المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٧

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٧

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٥

وأصحاب [الوحي (١)] والمكاشفات أخبروا عن وجودها ، وجب الاعتراف بها.

ثم هاهنا مباحث :

المبحث الأول : إن الحكماء بينوا : أن لكل فلك عقلا ونفسا. وبينوا أيضا : أن كل فلك فإنه ينقسم أيضا بحسب الجهات الست إلى أقسام ستة. فللفلك يمين وشمال ، وقدام وخلف ، وفوق وتحت. فلا يبعد أن يحصل له بحسب كل قسم من هذه الأقسام الستة : روح يدبره. والفلاسفة أثبتوا لمجموع كل فلك عقلا ونفسا [وبينوا أيضا : أن كل فلك ، فإنه ينقسم أيضا بحسب الجهات الست ، إلى أقسام ستة (٢)] فيكون المجموع : ثمانية. وإليه الإشارة بقوله تعالى : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) (٣) ثم لا يبعد أيضا : أن يتولد عن كل واحد من تلك الأرواح القوية القاهرة : شعب ونتائج. الله أعلم بعددها. وإليه الإشارة بقوله تعالى : (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ، يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) (٤) الآية (٥).

المبحث الثاني : إن من الناس من قال : كما بينا : أن الموجودات على ثلاثة أقسام : المؤثر الذي لا يتأثر ، وهو أشرف الأقسام. ومتأثر لا يؤثر ، وهو أحط الأقسام. والموجود الذي يكون مؤثرا باعتبار ، ومتأثرا باعتبار آخر ، وهو

__________________

(١) من (طا) ، (ل).

(٢) سقط (ط) ، (ل).

(٣) الحاقة ١٧ واعلم : أن المؤلف قد ابتعد عنه الصواب في هذه المسألة. فإن أي فلك لا عقل له ولا نفس له. بل هو جماد يتحرك بالقوة التي أودعها الله فيه. ولو أنه قال : إن لكل فلك ملائكة موكلون به ، كما توكل بالبحار ملك ، وبالجبال ملك. لكان الحق معه وقوله إن حملة العرش. هم عقل الفلك ونفسه وجهاته الستة قول باطل. لأنه لم يذكر نصا قرآنيا على إثبات عقل ونفس للفلك. وليس في القرآن من نص على ذلك. فكيف يصح له أن يطوع القرآن للفلسفة بدون دليل من حقيقة أو من مجاز؟ والتفسير الصحيح : أن حملة العرش ثمانية من الملائكة.

(٤) الزمر ٧٥ واعلم أن الملائكة الحافين هم خلق الله ، وليسوا متولدين عن الأفلاك. بل هم الموكلون بالأفلاك.

(٥) «وقضي بينهم بالحق. وقيل : الحمد لله رب العالمين».

٢١

مرتبة متوسطة بين المرتبتين المتقدمتين ، فكذلك أجسام العالم [السفلي (١)] منقسمة إلى هذه الأقسام الثلاثة.

فالقسم الأول : أجسام تؤثر ولا تتأثر عن سائر الأجسام [وهو طبقتان : العرش والكرسي. والقسم الثاني : الأجسام التي تقبل الأثر عن سائر الأجسام (٢)] ولا تؤثر في غيرها ، وهما الطبقتان السافلتان. فأعلاهما كرة اللطيف ، وهي كرة النار [والهواء (٣)] ، وأدونهما كرة الكثيف ، وهي كرة الماء والأرض. والقسم الأول أشرف الأقسام. وهذا الثاني أخسها وحصل فيما بين هذين القسمين قسم ثالث ، وهو الذي يقبل الأثر عن الكرتين العاليتين ، ويؤديه إلى الكرتين السافلتين ، وهي السموات السبع التي حصلت الكواكب السبعة فيها. وذلك لأن هذه الكواكب مركوزة في أفلاك التدوير. وهذه التداوير مركوزة في الأفلاك الحاملة ، فإذا وصل فلك التدوير من حضيض الفلك الحامل إلى أوجه ، ثم وصل الكوكب من حضيض فلك التدوير إلى أوجه. فحينئذ يصير الكوكب مماسا للفلك الذي فوقه بنقطة واحدة ، ويستفيد القوى العالية من الفلك الأعلى ، ثم إذا نزل الكوكب من أوج فلك التدوير إلى حضيضه ، ونزل فلك التدوير من أوج الفلك الحامل إلى حضيضه ، فحينئذ يصير الكوكب ملاقيا للفلك الذي تحته بنقطة واحدة ، فتؤدي تلك القوى المأخوذة من الفلك الفوقاني إلى الفلك التحتاني. فأول هذه الحالة ، إنما تظهر في «زحل» حيث يماس الفلك الكوكب بنقطة واحدة. [وآخرها حيث يماس القمر فلك الأثير بنقطة واحدة (٤)] فثبت : أن هذه الأفلاك السبعة كالأسباب السبعة (٥) بين العرش والكرسي ، وبين عالم العناصر.

