محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]
المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٥
فإن قيل : أليس أن مذهب الفلاسفة : أن الجسم البسيط ، إذا خلا عن التقطيع ، وعن اختلاف العرضين ، وعن الوهم ، فإنه يكون في نفسه واحدا على سبيل الحقيقة ، ولا يكون فيه تركيب أصلا ، ولا يلزم من كونه قابلا للقسمة حصول القسمة فيه ، كما أنه لا يلزم من كون الجسم قابلا للسواد ، أن يكون أسود؟
وإذا كان كذلك ، فهذا الجسم في نفسه شيء واحد ، وليس له من الأبعاض والأقسام [شيء (١)] وإذا كان كذلك ، فههنا يمتنع أن يقال : الحال في كل واحد من أقسامه : إما كل ذلك العلم ، أو بعضه. لأن هذا الكلام إنما يصح ، لو حصل ذلك الجسم أبعاض وأقسام. أما لما كان في نفسه شيئا واحدا ، ولم يحصل له أبعاض وأقسام البتة [لم يصح (٢)] هذا الكلام.
السؤال الثاني : هب أن ذلك الجسم ، حصلت له أبعاض وأقسام. فلم لا يجوز أن يقال : كل واحد من أبعاضه خالي عن كل ذلك العلم وعن بعضه؟ قوله : «لو كان كذلك ، لامتنع أن يكون كل ذلك الجسم موصوفا بذلك العلم» قلنا : ما الدليل على أنه لما خلا كل واحد من أجزاء ذلك الموصوف عن كل تلك الصفة وعن بعضها ، وجب خلو ذلك الموصوف عن كل تلك الصفة؟ وذلك لأن الكل من حيث هو كل ، مغاير لكل واحد من أجزائه خلا عن كل تلك الصفة وعن بعضها ، فلا يلزم من هذا ، وجوب خلو [كل (٣)] تلك الذات عن كل تلك الصفة؟
والجواب عن السؤال الأول : إن الجسم البسيط ، وإن كان واحدا في نفسه ، إلا أن حصول الانقسام فيه أمر ممكن. وكل ما كان ممكنا ، فإنه لا يلزم من فرض وقوعه : محال. فإذا فرض ذلك الانقسام واقعا ، امتنع أن يلزم منه
__________________
(١) من (م)
(٢) لم يحصل (طا ، ل)
(٣) من (ط)
محال. ولما لزم المحال ، علمنا : أنه إنما لزم لا من هذا الغرض ، وإنما لزم من قيام الصفة التي لا تقبل القسمة بالمحل ، الذي يقبل القسمة ، فوجب أن يكون هذا الغرض محالا.
وأما السؤال الثاني. فجوابه : إنا ندعي العلم البديهي بأنه متى كان جميع أجزاء الذات خاليا عن كل الصفة ، وعن كل واحد من أجزاء تلك الصفة ، امتنع بعد كون تلك الذات موصوفة بتلك الصفة.
وأما المقدمة الرابعة : فهق في بيان أن كل متحيز فهو منقسم. وهذا بناء على نفي الجوهر الفرد. والكلام فيه معلوم.
وإذا ظهرت هذه المقدمات الأربعة ، ظهر أن محل هذه العلوم جوهر ليس بجسم ولا بجسماني. وهو المطلوب.
واعلم : أن هذا الدليل ذكره الشيخ الرئيس «أبو علي» في جميع كتبه ، إلا أنه ما ذكره على هذا الترتيب ، ولم يقرره بهذه الوجوه. وسنحكي كلامه في تقرير هذه الوجوه (١) ومن أنصف : علم أن هذا البيان أكمل وأتم.
ثم نقول : الاعتراض على هذا الدليل من وجوه :
[الأول : إن هذا الدليل بناء على نفي الجوهر الفرد والكلام فيه معلوم.
والثاني : لم قلتم : إن الحال في المنقسم : منقسم. والذي يدل على صحته وجوه(٢):]
الحجة الأولى (٣) : إن النقطة شيء مشار إليه ، لا يقبل القسمة. فهو إمّا أن يكون جوهرا ، وإما أن يكون عرضا. فإن كان جوهرا فقد ثبت الجوهر
__________________
(١) هذا الدليل (م ، ط)
(٢) من (طا ، ل)
(٣) الأول [الأصل]
الفرد ، وبطل هذا الدليل. وإن كان عرضا ، عاد الكلام فيه ، ويلزم إما إثبات الجوهر الفرد ، وإما حلول ما لا ينقسم في محل منقسم. وعلى كلا التقديرين ، يبطل دليلكم بالكلية.
فإن قالوا : الكلام فيه من وجوه :
الأول : إن النقطة وجودها في الوهم ، لا في الأعيان.
الثاني : إن النقطة عبارة عن نهاية الخط ، ونهاية الخط عبارة عن عدمه وفنائه ، وذلك عدم محض.
الثالث : إن النقطة طرف ، والطرف لا يكون ساريا في ذي (١) الطرف ، ولا شائعا فيه. وأما العلم فبتقدير أن يكون صفة للجسم ، فإنه يجب أن يكون ساريا فيه. لأنه [يلزم عليه (٢)] إن لم يكن ساريا فيه ، كان إما طرفا ، وإما حالا في الطرف. لا جائز أن يكون طرفا. لأن الطرف هو النقطة. والعلم ليس بنقطة. ولا جائز أن يكون حالا في الطرف ، الذي هو النقطة. لوجهين :
الأول : إن النقطة موجود لا يقبل القسمة فيمتنع أن تختلف أحواله بحسب اختلاف أحوال المزاج. وإذا ثبت هذا فنقول : طبيعة النقطة [إن كانت (٣)] مستعدة لقبول العلم ، فوجب أن تكون كل نقطة موصوفة بالعلم ، لأن الفيض عام ، فإن كان القابل مستعدا ، وجب عموم الفيض.
