بالبعث للحساب».

(٣) سقط (م) ، (ط).

(٤) تقديم وتأخير في (ل).

(٥) المؤمنون ١٢.

(٦) من (م ، ط). والإنشاء الآخر. قال فيه القرطبي : قيل هو نفخ الروح فيه بعد أن كان جمادا. وعن ابن عباس : خروجه إلى الدنيا. وعن مجاهد : كمال شبابه. والصحيح : أنه عام ـ

١٣٣

اللفظ في هذه المرتبة أيضا. وحيث خص هذه المرتبة بهذا اللفظ ، دل ذلك على أن الروح ليس من جنس الأجسام.

الحجة السادسة : قوله (١) عليه‌السلام في بعض خطبه : «إذا حمل الميت على نعشه رفرفت روحه فوق النعش ، وتقول : يا أهلي ويا ولدي. لا تلعبن بكم الدنيا ، كما لعبت بي. جمعت المال من حله ومن غير حله (٢) ثم خلفته لغيري. فالمهنأة له ، والتبعة علي. فاحذروا مثل ما حل بي».

ووجه الاستدلال : أنه عليه‌السلام. حكم بأن الجسد الميت المحمول على النعش حال كونه كذلك ، ترفرف روحه فوق النعش ، وتقول : «يا أهلي. ويا ولدي. لا تلعبن بكم الدنيا. ، كما لعبت بي» ومعلوم : أن الأهل والولد ، ما كانا إلا كذلك الإنسان. فلما قال الروح المترفرف هذا الكلام ، ثبت أن الإنسان [ما كان إلا ذلك الروح. ولما كان ذلك الروح باقيا ، وجب كون ذلك الإنسان (٣)] باقيا حال ما كان الجسد ميتا محمولا على النعش. وذلك من أظهر الدلائل على أن الإنسان شيء مغاير لهذا الجسد ، ومغاير لجميع أبعاضه وأجزائه.

ويقرب من هذا الدليل : ما روي أنه عليه‌السلام ألقى جثث القتلى يوم بدر في وهدة ، ثم نادى بأعلى صوته ، وقال : «لقد وجدنا ما وعدنا ربنا : حقا. فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟» فقيل له : يا رسول الله : أتخاطب الموتى (٤)؟ فقال : «إنهم أقوى سمعا وفهما منكم» وهذا يدل على أنهم فاهمون عاقلون مدركون ، حال كون تلك الأبدان ميتة متمزقة متفرقة. والحي مغاير لما

__________________

ـ في هذا وفي غيره من النطق والإدراك وحسن المحاولة وتحصيل المعقولات إلى أن يموت.

(١) قوله عليه‌السلام حديث آحاد. وإن كان صحيحا فإنه على حكاية الحال. أي لو فرض ولو قدر أن ينطق الميت في هذه الحال ، لنطق بما معناه هذا.

(٢) في (ل) : «ومن غير حله. فالمهنأة لغيري ... إلخ».

(٣) سقط (ط).

(٤) الحديث آحاد.

١٣٤

هو غير حي. فوجب أن يكون الإنسان مغايرا لهذه الجثث ولجميع أجزائها وأقسامها.

الحجة السابعة : كل خبر ورد في بيان أن أهل الطاعات وصلوا إلى الخيرات والراحات. وأن أهل المعاصي وصلوا إلى العذاب [والبلاء (١)] فهو بعينه يدل على أن النفس غير البدن ، وعلى أنها لا تموت بموت البدن ، وعلى أنها تبقى مدركة عاقلة فاهمة بعد موت البدن. وذلك لأنا نشاهد هذه الأبدان متفرقة متمزقة ، خالية عن الحس والإدراك والشعور. فالقول بإثبات الحس والمعرفة والإدراك لها ، مكابرة في الضروريات. ثم إن هذه النصوص دالة على أن أولئك الناس ، واصلون إما إلى الخيرات والسعادات وإما إلى الشرور والآفات. والعلم الضروري حاصل بأن الحي العاقل [الفاهم (٢)] مغاير لما ليس كذلك. وهذا يفيد القطع بأن النفس غير البدن ، وعلى أنها باقية بعد موت البدن. ولما كانت الآيات والأخبار الدالة على وصول السعداء إلى منازل الخيرات ، ووصول الأشقياء إلى دركات الآفات ، خارجة عن العد والإحصاء ، لا جرم كانت الدلائل السمعية الدالة على أن النفس غير البدن ، وغير عضو من هذه الأعضاء خارجة عن العد والإحصاء [والله أعلم(٣)].

الحجة الثامنة : إن الدلائل النقلية (٤) والشواهد العقلية ، متطابقة متوافقة على إضافة جميع الأعضاء والأجزاء البدنية إلى الإنسان ، بلام التمليك. وهذا يقتضي كون الإنسان مغايرا ، لجميع الأعضاء والأجزاء. فنفتقر هاهنا إلى تقرير ثلاثة مقامات (٥) :

أحدها : إن الدلائل النقلية تدل على ما ذكرناه.

وثانيها : إن الشواهد العقلية تدل على ما ذكرناه.

__________________

(١) من (ل).

(٢) سقط (م) ، (ط).

(٣) اليقينية (ط).

(٤) في الأصل : أشياء ..

١٣٥

وثالثها : إنه لما كان الأمر كذلك ، وجب كون النفس مغايرة للبدن ، ولجميع هذه الأعضاء.