المبحث الثالث : وهو أنك عرفت بالبيان الذي ذكرناه : أن عالم

__________________

(١) سقط (طا) ، (ل).

(٢) من (طا) ، (ل).

(٣) من (طا ، ل).

(٤) من (طا) ، (ل).

(٥) كالأشياء المتوسطة (م).

٢٢

الأرواح ، ابتدأ بالأشراف فالأشرف ، منحطا إلى الأدون فالأدون ، حتى بلغت في آخر المراتب إلى الأرواح الأرضية. وهي بالنسبة إلى الأرواح الفلكية ، كنسبة أجساد الناس إلى أجساد الأفلاك ، وكنسبة القلوب المودعة في هذه الأجساد إلى الكواكب ، التي هي جارية مجرى القلوب لتلك الأفلاك ، ولما كانت نسبة الأجساد إلى الأجساد ، والقلوب إلى القلوب ، كالعدم بالنسبة إلى الوجود ، فكذلك نسبة الأرواح السفلية إلى الأرواح العلوية.

ثم إن الأرواح البشرية فيما بينها تفاوت شديد في الشرف والدناءة. وبعد الأرواح البشرية : النفوس الحيوانية ، وبعدها : النفوس النباتية.

وهاهنا آخر مراتب النفوس والأرواح.

والقسم الرابع من أقسام الموجودات : الموجود الذي لا يؤثر ولا يتأثر البتة : وهذا القسم ممتنع الوجود في العقول. فإنا لما دللنا على أن الموجود ، إما واجب ، وإما ممكن. ودللنا على أن الواجب : واحد. ودللنا على أن كل ممكن : فهو معلول. فحينئذ يكون ذلك الواجب الواحد مؤثرا فيه. وإذا ثبت هذا ، ظهر أن الموجود ، إن كان واجبا لذاته ، فهو مؤثر. وإن كان ممكنا لذاته ، فهو متأثر. فالقول بإثبات موجود لا يكون مؤثرا ولا متأثرا : محال.

٢٣
٢٤

الفصل الثالث

في

حكاية شبهات المنكرين

للموجودات الروحانية والجواب عنها

زعم أكثر المتكلمين : أن إثبات موجود ممكن الوجود ، لا يكون متحيزا ، ولا حالا في المتحيز : محال. واحتجوا عليه بوجوه :