الثاني : إن النقطة طرف الخط ، فلا يحل فيه طرف ما كان حاصلا في الطرف (٤) حتى يكون الحال في مقابلة المحل ، ويكون طرف الحال في مقابلة طرف المحل. والجواب :
أما السؤال الأول : وهو قوله : «النقطة لا وجود لها إلا في الوهم»
__________________
(١) ذلك (ط)
(٢) من (م)
(٣) من (م)
(٤) الخط (م)
فكلام باطل. لأن الجسم متناهي في الخارج ، ونهايته هو السطح ، فوجب أن يكون السطح موجودا في الخارج. والسطح متناه الخط ، ونهايته الخط ، والخط موجود في الخارج فنهايته موجودة في الخارج [فالنقطة موجودة في الخارج] (١)
وأما السؤال الثاني : وهو قوله : «النقطة عبارة عن نهاية الخط ، ونهاية الشيء عبارة عن عدمه» فنقول : إن الخط يلاقي بطرفه خطا آخر ، فلو كانت النقطة عدما ، لكان محل الملاقاة عدما محضا. وإنه باطل.
وأما السؤال الثالث : وهو قوله : «النقطة غير سارية في الجسم» فنقول : لم لا يجوز أيضا : أن يكون العلم حالا في المحل ، لا على وجه الشيوع. والسريان؟ قوله : «العرض الذي لا يكون ساريا في الجسم : إما النقطة ، وإما الحال في النقطة» قلنا : هذا الحصر ممنوع. فلم لا يجوز إثبات أعراض غير سارية في الجسم مع أنها لا تكون نقطة ولا حالة في النقطة؟ وهذا الحصر ليس لهم في إثباته شبهة ، فضلا عن حجة. ثم نقول : لم لا يجوز أن يكون محل هذه العلوم هو النقطة؟
أما قوله أولا : «إن النقطة يمتنع أن يختلف حالها في القبول وعدم القبول ، بسبب اختلاف الاستعدادات» قلنا : لم لا يجوز أن يكون شرط كون تلك النقطة قابلة للعلم المخصوص : حصول استعداد مخصوص في الجسم الذي تكون تلك النقطة حالة فيه؟ وإذا كان هذا الاحتمال قائما ، سقط كلامكم.
وأما قوله ثانيا : «إنه لا يحل في طرف المحل إلا طرف الحال» قلنا : هذا تحكم ولا بد فيه من الدليل. فهذا تمام الكلام في سؤال النقطة.
الحجة الثانية في بيان أنه لا يلزم من انقسام المحل انقسام الحال : هو أن الوحدة حاصلة. فهذه الوحدة إما أن تكون جوهرا أو عرضا ، فإن كانت
__________________
(١) من (ط)
[جوهرا (١)] فقد ثبت الجوهر [الفرد (٢)] وإن كانت عرضا وجب أن يكون له محل. فمحلها إن كان منقسما فقد جوزتم قيام غير المنقسم بالمنقسم ، وإن كان غير منقسم فهو الجوهر الفرد ، وعلى جميع التقديرات ، يبطل دليلكم. فإن قالوا : الوحدة طبيعة عدمية ، وهي عبارة عن عدم الكثرة. فنقول : [هذا باطل (٣)] لأن الكثرة إما أن تكون طبيعة وجودية ، أو عدمية. لا جائز أن تكون وجودية ، لأن الكثرة عبارة عن مجموع الوحدات. فإذا كانت الوحدة عدمية ، كانت الكثرة عبارة عن مجموع العدمات ومجموع العدمات لا يكون موجودا. وإن كانت الكثرة عدما والوحدة عبارة عن عدم الكثرة ، فحينئذ تكون الوحدة عدما للعدم ، فتكون أمرا موجودا. فسقط ما قالوه.
الحجة الثالثة : إن الإضافات عارضة للأجسام. مثل الفوقية والتحتية والمالكية والمملوكية. فلو انقسم الحال لانقسام محله ، لزم كون الإضافات منقسمة ، وذلك محال. لأنه يلزم أن يحصل للفوقية والتحتية نصف وثلث وربع. وذلك مما لا يقبله العقل.
الحجة الرابعة : إن القوة الوهمية والقوة المفكرة : قوى جسمانية ، عند «الشيخ» فيجب (٤) أن تحصل للقوة الوهمية والفكرية أجزاء وأبعاض ، وذلك محال. لأنها لو انقسمت ، لكان كل واحد من أبعاضها ، إما أن يكون وهما ، وحينئذ يكون الجزء مساويا للكل ، وهو محال. أو يكون بعض الوهم. لكن الوهم لا معنى له إلا الحكم. بكون هذا صديقا ، وكون ذاك عدوا. وهذا الحكم لا يقبل القسمة البتة. أو لا يكون وهما لكل ذلك الشيء ولا لبعضه ، وحينئذ يبطل هذا القسم بعين ما أبطلتم مثله في القوة العقلية.
