المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٧

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٧

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٥

فإن قيل : أليس أن مذهب الفلاسفة : أن الجسم البسيط ، إذا خلا عن التقطيع ، وعن اختلاف العرضين ، وعن الوهم ، فإنه يكون في نفسه واحدا على سبيل الحقيقة ، ولا يكون فيه تركيب أصلا ، ولا يلزم من كونه قابلا للقسمة حصول القسمة فيه ، كما أنه لا يلزم من كون الجسم قابلا للسواد ، أن يكون أسود؟

وإذا كان كذلك ، فهذا الجسم في نفسه شيء واحد ، وليس له من الأبعاض والأقسام [شيء (١)] وإذا كان كذلك ، فههنا يمتنع أن يقال : الحال في كل واحد من أقسامه : إما كل ذلك العلم ، أو بعضه. لأن هذا الكلام إنما يصح ، لو حصل ذلك الجسم أبعاض وأقسام. أما لما كان في نفسه شيئا واحدا ، ولم يحصل له أبعاض وأقسام البتة [لم يصح (٢)] هذا الكلام.

السؤال الثاني : هب أن ذلك الجسم ، حصلت له أبعاض وأقسام. فلم لا يجوز أن يقال : كل واحد من أبعاضه خالي عن كل ذلك العلم وعن بعضه؟ قوله : «لو كان كذلك ، لامتنع أن يكون كل ذلك الجسم موصوفا بذلك العلم» قلنا : ما الدليل على أنه لما خلا كل واحد من أجزاء ذلك الموصوف عن كل تلك الصفة وعن بعضها ، وجب خلو ذلك الموصوف عن كل تلك الصفة؟ وذلك لأن الكل من حيث هو كل ، مغاير لكل واحد من أجزائه خلا عن كل تلك الصفة وعن بعضها ، فلا يلزم من هذا ، وجوب خلو [كل (٣)] تلك الذات عن كل تلك الصفة؟

والجواب عن السؤال الأول : إن الجسم البسيط ، وإن كان واحدا في نفسه ، إلا أن حصول الانقسام فيه أمر ممكن. وكل ما كان ممكنا ، فإنه لا يلزم من فرض وقوعه : محال. فإذا فرض ذلك الانقسام واقعا ، امتنع أن يلزم منه

__________________

(١) من (م)

(٢) لم يحصل (طا ، ل)

(٣) من (ط)

٦١

محال. ولما لزم المحال ، علمنا : أنه إنما لزم لا من هذا الغرض ، وإنما لزم من قيام الصفة التي لا تقبل القسمة بالمحل ، الذي يقبل القسمة ، فوجب أن يكون هذا الغرض محالا.

وأما السؤال الثاني. فجوابه : إنا ندعي العلم البديهي بأنه متى كان جميع أجزاء الذات خاليا عن كل الصفة ، وعن كل واحد من أجزاء تلك الصفة ، امتنع بعد كون تلك الذات موصوفة بتلك الصفة.

وأما المقدمة الرابعة : فهق في بيان أن كل متحيز فهو منقسم. وهذا بناء على نفي الجوهر الفرد. والكلام فيه معلوم.

وإذا ظهرت هذه المقدمات الأربعة ، ظهر أن محل هذه العلوم جوهر ليس بجسم ولا بجسماني. وهو المطلوب.

واعلم : أن هذا الدليل ذكره الشيخ الرئيس «أبو علي» في جميع كتبه ، إلا أنه ما ذكره على هذا الترتيب ، ولم يقرره بهذه الوجوه. وسنحكي كلامه في تقرير هذه الوجوه (١) ومن أنصف : علم أن هذا البيان أكمل وأتم.

ثم نقول : الاعتراض على هذا الدليل من وجوه :

[الأول : إن هذا الدليل بناء على نفي الجوهر الفرد والكلام فيه معلوم.

والثاني : لم قلتم : إن الحال في المنقسم : منقسم. والذي يدل على صحته وجوه(٢):]

الحجة الأولى (٣) : إن النقطة شيء مشار إليه ، لا يقبل القسمة. فهو إمّا أن يكون جوهرا ، وإما أن يكون عرضا. فإن كان جوهرا فقد ثبت الجوهر

__________________

(١) هذا الدليل (م ، ط)

(٢) من (طا ، ل)

(٣) الأول [الأصل]

٦٢

الفرد ، وبطل هذا الدليل. وإن كان عرضا ، عاد الكلام فيه ، ويلزم إما إثبات الجوهر الفرد ، وإما حلول ما لا ينقسم في محل منقسم. وعلى كلا التقديرين ، يبطل دليلكم بالكلية.

فإن قالوا : الكلام فيه من وجوه :

الأول : إن النقطة وجودها في الوهم ، لا في الأعيان.

الثاني : إن النقطة عبارة عن نهاية الخط ، ونهاية الخط عبارة عن عدمه وفنائه ، وذلك عدم محض.