الحجة الأولى : قالوا : ثبت بالدليل : أن إله العالم [يجب أن (١)] لا يكون متحيزا ، ولا حالا في المتحيز. فلو فرضنا موجودا آخر بهذه الصفة ، لكان الموجود : مساويا لذات الله تعالى في أنه غير متحيز ، ولا حال في المتحيز. والاستواء في هذا الحكم ، يوجب الاستواء في الماهية. بدليل أنا إذا أردنا أن نذكر في ذات (٢) الله تعالى : صفة ، باعتبارها تمتاز ذاته عن سائر الذوات ، لم نقدر إلا على ذكر هذه الصفة. وهي : أنه ذات ليست بمتحيزة ، ولا حالة في شيء من المتحيزات. والصفة إذا كانت كاشفة عن الحقيقة ، كان الاشتراك فيها ، يوجب الاشتراك في الحقيقة. فثبت : أنه لو حصل موجود بهذه الصفة ، لكان ذلك الموجود مثلا لذات الله تعالى. والمثلان يجب استواؤهما في جميع اللوازم. فيلزم : إما القول بكون الكل: آلهة واجبة الوجود ، أو بكون الكل عبيدا ممكنة الوجود. ولما كان الكل محالا. ثبت : أن إثبات موجود بهذه الصفة. محال.

__________________

(١) من (طا) ، (ل)

(٢) صفات (م)

٢٥

الحجة الثانية لهم : قالوا : الحس دل على وجود المتحيز ، وعلى وجود الصفات القائمة به. وأما القسم الثالث ، فلا يمكن إثباته ، إلا لأجل افتقار أحد هذين القسمين إليه. لأن ما لا يكون العلم بوجوده بديهيا ، لم يجز المصير إلى إثباته ، إلا إذا قضى العقل باحتياج ما علم وجوده إليه. إلا أنا لما اعترفنا بأن الإله تعالى غير متحيز ، ولا حال في المتحيز ، كان وجوده كافيا في وجود هذه المتحيزات ، وفي وجود الأعراض القائمة بها. وإذا كان كذلك ، فلم يبق على وجود موجود [آخر (١)] غير متحيز ، ولا حال في المتحيز : دليل. وما لا دليل عليه أصلا ، كان القول بإثباته موجبا للجهالات.

الحجة الثالثة : وهي مختصة بنفي العقول والنفوس ـ قالوا : هذه العقول والنفوس التي تثبتها الفلاسفة. يزعمون : أنها قديمة [فهي غير متحيزة عن ذات الله تعالى ، لا بالزمان ولا بالمكان ، ولا بالوجود والعدم. لأن التقدير تقدير أنها قديمة (٢)] وإذا كان كذلك ، امتنع امتياز بعضها عن بعض في نفس الأمر ، وهذا يقتضي اتحاد الاثنين ، وهو محال.

واعلم : أن هذه الوجوه ضعيفة :

أما الحجة الأولى : فالجواب عنها : أن المساواة في كونه غير متحيز ، ولا حال في المتحيز : مساواة في الصفة السلبية ، لا توجب المساواة في تمام الماهية. والدليل عليه وجوه :

الأول : إن كل حقيقتين ، فلا بد وأن يشتركا في سلب كل ما عداهما عنهما ، وذلك برهان قاطع على أن المساواة في السلوب ، لا توجب المساواة في تمام الماهية.

الثاني : إن كل نوعين داخلين تحت جنس واحد ، فهما مشتركان في طبيعة ذلك الجنس ، ولم يلزم من حصول تلك المشاركة ، حصول المماثلة المطلقة.

__________________

(١) من (ل)

(٢) سقط (م)

٢٦

الثالث : إن ماهيات الأعراض مختلفة ، ثم إنها مع اختلافها في ماهياتها : متساوية في كونها أعراضا واجبة الحصول في المحل ، وكذلك جميع الممكنات والمحدثات : متساوية في الإمكان والحدوث.

الرابع : إن المختلفين يتشاركان في كونهما مختلفين. والضدين يتشاركان في كونهما ضدين.

الخامس : إن طبائع الأعداد الكثيرة ، مع اختلافها في ماهياتها ، متشاركة ، إما في الزوجية وإما في الفردية.

السادس : إن العقلاء أطبقوا على أن الموجبتين في الشكل الثاني : لا ينتجان. ولا سبب فيه ، إلا أن الاستواء في بعض الصفات ، لا يدل [على المماثلة المطلقة. فثبت بهذه الوجوه : أن الاستواء في بعض الصفات لا يدل (١)] على التماثل في تمام الماهية.