الحجة الخامسة : الوجود صفة عارضة للماهيات ، فإذا أشرنا إلى جسم
__________________
(١) سقط (طا)
(٢) سقط (م)
(٣) سقط (طا)
(٤) فيلزم (م)
معين ، وقلنا : إنه موجود ، فيجب أن يكون الوجود صفة قائمة به [فلو لزم انقسام الحال لانقسام المحل ، لزم أن يكون ذلك الوجود منقسما (١)] وذلك محال. لأن كل واحد من أجزاء الوجود. إن كان وجودا ، لزم كون الجزء مساويا للكل ، وهو محال. وإن كان كل واحد من أجزاء الوجود ليس بوجود ، فهذا محال لوجهين :
الأول : إن تلك الأجزاء عند اجتماعها ، إن لم تحدث هناك هيئة زائدة ، لزم أن يكون الوجود حاصلا ، وإن حصلت هيئة زائدة ، فتلك الهيئة الزائدة ، إما أن يكون وجودا ، وإما أن لا يكون. وإن لم ينقسم ، فحينئذ لم يلزم من انقسام المحل انقسام الحال. وهو المطلوب.
الثاني : إن كل واحد من أجزاء الوجود ، إذا لم يكن وجودا ، لزم أن يقال : كل واحد من أجزاء الجسم المنقسم ، فهو غير موصوف بالوجود ، فوجب أن تكون (٢) تلك الأجزاء [غير (٣)] موجودة ، فجزء الجسم الموجود يجب أن لا يكون موجودا. وذلك محال.
الحجة السادسة : إن طباع الأعداد ماهيات مختلفة. فكون الشيء : عشرة : عرض ، وكونه تسعة : عرض آخر. وهذان العرضان : [نوعان (٤)] مختلفان بالماهية ، داخلان تحت جنس الكم المنفصل.
إذا عرفت هذا فنقول : المفهوم من كون العشرة : عشرة : مفهوم واحد ، وماهية واحدة. فتلك الماهية الواحدة ، إما أن تكون عارضة لكل واحد من تلك الآحاد ، وإما أن تنقسم بحسب انقسام تلك الآحاد. والأول محال. وإلا لزم أن يكون كل واحد من تلك الآحاد ، موصوفا بأنه عشرة. وذلك محال ، وأنه يلزم قيام العرض الواحد بالمحال الكثيرة. وهو محال.
__________________
(١) سقط (طا) ، (ل) وفي (م) ذلك الوجود صفة. وفي (ط).
(٢) أن لا تكون (م)
(٣) سقط (م ، ط)
(٤) سقط (ل ، طا)
والثاني أيضا : محال لأن المفهوم من كون العشرة عشرة ، لا يقبل القسمة [نعم العشرة تقبل القسمة (١)] أما مجرد العشرية فإنها لا تقبل القسمة البتة. فإن نازع الخصم فيه فنقول : لو انقسمت العشرية (٢) لكان كل واحد من أجزائها ، إما أن يكون عشرية ، وإما أن لا يكون [عشرية (٣)] ويذكر التقسيم الذي ذكروه في العلم إلى آخره.
الحجة السابعة : الكيفيات المختصة بالكميات ، مثل الاستدارة والتثليث التربيع. عند الفلاسفة : أعراض موجودة. فنقول : هيئة الاستدارة إن كانت عرضا ، فذلك العرض إما أن يكون بتمامه قائما بكل واحد من الأجزاء ، فيلزم أن يكون كل واحد من أجزاء الدائرة : دائرة. هذا خلف. وإما أن ينقسم ذلك العرض إلى الأجزاء ، ويقوم بكل واحد من أجزاء الخط ، جزء من أجزاء ذلك العرض ، وهذا أيضا باطل. لأن جزء الاستدارة إن كان في نفسه استدارة ، عاد ما ذكرناه من أنه يلزم أن يكون جزء الدائرة : دائرة. وإن لم يكن كذلك، فحينئذ يكون القائم بكل واحد من أجزاء [الخط (٤)] شيئا ، ليس هو في نفسه استدارة ، فعند اجتماع تلك الأجزاء ، إن لم يحدث أمر زائد ، وجب أن لا تحصل الاستدارة ، وإن حصل. فذلك الحاصل إن كان منقسما ، عاد التقسيم الأول ، وإن لم ينقسم فحينئذ يكون الحال [غير منقسم (٥)] ويكون المحل منقسما. وذلك يبطل كلامهم.
الحجة الثامنة : لا شبهة أن هذه الأجسام ممكنة بذواتها ، واجبة بغيرها. فكونها ممكنة بذواتها ، واجبة بغيرها صفات عرضية خارجة عن الماهية. فنقول : هذه المفهومات إن لم تنقسم لانقسام محلها ، فقد بطل الكلام المذكور ، وإن انقسمت فكل واحد من أجزاء الإمكان ، ومن أجزاء الوجوب بالغير ، إن
__________________
(١) سقط (ط)
(٢) العشرة (ل)
(٣) سقط (ل)
(٤) سقط (طا)
(٥) سقط (طا)
كان في نفسه إمكانا ووجوبا بالغير ، لزم أن يكون الجزء مساويا للكل. وإن لم يكن كذلك ، فعند اجتماع تلك الأجزاء ، إما أن يحدث أمر زائد ، أو لا يحصل. ونسوق التقسيم إلى آخره [فهذه النقوض الثمانية واردة على قوله : «الحال يجب أن ينقسم بانقسام المحل» والله أعلم (١)]
__________________
(١) من (طا ، ل)
الفصل الرابع
في
حكاية الدلائل التي عوّل عليها
«الشيخ» في اثبات أن النفس الناطقة : مجردة
مجموع الوجوه التي ذكرها في جميع كتبه ـ [والله أعلم (١)] :
الحجة الأولى : وهذه الحجة هي التي ذكرناها ، لكن بتقرير آخر. فقال : «محل العلوم الكلية : [إما أن يكون جسما أو جسمانيا (٢)] ولو كان جسما أو جسمانيا لانقسمت تلك العلوم. لأن الحال في المنقسم : منقسم» ولم يذكر على صحة هذه المقدمة دليلا ولا شبهة ، ولم يورد عليها شيئا من النقوض التي ذكرناها.
