المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٧

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٧

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٥

الفصل السادس

في

الدلائل القوية المعتبرة في اثبات النفس

الحجة الأولى : إن هذا الجسد أجزاؤه واقعة في التبدل. والمشار إليه لكل أحد ، بقوله: «أنا» : غير واقع في التبدل ، ينتج : أن هذا الجسد ليس هو [الشيء (١)] المشار إليه بقوله : «أنا».

أما المقدمة الأولى : فالدليل على صحتها وجوه :

الأول : إن جسد الإنسان جوهر [حار (٢)] رطب. والحرارة إذا عملت في الرطوبة ، أصعدت عنها البخارات ، وذلك يوجب انحلال بدن الإنسان.

ولهذا السبب احتاج هذا البدن إلى الغذاء ، ليقوم الغذاء بدل ما تحلل. فثبت : أن التحلل والذوبان : دائم الحصول في بدن الإنسان.

الثاني : إن بدن الإنسان حال ما كان طفلا ، كان شيئا صغيرا ، وحال صيرورته شابا ، يصير جسما عظيما. وذلك يوجب كون أجزائه في التبدل.

الثالث : إن الإنسان قد يكون سمينا ، ثم يصير هزيلا ، ثم يعود سمينا. فالأجزاء قد تبدلت لا محالة بالزيادة والنقصان.

__________________

(١) سقط (م ، ط).

(٢) من (طا ، ل).

١٠١

الرابع : إنا نشاهد كون هذا الجسد ، واقعا في الذوبان بسبب انفصال الرطوبات الكثيرة منه ، وبسبب انفصال العرق والوسخ. فإن الإنسان إذا دخل الحمام ، وبالغ في تنظيف الجلد من الأوساخ ، حتى صار ظاهر [الجلد (١)] بحيث لو أعيد إليه الحك والدلك: يخرج منه الدم. ثم إذا خرج من الحمام وبقي أسبوعا [ثم عاد و (٢)] دخل الحمام مرة ثانية ، فإنه يجد في الجلد شيئا كثيرا من الأوساخ. وما ذاك إلا لأن الأجزاء التي كانت ملتصقة بالبدن في المرة الأولى ، التصاقا طبيعيا ، وكانت حية ، فإنها في هذه المرة الثانية ، يبست وانفصلت عن البدن ، وزالت الحياة عنها. وهذه الاعتبارات بأسرها دالة على أن جميع أجزاء (٣) هذا الجسد واقعة في التبدل والذوبان والانحلال.

وأما المقدمة الثانية : وهي قولنا : إن المشار إليه لكل أحد بقوله : «أنا» : باق دائم من أول العمر إلى آخره. فالأمر فيه ظاهر ، ويدل عليه وجوه :

الأول : إني أعلم بالضرورة : أني الآن عين ما كنت موجودا قبل هذا بعشرين سنة. وقد بينا في أول هذا الكتاب : أن أظهر العلوم عند الإنسان : علمه بوجود نفسه ، وكما أني أعلم أني أنا موجود الآن ، فكذلك أعلم أني أنا الذي كنت موجودا قبل هذا بعشرين سنة. بل أنا الذي ولدت في السنة الفلانية. وهذا يدل على أن العلم الضروري حاصل لكل أحد بأنه باق من أول العمر إلى آخره.

والوجه الثاني في تقرير هذا المطلوب : هو أنه لو لم يكن ذلك الإنسان المعين باقيا من أول العمر إلى آخره ، لاحتاج في تحصيل العلوم في كل حين وأوان ، إلى كسب جديد ، لأن الذي تعلم العلم وحصله ، إذا فني وزال ، وحصل بعده شيء آخر ، فهذا الحادث ما حصل ذلك العلم ، وما اكتسبه ،

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) سقط (ل).

(٣) أجزاء البدن (م).

١٠٢

فوجب أن لا يحصل له ذلك العلم إلا بكسب جديد. وحيث لا يحتاج إلى هذا الكسب الجديد ، علمنا أن محل العلوم باق من أول العمر إلى آخره.

والوجه الثالث : أنه إذا فني الأول وجاء الثاني فهذا الثاني غير الأول ولا خبر له من حال الأول [البتة (١)] فوجب أن لا يحصل للإنسان علم بأحواله الماضية ، وأن لا يحصل عنده من العلوم إلا العلوم بالأحوال الحاضرة. وحيث لم يكن الأمر كذلك ، علمنا أن المشار إليه لكل أحد بقوله : «أنا» [شيء (٢)] باق من أول العمر إلى آخره.

فثبت بهذه البيانات : أن الجسد غير باق ، لا بمجموعه ولا بشيء من أجزائه ، وثبت : أن الإنسان باق. ومن العلوم البديهية : أن الباقي لا يكون [عين (٣)] ما هو غير باق. وهذا يقتضي أن الإنسان شيء مغاير لهذا البدن ، وشيء مغاير لهذه الأعضاء المحسوسة التي منها يتولد هذا البدن. وهو المطلوب.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إن الإنسان عبارة عن أجزاء مخصوصة سارية في أجزاء هذا البدن ، سريان النار في الفحم [وسريان ماء الورد في الورد ، وسريان دهن السمسم في السمسم (٤)] ولا يقال : إن تلك الأجزاء لا بد وأن تكون من جنس الأجسام العنصرية. إما المفردة وإما المركبة. وعلى كلا التقديرين ، فهي قابلة للانحلال والتفرق والتمزق. وحينئذ يعود الكلام المذكور من أنها غير باقية ، والإنسان باق. فوجب أن يكون الإنسان مغايرا لها؟ لأنا نقول : لنا هاهنا مقامان :

الأول : لم لا يجوز أن يقال : الأجسام مختلفة بالماهية فبعضها هذه الأجسام العنصرية، بسائطها ومركباتها. وبعضها أجسام مخالفة لها. أما الأجسام التي

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) من (طا ، ل).