الثالث : إن النقطة طرف ، والطرف لا يكون ساريا في ذي (١) الطرف ، ولا شائعا فيه. وأما العلم فبتقدير أن يكون صفة للجسم ، فإنه يجب أن يكون ساريا فيه. لأنه [يلزم عليه (٢)] إن لم يكن ساريا فيه ، كان إما طرفا ، وإما حالا في الطرف. لا جائز أن يكون طرفا. لأن الطرف هو النقطة. والعلم ليس بنقطة. ولا جائز أن يكون حالا في الطرف ، الذي هو النقطة. لوجهين :

الأول : إن النقطة موجود لا يقبل القسمة فيمتنع أن تختلف أحواله بحسب اختلاف أحوال المزاج. وإذا ثبت هذا فنقول : طبيعة النقطة [إن كانت (٣)] مستعدة لقبول العلم ، فوجب أن تكون كل نقطة موصوفة بالعلم ، لأن الفيض عام ، فإن كان القابل مستعدا ، وجب عموم الفيض.

الثاني : إن النقطة طرف الخط ، فلا يحل فيه طرف ما كان حاصلا في الطرف (٤) حتى يكون الحال في مقابلة المحل ، ويكون طرف الحال في مقابلة طرف المحل. والجواب :

أما السؤال الأول : وهو قوله : «النقطة لا وجود لها إلا في الوهم»

__________________

(١) ذلك (ط)

(٢) من (م)

(٣) من (م)

(٤) الخط (م)

٦٣

فكلام باطل. لأن الجسم متناهي في الخارج ، ونهايته هو السطح ، فوجب أن يكون السطح موجودا في الخارج. والسطح متناه الخط ، ونهايته الخط ، والخط موجود في الخارج فنهايته موجودة في الخارج [فالنقطة موجودة في الخارج] (١)

وأما السؤال الثاني : وهو قوله : «النقطة عبارة عن نهاية الخط ، ونهاية الشيء عبارة عن عدمه» فنقول : إن الخط يلاقي بطرفه خطا آخر ، فلو كانت النقطة عدما ، لكان محل الملاقاة عدما محضا. وإنه باطل.

وأما السؤال الثالث : وهو قوله : «النقطة غير سارية في الجسم» فنقول : لم لا يجوز أيضا : أن يكون العلم حالا في المحل ، لا على وجه الشيوع. والسريان؟ قوله : «العرض الذي لا يكون ساريا في الجسم : إما النقطة ، وإما الحال في النقطة» قلنا : هذا الحصر ممنوع. فلم لا يجوز إثبات أعراض غير سارية في الجسم مع أنها لا تكون نقطة ولا حالة في النقطة؟ وهذا الحصر ليس لهم في إثباته شبهة ، فضلا عن حجة. ثم نقول : لم لا يجوز أن يكون محل هذه العلوم هو النقطة؟

أما قوله أولا : «إن النقطة يمتنع أن يختلف حالها في القبول وعدم القبول ، بسبب اختلاف الاستعدادات» قلنا : لم لا يجوز أن يكون شرط كون تلك النقطة قابلة للعلم المخصوص : حصول استعداد مخصوص في الجسم الذي تكون تلك النقطة حالة فيه؟ وإذا كان هذا الاحتمال قائما ، سقط كلامكم.

وأما قوله ثانيا : «إنه لا يحل في طرف المحل إلا طرف الحال» قلنا : هذا تحكم ولا بد فيه من الدليل. فهذا تمام الكلام في سؤال النقطة.

الحجة الثانية في بيان أنه لا يلزم من انقسام المحل انقسام الحال : هو أن الوحدة حاصلة. فهذه الوحدة إما أن تكون جوهرا أو عرضا ، فإن كانت

__________________

(١) من (ط)

٦٤

[جوهرا (١)] فقد ثبت الجوهر [الفرد (٢)] وإن كانت عرضا وجب أن يكون له محل. فمحلها إن كان منقسما فقد جوزتم قيام غير المنقسم بالمنقسم ، وإن كان غير منقسم فهو الجوهر الفرد ، وعلى جميع التقديرات ، يبطل دليلكم. فإن قالوا : الوحدة طبيعة عدمية ، وهي عبارة عن عدم الكثرة. فنقول : [هذا باطل (٣)] لأن الكثرة إما أن تكون طبيعة وجودية ، أو عدمية. لا جائز أن تكون وجودية ، لأن الكثرة عبارة عن مجموع الوحدات. فإذا كانت الوحدة عدمية ، كانت الكثرة عبارة عن مجموع العدمات ومجموع العدمات لا يكون موجودا. وإن كانت الكثرة عدما والوحدة عبارة عن عدم الكثرة ، فحينئذ تكون الوحدة عدما للعدم ، فتكون أمرا موجودا. فسقط ما قالوه.

الحجة الثالثة : إن الإضافات عارضة للأجسام. مثل الفوقية والتحتية والمالكية والمملوكية. فلو انقسم الحال لانقسام محله ، لزم كون الإضافات منقسمة ، وذلك محال. لأنه يلزم أن يحصل للفوقية والتحتية نصف وثلث وربع. وذلك مما لا يقبله العقل.

الحجة الرابعة : إن القوة الوهمية والقوة المفكرة : قوى جسمانية ، عند «الشيخ» فيجب (٤) أن تحصل للقوة الوهمية والفكرية أجزاء وأبعاض ، وذلك محال. لأنها لو انقسمت ، لكان كل واحد من أبعاضها ، إما أن يكون وهما ، وحينئذ يكون الجزء مساويا للكل ، وهو محال. أو يكون بعض الوهم. لكن الوهم لا معنى له إلا الحكم. بكون هذا صديقا ، وكون ذاك عدوا. وهذا الحكم لا يقبل القسمة البتة. أو لا يكون وهما لكل ذلك الشيء ولا لبعضه ، وحينئذ يبطل هذا القسم بعين ما أبطلتم مثله في القوة العقلية.