ثم قال (٣) : «وكون تلك العلوم منقسمة : أمر محال» واحتج عليه : بأنه
__________________
(١) من (ل).
(٢) من (م).
(٣) قصيدة في النفس لابن سينا.
هبطت إليك من المحل الأرفع |
|
ورقاء ذات تعزّز وتمنع |
محجوبة عن كل مقلة عارف |
|
وهي التي سفرت ، ولم تتبرقع |
وصلت على كره إليك ، وربما |
|
كرهت فراقك ، وهي ذات تفجع |
أنفت وما ألفت ، فلما واصلت |
|
أنست مجاورة الخراب البلقع |
وأظنها نسيت عهودا بالحمى |
|
ومنازلا بفراقها لم تقنع |
حتى إذا اتصلت بهاء هبوطها |
|
عن ميم مركزها ، بذات الأجرع |
علقت بها ثاء الثقيل فأصبحت |
|
بين المعالم والطول الخضع؟ ـ |
لو انقسم هذا العلم ، لكان إما ينقسم إلى جزءين متشابهين أو مختلفين. والقسمان باطلان ، فبطل القول بكونه منقسما. وإنما قلنا : إنه يستحيل أن ينقسم إلى جزءين متشابهين لوجهين:
__________________
ـ تبكي إذا ذكرت عهودا بالحمى |
|
بمدامع تهمى ، ولما تقلع |
وتظل ساجعة على الدمن التي |
|
درست بتكرار الرياح الأربع |
إذا عاقها الشرك الكثيف وصدها |
|
قفص عن الأوج الفسيح المربع |
حتى إذا قرب المسير إلى الحمى |
|
ودنا الرحيل إلى الفضاء الأوسع |
وغدت مفارقة لكل مخلف |
|
عنها ، حليف الترب ، غير مشيع |
سجعت ، وقد كشف الغطاء فأبصرت |
|
، ما ليس يدرك بالعيون الهجع |
وغدت تغرد فوق ذروة شاهق |
|
والعلم يرفع كل من لم يرفع |
فلأي شيء أهبطت مع شامخ |
|
عال إلى قعر الحضيض الأوضع؟ |
إن كان أهبطها الإله لحكمة |
|
طويت عن الفطن اللبيب الأروع |
فهبوطها ـ إن كان ضربة لازب |
|
لتكون سامعة بما لم تسمع |
وتعود عالمة بكل حقيقة |
|
في العالمين ـ فخرقها لم يرقع |
وهي التي قطع الزمان طريقها |
|
حتى لقد غربت بغير المطلع |
فكأنها برق تألق بالحمى |
|
ثم انطوى فكأنه لم يلمع |
وتنقسم هذه القصيدة ثلاثة أقسام :
(١) سجن النفس : هبطت النفس من عل ، وحلت في الجسد شقية سجينة. وهي إن ارتاحت إلى سكناه بعض الراحة ، فحنينها أبدا إلى عالمها ، وهناؤها إذ تعود إليه مغردة هانئة (بيت ١ ـ ١٤).
(٢) غاية اتحاد النفس بالجسد : لم حلت النفس في الجسد؟ ألتعرف كل شيء؟ إنها لم تعرف. (بيت ١٥ ـ ١٨).
(٣) إنكار تناسخ النفس : ولن تعود النفس بالتناسخ ، لكي تكمل معرفتها (بيت ١٩ ـ ٢٠) إننا نرى ، في القسم الأول ، صدى نظرية أفلاطون القائلة بوجود النفس قبل البدن ، وهبوطها من عالم المثل إلى عالم الحس. ولكن أفلاطون يهبط النفس إلى الجسد لجناية صدرت عنها ، ويقضي عليها بالتناسخ تكفيرا عن إثمها ، وهذا ما لا يتفق وباقي القصيدة. فهل يكون ابن سينا بتر نظرية أفلاطون؟
ثم إن ابن سينا لا يسلم ، في باقي كتبه بوجود النفس قبل البدن. فهل يمكن أن يسلم به هنا؟ وعليه نرى أن نجعل من «المحل الأرفع» العقل الفعال ، فيتلاءم ما في القصيدة مع باقي كتب ابن سينا.
[من كتاب «النفس البشرية عند ابن سينا» للدكتور ألبير نصر نادر].