أما قوله : «هذه الصفة : صفة كاشفة عن حقيقة ذات الله تعالى. والاستواء في الصفة الكاشفة يوجب المماثلة» أما المقدمة الأولى فممنوعة. والدليل عليه : أن الصفة الكاشفة عن حقيقة ذات الله تعالى : هي الوجوب بالذات. وأما المقدمة (٢)] الثانية : وهي الاستواء في الصفة الكاشفة يدل على التماثل. فهذا أيضا : ممنوع. لأنا لا نجزم هاهنا بالمماثلة المطلقة ، وإنما نجزم بأنا لا نعرف فيه ما يدل على المخالفة. والفرق بين عدم الجزم [بالمخالفة ، وبين الجزم بالمماثلة : معلوم.

وأما الحجة الثانية : فجوابها : أن حاصلها (٣)] يرجع إلى المطالبة بالدليل الذي يدل على ثبوت هذا القسم ، لأن المطالبة بدليل الثبوت غير ، وإقامة الدليل على النفي غير. فأين أحد البابين من الآخر؟

__________________

(١) سقط (م)

(٢) من (طا) ، (ل)

(٣) سقط (م)

٢٧

وأما الحجة الثالثة : فهي قريبة من الحجة الأولى. فلم قلتم : إنه لما لم يتميز أحدهما عن الآخر ، لا في الزمان ، ولا في المكان ، ولا في العدم ، ولا في الوجود (١) فإنه يلزم عدم التمييز في نفس الأمر. فلم لا يجوز أن يقال : بأن بعضها يتميز عن البعض بحقيقته المخصوصة ، وماهيته المعينة؟ والدليل عليه : أن العلم والقدرة إذا حصلا في محل واحد ، فههنا لم يتميز أحدهما عن الآخر ، لا بالزمان ولا بالمكان ولا بالوجود ولا بالعدم ، مع أن الامتياز حاصل في نفس الأمر [فكذا هاهنا (٢)]

__________________

(١) الحدوث (م)

(٢) من (ل ، طا)

٢٨

الفصل الرابع

في

ذكر الدلائل الدالة على ثبوت

هذا القسم من الموجودات على سبيل الاجمال

اعلم : أنا قد استقصينا في إثبات هذا المطلوب في أول كتاب «تنزيه الله تعالى» ولا بأس بإعادة بعض الدلائل هاهنا :

الحجة الأولى : إنا أقمنا الدلائل القاهرة في كتاب «الزمان والمكان» على أن المدة : موجود من الموجودات. ثم بينا : أنه لا يجوز أن تكون المدة عبارة عن مقدار الحركة الفلكية. وبينا : أن المدة جوهر قائم بذاته (١) غني عن وجود الحركة ولواحقها. ثم إنا نعلم : أن ذلك الجوهر يمتنع أن يكون جسما ، لأن كل ما كان جسما فإنه يكون قريبا ، من جسم ، وبعيدا من جسم آخر. وبديهة العقل شاهدة بأن نسبة المدة إلى جميع الأشياء على السوية. ويمتنع أن يقال : إن هذه النسبة قريبة من فلان ، وبعيدة من فلان آخر. وعند هذا ينعقد قياس من الشكل الثاني ، وهو أن كل ما كان مدة ، فإن نسبته إلى جميع الأجسام بالقرب والبعد على السوية ، ولا شيء مما يكون جسما كذلك. ينتج : فلا شيء من المدة بجسم. فثبت : أن المدة : جوهر. وثبت : أنه ليس بمتحيز ، فهو جوهر مجرد ، مغاير للجسم ، وغير حال فيه. وهو مطلوب.