الحجة الخامسة : الوجود صفة عارضة للماهيات ، فإذا أشرنا إلى جسم

__________________

(١) سقط (طا)

(٢) سقط (م)

(٣) سقط (طا)

(٤) فيلزم (م)

٦٥

معين ، وقلنا : إنه موجود ، فيجب أن يكون الوجود صفة قائمة به [فلو لزم انقسام الحال لانقسام المحل ، لزم أن يكون ذلك الوجود منقسما (١)] وذلك محال. لأن كل واحد من أجزاء الوجود. إن كان وجودا ، لزم كون الجزء مساويا للكل ، وهو محال. وإن كان كل واحد من أجزاء الوجود ليس بوجود ، فهذا محال لوجهين :

الأول : إن تلك الأجزاء عند اجتماعها ، إن لم تحدث هناك هيئة زائدة ، لزم أن يكون الوجود حاصلا ، وإن حصلت هيئة زائدة ، فتلك الهيئة الزائدة ، إما أن يكون وجودا ، وإما أن لا يكون. وإن لم ينقسم ، فحينئذ لم يلزم من انقسام المحل انقسام الحال. وهو المطلوب.

الثاني : إن كل واحد من أجزاء الوجود ، إذا لم يكن وجودا ، لزم أن يقال : كل واحد من أجزاء الجسم المنقسم ، فهو غير موصوف بالوجود ، فوجب أن تكون (٢) تلك الأجزاء [غير (٣)] موجودة ، فجزء الجسم الموجود يجب أن لا يكون موجودا. وذلك محال.

الحجة السادسة : إن طباع الأعداد ماهيات مختلفة. فكون الشيء : عشرة : عرض ، وكونه تسعة : عرض آخر. وهذان العرضان : [نوعان (٤)] مختلفان بالماهية ، داخلان تحت جنس الكم المنفصل.

إذا عرفت هذا فنقول : المفهوم من كون العشرة : عشرة : مفهوم واحد ، وماهية واحدة. فتلك الماهية الواحدة ، إما أن تكون عارضة لكل واحد من تلك الآحاد ، وإما أن تنقسم بحسب انقسام تلك الآحاد. والأول محال. وإلا لزم أن يكون كل واحد من تلك الآحاد ، موصوفا بأنه عشرة. وذلك محال ، وأنه يلزم قيام العرض الواحد بالمحال الكثيرة. وهو محال.

__________________

(١) سقط (طا) ، (ل) وفي (م) ذلك الوجود صفة. وفي (ط).

(٢) أن لا تكون (م)

(٣) سقط (م ، ط)

(٤) سقط (ل ، طا)

٦٦

والثاني أيضا : محال لأن المفهوم من كون العشرة عشرة ، لا يقبل القسمة [نعم العشرة تقبل القسمة (١)] أما مجرد العشرية فإنها لا تقبل القسمة البتة. فإن نازع الخصم فيه فنقول : لو انقسمت العشرية (٢) لكان كل واحد من أجزائها ، إما أن يكون عشرية ، وإما أن لا يكون [عشرية (٣)] ويذكر التقسيم الذي ذكروه في العلم إلى آخره.

الحجة السابعة : الكيفيات المختصة بالكميات ، مثل الاستدارة والتثليث التربيع. عند الفلاسفة : أعراض موجودة. فنقول : هيئة الاستدارة إن كانت عرضا ، فذلك العرض إما أن يكون بتمامه قائما بكل واحد من الأجزاء ، فيلزم أن يكون كل واحد من أجزاء الدائرة : دائرة. هذا خلف. وإما أن ينقسم ذلك العرض إلى الأجزاء ، ويقوم بكل واحد من أجزاء الخط ، جزء من أجزاء ذلك العرض ، وهذا أيضا باطل. لأن جزء الاستدارة إن كان في نفسه استدارة ، عاد ما ذكرناه من أنه يلزم أن يكون جزء الدائرة : دائرة. وإن لم يكن كذلك، فحينئذ يكون القائم بكل واحد من أجزاء [الخط (٤)] شيئا ، ليس هو في نفسه استدارة ، فعند اجتماع تلك الأجزاء ، إن لم يحدث أمر زائد ، وجب أن لا تحصل الاستدارة ، وإن حصل. فذلك الحاصل إن كان منقسما ، عاد التقسيم الأول ، وإن لم ينقسم فحينئذ يكون الحال [غير منقسم (٥)] ويكون المحل منقسما. وذلك يبطل كلامهم.

الحجة الثامنة : لا شبهة أن هذه الأجسام ممكنة بذواتها ، واجبة بغيرها. فكونها ممكنة بذواتها ، واجبة بغيرها صفات عرضية خارجة عن الماهية. فنقول : هذه المفهومات إن لم تنقسم لانقسام محلها ، فقد بطل الكلام المذكور ، وإن انقسمت فكل واحد من أجزاء الإمكان ، ومن أجزاء الوجوب بالغير ، إن

__________________

(١) سقط (ط)

(٢) العشرة (ل)

(٣) سقط (ل)

(٤) سقط (طا)

(٥) سقط (طا)

٦٧

كان في نفسه إمكانا ووجوبا بالغير ، لزم أن يكون الجزء مساويا للكل. وإن لم يكن كذلك ، فعند اجتماع تلك الأجزاء ، إما أن يحدث أمر زائد ، أو لا يحصل. ونسوق التقسيم إلى آخره [فهذه النقوض الثمانية واردة على قوله : «الحال يجب أن ينقسم بانقسام المحل» والله أعلم (١)]