الأول : إن كل واحد من ذينك الجزءين ، لا بد وأن يكون مخالفا للكل ، لامتناع أن يكون الكل مثل الجزء ، وتلك المخالفة ليست بالحقيقة ولوازمها ، وإلا لم يكن ذلك الانقسام : انقساما إلى جزءين متشابهين. بل لا بد وأن يكون بالعوارض المادية كالمقدار والشكل ، فحينئذ يلزم أن لا يكون ذلك العلم مجردا عن جميع اللواحق الزائدة ، لأنا بينا : أنه حصل معه المقدار الذي به يخالف الجزء كله في المقدار ، وإذا لم تكن تلك الصورة مجردة ، امتنع كونها مشتركا فيها بين المختلفات. لأن الموصوف بصفة [معينة (١)] يستحيل أن يصدق هو على ما لا يكون موصوفا بها ، لكن العلوم الكلية صور (٢)] مشترك فيها بين الأشخاص. فإن المعقول من الإنسان ، لا شك أنه مشترك فيه بين جميع الأشخاص.
الوجه الثاني في إبطال هذا القسم : وهو أن ذلك الانقسام إما أن يكون شرطا لكون تلك الصورة معقولة ، أو لا يكون. والأول باطل. أما أولا : فلأنه يلزم كون كل واحد من الجزءين مخالفا بالماهية لذلك الكل ، لوجوب مباينة الشرط للمشروط.
وأما ثانيا : فقبل حصول الانقسام ، وجب أن لا تكون الصورة معقولة ، لفقدان الشرط ، وأما ثالثا ، فالشيء الذي [يكون (٣)] هذا حاله ، وجب أن يكون منقسما ، وليس (٤) كل معقول كذلك.
وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : أن (٥) تلك الصورة منقسمة (٦) ليس شرطا لكونها معقولة. فهذا يقتضي أن تكون تلك الصورة العقلية [عند
__________________
(١) سقط (طا).
(٢) صفة (م ، ط).
(٣) سقط (م) ، (ط).
(٤) سقط (ل).
(٥) وأن (م ، ط).
(٦) في (م ، ط) : منقسمة وليس كل معقول كذلك. وأما ليس شرطا ... إلخ.
انقسامها (١)] مغشاة بعوارض غريبة ، من جمع وتفريق ، ويكون في أقل منه بلاغ.
هذا لفظ «الإشارات» وتفسيره. إن كل واحد من جزئها مكتفي بجزء من ذلك المحل ، وذلك الجزء من تلك الصورة مساوي لكلها في تمام الماهية ، وحكم الشيء حكم مثله، فوجب أن يكون حلول كل تلك الصورة (٢) في جزء من ذلك المحل [ممكنا. وإذا كان كذلك كان حلول كل تلك الصورة في كل ذلك المحل (٣)] عارضا غريبا. وفي أقل منه بلاغ.
وأما القسم الثاني من القسمين المذكورين في أول الدليل : وهو أن يقال : إن تلك الصورة تنقسم إلى جزءين مختلفين في الماهية. فنقول : هذا محال. لأن الصورة العقلية لو كانت جسمانية ، لحصلت لها أجزاء بحسب الانقسامات الممكنة في الجسم ، لكن تلك [الانقسامات غير متناهية. فوجب أن تكون الأجزاء المختلفة الحاصلة لتلك (٤)] الصورة العقلية غير متناهية. وهذا محال. لوجوه :
الأول : إنه إذا كان كل واحد من تلك الأجزاء التي هي غير متناهية حالا في جزء آخر من ذلك المحل ، فقد اختص كل واحد من أجزاء ذلك الجسم بعرض مخالف للعرض الحال في الجزء الآخر ، وذلك يوجب تركب الجسم من أجزاء غير متناهية ، [بالفعل.
والثاني : وهو أن تلك الكثرة سواء كانت متناهية ، أو غير متناهية فلا بد فيها من واحد ، فتلك الصورة العقلية إذا كانت مركبة من أجزاء غير متناهية (٥)] فقد حصل فيها جزء واحد ، وحينئذ يعود التقسيم المذكور.
__________________
(١) سقط (ط).
(٢) الصفة (ط).
(٣) سقط (ط).
(٤) سقط (م ، ط).
(٥) سقط (م).
الثالث : إنا نفرض أن الجزء الجنسي ، وقع في أحد النصفين. والجزء الفصلي وقع في النصف الثاني. فإذا غيرنا (١) القسمة ، وجب أن ينتقل الجزء الجنسي من موضعه ، إلى الموضع الثاني ، الحاصل بسبب الغرض الثاني من القسمة [وأيضا (٢)] فإذا أوقعنا قسما في قسم مثل هذا : فإنه يلزم أن يتنصّف الجنس ، وإن لم يتنصف (٣) الفصل. وذلك محال. فهذا تمام تقرير هذه الحجة على ما ذكره «الشيخ».
واعلم : أن هذه الحجة في غاية الضعف لوجوه :
الأول : إنه مبني على أن العلم بالشيء عبارة عن حصول صورة مساوية لماهية المعلوم في ذات العالم.
وقد بينا في أول [منطق (٤)] هذا الكتاب بالدلائل القاهرة : فساد هذا المذهب.
الثاني : نقول : هب أنا سلمنا لكم هذه القاعدة. فلم لا يجوز أن تنقسم تلك الصورة إلى جزءين متشابهين في الماهية. قوله : «فعلى هذا التقدير تكون تلك الصورة صورة غير مجردة» قلنا : الكلام من وجهين :
الأول : وهو أن هذا لازم عليكم أيضا. وذلك : لأن هذه الصورة ، إذا كانت حالة في جوهر النفس الناطقة ، فهي صورة جزئية ، حالة في نفس جزئية ، وتقارنها سائر الأعراض الحالة في تلك النفس الجزئية. فإذا اعتبرنا تلك الصورة مع جملة هذه اللواحق ، لم تكن صورة مجردة. بل (٥) كانت مقرونة بلواحق كثيرة. وذلك يمنع من كونها كلية.