وهذا المطلوب إنما يتم بالبناء على أصلين :

__________________

(١) بنفسه (م)

٢٩

أحدهما : إثبات المدة. والثاني : إثبات أنه ليس بجسم ، ولا حال في الجسم (١) وقد احكمنا هذين الأصلين في كتاب «الزمان»

الحجة الثانية : إن الدليل دل على وجود الخلاء ، وهو البعد المجرد القائم بالنفس. فنقول : هذا البعد ليس بجسم. لأن المراد من الجسم: الجوهر الذي يقبل الحركة من حيزا إلى حيز. ونفس الحيز لا يقبل الحركة من حيز إلى حيز ، وإلّا لحصل للحيز : حيز آخر إلى غير النهاية. وهو محال ، فثبت : أنه جوهر مجرد.

الحجة الثالثة : وهي مبنية على إثبات المثل التي كان يثبتها القدماء. وتقريرها : إن أشخاص الناس مشتركون في معنى الإنسانية ، ومختلفون في الطول والقصر ، والسواد والبياض. وما به المشاركة غير ما به المخالفة ، فكونه إنسانا : أمر ، مغاير لهذه الصفات والأحوال. وإذا ثبت هذا ، فنقول : ذلك المعنى من حيث إنه هو ، امتنع أن يكون له قدر معين أو شكل معين ، وإلا لما كان مشتركا فيه بين الموجودات ، ذوات الأقدار المختلفة ، والأشكال المختلفة.

ثم نقول : هذا الموجود ، إما أن يكون موجودا في الأذهان فقط ، ولا وجود له في الأعيان ، وإما أن يكون موجودا في الأعيان. والأول باطل ، لأن القدر المشترك بين الأشخاص الموجودة في الأعيان أجزاء مقومة لتلك الموجودات وما يكون جزءا من ماهيات الأشياء الموجودة في الأعيان : يجب كونه موجودا في الأعيان ، إذ لو حصلت تلك الأشياء في الأعيان [مع أن الأجزاء المقومة لماهيتها غير موجودة في الأعيان ، فحينئذ قد حصل الشيء في الأعيان (٢)] مع أن أجزاء قوامه غير حاصلة في الأعيان. وذلك محال في صريح العقل. فثبت : أن هذه الماهية التي هي القدر المشترك بين الكل : موجود في الأعيان.

وإذا ثبت هذا ، فنقول : إما أن يكون كونه موجودا في الأعيان ، موقوفا

__________________

(١) فيه (ل)

(٢) من (ل)

٣٠

على قيام هذه الصفات [به. أعني : الطول والقصر والشكل والأين (١)] وإما أن لا يكون موقوفا. والأول باطل. لأن قيام تلك الصفات متوقف على تحقق تلك الماهية. فلو كان تحققها متوقفا على قيام تلك الصفات بها ، لزم الدور. وهو محال.

فثبت بهذا البرهان : وجود موجودات مجردة في الأعيان. وهي التي كان [يقول بها الإمام «أفلاطون» وكان (٢)] يسميها بالمثل المجردة [الله أعلم (٣)]

__________________

(١) من (ل)

(٢) من (م).

(٣) من (طا ، ل).

٣١
٣٢

المقالة الثانية

في

بيان أن النفس الانسانية

هل هي جوهر مجرد عن الحجمية

والحلول في الحجمية. أم لا؟

٣٣
٣٤

الفصل الأول

في

تفصيل مذاهب الناس فيه

اعلم : أنا نعلم بالضرورة : أن هاهنا شيئا يشير إليه كل أحد منّا ، بقوله : «أنا» وبالحقيقة : أعرف المعارف ، وأظهر الظاهرات : هو ما يشير إليه كل أحد بقوله : «أنا»

إلا أن العقلاء اختلفوا في [أن ماهية (١)] ذلك الشيء ، ما هو؟

وضبط المذاهب فيه : أن يقال : إنه إما أن يكون جسما ، أو عرضا ساريا في الجسم ، أو لا جسما ولا عرضا (٢) ساريا في الجسم.