(٣) سقط (ط ، ل).

(٤) من (طا ، ل).

١٠٣

هي النفس ، فهي حية لذواتها ، فعالة لذواتها. فإذا اتفق أن نفذت تلك الأجسام الشريفة الروحانية النورانية في تضاعيف البدن ، بقي البدن حيا ، فعالا ، دراكا ، وإذا فسد مزاج البدن واستولت الأخلاط الغليظة عليه ، وصار بحيث لا يقبل الآثار عن الجوهر ، المسمى بالروح ، وانفصل الروح عن البدن؟ فهذا احتمال لا بد من إبطاله.

والمقام الثاني : وهو أنا نسلم أن تلك الأجزاء التي هي الإنسان ، مماثلة لسائر الأجسام في تمام الماهية ، إلا أن الفاعل المختار يبقيها في داخل البدن ، مصونة عن التغير والانحلال ، من أول وقت الحياة إلى آخر وقت الممات ، ثم إنها عند الموت تنفصل. والفاعل المختار يفعل ما بها ما يشاء. إما بأن يوصل إليها الروح والراحة والريحان ، وإما بأن يعذبها بأنواع العذاب والخسران.

والجواب : اعلم : أن الفلاسفة يدفعون هذا الاحتمال ، بناء على مقدمتين :

فالمقدمة الأولى : إنهم أقاموا الدلالة على أن جميع الأجسام ، متماثلة في تمام الماهية. وقد سبق ذكر (١) هذا الدليل.

والمقدمة الثانية : إنه سبحانه وتعالى عام الفيض ، ويمتنع أن يخص أحد المثلين بخاصية وأثر [لا يحصل في الثاني (٢)] وهذه المقدمة فلسفية محضة.

إذا ثبت هذا ، فنقول : إن تلك الأجزاء الأصلية البدنية مساوية للأجزاء الفرعية القابلة للانحلال في تمام الماهية. وإذا ثبت هذا فنقول : نسبة الأحوال الموجبة للانحلال والذوبان إلى جميع الأجزاء الموجودة في هذا البدن : على التساوي. ويمتنع أن يقال : إن إله العالم خصص بعض تلك الأجزاء بالإبقاء ، والصون عن الانحلال والفناء ، من غير سبب مخصص. لأنا ذكرنا : أن الفيض عام ، وأن الترجيح من غير مرجح محال [في العقول (٣)] وإذا كان الأمر

__________________

(١) من (م).

(٢) سقط (طا ، ل).

(٣) سقط (ط).

١٠٤

كذلك ، وجب حصول الذوبان والانحلال في جميع الأجزاء البدنية ، وحينئذ يندفع هذا السؤال [ويتم هذا الاستدلال. والله أعلم (١)].

الحجة الثانية في المسألة : أن [نقول (٢)] : إن المشار إليه لكل أحد بقول «أنا» قد يكون معلوما له ، حال كونه غافلا عن جميع الأجزاء الظاهرة والباطنة. والمعلوم مغاير لغير المعلوم ، فوجب أن تكون النفس مغايرة لجميع هذه الأجزاء الظاهرة والباطنة.

أما المقام الأول : فالدليل عليه : أن الإنسان حال اهتمامه بالمهم الشديد ، قد يقول تفكرت وأبصرت وسمعت ، مع أنه يكون حال تكلمه بهذا الكلام غافلا عن وجهه ويده وقلبه ودماغه وسائر أعضائه. وذلك يدل على ما ذكرناه.

وأما المقام الثاني : وهو أن المغفول عنه ، مغاير للمعلوم. فهذا بديهي. وإلا لزم اجتماع النقيضين ، وهو محال. وحينئذ يظهر أن النفس غير هذا الجسد (٣).

فإن قيل : إن هذا الكلام عليه سؤالات :

السؤال الأول : لم لا يجوز أن يقال : المعتبر في كون الإنسان إنسانا [أجزاء مخصوصة في قلبه ، أو في دماغه. فأما أن يكون المعتبر في كونه إنسانا (٤)] هو قلبه مع شكله المخصوص ، أو دماغه مع شكله المخصوص ، فلا نقول به ، وإذا كان كذلك فلا جرم أمكنه أن يعرف نفسه حال كونه غافلا عن جميع الأعضاء كالقلب والدماغ [وغير هما (٥)]؟.

السؤال الثاني : إن هذا الدليل بعينه يبطل أن يكون الإنسان جوهرا

__________________

(١) من (ل ، طا).

(٢) من (م ، ط).

(٣) غنية عن هذا البدن (م).

(٤) سقط (ط).

(٥) من (م).

١٠٥

مجردا. وذلك لأن في الساعة التي ذكرتم ، كما يكون الإنسان غافلا عن القلب والدماغ ، فغفلته عن الجوهر المجرد أتم وأكمل. فإن دل ما ذكرتم على أن النفس ليست عبارة عن القلب والدماغ [وغير هما (١)] فبأن يدل على أنها ليست عبارة عن الجوهر المجرد : كان أولى.

السؤال الثالث : إن الدليل الذي ذكرتم قائم في جميع الحيوانات ، فيلزمكم أن تثبتوا لها نفوسا ناطقة مجردة. وذلك بعيد.