__________________
(١) اعتبرنا (م ، ط).
(٢) من (م ، ط).
(٣) لم يتنصف (م ، ط).
(٤) من (ل ، طا).
(٥) فإذا (ل).
فإن قالوا : المراد بكونها كليه : أن تلك الصورة ، إذا حذفنا عنها تلك اللواحق ، واعتبرناها من حيث هي هي ، بدون تلك اللواحق ، كانت كلية. فنقول : إذا جاز هذا ، فلم لا يجوز أن يقال : هذه الصورة ، وإن كانت حالة في مادة جسمانية مخصوصة ، بمقدار معين وشكل معين ، إلا أنها إذا اعتبرت من حيث هي هي ، مع حذف تلك الزوائد كانت كلية. فثبت : أن الإلزام الذي أورده «الشيخ» فهو بعينه لازم عليه.
والوجه الثاني (١) في بيان ضعف هذا الدليل : إن هذا القدر ، إن صح ، كان مستقلا فإفادة المطلوب ، من غير ذكر هذه التقسيمات. فإن الصورة العقلية سواء انقسمت (٢) بانقسام محلها ، أو لم تنقسم ، وسواء كان انقسامها إلى جزءين متشابهين في الماهية أو مختلفين فيها ، فإنه يصح أن يقال : إنها لو كانت حالة في جسم ، لما كانت مجردة. لكنها مجردة ، فوجب أن لا تكون جسمانية. فهذا الكلام واف بإفادة هذا المطلوب بتقدير صحته. وحينئذ لا يحتاج إلى ذكر التقسيمات [التي ذكرها. فثبت : أن هذه الحجة في غاية السقوط. والله أعلم.
الحجة الثانية من الوجوه (٣)] التي ذكرها «الشيخ» : أن قال : «الصورة العقلية الكلية مجردة عن الشكل والوضع ، وكل ما كان كذلك ، امتنع كونه جسمانيا».
بيان الأول : إن الصورة الكلية ، معناها : القدر المشترك بين الأشخاص ، ذوات الأشكال المختلفة ، والأوضاع المختلفة [والمقادير المختلفة (٤)] وما كان كذلك ، امتنع أن يكون موصوفا بشكل معين ، وقدر معين.
__________________
(١) الثالث [الأصل].
(٢) انقسمت علتها (ط).
(٣) سقط (ط).
(٤) سقط (طا).
وبيان الثاني : إن كل صورة جسمانية ، فإنه يحصل لها قدر معين ، وشكل معين ، ووضع معين ، بسبب محلها. وقد بينا : أن الصورة العقلية [المجردة يمتنع كونها كذلك. وربما ذكروا هذا الكلام بتقرير آخر. وهو أن الصورة العقلية (١)] الكلية ، لا شك أنها مجردة. وكونها مجردة. إما أن يكون بسبب المأخوذ عنه ، أو بسبب الآخذ.
والأول باطل. لأن هذه الصورة الكلية المجردة ، إنما أخذت عن الأشخاص الموصوفة بالمقادير المعينة. والأوضاع المعينة.
ولما بطل هذا ، بقي [أن كون هذه الصورة الكلية مجردة ، إنما كان بسبب أن الآخذ مجرد ، فوجب (٢)] أن تكون القوة العقلية جوهرا مجردا عن الوضع والمقدار.
ولقائل أن يقول : السؤال عليه من وجهين :
الأول : أن نقول ما الذي تريدونه بهذه الصورة الكلية؟ أتريدون به [أن العلم بذلك المعلوم حصل في ذات العالم ، أو تريدون (٣) به] أن العلم بذلك المعلوم حصل في ذات العالم؟.
أما الأول : فباطل ظاهر البطلان ، وإلا لكنا إذا عرفنا واجب الوجود ، وجب أن يحصل في عقولنا صورة مساوية لواجب الوجود في تمام الماهية. وذلك لا يقوله عاقل ، ولكنا إذا عقلنا المعدوم ، وجب أن يحصل في ذاتنا صورة مساوية للمعدوم في تمام الماهية ، وذلك محال. لأن المعدوم نفي محض ، فكيف يعقل أن يكون الموجود مساويا له في تمام الماهية؟ وبالجملة : فالاستقصاء فيه مذكور في أول كتاب المنطق [من هذا الكتاب (٤)].
__________________
(١) من (طا ، ل).
(٢) سقط (ط).
(٣) سقط (ل).
(٤) سقط (ط). وهو يشير إلى مقدمة كتاب المطالب ..
وأما الثاني : فهو مسلّم إلا أنه لا يفيد مقصودكم ، لأن الأمر الكلي المشترك فيه بين الأشخاص الإنسانية ، هو الإنسانية ، لا العلم بالإنسانية. وإذا كان كذلك ، لم يلزم من كون العلم بالإنسانية مقرونا بالعوارض الخارجية : حصول القدح في قولنا : الإنسانية من حيث هي هي : أمر كلي مشترك فيها. وتمام الكلام في هذا البحث : مذكور في باب الكلي [والجزئي (١)] من المنطق ، والإلهيات.
