المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٧

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٧

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٥

الفصل الأول

في

أن النفوس هل هي

متحدة في الحقيقة والماهية أم لا؟

لقد عظم اختلاف الناس في هذا الباب :

فذهب جمع عظيم من قدماء الفلاسفة : إلى أن النفوس الإنسانية والحيوانية : متساوية في تمام الماهية ، وأن اختلاف أفعالها وإدراكاتها [إنما حصل (١)] بسبب اختلاف آلاتها وأدواتها ، فلو كان دماغ سائر الحيوانات مساويا لدماغ الإنسان ، لكانت نفوس سائر الحيوانات مساوية للنفوس الإنسانية في التعقلات والتفكرات ، ولو كان لسان سائر الحيوانات ، مساويا للسان الإنسان. لكان مساويا له في قوة النطق. فهذا مذهب قال به بعض الناس.

وأما الشيخ [الرئيس (٢)] «أبو علي بن سينا» : فإنه زعم أن نفوس سائر الحيوانات قوى جسمانية ، وليست جواهر مجردة. وأما النفوس الناطقة البشرية فإنها جواهر مجردة في ذواتها. ثم زعم : أنها بأسرها متساوية في تمام الماهية والحقيقة ، ولما شاهدنا اختلاف الناس في الذكاء والبلادة ، والأخلاق الفاضلة والمذمومة. زعم (٣) : أن ذلك الاختلاف إنما حصل بسبب اختلاف الأمزجة البدنية. فمن كان صفراوي المزاج ، كان الفرح وحسن الأخلاق غالبا

__________________

(١) سقط (م).

(٢) سقط (م).

(٣) من (ل).

١٤١

عليه. ومن كان بلغمي المزاج ، كانت آثاره شبيهة بأحوال السوداء.

ولما ثبت في باب المزاج : أن مراتب الأمزجة مختلفة ، وغير متناهية ، لا جرم كانت مراتب اختلاف النفوس في قوة الإدراك [وقوة الحركة (١)] غير متناهية.

والطائفة الثالثة : زعموا : أن النفس البشرية جنس تحته أنواع مختلفة بالماهية ، وتحت كل نوع أشخاص متساوية بالماهية ، وكل نوع من تلك الأنواع ، فهو كالنتيجة من روح معين من أرواح الكواكب ، فنوع منها حرة كريمة فاضلة ، قوية في الفهم والأفعال الجملية ، ونوع آخر منها نذلة شريرة بليدة. وذلك الروح الكوكبي الذي هو المبدأ لذلك النوع ، هو المسمى في اصطلاحات قدماء الفلاسفة : بالطباع التام. وإنما سموه بهذا الاسم ، لأن المعلول لا بد وأن يكون من جنس العلة. وشبيها بها. فكل صفة وخصلة ، حصلت لذلك النوع المعين من النفوس البشرية ، فهي إنما حصلت بتأثير ذلك الروح الفلكي ، ولا شك أن تلك الخواص والصفات في ذلك الروح الفلكي ، أكمل منها في تلك النفوس. فلهذا السبب سموا تلك الأصول (٢) بالطباع التام. وهذه النفوس كالأولاد لذلك الروح ، وهو كالأب لهذه النفوس. وكما أن الأب له شفقة ومحبة على أولاده ، فكذلك لذلك الروح مزيد معونة في تربية ذلك النوع من النفوس. فإن كان ذلك الطباع التام من الأرواح الفاضلة الكريمة الخيرة العاقلة ، ظهرت تلك الآثار في هذه النفوس. وإن كانت بالضد كان [أحوال تلك النفوس على وفق أحوال ذلك الأب. وأيضا : فتلك النفوس لما كانت (٣)] من نوع واحد ، لا جرم حصل بينها نوع مجانسة ومشاكلة ، وحصل بينها لهذا السبب مزيد محبة ومودة.

ولهذا السبب قد يتفق بين شخصين أجنبيين من المحبة ما لا يزاد عليها.

__________________

(١) سقط (ل).

(٢) النفوس المسماة بالطباع التام (م).

(٣) سقط (م ، ط).

١٤٢

وقد يتفق بين آخرين من النفرة والبغضة ما لا يزاد عليها ، والأظهر : أن هذا المذهب هو الذي كان يذهب إليه صاحب الوحي والشريعة صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حيث قال : «الأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف» وقال أيضا : «الناس معادن ، كمعادن الذهب والفضة» وهذا [المذهب (١)] هو المختار عندنا.