والجواب عن السؤال الأول : أن نقول : إنا قد دللنا في باب «نفي الهيولى (٢)» أن كون الجسم جسما متحيزا ، لا يمكن أن يكون صفة قائمة بمحل آخر ، بل هو ذات قائمة بنفسها ، مستقلة بذاتها. وإذا ثبت هذا فنقول : ذلك الإنسان إما أن يكون متحيزا وإما أن لا يكون كذلك. فإن كانت ذاته جوهرا متحيزا وجب أن يكون العالم بتلك الذات : عالما بالمتحيز ، وإلا لزم أن يكون الشيء الواحد معلوما مجهولا معا. وهو محال. لكنه لا يجب ذلك ، بدليل : أنه إذا كان شديد الاهتمام بأمر من الأمور ، فإنه في تلك الساعة [قد يقول : قلت كذا ، وفعلت كذا. فهو في تلك الساعة عالم بذاته المخصوصة ، مع أنه في تلك الساعة (٣)] يكون غافلا عن معنى التحيز الذاهب في الجهات الستة. فثبت : أنه لو كانت ذاته متحيزة ، لكان كل من عرف ذاته ، وجب أن يكون عارفا بالمتحيز ، وثبت : أنه قد يعرف ذاته ، حال ما يكون غافلا عن المتحيز ، فوجب أن لا تكون ذاته متحيزة. وإذا لم تكن ذاته متحيزة ، وجب أن تكون ذاته (٤) جوهرا مجردا. وهو المطلوب.

وأما السؤال الثاني : وهو قوله : «إن هذا الكلام بعينه يدل على أن ذاته يمتنع أن تكون جوهرا مجردا» فنقول : هذا غير لازم ، لأن الجوهر المجرد ذات

__________________

(١) من (م).

(٢) كت ب الهيولي (م).

(٣) من (ل).

(٤) ذاته مجردة (م).

١٠٦

مخصوصة ، وكونه ليس بمتحيز ولا حال في المتحيز : قيد سلبي. وهذا القيد السلبي مغاير لتلك الذات المخصوصة ، وإذا حصلت هذه المغايرة ، ثبت : أنه لا يمتنع كون تلك الذات المخصوصة : معلومة ، مع الذهول عن ذلك القيد السلبي ، بخلاف ما إذا كانت ذاته المخصوصة متحيزة ، لأنه بتقدير أن يكون الأمر كذلك ، كان تحيزه نفس تلك الذات ، لا أمرا مغايرا لها ، فكان يجب أن يمتنع كونه عالما بتلك الذات المخصوصة مع الذهول عن التحيز. وحيث لم يكن الأمر كذلك ، ثبت أن تلك الذات المخصوصة يمتنع كونها متحيزة ، فظهر الفرق بين البابين.

وأما السؤال الثالث فجوابه : إنه لو ثبت أن الحيوانات تدرك أنفسها المخصوصة ، حال كونها غافلة عن حقيقة التحيز ، لكان السؤال لازما ، إلا أنه لا سبيل إلى معرفة هذه المقدمة. ثم بتقدير أن نثبت لها نفوسا مجردة ، إلا أنه لا يجب (١) كونها نفوسا ناطقة. لأن التجرد (٢) عن المادة : قيد سلبي ، والاشتراك في القيود السلبية لا يدل على التساوي في تمام الماهية.

الحجة الثالثة : لو كانت النفس جسما ، لكانت إما أن تكون عبارة عن الجسم من حيث إنه جسم ، أو عن الجسم الموصوف بالصفات المخصوصة. والقسمان باطلان ، فبطل القول بكون النفس جسما. أما الحصر فظاهر ، وأما أنه يمتنع كون النفس عبارة عن الجسم من حيث إنه جسم. فالدليل عليه هو : أن المفهوم من الجسم ، يصدق عليه كونه أمرا مشتركا فيه بين جميع الأجسام. والمفهوم من كونه هذا الإنسان : لا يصدق عليه كونه أمرا مشتركا فيه بين جميع الأجسام. وذلك يدل على أن المفهوم من كونه هذا الإنسان ليس مجرد كونه جسما فقط ، وأما أنه يمتنع كون النفس عبارة عن الجسم الموصوف بالصفات المخصوصة. فالدليل عليه : أن على هذا التقدير تكون ماهية النفس

__________________

(١) يجب غير (ل).

(٢) المجرد (ل).

١٠٧

[ماهية (١)] مركبة من الجسم ، ومن الأعراض المخصوصة. والماهية المركبة يمتنع أن تكون أقوى (٢) قوة من جزئها ، لأن الماهية المركبة محتاجة إلى كل واحد من أجزائها ، والمحتاج أضعف حالا من المحتاج إليه ، كما أن المحتاج إليه يكون أقوى قوة من المحتاج.

وإذا ثبت هذا ، فنقول : لو كانت النفس الإنسانية ماهية مركبة من الجسم والعرض ، لوجب أن تكون النفس أضعف حالا من العرض ، فيلزم حينئذ أن يقال : كما أن العرض موجود غير قائم بذاته ، بل محتاج إلى محل يحل فيه [وجب أن يكون الشيء الذي يشير إليه كل أحد بقوله «أنا» يكون موجودا غير قائم بذاته ، بل يكون محتاجا إلى محل يحل فيه (٣)] لكن العلم الضروري حاصل بأن كل أحد يجد ذاته ذاتا قائمة بالنفس ، غنية عن محل تحل فيه ، فوجب أن لا تكون النفس عبارة عن جسم مخصوص موصوف بأعراض مخصوصة. فثبت : أنه لو كانت النفس جسما لكانت إما أن تكون مجرد كونه جسما أو يكون جسما موصوفا بصفات مخصوصة. وثبت فساد القسمين ، فوجب أن لا تكون (٤) النفس جسما. فإن قيل : هذا [الكلام (٥)] أيضا لازم عليكم ، لأن النفس المخصوصة ، إما أن تكون عبارة عن النفس من حيث إنها نفس ، وإما أن تكون عبارة عن النفس [من حيث إنها نفس (٦)] موصوفة بالصفات المخصوصة. والأول باطل ، لأن النفس [من حيث إنها نفس (٧)] مفهوم مشترك فيه بين جميع النفوس ، وهذا الإنسان من حيث إنه هذا الإنسان ، ليس مفهوما مشتركا فيه بين جميع الناس. والثاني أيضا باطل. وإلا لكان أحد أجزاء ماهية هذه النفس ، هو العرض ، وما يكون أحد أجزاء ماهية

__________________

(١) من (طا ، ل).