أما القسم الأول : وهو أنه جسم. فذلك الجسم ، إما أن يكون هو هذا البدن ، وإما أن يكون جسما مشابكا لهذا البدن ، وإما أن يكون جسما خارجا عنه [فأما القسم الثالث وهو أن تكون نفس الإنسان عبارة عن جسم خارج عن هذا البدن ، فهذا لم يقل به أحد (٣)] وأما القسم الأول : وهو أن نفس الإنسان عبارة عن هذا البدن المعين ، والهيكل المخصوص. فهو قول جمهور الخلق ، وهو المختار عند أكثر المتكلمين. وأما القسم الثاني : وهو أن الإنسان (٤) عبارة عن جسم مخصوص موجود في داخل هذا البدن. فالقائلون

__________________

(١) سقط (م)

(٢) جوهرا (ل)

(٣) من (طا) ، (ل)

(٤) لو عبر بكلمة النفس ، لكانت العبارة واضحة.

٣٥

بهذا القول اختلفوا في تعيين نفس ذلك الجسم على وجوه :

الأول : قال بعضهم : إنه عبارة عن الأخلاط الأربعة التي يتولد منها هذا البدن.

والثاني : قال بعضهم : إنه هو الدم. وهذا الاختلاف مبني على أصل آخر ، وهو أن الأطباء اختلفوا. فقال كثير منهم : إن هذا البدن متولد من مجموع الأخلاط الأربعة. وقال قوم من المحققين : إنه متولد من الدم فقط ، ثم تولد من هذا الأصل : الاختلاف في أن الإنسان. هل هو عبارة عن مجموع الأخلاط الأربعة ، أو عن الدم؟

والقول الثالث : إنه عبارة عن الدم (١) اللطيف ، الذي يتولد من الجانب الأيسر من القلب ، وينفذ في الشريانات إلى سائر الأعضاء.

والقول الرابع : إنه هو الروح الذي يصعد من القلب إلى الدماغ ، ويتكيف بالكيفية الصالحة لقبول قوة الحفظ ، والفكر ، والذكر.

والقول الخامس : وهو قول «ابن الراوندي» ـ إنه جزء لا يتجزأ في القلب.

والقول السادس : وهو أنه جسم مخالف بالماهية للجسم ، الذي يتولد منه الأعضاء، وذلك الجسم جسم نوراني علوي خفيف ، حيّ لذاته ، متحرك ، ينفذ في جواهر الأعضاء ، ويسري فيها [سريان النار في الفحم (٢)] وسريان ماء الورد في الورد ، وسريان الدهن في السمسم. فما دامت هذه الأعضاء تبقى صالحة لقبول الآثار الفائضة عن هذا الجسم اللطيف الشريف ، وهو قوة الحس والحركة بالإرادة [بقي (٣)] مع ذلك الجسم ، مشابكا لهذه الأعضاء ، وأفادها هذه الآثار الشريفة ، والقوى النورانية. وإذا فسدت هذه

__________________

(١) الدم (م) الروح (ل ، ط)

(٢) من (ل)

(٣) من (طا)

٣٦

الأعضاء بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها ، وخرجت عن قبول تلك الآثار (١) فارق الروح والبدن ، وانفصل إلى عالم الأرواح. ثم قال أصحاب هذا القول : «هذا القول أولى من غيره ، لأنه لما لم يكن هذا الجسم من جنس الأجسام التي تولدت الأعضاء منها ، لا جرم صح القول بأنه لا يلزم من وقوع الذوبان والتحلل في البدن ، وقوع الذوبان والتحلل في هذا الجسم الشريف ، بل يكون باقيا بحالة واحدة من أول العمر إلى آخره. وأيضا : فلما كان جسما ، صح عليه المجيء والذهاب والرجوع. وآيات القرآن ناطقة بهذه الأحوال (٢) قال الله تعالى : (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) (٣) وقال : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ، ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) (٤)

والقول السابع : إن الإنسان عبارة عن أجزاء أصلية باقية من أول العمر إلى آخره ، مصونة عن التبدل والتغير ، والفرق بين هذا القول وبين ما قبله :

أن في القول الذي قبله (٥) كان الجسم الذي هو عبارة عن النفس جسما مخالفا بالماهية للجسم الذي تولّد عنه البدن ، وفي هذا القول ليس كذلك.