والطائفة الرابعة : قالوا : النفوس البشرية ، وإن كان قد يوجد فيها ما يكون بعضها أشد مشاكلة للبعض في العلوم والأخلاق ، إلا أن تلك المشابهة والمشاكلة واقعة في الصفات لكن المشاكلة في الصفات لا تدل على المماثلة في الماهية ، فكل واحد من جواهر النفوس [البشرية (٢)] مخالف بالماهية والذات المخصوصة لسائر النفوس ، وإن كانت متساوية في الصفات.

فهذا شرح هذه المذاهب في هذا الباب :

أما القائلون بتماثل النفوس في تمام الماهية. فقد احتجوا على صحة قولهم : بأن قالوا : لا شك أن النفوس الناطقة متساوية في كونها نفوسا ناطقة بشرية. وبعد حصول الاستواء في هذا المفهوم. إما أن يقال : إنها مختلفة باعتبار آخر ، وإما أن لا تكون كذلك. والأول باطل. وإلا لكان ما به المشاركة غير ما به المخالفة ، فحينئذ يلزم كون كل واحدة من تلك النفوس مركبة من جزءين ، وذلك على النفوس التي هي [جواهر (٣)] مجردة : محال. ولما بطل هذا القسم ، بقي الثاني. وهو أن النفوس الناطقة البشرية ، كما أنها متساوية في هذا المعنى ، فهي متساوية في تمام الماهية.

وإذا ثبت هذا ، فحينئذ يجب أن يكون مجال اختلاف النفوس في إدراكاتها وأفعالها ، على اختلاف الأمزجة.

__________________

(١) من (م).

(٢) سقط (ل ، طا).

(٣) سقط (ط).

١٤٣

هذا هو الوجه الذي تكلفناه للقوم. وإن كنا ما رأينا للشيخ البتة ، في هذا الباب : كلاما.

واعلم أن هذه الحجة ضعيفة جدا من وجوه :

الأول : إن المراد من كونها نفوسا : كونها مدبرة لهذه الأبدان. والمراد من كونها ناطقة : كونها قابلة للعلوم الكلية ، والإدراكات المجردة العقلية. وهذا يقتضي اشتراك هذه النفوس في كونها مدبرة للأبدان [وفي كونها (١)] قابلة للعلوم. وقد ثبت : أنه لا يمتنع في العقول أن تكون الماهيات البسيطة المختلفة بحسب ذواتها المخصوصة ، تكون متساوية في بعض الآثار واللوازم. وعلى هذا التقدير فقد سقطت هذه الحجة.

السؤال الثاني : إن كونها مدبرة للأبدان ، وكونها قادرة على تدبير الأبدان : أحكام. إنما تحصل بعد تمام الماهية ، لأنه ما لم تتم ذاته ، امتنع أن يصير موصوفا بالقدرة على تدبير الأبدان ، وامتنع أن يصير موصوفا بكونه قابلا للعلوم الكلية ، والمعارف القدسية. فثبت بهذا البرهان : أن هذه المعاني : أمور خارجة عن الماهية ، وغير مقومة لها ، ولا داخلة فيها. وإذا كان كذلك ، لم يلزم من وقوع المشاركة فيها حصول المشاركة في جزء من الأجزاء المقومة للماهية.

السؤال الثالث : هب أن هذا يقتضي وقوع التركب في هذه الماهية ، إلا أن هذا النوع من التركب لا يقتضي الجسمية. ألا ترى أن السواد والبياض يتشاركان في اللونية ، ويتخالفان في بعض أجزاء الماهية ، فوجب أن تكون ماهية البياض والسواد مركبتين من الجنس والفصل ، ومع ذلك ، فلم يلزم من حصول هذا النوع من التركب ، كونهما جسمين : فكذا هاهنا. فثبت : أن هذه الحجة : ضعيفة [باطلة (٢)].

__________________

(١) من (ط).

(٢) سقط (طا ٢ ، ر ل).

١٤٤

وأما القائلون باختلاف جواهر النفوس. فقد احتجوا عليه بوجوه اعتبارية قوية.