__________________

(١) من (طا ، ل)

٦٨

الفصل الرابع

في

حكاية الدلائل التي عوّل عليها

«الشيخ» في اثبات أن النفس الناطقة : مجردة

مجموع الوجوه التي ذكرها في جميع كتبه ـ [والله أعلم (١)] :

الحجة الأولى : وهذه الحجة هي التي ذكرناها ، لكن بتقرير آخر. فقال : «محل العلوم الكلية : [إما أن يكون جسما أو جسمانيا (٢)] ولو كان جسما أو جسمانيا لانقسمت تلك العلوم. لأن الحال في المنقسم : منقسم» ولم يذكر على صحة هذه المقدمة دليلا ولا شبهة ، ولم يورد عليها شيئا من النقوض التي ذكرناها.

ثم قال (٣) : «وكون تلك العلوم منقسمة : أمر محال» واحتج عليه : بأنه

__________________

(١) من (ل).

(٢) من (م).

(٣) قصيدة في النفس لابن سينا.

هبطت إليك من المحل الأرفع

ورقاء ذات تعزّز وتمنع

محجوبة عن كل مقلة عارف

وهي التي سفرت ، ولم تتبرقع

وصلت على كره إليك ، وربما

كرهت فراقك ، وهي ذات تفجع

أنفت وما ألفت ، فلما واصلت

أنست مجاورة الخراب البلقع

وأظنها نسيت عهودا بالحمى

ومنازلا بفراقها لم تقنع

حتى إذا اتصلت بهاء هبوطها

عن ميم مركزها ، بذات الأجرع

علقت بها ثاء الثقيل فأصبحت

بين المعالم والطول الخضع؟ ـ

٦٩

لو انقسم هذا العلم ، لكان إما ينقسم إلى جزءين متشابهين أو مختلفين. والقسمان باطلان ، فبطل القول بكونه منقسما. وإنما قلنا : إنه يستحيل أن ينقسم إلى جزءين متشابهين لوجهين:

__________________

 ـ تبكي إذا ذكرت عهودا بالحمى

بمدامع تهمى ، ولما تقلع

وتظل ساجعة على الدمن التي

درست بتكرار الرياح الأربع

إذا عاقها الشرك الكثيف وصدها

قفص عن الأوج الفسيح المربع

حتى إذا قرب المسير إلى الحمى

ودنا الرحيل إلى الفضاء الأوسع

وغدت مفارقة لكل مخلف

عنها ، حليف الترب ، غير مشيع

سجعت ، وقد كشف الغطاء فأبصرت

، ما ليس يدرك بالعيون الهجع

وغدت تغرد فوق ذروة شاهق

والعلم يرفع كل من لم يرفع

فلأي شيء أهبطت مع شامخ

عال إلى قعر الحضيض الأوضع؟

إن كان أهبطها الإله لحكمة

طويت عن الفطن اللبيب الأروع

فهبوطها ـ إن كان ضربة لازب

لتكون سامعة بما لم تسمع

وتعود عالمة بكل حقيقة

في العالمين ـ فخرقها لم يرقع

وهي التي قطع الزمان طريقها

حتى لقد غربت بغير المطلع

فكأنها برق تألق بالحمى

ثم انطوى فكأنه لم يلمع

وتنقسم هذه القصيدة ثلاثة أقسام :

(١) سجن النفس : هبطت النفس من عل ، وحلت في الجسد شقية سجينة. وهي إن ارتاحت إلى سكناه بعض الراحة ، فحنينها أبدا إلى عالمها ، وهناؤها إذ تعود إليه مغردة هانئة (بيت ١ ـ ١٤).

(٢) غاية اتحاد النفس بالجسد : لم حلت النفس في الجسد؟ ألتعرف كل شيء؟ إنها لم تعرف. (بيت ١٥ ـ ١٨).

(٣) إنكار تناسخ النفس : ولن تعود النفس بالتناسخ ، لكي تكمل معرفتها (بيت ١٩ ـ ٢٠) إننا نرى ، في القسم الأول ، صدى نظرية أفلاطون القائلة بوجود النفس قبل البدن ، وهبوطها من عالم المثل إلى عالم الحس. ولكن أفلاطون يهبط النفس إلى الجسد لجناية صدرت عنها ، ويقضي عليها بالتناسخ تكفيرا عن إثمها ، وهذا ما لا يتفق وباقي القصيدة. فهل يكون ابن سينا بتر نظرية أفلاطون؟

ثم إن ابن سينا لا يسلم ، في باقي كتبه بوجود النفس قبل البدن. فهل يمكن أن يسلم به هنا؟ وعليه نرى أن نجعل من «المحل الأرفع» العقل الفعال ، فيتلاءم ما في القصيدة مع باقي كتب ابن سينا.

[من كتاب «النفس البشرية عند ابن سينا» للدكتور ألبير نصر نادر].