أما المقام الأول : فيدل عليه وجوه :

الأول : قوله تعالى : (كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ : الْإِيمانَ) (١) فأضاف القلب إليهم ، لأن قوله (قُلُوبِهِمُ) يجري مجرى قولهم : دورهم وقصورهم ودوابهم.

والثاني : قوله تعالى : (لَهُمْ قُلُوبٌ ، لا يَفْقَهُونَ بِها. وَلَهُمْ أَعْيُنٌ ، لا يُبْصِرُونَ بِها. وَلَهُمْ آذانٌ ، لا يَسْمَعُونَ بِها) (٢) والاستدلال بهذه الآية من وجهين :

الأول : إنه أضاف القلوب والأعين والآذان إليهم ، كما يضاف المملوك إلى المالك.

الثاني : إنه تعالى : بين أن القلوب لا تفقه ، وإنما يفقه الإنسان بالقلب ، فيكون القلب كالآلة له في هذا الفهم ، وأن الأعين والآذان لا تبصر ولا تسمع ، وإنما يبصر الإنسان ويسمع بعينه وأذنه. وهذا تصريح بما ذكرناه.

والثالث : إن الله تعالى قال : (كَلَّا ، بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ) (٣) فأضاف القلب إليهم.

وإذا وقفت على هذا البيان أمكنك أن تجد آيات كثيرة دالة على هذا المطلوب.

وأما المقام الثاني : وهو بيان أن الشواهد العقلية تدل على ما ذكرناه : فذلك لأن فطرة كل أحد ، وبديهة عقله : تحكم بصحة قوله : إن رأسي كذا ،

__________________

(١) المجادلة ٢٢ وتشبيه المؤلف في غير موضعه لأن الدور تستقل عن صاحبها. والقلب إذا استقل عن الجسد : مات وإضافة العضو إلى الإنسان لا تدل على أن العضو مستقل بنفسه وله روح. ونفس ، كما للإنسان. والكتابة هنا ليست على حقيقتها. بل هي مجاز ، وكذلك إضافة القلب إليهم مجاز ، بمعنى : أثبت. أي هم بمنزلة من ثبت على الإيمان.

(٢) الأعراف ١٧٩ والتكملة من (ل). وفي تفسير القرطبي : أنهم صاروا بمنزلة من لا يفقه.

(٣) المطففون ١٤ ، والران : هو الذنب ، على الذنب ، حتى يسود القلب.

١٣٦

وقلبي كذا ، ودماغي كذا [وأذني كذا وسمعي كذا ، وبصري كذا وكذا (١)] وكل من نازع في صحة هذه الإضافة فقد نازع في أظهر العلوم وأكملها وأجلاها.

وأما المقام الثالث : وهو أن هذا يدل على أن النفس غير البدن ، وغير كل واحد من هذه الأعضاء :

فالدليل عليه : إن هذه الإضافة صحيحة بمقتضى القرآن ، والخبر ، وبمقتضى بديهة العقل. وأما إضافة الشيء إلى نفسه فإنها باطلة بمقتضى بديهة العقل. ويلزم من مجموع هاتين المقدمتين : أن الشيء الذي أضيفت كل هذه الأعضاء إليه ، إضافة الملكية ، يكون مغايرا لها ، وذلك يقتضي أن تكون النفس مغايرة للبدن ومغايرة لجميع أعضائه وأقسامه.

فإن قيل : فهذا أيضا وارد عليكم ، لأنه يصح (٢) أن يقال : روحي ونفسي وذاتي وحقيقتي ، وهذا يقتضي أن تكون [نفسه (٣)] مغايرة لنفسه ، وأن تكون ذاته مغايرة لذاته. وإنه محال.

والجواب : أما قوله : «نفسي» : فهذا يقتضي حصول التغاير بين المضاف والمضاف إليه ، فحملنا المضاف على البدن ، وحملنا المضاف إليه على تلك الذات المخصوصة ، المشار إليها بقوله : «أنا» وحينئذ تصح هذه الإضافة.

وأما قوله : «روحي» فيحمل الروح على هذه البخارات المخصوصة ، إما في القلب، وإما في الدماغ. وحينئذ تصح الإضافة ، وأما قوله : «ذاتي وحقيقتي» فنقول : لا شك أن الذوات والحقائق متشاركة بأسرها في كونها ذوات وحقائق ، ومتخالفة بكون كل واحدة منها تلك الحقيقة المخصوصة ، وما به

__________________

(١) سقط (م) ، (ط).

(٢) لا يصح (م).

(٣) سقط (ل).

١٣٧

المشاركة غير ما به المخالفة ، فقد حصلت المغايرة من هذا الوجه ، فلا جرم كفت هذه المغايرة في صحة هذه الإضافة.

أما لو كانت النفس عبارة عن مجموع هذا البدن ، أو عن عضو مخصوص ، فحينئذ كانت تلك النفس عين (١) ذلك البدن ، وذلك البدن عين تلك النفس ، فكان قوله «بدني وقلبي» يوجب إضافة الشيء إلى نفسه بالاعتبار الواحد. وذلك محال. فظهر الفرق [بين البابين. والله أعلم (٢)].

__________________

(١) غير (ط).

(٢) من (طا ، ل).

ولاحظ : في المخطوطات بعد هذا : «الحجة التاسعة في بيان أن النفس ليست جسما ... إلخ».

١٣٨

المقالة الثالثة

في

صفات النفوس البشرية

١٣٩
١٤٠