الحجة الأولى : إن الإنسان الواحد قد ينتقل من المزاج الحار ، إلى المزاج البارد ، وكذا القول في الرطب واليابس ، وأما قوة الإدراك ، وقوة الأخلاق ، فهي باقية بحالها من أول العمر إلى آخره ، من غير تفاوت أصلا ، مثل إنسان صفراوي المزاج استولى عليه [الحمى البلغمية أو الاستسقاء أو الفالج. ومثل انسان بلغمي المزاج استولى عليه (١)] حمى الغب والسرسام الحار ، فإن كل واحد من هؤلاء ؛ يبقى على المقدار الأول الذي كان له من الإدراك والخلق ، ولو كان الاختلاف الحاصل في قوة الإدراك والفعل ، معللا باختلاف الأمزجة ، لوجب أن يحصل اختلاف حال الإدراك والخلق ، عند اختلاف [أحوال (٢)] الأمزجة. ولما لم يكن الأمر كذلك ، علمنا : أن ذلك ليس لأجل الأمزجة ، بل لاختلاف ماهيات النفوس.

الحجة الثانية : إنا نرى إنسانين يختلفان في التركيب البدني ، والتأليف المزاجي جدا ، مع أنهما يتشابهان في قوة الإدراك (٣) والخلق جسدا. ولما رأينا : أن المساواة في المزاج ، قد تنفك عن المساواة في الأحوال النفسانية ، والاختلاف في المزاج قد ينفك عن الاختلاف في الأحوال النفسانية ، علمنا : أن كل واحد من هذين البابين : أصل بنفسه ، ولا تعلق لأحدهما بالآخر.

الحجة الثالثة : إن الأعضاء البدنية آلات للنفوس في الأعمال المختلفة ، وكون الآلة صالحة لا يقتضي حصول ملكة تلك الأفعال في ذوات الفاعلين [ألا ترى (٤)] أن «النجار» إذا كان «قدومه» شديد الصلاحية للنحت ، وكان «منشاره» شديد الصلاحية للنشر ، وكانت «مثقبته» شديدة الصلاحية

__________________

(١) سقط (م ٢ ، ر ط).

(٢) من (ل).

(٣) الإدراك جدا (ل).

(٤) سقط (طا ، ل).

١٤٥

للثقب. فإن كون هذه الآلات صالحة لهذه الأعمال ، لا يوجب حصول ملكات هذه الأعمال في ذات النجار. فثبت بما ذكرنا : أن اختلاف نفوس الناس في الرغبة والنفرة في بعض الأشياء دون البعض ، لا يمكن أن يكون لأجل اختلاف الأمزجة البدنية والأعضاء الآلية فوجب أن يكون ذلك الاختلاف في جواهرها وماهياتها.

ولا يمكن أن يقال : إن تلك الرغبة والنفرة ، إنما حصلت لأجل تعليم المعلمين ، وإرشاد الأساتذة ، ومجالسة الأقران ، ومخالطة الأصحاب. وذلك لأنا نشاهد كثيرا : أن الأمر يقع في هذه الأحوال بالضد ، فقد يكون الإنسان بحيث يكون أبواه من أهل الشر والفساد والدعارة ، ويتربى فيما بينهم ويخالط تلك الطوائف ، ولا يلقى أحدا من أهل الخير ، ثم إنه في أول النشوء يميل إلى الخير والطاعة ، ويظهر منه أعمال عجيبة من أعمال الخير والفهم. وقد يكون بالضد منه. واعتبر ذلك بنوح عليه‌السلام وولده ، وإبراهيم عليه‌السلام ووالده. وإذا كان هذا المعنى مشاهدا ، علمنا : أن حصول هذه الأحوال لا تمكن إحالته إلى هذا السبب.

الحجة الرابعة : إنا نرى الصبيان الصغار يختلفون في الأخلاق والأفعال ، فقد يكون الواحد منهم رحيما حبيبا سخيا مطيعا ، سلس القياد. ومنهم من يكون شريرا بخيلا ، نماما ، شرها ، وقحا ، شكس الأخلاق. والسبب لهذه الأحوال المختلفة : إما جواهر النفوس ، وإما اختلاف أمزجة الأبدان. وإما الأسباب الخارجية ، وهي التعلم من المعلمين [والاستفادة (١)] من القرناء والشركاء. والقسمان الأخيران باطلان ، فبقي الأول. وهو المطلوب.