٧٠

الأول : إن كل واحد من ذينك الجزءين ، لا بد وأن يكون مخالفا للكل ، لامتناع أن يكون الكل مثل الجزء ، وتلك المخالفة ليست بالحقيقة ولوازمها ، وإلا لم يكن ذلك الانقسام : انقساما إلى جزءين متشابهين. بل لا بد وأن يكون بالعوارض المادية كالمقدار والشكل ، فحينئذ يلزم أن لا يكون ذلك العلم مجردا عن جميع اللواحق الزائدة ، لأنا بينا : أنه حصل معه المقدار الذي به يخالف الجزء كله في المقدار ، وإذا لم تكن تلك الصورة مجردة ، امتنع كونها مشتركا فيها بين المختلفات. لأن الموصوف بصفة [معينة (١)] يستحيل أن يصدق هو على ما لا يكون موصوفا بها ، لكن العلوم الكلية صور (٢)] مشترك فيها بين الأشخاص. فإن المعقول من الإنسان ، لا شك أنه مشترك فيه بين جميع الأشخاص.

الوجه الثاني في إبطال هذا القسم : وهو أن ذلك الانقسام إما أن يكون شرطا لكون تلك الصورة معقولة ، أو لا يكون. والأول باطل. أما أولا : فلأنه يلزم كون كل واحد من الجزءين مخالفا بالماهية لذلك الكل ، لوجوب مباينة الشرط للمشروط.

وأما ثانيا : فقبل حصول الانقسام ، وجب أن لا تكون الصورة معقولة ، لفقدان الشرط ، وأما ثالثا ، فالشيء الذي [يكون (٣)] هذا حاله ، وجب أن يكون منقسما ، وليس (٤) كل معقول كذلك.

وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : أن (٥) تلك الصورة منقسمة (٦) ليس شرطا لكونها معقولة. فهذا يقتضي أن تكون تلك الصورة العقلية [عند

__________________

(١) سقط (طا).

(٢) صفة (م ، ط).

(٣) سقط (م) ، (ط).

(٤) سقط (ل).

(٥) وأن (م ، ط).

(٦) في (م ، ط) : منقسمة وليس كل معقول كذلك. وأما ليس شرطا ... إلخ.

٧١

انقسامها (١)] مغشاة بعوارض غريبة ، من جمع وتفريق ، ويكون في أقل منه بلاغ.

هذا لفظ «الإشارات» وتفسيره. إن كل واحد من جزئها مكتفي بجزء من ذلك المحل ، وذلك الجزء من تلك الصورة مساوي لكلها في تمام الماهية ، وحكم الشيء حكم مثله، فوجب أن يكون حلول كل تلك الصورة (٢) في جزء من ذلك المحل [ممكنا. وإذا كان كذلك كان حلول كل تلك الصورة في كل ذلك المحل (٣)] عارضا غريبا. وفي أقل منه بلاغ.

وأما القسم الثاني من القسمين المذكورين في أول الدليل : وهو أن يقال : إن تلك الصورة تنقسم إلى جزءين مختلفين في الماهية. فنقول : هذا محال. لأن الصورة العقلية لو كانت جسمانية ، لحصلت لها أجزاء بحسب الانقسامات الممكنة في الجسم ، لكن تلك [الانقسامات غير متناهية. فوجب أن تكون الأجزاء المختلفة الحاصلة لتلك (٤)] الصورة العقلية غير متناهية. وهذا محال. لوجوه :

الأول : إنه إذا كان كل واحد من تلك الأجزاء التي هي غير متناهية حالا في جزء آخر من ذلك المحل ، فقد اختص كل واحد من أجزاء ذلك الجسم بعرض مخالف للعرض الحال في الجزء الآخر ، وذلك يوجب تركب الجسم من أجزاء غير متناهية ، [بالفعل.

والثاني : وهو أن تلك الكثرة سواء كانت متناهية ، أو غير متناهية فلا بد فيها من واحد ، فتلك الصورة العقلية إذا كانت مركبة من أجزاء غير متناهية (٥)] فقد حصل فيها جزء واحد ، وحينئذ يعود التقسيم المذكور.

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) الصفة (ط).

(٣) سقط (ط).

(٤) سقط (م ، ط).

(٥) سقط (م).

٧٢

الثالث : إنا نفرض أن الجزء الجنسي ، وقع في أحد النصفين. والجزء الفصلي وقع في النصف الثاني. فإذا غيرنا (١) القسمة ، وجب أن ينتقل الجزء الجنسي من موضعه ، إلى الموضع الثاني ، الحاصل بسبب الغرض الثاني من القسمة [وأيضا (٢)] فإذا أوقعنا قسما في قسم مثل هذا : فإنه يلزم أن يتنصّف الجنس ، وإن لم يتنصف (٣) الفصل. وذلك محال. فهذا تمام تقرير هذه الحجة على ما ذكره «الشيخ».

واعلم : أن هذه الحجة في غاية الضعف لوجوه :

الأول : إنه مبني على أن العلم بالشيء عبارة عن حصول صورة مساوية لماهية المعلوم في ذات العالم.

وقد بينا في أول [منطق (٤)] هذا الكتاب بالدلائل القاهرة : فساد هذا المذهب.

الثاني : نقول : هب أنا سلمنا لكم هذه القاعدة. فلم لا يجوز أن تنقسم تلك الصورة إلى جزءين متشابهين في الماهية. قوله : «فعلى هذا التقدير تكون تلك الصورة صورة غير مجردة» قلنا : الكلام من وجهين :

الأول : وهو أن هذا لازم عليكم أيضا. وذلك : لأن هذه الصورة ، إذا كانت حالة في جوهر النفس الناطقة ، فهي صورة جزئية ، حالة في نفس جزئية ، وتقارنها سائر الأعراض الحالة في تلك النفس الجزئية. فإذا اعتبرنا تلك الصورة مع جملة هذه اللواحق ، لم تكن صورة مجردة. بل (٥) كانت مقرونة بلواحق كثيرة. وذلك يمنع من كونها كلية.