(٢) أشد من جزئها (م).

(٣) من (طا ، ل).

(٤) أن تكون (ط).

(٥) من (م).

(٦) سقط (طا ، ل).

(٧) من (م ، ط).

١٠٨

العرض ، يمتنع أن يكون جوهرا. فثبت : أن الذي ذكرتموه في الجسم ، هو بعينه وارد عليكم في النفس.

فنقول في الجواب : لم لا يجوز أن تكون ذات كل نفس ممتازة عن سائر النفوس. بحقيقته المخصوصة ، ولا يلزم من اشتراكها في كونها نفوسا ، أن يجب تماثلها في حقائقها المخصوصة. لأن معنى كونها نفوسا أنها موجودات مدبرة للبدن ، والاستواء في اللوازم والآثار لا يدل على الاستواء في الماهية. فظهر الفرق.

الحجة الرابعة : لو كانت النفس جسما ، لكانت إما أن تكون عبارة عن الجسم من حيث إنه جسم ، أو عن جسم مخصوص موصوف بصفات مخصوصة. والقسمان باطلان ، فبطل القول بكون النفس جسما. أما الحصر فظاهر.

وأما فساد القسم الأول : فظاهر. كما بينا في الدليل المتقدم ، بقي الكلام في بيان فساد القسم الثاني ، فنقول : الصفة التي باعتبارها صار الإنسان المعين : إنسانا (١) إما أن تكون قائمة بمجموع تلك الأجزاء ، أو بكل واحد واحد ، من أجزاء ذلك المجموع والأقسام الثلاثة باطلة ، فبطل القول بكون الإنسان جسما.

أما بيان فساد القسم الأول فلأن ذلك المجموع إنما يحصل عند حصول تلك الأجزاء. فإما أن يقال : إنه حصل لتلك الأجزاء وحدة ، باعتبارها صار ذلك المجموع شيئا واحدا ، أو لم يحصل هذا المعنى. والأول باطل. وإلا لزم. إما قيام تلك الوحدة بالمحال الكثيرة. وإما كون تلك الوحدة مسبوقة بوحدة أخرى إلى غير النهاية ، وكلاهما محال. والثاني أيضا باطل. لأنه إذا لم يحصل لذلك المجموع وحدة باعتبارها كان شيئا واحدا. فلو كانت الصفات التي لأجلها صار ذلك الإنسان المعين : معينا ، لزم قيام الصفة الواحدة بالمحال الكثيرة ، وهذا محال لوجهين :

__________________

(١) المعين ذلك الإنسان (ل).

١٠٩

الأول : إنه يلزم حلول العرض الواحد بالمحال الكثيرة ، وهو محال.

الثاني : إنه لما كانت تلك الأغراض قائمة بكل واحد ، من تلك الأجزاء [فهذا يعود إلى القسم الثاني ، وهو كون تلك الصفات قائمة بكل واحد من تلك الأجزاء (١)] فنقول : وإنما قلنا : إن هذا القسم الثاني. باطل ، لأنه إذا كان كل واحد من تلك الأجزاء ، موصوفا بالصفات التي لأجلها كان هذا الإنسان المعين إنسانا معينا. لزم أن يقال : إن ذلك الجسم ليس إنسانا واحدا ، بل أناسا كثيرين. لكن العلم الضروري حاصل لكل أحد بأنه إنسان واحد ، لا أناسا كثيرين. وإن لم يكن هذا المعنى معلوما بالضرورة ، فليس عند البشر علم ضروري. فثبت بهذا البيان : أن هذا القسم باطل.

وأما القسم الثالث : وهو أن يقال : الموصوف بالصفات التي لأجلها حصل للإنسان المعين ، جزء واحد من الأجزاء التي لا تتجزأ. فنقول : إن نفينا الجزء الذي لا يتجزأ [فقد سقط هذا الكلام بالكلية. وأما إن أثبتنا الجزء الذي لا يتجزأ (٢)] فهذا أيضا باطل. وذلك لأنه ثبت : أن المبدأ عام الفيض ، فيمتنع أن يخص الذات المعينة بصفة معينة ، إلا لأجل اختصاصه باستعداد [خاص. لأجله يصير أولى بتلك الصفة واختصاص الجزء الواحد الذي لا يتجزأ باستعداد (٣)] قبول الحياة والعلم والقدرة : محال وذلك لأن سائر الأجزاء إن كانت موصوفة بذلك الاستعداد ، فحينئذ يكون كل واحد منها عالما قادرا. وقد فرضنا أن العالم القادر ليس إلا الواحد. هذا خلف.

وإن كان ما عدا ذلك الجزء غير موصوف بذلك الاستعداد ، بل باستعداد مضاد لاستعداد قبول الحياة والعلم والقدرة ، فذلك الجزء مغلوب بحسب ذلك الاستعداد ، فيما بين سائر الأجزاء. لأن على هذا التقدير لم يوجد جزء موصوف بذلك الاستعداد إلا ذلك (٤) الجزء فقط. وكل ما سواه فإنه موصوف بما يضاد

__________________

(١) من (ل ، طا).

(٢) من (ط ، ل).

(٣) من (طا ، ل).

(٤) إلا جزء ذلك الجزء فقط (ط).