وإنما قلنا إنه لا يمكن أن يكون ذلك بسبب الأمزجة المختلفة ، وذلك لأن الفاعل هو النفس ، والأعضاء المختلفة البدنية آلات للنفس في الفعل ، والآلة منفعلة قابلة. والمنفعل القابل من حيث هو كذلك ، لا يوجب تغير حال الفاعل. نعم ربما ظن أن الآلة المعينة إذا كانت لا تصلح إلا للعمل الواحد ،

__________________

(١) من (م).

١٤٦

فالفاعل الذي لا يجد إلا تلك الآلة ، لا بد وأن يبقى مواظبا على ذلك الفعل ، وتكرر ذلك الفعل يوجب حصول الملكة الراسخة لذلك الفاعل ، إلا أن هذا الخيال إنما يحصل بعد المواظبة على ذلك الفعل زمانا طويلا. أما الصبيان فإنهم أول ما يشرعون [في الفعل. يشرعون (١)] على هذه الوجوه المختلفة ، فامتنع أن تكون تلك الأخلاق ، بسبب اختلاف الأمزجة والأبدان. وإنما قلنا : إنه لا يمكن أن يكون ذلك الاختلاف بسبب القرناء والمعلمين ، لأن الصبيان لم توجد في حقهم هذه الأحوال. ولما ظهر فساد هذين القسمين ، بقي القسم الأول وهو أن يكون ذلك الاختلاف ، لأجل اختلاف جواهر النفوس. وهو المطلوب.

الحجة الخامسة : إنا نرى أن النفوس تختلف في أحوال كثيرة ، ولا يمكن تعليل ذلك الاختلاف ، باختلاف الأمزجة مثل : إن بعض النفوس قد تقوى على تحصيل علم دقيق غامض ، وتعجز عن تحصيل علم سهل ، كالنحو والتصريف ، بل قد يختلف حال الفهم في مسائل العلم الواحد ، فقد يسهل تعلم الباب الواحد من علم ، ويصعب تعلم الباب الثاني. ومن تأمل في أحوال الناس ، عرف أن الأمر كذلك. والنفس هي الأصل ، والبدن محل تصرفها ، ومنزل عملها. وإحالة هذه الأحوال المختلفة على المبدأ الأصلي ، أولى من إحالتها على اختلاف الآلات والأدوات ، لا سيما والعلم الضروري حاصل بأنه يبعد أن يقال : السبب في كون الإنسان بحيث يفهم المنطق ، أسهل ، والإلهي أصعب : هو وقوع التفاوت في الأمزجة.

الحجة السادسة : إنا نرى الاختلاف العظيم في الحيوان الذي ليس بناطق ، فبعضها آنسة نافعة كالأنعام والخيل والبغال والحمير ، وبعضها مفسدة مؤذية كالأسد والنمر والذئب، وبعضها ذو مكر وخداع كالقرد والثعلب [وبعضها يحب الانفراد كالذئب والأسد (٢)] وبعضها يحب الاجتماع كالخيل والبقر والغنم ، وبعضها يجمع الغذاء ويدخره لنفسه كالنمل والنحل ، وبعضها

__________________

(١) سقط (م).

(٢) سقط (طا ، ل).

١٤٧

يحصل الغذاء يوما فيوما [كالحمام (١)] وبعضها يسرق ما لا ينتفع به ويخبئه كالعقعق فإنه يسرق الفصوص والخواتيم والدنانير ويخبئها. وكذلك أحوال الناس مختلفة في هذه الصفات. ففي الناس من يكون كريما كثير النفع ، وبعضهم يكون مؤذيا والمؤذي قد يقبل الرياضة سريعا ، وقد لا يقبل إلا قليلا ، وقد يكون بحيث لا يقبل الرياضة لا بالكثير ولا بالقليل ، وقد يكون كثير المكر والخداع ، وقد يكون محبا للخلوة والانفراد ، وقد يكون محبا للمخالطة والاجتماع ، ونرى الاختلاف في هذه الأحوال باقيا من أول العمر إلى آخره [وقد رأيت كثيرا : الأخوين كانا يتباغضان من غير سبب أصلا ، ويبقيا على تلك الحالة إلى آخر العمر (٢)] واستقراء هذه الأحوال يدل على أن اختلاف الصفات النفسانية قد يكون من مقتضيات جواهر النفوس. وذلك يدل على أنها قد تكون مختلفة. بحسب الماهية. فهذا جملة ما نذكره في [تقرير (٣)] هذا المطلوب. [والله أعلم (٤)].

__________________

(١) سقط (ل).

(٢) من (طا ، ل).