__________________

(١) اعتبرنا (م ، ط).

(٢) من (م ، ط).

(٣) لم يتنصف (م ، ط).

(٤) من (ل ، طا).

(٥) فإذا (ل).

٧٣

فإن قالوا : المراد بكونها كليه : أن تلك الصورة ، إذا حذفنا عنها تلك اللواحق ، واعتبرناها من حيث هي هي ، بدون تلك اللواحق ، كانت كلية. فنقول : إذا جاز هذا ، فلم لا يجوز أن يقال : هذه الصورة ، وإن كانت حالة في مادة جسمانية مخصوصة ، بمقدار معين وشكل معين ، إلا أنها إذا اعتبرت من حيث هي هي ، مع حذف تلك الزوائد كانت كلية. فثبت : أن الإلزام الذي أورده «الشيخ» فهو بعينه لازم عليه.

والوجه الثاني (١) في بيان ضعف هذا الدليل : إن هذا القدر ، إن صح ، كان مستقلا فإفادة المطلوب ، من غير ذكر هذه التقسيمات. فإن الصورة العقلية سواء انقسمت (٢) بانقسام محلها ، أو لم تنقسم ، وسواء كان انقسامها إلى جزءين متشابهين في الماهية أو مختلفين فيها ، فإنه يصح أن يقال : إنها لو كانت حالة في جسم ، لما كانت مجردة. لكنها مجردة ، فوجب أن لا تكون جسمانية. فهذا الكلام واف بإفادة هذا المطلوب بتقدير صحته. وحينئذ لا يحتاج إلى ذكر التقسيمات [التي ذكرها. فثبت : أن هذه الحجة في غاية السقوط. والله أعلم.

الحجة الثانية من الوجوه (٣)] التي ذكرها «الشيخ» : أن قال : «الصورة العقلية الكلية مجردة عن الشكل والوضع ، وكل ما كان كذلك ، امتنع كونه جسمانيا».

بيان الأول : إن الصورة الكلية ، معناها : القدر المشترك بين الأشخاص ، ذوات الأشكال المختلفة ، والأوضاع المختلفة [والمقادير المختلفة (٤)] وما كان كذلك ، امتنع أن يكون موصوفا بشكل معين ، وقدر معين.

__________________

(١) الثالث [الأصل].

(٢) انقسمت علتها (ط).

(٣) سقط (ط).

(٤) سقط (طا).

٧٤

وبيان الثاني : إن كل صورة جسمانية ، فإنه يحصل لها قدر معين ، وشكل معين ، ووضع معين ، بسبب محلها. وقد بينا : أن الصورة العقلية [المجردة يمتنع كونها كذلك. وربما ذكروا هذا الكلام بتقرير آخر. وهو أن الصورة العقلية (١)] الكلية ، لا شك أنها مجردة. وكونها مجردة. إما أن يكون بسبب المأخوذ عنه ، أو بسبب الآخذ.

والأول باطل. لأن هذه الصورة الكلية المجردة ، إنما أخذت عن الأشخاص الموصوفة بالمقادير المعينة. والأوضاع المعينة.

ولما بطل هذا ، بقي [أن كون هذه الصورة الكلية مجردة ، إنما كان بسبب أن الآخذ مجرد ، فوجب (٢)] أن تكون القوة العقلية جوهرا مجردا عن الوضع والمقدار.

ولقائل أن يقول : السؤال عليه من وجهين :

الأول : أن نقول ما الذي تريدونه بهذه الصورة الكلية؟ أتريدون به [أن العلم بذلك المعلوم حصل في ذات العالم ، أو تريدون (٣) به] أن العلم بذلك المعلوم حصل في ذات العالم؟.

أما الأول : فباطل ظاهر البطلان ، وإلا لكنا إذا عرفنا واجب الوجود ، وجب أن يحصل في عقولنا صورة مساوية لواجب الوجود في تمام الماهية. وذلك لا يقوله عاقل ، ولكنا إذا عقلنا المعدوم ، وجب أن يحصل في ذاتنا صورة مساوية للمعدوم في تمام الماهية ، وذلك محال. لأن المعدوم نفي محض ، فكيف يعقل أن يكون الموجود مساويا له في تمام الماهية؟ وبالجملة : فالاستقصاء فيه مذكور في أول كتاب المنطق [من هذا الكتاب (٤)].

__________________

(١) من (طا ، ل).

(٢) سقط (ط).

(٣) سقط (ل).

(٤) سقط (ط). وهو يشير إلى مقدمة كتاب المطالب ..

٧٥

وأما الثاني : فهو مسلّم إلا أنه لا يفيد مقصودكم ، لأن الأمر الكلي المشترك فيه بين الأشخاص الإنسانية ، هو الإنسانية ، لا العلم بالإنسانية. وإذا كان كذلك ، لم يلزم من كون العلم بالإنسانية مقرونا بالعوارض الخارجية : حصول القدح في قولنا : الإنسانية من حيث هي هي : أمر كلي مشترك فيها. وتمام الكلام في هذا البحث : مذكور في باب الكلي [والجزئي (١)] من المنطق ، والإلهيات.