١١٠

تلك الحالة. ومن المعلوم أن المانع إن كان في غاية الغلبة والقوة ، فإنه يمتنع حصول الاستعداد في ذلك المغلوب المقهور. بل الغالب يقلب المقهور إلى صفة نفسه ، وإلى حالة نفسه [فثبت بهذا : أنه يمتنع أن يقال : إن ذلك الجزء الواحد ، اختص بذلك الاستعداد (١)] وإذا امتنع هذا ، فقد امتنع اتصافه وحده بالصفة المعتبرة في الإنسانية. فثبت بما ذكرنا : أنه لو كان الموصوف بالصفات المعتبرة بالإنسانية هو الجسم ، لكان الموصوف بتلك الصفة ، إما مجموع الأجزاء ، أو كل واحد من ذلك المجموع ، أو واحد بعينه. وثبت أن الأقسام الثلاثة باطلة ، فبطل القول بأن الموصوف بالصفات [المعتبرة (٢)] في الإنسانية هو الجسم.

الحجة الخامسة : أن نقول : لو كان الحي القادر [العالم (٣)] هو الجسم ، لكان كل واحد من تلك الأجزاء قابلا لهذه الصفات ، إما أن يتوقف على كون الآخر كذلك ، وإما أن لا يتوقف (٤) حصول الاستعداد في أحد الجانبين على الثاني ، ولا يتوقف الثاني على الأول. وإما أن يستغني كل واحد من الجانبين عن الثاني. والأقسام الثلاثة باطلة ، فكان القول بأن الحي القادر العالم : هو الجسم باطلا.

أما بيان أن القسم الأول : باطل : فهو أنه لما كان حصول الاستعداد في هذا الجزء يتوقف على حصول الاستعداد في ذلك الجزء ، وهذا التوقف حاصل من الجانب الثاني ، فحينئذ يلزم توقف كل واحد منهما على الآخر ، وذلك دور ، والدور باطل.

وأما بيان أن القسم الثاني باطل : فلأن على هذا التقدير يكون كل واحد

__________________

(١) من (ل ، طا).

(٢) سقط (طا).

(٣) من (ل).

(٤) أن يتوقف (م ، ط).

١١١

من تلك الأجزاء مستقلا (١) لقبول الحياة والموت والجهل [والعلم (٢)] والقدرة والعجز ، وذلك يوجب القول. بحصول نوعين من أنواع المحالات :

الأول : إن بتقدير أن تحصل الحياة والعلم والقدرة في جميع الأجزاء ، فحينئذ يكون كل واحد منها حيا عالما قادرا على حدة ، وحينئذ لا يكون الإنسان الواحد إنسانا واحدا ، بل أناسا كثيرين. والعلم بفساده ضروري.

والنوع الثاني من المحالات : إنه إذا كان حصول هذه الحالة لكل واحد من تلك الأجزاء لا يتوقف على حصولها للجزء الثاني ، فحينئذ لا يمتنع كون أحد تلك الأجزاء ميتا جاهلا عاجزا حال كون الثاني حيا عالما قادرا ، ولا يمتنع أيضا : اتصاف أحد الجزءين بالعلم بالشيء حال اتصاف الجزء الثاني بالجهل بذلك الشيء. ولا يمتنع أن يحاول أحد الجزءين فعلا ، ويحاول الجزء الثاني دفعه ومنعه. وحينئذ يصير حال تلك الأجزاء ، مساويا لحال جماعة من الناس ، في كون بعضهم عالما بالشيء حال ما يكون [البعض (٣)]] مانعا منه ، ولما كان العلم الضروري حاصلا بامتناع هذه المعاني ، ثبت فساد هذا القسم.

وأما القسم الثالث : وهو توقف أحد الجانبين على الآخر ، واستغناء الآخر عن الأول فهذا أيضا باطل لوجهين :

الأول : إن تلك الأجزاء متشابهة متماثلة ، بناء على القول بتماثل الأجسام. والأشياء المتماثلة في الماهية يمتنع اختلافها في اللوازم والنتائج (٤).

__________________

(١) مستعدا (م).

(٢) سقط (طا).

(٣) سقط (ط).

(٤) من (م ، ط).

١١٢

والثاني : إن اختصاص ذلك الجزء الواحد. بذلك الاستعداد الخاص مع كون سائر الأجزاء مخالفة له في تلك الصفة. قد بينا : أنه محال. فثبت بما ذكرنا : فساد الأقسام الثلاثة، وذلك يبطل القول بأن النفس : جسم.

الحجة السادسة في المسألة : أن نقول : لا بد من الاعتراف بوجود شيء واحد يكون موصوفا بجميع أنواع الإدراكات لجميع أنواع (١) المدركات ويكون هو المباشر لتلك الأفعال. ومتى كان الأمر كذلك ، وجب أن تكون النفس غير جسم ، وغير جسماني. وهذا الدليل ، إنما يتم بتقرير مقدمات ثلاثة :

أولها : إن الموصوف بجميع الإدراكات شيء واحد.

وثانيها : إن ذلك الشيء ، كما أنه هو الموصوف بجميع الإدراكات ، فكذلك هو الفاعل لجميع الأفعال.

وثالثها : إنه لما كان الأمر كذلك ، وجب أن يقال : النفس ليست جسما ، ولا حالة في الجسم.

أما المقدمة الأولى : فالدليل على صحتها : إنا إذا رأينا لون العسل حكمنا بأن طعمه: الحلاوة. والقاضي على الشيئين ، لا بد وأن يحضره المقضي عليهما ، فوجب وجود شيء يكون هو بعينه مدركا للألوان والطعوم ، حتى يمكنه أن يحكم بأن هذا الملون هو ذلك المطعوم.