السؤال الثاني : إن هذا الإشكال وارد عليكم أيضا وذلك لأن الصورة الكلية التي تثبتونها وتزعمون أنها حالة في النفس ، فهي صورة شخصية موصوفة بعوارض شخصية ، أعني حلولها في تلك النفس وحدوثها في وقت معين ، ومقارنتها لسائر الصور العقلية ، ولسائر الأعراض الحاصلة في جوهر النفس. فثبت أن هذه الصورة العقلية وإن كانت حالة في جوهر ، ليس بجسم ولا بجسماني ، فهي غير مجردة عن العوارض الخارجية. فإن قالوا : المراد بكونها مجردة : أنها نظرا إلى ماهيتها ، مع قطع النظر عن العوارض المذكورة مجردة فنقول : لم لا يجوز أن تكون الصورة الحالة في المحل الجسماني تكون مجردة ، بمعنى أنها بالنظر إلى حقيقتها وماهيتها مع قطع النظر عن العوارض تكون مجردة وكلية؟.
الحجة الثالثة : قالوا : القوة العاقلة تقوى على أفعال غير متناهية ، ولا شيء من القوى الجسمانية يقوى على أفعال غير متناهية ، ينتج : أن القوة العاقلة ليست من القوى الجسمانية.
أما بيان المقدمة الأولى : فهو أن الصورة العاقلة تقوى على إدراكات غير متناهية. وذلك يدل على أنها تقوى على أفعال غير متناهية.
وأما بيان المقدمة الثانية : فهو أن كل قوة جسمانية ، فإنها تنقسم بانقسام محلها. فالذي تقوى عليه بعض القوة ، يجب أن يكون أقل من الذي تقوى
__________________
(١) سقط (ل).
عليه كل القوة. وإلا لزم أن يكون البعض مثلا للكل. وهو محال. وكل ما كان أقل من غيره فهو متناه ، فالذي تقوى عليه بعض القوة ، يجب أن يكون متناهيا ، والذي يقوى عليه الكل ، أضعاف ما يقوى عليه البعض مرارا متناهية. وضعف المتناهي مرارا متناهية ، يجب أن يكون متناهيا ، فيلزم أن يقال : إن كل ما تقوى عليه القوة الجسمانية ، يجب أن يكون متناهيا.
والاعتراض : لا نسلم أن القوة العاقلة ، تقوى على أفعال غير متناهية. وأما قوله : «إنها تقوى على إدراكات غير متناهية ، والإدراكات أفعال ، ينتج : أنها تقوى على أفعال غير متناهية» قلنا : لا نسلم أنها تقوى على إدراكات غير متناهية. ولم لا يجوز أن يقال : إنها تنتهي في الإدراكات والمعارف إلى حيث لا يمكنها أن تزيد عليه شيئا؟ فإن قالوا : هذا محال ، وذلك لأن جوهر النفس ، لما أمكنها تحصيل الإدراك والمعرفة ، فلو انتهت إلى حد يمتنع عليها تحصيل الزائد ، لزم أن ينقلب الشيء من الإمكان الذاتي ، إلى الامتناع الذاتي [وهو محال.
فنقول : إن صح هذا الكلام. فهذا بعينه يدل على أن القوة الجسمانية تقوى على أفعال غير متناهية. وذلك لأن تلك القوة الجسمانية ، وجب القول بصحة بقائها أبدا. وإلا لزم انتهاؤها إلى وقت يمتنع بقاؤها فيه. وحينئذ يلزم الانتقال من الإمكان الذاتي ، إلى الامتناع الذاتي (١)] وهو محال.
وإذا ثبت إمكان بقائها أبدا ، وجب إمكان بقاء كونها مؤثرة أبدا. لو انتهت في صحة التأثير والفعل. إلى حيث أن يمتنع ذلك بعده ، لزم انتقالها من الإمكان الذاتي. إلى الامتناع الذاتي. وهو محال؟
فثبت : إن هذا الكلام الذي ذكروه في بيان أن القوة العاقلة تقوى على إدراكات غير متناهية إن صح ، وجب القطع بأن القوة الجسمانية تقوى على أفعال غير متناهية وذلك يوجب سقوط دليلهم بالكلية.
السؤال الثاني : إن قوة التخيل والفكر والذكر تقوى على استحضار
__________________
(١) سقط (ط).
التخيلات والتفكرات والتذكرات إلى غير النهاية. مع أنها عندكم قوى جسمانية.
فإن قالوا : لا نسلم أن هذه القوى تقوى على أفعالها إلى غير النهاية ، بل لا بد من الانتهاء إلى حيث لا تقوى على الفعل بعد ذلك.
فنقول : فإذا جاز لكم أن تلتزموا ذلك ، فلم لا يجوز لغيركم أن يلتزم مثله في القوة العاقلة. وهو أن يقال : إنها تنتهي إلى حيث تقوى على الزيادة؟ وما الفرق بين البابين؟ فإنا لا نجد في العقل : فرقا بين الموضعين.
السؤال الثالث : هب أن النفس تقوى على إدراكات لا نهاية لها. فلم قلتم : إن الإدراكات فعل؟ وتقريره : أن إدراك الشيء عندكم : عبارة عن حصول صورة المعقول في العاقل ، وإذا ثبت هذا فيكون الجوهر العاقل قابلا لتلك الصورة العقلية ، لا فاعلا لها. وعندكم : الممتنع على الأجسام أفعال لا نهاية لها. فإنها انفعالات لا نهاية لها ، فهذا غير ممتنع عندكم على الجسمانيات. ألا تروا أن الهيولى أزلية. وقد حصل فيها صور متعاقبة لا نهاية لها؟.