السؤال الثاني : إن هذا الإشكال وارد عليكم أيضا وذلك لأن الصورة الكلية التي تثبتونها وتزعمون أنها حالة في النفس ، فهي صورة شخصية موصوفة بعوارض شخصية ، أعني حلولها في تلك النفس وحدوثها في وقت معين ، ومقارنتها لسائر الصور العقلية ، ولسائر الأعراض الحاصلة في جوهر النفس. فثبت أن هذه الصورة العقلية وإن كانت حالة في جوهر ، ليس بجسم ولا بجسماني ، فهي غير مجردة عن العوارض الخارجية. فإن قالوا : المراد بكونها مجردة : أنها نظرا إلى ماهيتها ، مع قطع النظر عن العوارض المذكورة مجردة فنقول : لم لا يجوز أن تكون الصورة الحالة في المحل الجسماني تكون مجردة ، بمعنى أنها بالنظر إلى حقيقتها وماهيتها مع قطع النظر عن العوارض تكون مجردة وكلية؟.

الحجة الثالثة : قالوا : القوة العاقلة تقوى على أفعال غير متناهية ، ولا شيء من القوى الجسمانية يقوى على أفعال غير متناهية ، ينتج : أن القوة العاقلة ليست من القوى الجسمانية.

أما بيان المقدمة الأولى : فهو أن الصورة العاقلة تقوى على إدراكات غير متناهية. وذلك يدل على أنها تقوى على أفعال غير متناهية.

وأما بيان المقدمة الثانية : فهو أن كل قوة جسمانية ، فإنها تنقسم بانقسام محلها. فالذي تقوى عليه بعض القوة ، يجب أن يكون أقل من الذي تقوى

__________________

(١) سقط (ل).

٧٦

عليه كل القوة. وإلا لزم أن يكون البعض مثلا للكل. وهو محال. وكل ما كان أقل من غيره فهو متناه ، فالذي تقوى عليه بعض القوة ، يجب أن يكون متناهيا ، والذي يقوى عليه الكل ، أضعاف ما يقوى عليه البعض مرارا متناهية. وضعف المتناهي مرارا متناهية ، يجب أن يكون متناهيا ، فيلزم أن يقال : إن كل ما تقوى عليه القوة الجسمانية ، يجب أن يكون متناهيا.

والاعتراض : لا نسلم أن القوة العاقلة ، تقوى على أفعال غير متناهية. وأما قوله : «إنها تقوى على إدراكات غير متناهية ، والإدراكات أفعال ، ينتج : أنها تقوى على أفعال غير متناهية» قلنا : لا نسلم أنها تقوى على إدراكات غير متناهية. ولم لا يجوز أن يقال : إنها تنتهي في الإدراكات والمعارف إلى حيث لا يمكنها أن تزيد عليه شيئا؟ فإن قالوا : هذا محال ، وذلك لأن جوهر النفس ، لما أمكنها تحصيل الإدراك والمعرفة ، فلو انتهت إلى حد يمتنع عليها تحصيل الزائد ، لزم أن ينقلب الشيء من الإمكان الذاتي ، إلى الامتناع الذاتي [وهو محال.

فنقول : إن صح هذا الكلام. فهذا بعينه يدل على أن القوة الجسمانية تقوى على أفعال غير متناهية. وذلك لأن تلك القوة الجسمانية ، وجب القول بصحة بقائها أبدا. وإلا لزم انتهاؤها إلى وقت يمتنع بقاؤها فيه. وحينئذ يلزم الانتقال من الإمكان الذاتي ، إلى الامتناع الذاتي (١)] وهو محال.

وإذا ثبت إمكان بقائها أبدا ، وجب إمكان بقاء كونها مؤثرة أبدا. لو انتهت في صحة التأثير والفعل. إلى حيث أن يمتنع ذلك بعده ، لزم انتقالها من الإمكان الذاتي. إلى الامتناع الذاتي. وهو محال؟

فثبت : إن هذا الكلام الذي ذكروه في بيان أن القوة العاقلة تقوى على إدراكات غير متناهية إن صح ، وجب القطع بأن القوة الجسمانية تقوى على أفعال غير متناهية وذلك يوجب سقوط دليلهم بالكلية.

السؤال الثاني : إن قوة التخيل والفكر والذكر تقوى على استحضار

__________________

(١) سقط (ط).

٧٧

التخيلات والتفكرات والتذكرات إلى غير النهاية. مع أنها عندكم قوى جسمانية.

فإن قالوا : لا نسلم أن هذه القوى تقوى على أفعالها إلى غير النهاية ، بل لا بد من الانتهاء إلى حيث لا تقوى على الفعل بعد ذلك.

فنقول : فإذا جاز لكم أن تلتزموا ذلك ، فلم لا يجوز لغيركم أن يلتزم مثله في القوة العاقلة. وهو أن يقال : إنها تنتهي إلى حيث تقوى على الزيادة؟ وما الفرق بين البابين؟ فإنا لا نجد في العقل : فرقا بين الموضعين.

السؤال الثالث : هب أن النفس تقوى على إدراكات لا نهاية لها. فلم قلتم : إن الإدراكات فعل؟ وتقريره : أن إدراك الشيء عندكم : عبارة عن حصول صورة المعقول في العاقل ، وإذا ثبت هذا فيكون الجوهر العاقل قابلا لتلك الصورة العقلية ، لا فاعلا لها. وعندكم : الممتنع على الأجسام أفعال لا نهاية لها. فإنها انفعالات لا نهاية لها ، فهذا غير ممتنع عندكم على الجسمانيات. ألا تروا أن الهيولى أزلية. وقد حصل فيها صور متعاقبة لا نهاية لها؟.