وأيضا : إذا سمعنا صوتا مخصوصا حكمنا بأن صاحب هذا الصوت هو فلان ، الذي صورته كذا وكذا ، فلا بد هاهنا من شيء واحد ، يكون هو بعينه [سامعا للأصوات ، ومبصرا للصور ، حتى يمكنه أن يحكم بأن صاحب هذا الصوت هو بعينه صاحب تلك الصورة. فثبت : أنه لا بد من وجود شيء يكون هو بعينه (٢)] مدركا لجميع المحسوسات بالحواس الخمسة. ثم نقول :

__________________

(١) أقسام (ط).

(٢) من (طا ، ل).

١١٣

إن ذلك الحاس هو بعينه المتخيل. وذلك لأنا إذا تخيلنا صورة «زيد» أو تخيلنا صوته ، أو تخيلنا طعم العسل أو رائحته ، أو حرارة النار ، أو برودة الماء. فإذا أحسسنا بإحدى الحواس الخمسة [أحد هذه المحسوسات (١)] حكمنا : بأن هذا المحسوس هو بعينه ذلك المتخيل ، والقاضي على الشيئين لا بد وأن يحضره المقضي عليهما ، فوجب الإقرار بوجود شيء يكون بعينه الحساس ويكون هو بعينه ذلك المتخيل. ثم نقول : إن القوى الوهمية عند القوم : عبارة عن قوة تحكم على الأشخاص المحسوسة بمعان جزئية غير محسوسة ، مثل : الحكم على هذا الشخص بأنه عدو ، وعلى ذلك الآخر بأنه صديق ، والقاضي على الشيئين لا بد وأن يحضره المقضي عليهما ، فوجب الاعتراف بوجود شيء واحد يكون هو بعينه مدركا لهذه الصور ، ولهذه المعاني ، حتى يمكنه أن يحكم على تلك الصور بهذه المعاني. ثم نقول : القوة المفكرة هي التي تقوى أولا. على تركيب الصور بعضها بالبعض.

وثانيا. على تركيب المعاني بعضها بالبعض (٢). وثالثا. على تركيب بعض الصور ببعض المعاني. ورابعا. على تحليل بعضها عن البعض. ولا شك أن هذا التركيب والتحليل حكم على البعض بثبوت البعض الآخر ، أو بسلبه عنه.

والقاضي على الشيئين لا بد وأن يحضره المقضي عليهما ، فلا بد من شيء واحد يكون هو الحساس للكل ، ويكون هو بعينه [المتخيل للكل ، ويكون هو بعينه المدرك للصور والمعاني ، ويكون هو بعينه (٣)] المتصرف فيها بأسرها بالتركيب تارة ، وبالتحليل أخرى. ثم نقول : إنه يمكننا أن نحكم على هذا الشخص بأنه إنسان وأنه ليس بفرس. والقاضي على الشيئين لا بد وأن يحضره المقضي عليهما ، فلا بد من شيء واحد يكون هو بعينه مدركا لهذا الجزئي ولهذا

__________________

(١) سقط (م) ، (ط).

(٢) بعض الأجزاء (م ، ط).

(٣) من (طا ، ل).

١١٤

الكلي ، حتى يمكنه أن ينسب ذلك الكلي إلى ذلك الجزئي [تارة بالانحلال (١)] وتارة بالإيجاب ، وتارة بالسلب. فظهر بهذا البرهان الذي لا ريب فيه : أن الموصوف بجميع الإدراكات الكلية والجزئية ، وأن المتصرف فيها بالتحليل والتركيب ، يجب أن يكون شيئا واحدا. وهو المطلوب.

المقدمة الثانية في بيان أن ذلك الشيء الواحد ، الذي هو المدرك ، يجب أن يكون بعينه هو الفاعل لجميع الأفعال : والدليل عليه : أن الإنسان إنما يفعل بالقصد والاختيار. والفعل الاختياري معناه : أنه إذا اعتقد في الشيء ، أنه مشتمل على نفع خالص ، أو راجح. أوجب هذا الاعتقاد حصول رغبة في ذلك الفعل ، وإذا حصلت تلك الرغبة ، صار القادر فاعلا. وأما إذا اعتقد أن في الفعل الفلاني مفسدة خالصة أو راجحة ، أوجب ذلك الاعتقاد حصول نفرة عن ذلك الفعل [وإذا حصلت تلك النفرة ، صار القادر ممتنعا عن الفعل (٢)] وإذا ثبت هذا ، ثبت أن ذلك المدرك بعينه ، يجب أن يكون هو الموصوف بالرغبة تارة ، وبالنفرة أخرى ، إذ لو كان الموصوف بالرغبة والنفرة شيء مغاير لذلك المدرك لكانت هذه الرغبة والنفرة ، حاصلة لشيء خالي عن الإدراك والاعتقاد. وحينئذ يكون حصول تلك الرغبة ، وتلك النفرة ، لا لأجل ذلك الاعتقاد. وقد فرضناه معللا به. هذا خلف. وأيضا : فالراغب في الشيء أو النافر عنه ، قد أشار فهمه إلى ذلك الشيء المرغوب فيه أو المهروب منه [فثبت : أن المريد للفعل أو الترك ، يجب أن يكون هو بعينه مدركا لذلك الشيء (٣)] وظاهر أن الفاعل للفعل هو الذي أراد ذلك الفعل ، ولما ثبت أن الفاعل [هو بعينه ذلك الشيء ، الذي أراده ، وثبت : أن ذلك المريد هو بعينه الذي أدركه ، ثبت أن الفاعل هو بعينه ذلك المدرك. وهذا برهان قاطع على أن

__________________

(١) من (م).

(٢) سقط (م).

(٣) سقط (م).