فإن قالوا : الإدراكات على قسمين : التصورات والتصديقات.
أما التصورات ، فلا نزاع في كونها انفعالات. وأما التصديقات ، فهي أفعال ، لأنها عبارة عن حكم الذهن بإسناد أحد التصورين إلى الثاني ، وهذا الإسناد فعل. فثبت : أن النفس لما كانت قادرة على التصديقات التي لا نهاية لها ، كانت قادرة على أفعال لا نهاية لها. فنقول : لا نسلم أن الإسناد والحكم : فعل. وذلك لأنا لا نعقل من هذا الإسناد (١) والحكم ، إلا حصول الاعتقاد بأن إحدى الماهيتين موصوفة بالثانية ، أو مسلوب عنها تلك الثانية. فإذا حصل في الذهن اعتقاد أن كذا موصوف بكذا ، أو غير موصوف به. فهذا [هو (٢)] الحكم والإسناد. والتصديق هو في الحقيقة ليس إلا عبارة عن
__________________
(١) الإنسان (ل).
(٢) من (ل).
حصول هذا الاعتقاد في جوهر النفس [فتكون جوهر النفس (١)] هاهنا قابلة [لا فاعلة (٢)] ويعود التقرير المذكور.
السؤال الرابع : هب أن النفس تقوى على أفعال غير متناهية ، فلم قلتم : إن القوة الجسمانية لا تقوى على أفعال غير متناهية؟
قوله : لأن كل متحيز فهو منقسم ، والحال في المنقسم منقسم وإذا كان كذلك ، كان مقوى بعض تلك القوة أقل من مقوى كلها ، والأقل من الغير : متناه. فمقوي بعض القوة : متناه. فيجب أن يكون مقوي كلها : متناهيا» فنقول : هذه الحجة تشتمل على مقدمات:
أولها : قوله : «كل متحيز منقسم» وهو بناء على نفي الجوهر الفرد. وقد سبق الكلام فيه.
وثانيها : «إن الحال في المنقسم : منقسم» وقد ذكرنا النقوض الثمانية في الحجة الأولى.
وثالثها : «إن مقوي بعض القوة ، يجب أن يكون أقل من مقوي كلها» فنقول : نسلم أنه لا بد من حصول التفاوت بين مقوي البعض وبين مقوي الكل. لكن لم قلتم : إنه لا يحصل التفاوت إلا بأن ينقطع مقوي البعض قبل انقطاع مقوي الكل؟ [ولم لا يجوز أن يظهر هذا التفاوت بسبب أن مقوي البعض ، أبطأ من مقوي الكل (٣)] وإن بقي كل واحد منهما أبد الآباد ، وعلى هذه الحالة؟.
وبالجملة : فنحن نسلم أنه لا بد من التفاوت. لكن لا نسلم أنه لا يحصل التفاوت ، إلا بانقطاع أثر البعض. فهم مطالبون بإثبات هذه المقدمة.
__________________
(١) سقط (ط).
(٢) العود (ط).
(٣) سقط (ط).
ورابعها : إن قوله : «كل ما كان أنقص من غيره ، فهو متناه» فهذه مقدمة كثيرة المباحث والشبهات. وقد استقصينا الكلام فيها في مسألة «تناهي الأبعاد» في دليل : كون الأبعاد قابلة للزيادة والنقصان.
السؤال الخامس : وهو الذي أورده «الشيخ» على نفسه. فقال : «أليس أن النفس الفلكية المباشرة لتحريكات الفلك : قوة جسمانية ، مع أن الحركات الفلكية غير متناهية. فههنا قد صدر عن القوى الجسمانية : أفعال غير متناهية» وأجاب عنه : «بأن النفس الفلكية ، وإن كانت قوة جسمانية ، إلا أنها تستمد الكمال والقوة من العقل المفارق ، فلهذا السبب قدرت القوة الجسمانية على أفعال غير متناهية».
هذا هو الجواب الذي ذكره [الشيخ (١)] في أكثر كتبه فيقال له : فإذا كان الأمر كذلك ، فلم لا يجوز أن يقال أيضا : النفس الناطقة قوة جسمانية ، ألا أنها تستمد القوة والكمال من العقل الفعال ، فلا جرم قويت النفس الناطقة مع كونها جسمانية ، على أفعال غير متناهية. وهاهنا آخر الكلام على هذه الطريقة.
الحجة الرابعة : قالوا : لو كانت القوة العاقلة حالة في آلة جسمانية من قلب أو دماغ ، لوجب أن تكون القوة العاقلة دائمة الإدراك لتلك الآلة ، أو ممتنعة الإدراك لها مطلقا. والتالي باطل.
فالمقدم مثله باطل. بيان الشرطية : أن الإدراك عبارة عن حصول ماهية المعلوم في العالم ، فلو كانت القوة العاقلة حالة في مادة جسمانية ، لكان إدراك القوة العاقلة لتلك الآلة إما أن يكون عين وجود تلك الآلة ، وإما أن يكون عبارة عن حصول صورة مساوية لتلك الآلة في القوة العاقلة. وهذا القسم الثاني : محال.
__________________
(١) سقط (طا) ، (ل).