(٣) من (ل).

(٤) سقط (م ، ط).

١٤٨

الفصل الثاني

في

ذكر جملة الأسباب

الموجبة لاختلاف النفوس في الصفات

اعلم : أنها على نوعين (١) :

أحدها : السبب الذاتي الجوهري ، وهو الذي ذكرناه من أن النفوس تكون مختلفة في الماهيات والذوات.

والنوع الثاني : الأمور الخارجة عن الذات والجوهر ، وهي أربعة أمور :

الأول : اختلاف طوالع مسقط الماء وظهور الطوالع.

والثاني : اختلاف أحوال الكواكب المسامتة لتلك البلدة والتربة. فإن البلدة التي يمر على سمت رءوس أهلها : كوكب سعد ، تكون أحوالهم حسنة فاضلة ، والتي يمر على سمت رءوسهم كوكب نحس تكون أحوالهم مذمومة.

الثالث : اختلاف أحوال الأسباب الستة الموجودة في تلك البلدة ، ومن جملتها كيفية حال الرضاع.

والرابع : اختلاف أمزجة الأعضاء ، واختلاف أحوال الأعضاء الآلية في هيآتها وتركيباتها يوجب اختلاف أحوال الصفات والأفعال.

قال «جالينوس» في تفسيره لكتاب «بقراط» في الأخلاط : «إن فعل

__________________

(١) قسمين : الأصل.

١٤٩

مزاج الأخلاط في النفس ، مساوي لفعل اختلاف النفس (١)» وتفسيره : إن من كان الغالب عليه هو المزاج الصفراوي ، فإنه يغضب كثيرا وأيضا : إذا غضب مرارا كثيرة ، غضبا شديدا ، فإنه يجتمع في بدنه شيئا كثيرا من الصفراء. وهذا يدل على أن النفس والبدن ، كل واحد منهما مؤثر في الآخر.

واعلم : أن الحكماء بينوا في كتب الأخلاق : أن القوى الأصلية النفسانية : ثلاثة. أشرفها : القوة النطقية الدماغية ، وأوسطها القوة الغضبية القلبية ، وأدونها القوة الشهوانية الكبدية وجميع الأخلاق والصفات إنما تتشعب من هذه الثلاثة.

[ونحن نشير إلى بعض أنواع الاختلافات الواقعة في كل واحدة من هذه الثلاثة (٢)] ونذكر منها ما يصلح أن يكون سببا مزاجيا. فنقول : أما القوة الإدراكية فعلى قسمين : أحدهما كالأصل. والثاني كالفرع. وهو العلوم المكتسبة.

أما الأول : وهو العقل ، فمراتب الناس فيه مختلفة بالقوة والضعف والكثرة والقلة. وهو ظاهر.

وأما العلوم المكتسبة. فهي قسمان.

أحدهما : العلم بأنواع العلوم العقلية والنقلية.

والثاني : العلم بإصلاح أمر المعاش ، والإنسان قد يكون كاملا فيهما. وهو نادر ، وقد يكون ناقصا فيهما ، وقد يكون كاملا في تحصيل العلوم ، إلا أنه يكون ناقصا في علم إصلاح المعيشة ، وقد يكون بالضد منه.

فأما مراتب العلوم النظرية : فهي كثيرة من وجوه :

الأول : إن الإنسان قد يكون قادرا كاملا في جميع أنواع العلوم ، وهو نادر جدا ، وقد يكون مقصرا في الكل ، وهو غالب جدا ، وقد يكون كاملا في

__________________

(١) اختلاف النفس (م) أخلاط النفس في الأخلاط (ل).

(٢) من (طا ، ل).

١٥٠

البعض ، ناقصا في البواقي ، وهذا أيضا مختلف الحال. فقد يكون الإنسان كامل القدرة على تحصيل نوع دقيق غامض من العلوم ، وقد يكون عاجزا عن تحصيل نوع آخر [خسيس ضعيف (١)] وقد رأيت أقواما كانوا أقوياء في المنطق والهندسة ، فلما خاضوا في النحو والتصريف ضعفت عقولهم ، وتبدلت أذهانهم ، بل قد رأيت جماعة كانوا أقوياء في الهندسة وضعفاء في الحساب ، مع شدة القرب بينهما.