١١٥

الفاعل (١)] والمريد والمدرك : شيء واحد بعينه. وأن توزيع هذه الأحوال على هذه الذوات المتباينة : قول لا يليق بالعاقل البتة.

ومن العجائب جدا في هذا الباب : أن «جالينوس» قال : «القلب مبدأ الغضب والفرح والغم» ثم قال : «وليس في القلب قوة مدركة ، وإنما القوة المدركة حاصلة في الدماغ» وهذا القول لا يليق بالعاقل لأنه ما لم يحصل اعتقاد كون ذلك الشيء منافيا (٢) للمزاج ، امتنع صيرورته مغضوبا عليه ، وما لم يحصل اعتقاد أنه ملائم للمزاج امتنع حصول الفرح به. فالقول بأن القلب محل الغم والفرح والغضب. مع كونه خاليا عن الإدراك : قول لا يليق بالعاقل البتة. فثبت بما ذكرنا من البيان الظاهر الجلي القوي : أن المدرك لجميع أنواع الإدراكات ، وأن المريد والكاره ، وأن الفاعل والتارك ، يجب أن يكون شيئا واحدا.

المقدمة الثالثة في (٣) بيان أنه لما كان العالم القادر شيئا واحدا ، وجب أن يكون ذلك الشيء غير جسم وغير حال في الجسم :

والدليل عليه وجهان :

الأول : إنه لو كان جسما ، لكان ذلك الجسم. إما أن يكون مجموع هذا البدن ، أو جسما داخلا فيه ، أو داخلا في عضو من الأعضاء الموجودة فيه ، أو جسما خارجا عنه. والأقسام الثلاثة باطلة.

وإنما قلنا : إنه يمتنع (٤) أن يكون ذلك الجسم عبارة عن مجموع ذلك البدن ، لأنا نعلم بأن السمع والبصر والتخيل والتفكر والتذكر ، غير حاصل في

__________________

(١) سقط (م).

(٢) ملائما (م).

(٣) البيانات (م).

(٤) لا يجوز (م ، ط).

١١٦

اليدين ولا في الرجلين ، ولا في أكثر الأعضاء. والعلم بذلك ضروري ، فيمتنع أن تكون جملة البدن موصوفة بتلك الصفات. وإنما قلنا : إنه لا يجوز أن يكون ذلك الجسم جسما موجودا في داخل البدن. لأن ذلك الجسم. إن كان مشابكا في جملة أجزاء البدن (١) عاد المحال الأول. وإن كان حاصلا في موضع معين من البدن ، فهذا باطل. وإلا لكنا نجد في أبداننا موضعا معينا مشتملا على شيء موصوف بمجموع هذه الصفات. والعلم الضروري حاصل بأنا لا نجد في هذا البدن موضعا موصوفا بمجموع هذه الصفات.

فإن قالوا : هب أنكم لا تعرفون ذلك الموضع ، إلا أن عدم العلم بالشيء ، لا يدل على العلم بعدمه. فنقول : إن علم كل أحد بنفسه ، علم ضروري ، وهو سابق على جميع العلوم. بدليل : أني كلما علمت أو اعتقدت شيئا ، فإني أعلم كوني عالما بذلك الشيء أو معتقدا له. وعلمي بنفسي ، سابق على علمي بكوني عالما بذلك الشيء أو معتقدا له. فثبت : أن علمي بنفسي أجلى العلوم الضرورية. فإذا كان المشار إليه بقولي «أنا» : عبارة عن ذلك الجسم الموجود في ذلك الجسم الموجود في ذلك الموضع المعين من البدن ، وكان ذلك الشيء بعينه موصوفا بجملة هذه الصفات. وهي السمع والبصر والذوق [والشم (٢)] واللمس والتخيل والتفكر والتذكر والتعقل. فإن الإنسان كلما علم كونه موصوفا بصفة من هذه الصفات ، فقد علم نفسه. فإذا كان ذلك العالم هو ذلك الشيء المحصور في ذلك الموضع. فحينئذ نعلم بالضرورة : أن ذلك العالم الموصوف بتلك الصفات ، هو الشيء الموجود في ذلك الموضع ، فوجب أن نعلم بالضرورة أن الشيء المشار إليه بقولي : «أنا» : هو الشيء المختص بذلك الموضع. ولما لم يكن الأمر كذلك ، علمنا : أنه يمتنع أن يكون الشيء الموصوف بهذه الصفات جسما حاصلا في موضع معين من هذا البدن.

__________________

(١) البدن وأجزائه (م).

(٢) من (ل).

١١٧

وأما القسم الثالث : وهو أن يكون ذلك الشيء جسما خارجا عن البدن ، فهو معلوم الفساد بالضرورة. وإذا بطلت هذه الأقسام الثلاثة ، ثبت : أن ذلك الشيء ليس بجسم.

والوجه الثاني في بيان أن ذلك الشيء ليس بمتحيز : هو أن نقول : ذلك المتحيز ، إما أن يكون منقسما ، أو لا يكون منقسما. والقسمان باطلان. أما أنه يمتنع أن يكون منقسما. فلأن الموصوف بهذه الصفات ، إما أن يكون مجموع تلك الأقسام ، أو كل واحد منها أو واحد منها معينا. والكل باطل ، لعين البيان المذكور في الدليل المتقدم.

وأما أنه يمتنع أن يكون غير منقسم ، فهو إنا إن نفينا الجوهر الفرد ، فقد تم المقصود ، وإن أثبتناه أبطلناه بعين ما ذكرناه في الدليل [الأول (١) والله أعلم].

الحجة السابعة : إن نفس كل أحد شيء واحد. ومتى كان الأمر كذلك ، امتنع كونه جسما.

أما بيان المقام الأول : فهو أن أعرف المعارف ، وأظهر الظاهرات : علم كل أحد بأنه موجود ، وعلمه بأنه واحد.