فإن قالوا : الإدراكات على قسمين : التصورات والتصديقات.

أما التصورات ، فلا نزاع في كونها انفعالات. وأما التصديقات ، فهي أفعال ، لأنها عبارة عن حكم الذهن بإسناد أحد التصورين إلى الثاني ، وهذا الإسناد فعل. فثبت : أن النفس لما كانت قادرة على التصديقات التي لا نهاية لها ، كانت قادرة على أفعال لا نهاية لها. فنقول : لا نسلم أن الإسناد والحكم : فعل. وذلك لأنا لا نعقل من هذا الإسناد (١) والحكم ، إلا حصول الاعتقاد بأن إحدى الماهيتين موصوفة بالثانية ، أو مسلوب عنها تلك الثانية. فإذا حصل في الذهن اعتقاد أن كذا موصوف بكذا ، أو غير موصوف به. فهذا [هو (٢)] الحكم والإسناد. والتصديق هو في الحقيقة ليس إلا عبارة عن

__________________

(١) الإنسان (ل).

(٢) من (ل).

٧٨

حصول هذا الاعتقاد في جوهر النفس [فتكون جوهر النفس (١)] هاهنا قابلة [لا فاعلة (٢)] ويعود التقرير المذكور.

السؤال الرابع : هب أن النفس تقوى على أفعال غير متناهية ، فلم قلتم : إن القوة الجسمانية لا تقوى على أفعال غير متناهية؟

قوله : لأن كل متحيز فهو منقسم ، والحال في المنقسم منقسم وإذا كان كذلك ، كان مقوى بعض تلك القوة أقل من مقوى كلها ، والأقل من الغير : متناه. فمقوي بعض القوة : متناه. فيجب أن يكون مقوي كلها : متناهيا» فنقول : هذه الحجة تشتمل على مقدمات:

أولها : قوله : «كل متحيز منقسم» وهو بناء على نفي الجوهر الفرد. وقد سبق الكلام فيه.

وثانيها : «إن الحال في المنقسم : منقسم» وقد ذكرنا النقوض الثمانية في الحجة الأولى.

وثالثها : «إن مقوي بعض القوة ، يجب أن يكون أقل من مقوي كلها» فنقول : نسلم أنه لا بد من حصول التفاوت بين مقوي البعض وبين مقوي الكل. لكن لم قلتم : إنه لا يحصل التفاوت إلا بأن ينقطع مقوي البعض قبل انقطاع مقوي الكل؟ [ولم لا يجوز أن يظهر هذا التفاوت بسبب أن مقوي البعض ، أبطأ من مقوي الكل (٣)] وإن بقي كل واحد منهما أبد الآباد ، وعلى هذه الحالة؟.

وبالجملة : فنحن نسلم أنه لا بد من التفاوت. لكن لا نسلم أنه لا يحصل التفاوت ، إلا بانقطاع أثر البعض. فهم مطالبون بإثبات هذه المقدمة.

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) العود (ط).

(٣) سقط (ط).

٧٩

ورابعها : إن قوله : «كل ما كان أنقص من غيره ، فهو متناه» فهذه مقدمة كثيرة المباحث والشبهات. وقد استقصينا الكلام فيها في مسألة «تناهي الأبعاد» في دليل : كون الأبعاد قابلة للزيادة والنقصان.

السؤال الخامس : وهو الذي أورده «الشيخ» على نفسه. فقال : «أليس أن النفس الفلكية المباشرة لتحريكات الفلك : قوة جسمانية ، مع أن الحركات الفلكية غير متناهية. فههنا قد صدر عن القوى الجسمانية : أفعال غير متناهية» وأجاب عنه : «بأن النفس الفلكية ، وإن كانت قوة جسمانية ، إلا أنها تستمد الكمال والقوة من العقل المفارق ، فلهذا السبب قدرت القوة الجسمانية على أفعال غير متناهية».

هذا هو الجواب الذي ذكره [الشيخ (١)] في أكثر كتبه فيقال له : فإذا كان الأمر كذلك ، فلم لا يجوز أن يقال أيضا : النفس الناطقة قوة جسمانية ، ألا أنها تستمد القوة والكمال من العقل الفعال ، فلا جرم قويت النفس الناطقة مع كونها جسمانية ، على أفعال غير متناهية. وهاهنا آخر الكلام على هذه الطريقة.

الحجة الرابعة : قالوا : لو كانت القوة العاقلة حالة في آلة جسمانية من قلب أو دماغ ، لوجب أن تكون القوة العاقلة دائمة الإدراك لتلك الآلة ، أو ممتنعة الإدراك لها مطلقا. والتالي باطل.

فالمقدم مثله باطل. بيان الشرطية : أن الإدراك عبارة عن حصول ماهية المعلوم في العالم ، فلو كانت القوة العاقلة حالة في مادة جسمانية ، لكان إدراك القوة العاقلة لتلك الآلة إما أن يكون عين وجود تلك الآلة ، وإما أن يكون عبارة عن حصول صورة مساوية لتلك الآلة في القوة العاقلة. وهذا القسم الثاني : محال.

__________________

(١) سقط (طا) ، (ل).

٨٠