والقول الثامن : إن الإنسان عبارة عن الأعضاء الرئيسية التي لا يمكن بقاء الحياة مع فقدانها.

فهذا كله تفصيل قول من يقول : إن الإنسان عبارة عن جسم مشابك لهذا البدن.

وأما القسم الثاني من الأقسام المذكورة في أول هذا التقسيم. وهو أن يقال : إن الإنسان عبارة عن [عرض حال في الجسم ، فهذا لا يقول به عاقل ، لأن كل إنسان يجد من نفسه علما ضروريا ، بأنه جوهر قائم بنفسه ،

__________________

(١) الأخلاط (م)

(٢) بذلك (م)

(٣) الأنعام ٦٢

(٤) الفجر ٢٧ ـ ٢٨

(٥) الأول (م)

٣٧

غير حال في محل ، فمع هذا العلم ، يستحيل أن يقال : الإنسان عبارة عن عرض حال في جسم من الأجسام. وأما القسم الثالث وهو أن يقال : الإنسان عبارة عن (١)] جوهر مجرد، ليس بمتحيز ولا حال في المتحيز. فهذا قول أكثر الحكماء الإلهيين ، وقال به قوم كثير من أهل الملة. أما من الشيعة فقد كان يقول بهذا القول «أبو سهل النوبختي» صاحب كتاب «الآراء والديانات» وكان يقول به «محمد بن النعمان» الملقب عندهم بالشيخ المفيد. وأما من المعتزلة ، فهو قول معمر بن عباد السلمي» وأتباعه [وأما من أهل السنة ، فكان الشيخ «أبو حامد الغزالي» جازما بهذا المذهب ، شديد الاعتقاد فيه (٢)] وأما أكثر المحققين من الصوفية فيقولون بهذا القول.

فإن قال قائل : أعرف المعارف ، وأظهر الظاهرات عند كل أحد : علمه بالشيء المشار إليه بقوله : أنا ، وهو نفسه المعينة ، وذاته المخصوصة ، ولما كان هذا أعرف المعلومات وأظهر المفهومات ، فكيف وقعت فيه هذه الاختلافات العظيمة ، والشبهات الغامضة؟ ورأيت في الرسالة الموسومة بالتفاحة. وهي الرسالة المشتملة على المباحثات التي جرت عند «أرسطاطاليس (٣)» عند قربه من الموت. فقيل له : كيف يعقل أن يسأل الإنسان غيره عن حال نفسه؟ فأجاب الحكيم : بأنه مثل سؤال المريض : الطبيب عن دائه ، وسؤال الأعمى من حوله : عن لونه.

وأقول : نحن نذكر تقرير هذا الإشكال كما ينبغي ، ثم نطلب الجواب عنه.

أما تقرير الإشكال فهو أن نقول : أعرف الأشياء للإنسان نفسه. والدليل عليه : أن علمه بغيره يتوقف على علمه بنفسه [فإني إذا قلت في شيء من الأشياء : إني أعرفه. فهذا حكم على نفسي بكونها عارفة بذلك الشيء (٤)]

__________________

(١) من (طا) ، (ل)

(٢) من (طا ، ل)

(٣) أرسطو (م)

(٤) من (طا ، ل)

٣٨

وكل تصديق فهو مسبوق بتصوّر الطرفين. ينتج : إني كل ما حكمت على نفسي بأني أعرف شيئا من الأشياء ، فإن معرفة نفسي بنفسي ، سابقة على معرفة ذلك الحكم. فثبت : أن علمي [بنفسي ، سابق على علمي (١)] بكل ما يغايرني. وإذا ثبت هذا ، ظهر أن علمي بنفسي ، أظهر من علمي بكل ما سواها. فلو توسلنا بمعرفة شيء آخر إلى معرفة النفس ، كان هذا من باب تعريف الأظهر الأجلى ، بالأعمق الأخفى. وإنه محال.