أما بيان الأول : فالدليل عليه أني إذا علمت شيئا فإني أحكم على نفسي بكوني عالما بذلك المعلوم ، والحكم بشيء على شيء ، مسبوق بتصور الطرفين ، وهذا يقتضي أن علمي بذاتي ، كان سابقا على علمي بذلك الشيء ، حتى حكمت على نفسي بكونها عالمة بذلك المعلوم.

وأما بيان الثاني : فالدليل عليه : أني لو لم أكن شيئا واحدا ، بل كنت أشياء كثيرة ، وأنا عبارة عن مجموعها. لكان كل واحد من تلك الأشياء عالما بحال نفسه ، ويكون غافلا عن حال الآخر. وحينئذ لا يكون ذلك المجموع

__________________

(١) سقط (م ، ط). وفي م : المتقدم.

١١٨

عالما بمجموع تلك الأحوال. فلو كنت أشياء كثيرة ، لوجب أن لا أكون عالما بأحوال نفسي ، ومعلوم أن ذلك باطل ، بل نقول : إن من المعلوم بالضرورة أن الذي أشير إليه بقولي «أنا» : شيء واحد [منفرد ، وغير متعدد. وأن الفرق بين علمي بأني أنا شيء واحد (١)] وبين الحكم على مجموع أشخاص من الناس بأنهم مجموع واحد : معلوم بالضرورة ، بل هو من أظهر العلوم الضرورية. فثبت : أن نفس كل [أحد (٢)] شيء واحد. وأما المتحيز ، والحال في المتحيز ، فإنه يمتنع أن يكون واحدا ، بناء على نفي الجوهر الفرد ، وأما على القول بإثبات [الجوهر الفرد (٣)] فإنه يمتنع أيضا أن تكون النفس جزءا لا يتجزأ. وذلك يدل على أن النفس ليست بمتحيز ولا حال في المتحيز. وهو المطلوب.

فهذا شرح جملة الوجوه القوية في إثبات تجرد النفس.

الحجة الثامنة في إثبات هذا المطلوب : إن بديهة العقل قاضية بأن الشيء الواحد بالنسبة إلى الشيء الواحد يمتنع أن يكون سببا لكماله ، وسببا لنقصانه معا. وإذا ثبت هذا فنقول : إنا نعلم بالضرورة أن المواظبة على الأفكار الكثيرة في العلوم الدقيقة توجب كمال حال النفس. فإن النفس بسبب هذه الأفكار تنتقل من القوة إلى الفعل في الكمالات العقلية ، وتصير نورانية مشرقة مضيئة مبتهجة. والمواظبة على الأفكار الكثيرة المذكورة توجب نقصان حال البدن وهلاكه ، وذلك لأن عند حصول الاشتغال بتلك الأفكار والاستغراق فيها ، يستولي الجفاف على الدماغ ، ويضعف حال الهضم فيسوء حال البدن. فثبت : أن المواظبة على الأفكار المذكورة ، توجب كمال حال النفس ، ونقصان حال البدن. فلو كانت النفس عين البدن أو جزءا من أجزائه ، لزم كون الشيء الواحد بالنسبة إلى الشيء الواحد ، سببا للكمال والنقصان معا. وذلك محال.

__________________

(١) سقط (طا).

(٢) سقط (ل).

(٣) سقط (ط).

١١٩

فوجب الجزم بأن النفس هي شيء غير البدن ، وغير كل واحد من أجزائه وهو المطلوب.

واعلم : أن الاعتبار المذكور يختص بالقوة النظرية ، وهو أيضا قائم في رياضة الإنسان إذا كان مواظبا على الأكل والشرب والتفرج والتنزه بالجسمانيات ، فإنه تختل قوته العقلية ، وتفسد ، ولا يبقى معه منها شيء يلتفت إليه ، أو يعتبر به فإن من المشهور في المثل : «البطنة تذهب بالفطنة» أما إذا راض الإنسان نفسه بالامتناع عن المأكولات ، والانقطاع عن اللذات الجسمانية ، وجلس في بيت مظلم بحيث لا يبصر شيئا ولا يسمع شيئا ، وتكلف إزالة الصور المحسوسة والمثل الجسمانية عن الفكر والخيال ، وواظب على هذه الحالة مدة [مديدة (١)] فإنه تصير نفسه في غاية الكمال ، وبدنه في غاية الضعف والنحافة. وهذا الاعتبار يدل على أن كل ما كان سببا لسعادة النفس ، فهو بعينه يصير سببا لشقاوة البدن. وكل ما كان سببا لشقاوة النفس فهو بعينه سبب لسعادة البدن. وذلك يدل على أن النفس شيء غير البدن ، وغير أجزاء هذا البدن وأعضائه.

وهاهنا وجه ثالث يناسب الوجهين الأولين ، وهو أن النوم بالنسبة إلى الجسد كالموت وبالنسبة إلى النفس كالحياة وكاليقظة. وذلك لأن الإنسان في حال اليقظة ، تكون نفسه كالنائمة عن عالم الغيب ، الغافلة عن أحوال ذلك العالم ، المعرضة عنها ، فإذا نام الإنسان بحسب جسده ، فحينئذ تحصل اليقظة [للنفس (٢)] فتتصل بعالم الغيب ، وتقف على بعض أحوال ذلك العالم ، وهو المنامات الصادقة ، الدالة على أحوال المغيبات ، فإذا استيقظت فقد حصلت اليقظة للبدن ، وصارت النفس نائمة منقطعة عن عالم الغيب.

فثبت بهذه الوجوه الثلاثة : أن حياة النفس ، وسعادتها ، ويقظتها ،

__________________

(١) من (م).

(٢) سقط (طا).

١٢٠