وأيضا : لما كان العلم بغير النفس ، مشروطا بالعلم بالنفس ، فلو كانت معرفة النفس مستفادة من شيء آخر ، لزم الدور. وهو محال.

والجواب : إن العلم بوجود النفس من حيث إنها شيء ما غير. والعلم بأنها ما هي على التفصيل والتعيين شيء آخر. والظاهر الجلي هو القسم الأول ، وهو غير المطلوب بالبرهان البتة.

وأما القسم الثاني فهو المطلوب بالبرهان [ومعرفة سائر الأشياء (٢)] غير موقوفة على معرفة النفس ، بحسب هذا الاعتبار (٣) فزال السؤال. فإن قال قائل : السؤال باق. وبيانه من وجهين :

الأول : وهو أن علمي بالحقيقة المخصوصة التي لي يمتنع أن يكون مستفادا من البرهان ، لأن البرهان عبارة عن إثبات الحد الأكبر [للحد الأصغر (٤)] بواسطة الحد الأوسط ، ويجب أن يكون ثبوت الحد الأكبر للحد الأوسط [وثبوت الحد الأوسط (٥)] للحد الأصغر ، أعرف من ثبوت الحد الأكبر للحد الأصغر ، إلا أن هذا المعنى في علم النفس بحقيقته نفسها : محال. لأن من المحال أن يحصل بين الشيء وبين حقيقته المخصوصة: متوسط يتوسط

__________________

(١) من (ل)

(٢) من (ل)

(٣) القسم (طا) ، (ل)

(٤) من (ل)

(٥) من (ل)

٣٩

بينهما ، أو ثالث يتخللهما. وإذا كان حصول الحد الأوسط هاهنا ممتنعا : كان طلب هذا البحث ممتنعا.

وأيضا : فبتقدير أن يحصل بين الشيء وبين عين ذاته متوسطا ، إلا أنه من المحال أن يكون ثبوت ذلك المغاير لذلك الشيء ، أعرف من ثبوت ذاته لذاته.

فثبت بهذين الوجهين : أنه يمتنع أن يكون هذا المطلوب : مطلوبا بالدليل. فبقي فيه أحد الأمرين. إما أن يكون مأيوسا من إثباته مطلقا. وإما أن يكون معلوما بالضرورة. وأيضا : فإذا سلمتم أن علمي بأني موجود : علم ضروري. فقول القائل : أنا موجود : قضية. موضوعها : قولنا أنا. ومحمولها : قولنا موجود. والتصور سابق على التصديق ، فوجب أن يكون علمي بالمعنى المشار إليه بقولي : «أنا» : حاصلا. وذلك المعنى ليس إلا الماهية المخصوصة ، التي هي «أنا» وإذا كانت هذه الماهية المخصوصة معلومة ، من حيث إنها هي ، امتنع كونها مطلوبة بالبرهان. وأيضا : فالمشار إليه بقولي : «أنا» إما أن يكون [تمام تلك الماهية. وإما أن يكون جزء من أجزاء هذه الماهية. وإما أن يكون أمرا (١)] مغايرا لها خارجا عنها. فإن كان الأول ، كان العلم بماهية نفسي ، علما بديهيا ، فيمتنع كونه مطلوبا بالبرهان. وإن كان الثاني فهو باطل. لأنه يلزمه أن يكون المشار إليه بقولي : «أنا» : جزء من أجزاء ماهيتي. فيكون تمام حقيقة الشيء : جزءا من أجزاء حقيقته ، وهو محال.

وبهذا البيان : يظهر أن المشار إليه بقولي : «أنا» : يمتنع أن يكون خارجا عن الماهية لازما لها. وأيضا : فهب أن هذا القسم معقول في الجملة. إلا أني إن علمت كونه من لوازم نفسي ، كان العلم بنفسي سابقا على هذا العلم ، وإن لم أعلم كونه من لوازم نفسي ، كان علمي بنفسي ، علما بشيء مغاير لنفسي ، ولا تعلّق له بنفسي. وذلك محال.

__________________

(١) من (طا) ، (ل)

٤٠