والنوع الثاني من الاختلاف في هذا الباب : أن فيهم من يكون السريع الحفظ بطيىء النسيان. وهذا هو القسم الأشرف. وفيهم من يكون بطيء الحفظ سريع النسيان ، وهو القسم الأخس ، ومنهم من يكون سريع الحفظ سريع النسيان ، أو بطيء الحفظ بطيء النسيان. وهذان القسمان متوسطان.

والنوع الثالث : الاختلاف الحاصل بحسب الفهم. فإن الإنسان إما أن يفهم الشيء فهما صحيحا. وإما أن لا يكون كذلك. أما الذي يفهم فهما صحيحا. فيعتبر حاله من وجهين :

أحدهما : أن هذا الفاهم قد يقدر على الاستنباط ، وقد لا يقدر. والقادر على الاستنباط قد يقدر عليه في الأشياء العالية ، وقد يقدر عليه في الفروع الخسيسة الضعيفة.

وثانيهما : أن الإنسان قد يكون بحيث إذا علمته مسألة تعلمها سريعا ، إلا أن تلك المسألة التي تعلمها ، إذا اختلطت بالكلمات الأجنبية ، وامتزجت بالمقدمات التي لا تناسبها ، فإن ذلك الإنسان لا يعرف أن هذه المسألة هي [تلك المسألة (٢)] التي تعلمها وأحكمها ، وقد يكون بحيث إذا تعلّم مقدمة وعرفها ، ثم اختلطت تلك المقدمة بألف مقدمة أجنبية غريبة عنها ، فإنه في الحال يعرفها ، ويعلم أنها هي تلك المقدمة التي عرفها أولا ، وكنت أسمي القسم الأول بالخاطر الضعيف ، والثاني بالخاطر القوي.

__________________

(١) سقط (م).

(٢) سقط (م) ، (ط).

١٥١

وأما القسم الثاني : وهو الذي لا يفهم الشيء فهما صحيحا. فهذا الخلل إما أن يقع بسبب التشويش ، أو بسبب النقصان ، أو بسبب البطلان والخلل الحاصل بسبب التشويش أردأ من الخلل الحاصل بسبب النقصان والبطلان لأن الخلل الحاصل بسبب التشويش يفيد الجهل المركب وأما الخلل الحاصل بسبب النقصان والبطلان فإنه لا يفيد إلا الجهل البسيط. ثم لكل واحد من هذه المراتب الثلاثة أعني التشويش والنقصان والبطلان : مراتب لا نهاية لها.

النوع الرابع من أقسام هذا الباب : الاختلاف الحاصل بحسب الحفظ والفهم. فالإنسان قد يكون قويا فيهما وهو نادر. لأن الفهم يستدعي لطافة روح الدماغ ، والحفظ يستدعي كثافته ، فإن اجتمعا كان ذلك السبب المستفاد من جوهر النفس ، لا بسبب المزاج البدني ، وقد يكون مقصرا فيهما ، وقد يكون قويا في أحدهما ، ضعيفا في الثاني ، ثم الناسي قد يكون قادرا على التذكر والاستعادة على سبيل السهولة ، وقد يكون متوسطا ، وقد يكون عاجزا جدا.

فهذا هو التنبيه على اختلاف الناس في هذا المقام.

وأما العلوم العملية المعتبرة في إصلاح المعاش : فالناس مختلفون فيها جدا. فقد يسهل عليه تعلم حرفة صعبة ، مع أنه يشق عليه تعلم حرفة خسيسة.

وقد يكون قادرا على إصلاح مهمات السوق والبيع والتجارة ، وعاجزا عن إصلاح مهمات البيت ، وقد يكون بالضد من ذلك. فهذا هو الإشارة إلى اختلاف [أحوال (١)] الناس في الصفات الحاصلة بحسب القوة النطقية الدماغية.

واعلم : أن السبب المزاجي لهذه الأحوال المختلفة : اختلاف حال الدماغ. وذلك من وجوه :

الأول : إن الدماغ له ثلاث تجويفات :

__________________

(١) من (ل).

١٥٢

فالأول : موضع التخيل. والثاني : موضع التفكر. والثالث : موضع التذكر.

فالتجويف [الأول (١)] يجب أن يكون مائلا إلى الرطوبة ، لتنطبع فيها [صور الأشياء (٢)] بسهولة ، فإن كان هذا البطن ، عظيم الرطوبة ، ضعفت تخيلاته ، لأن الرطب يكون سريع الأخذ ، سريع الترك. وإن كان مائلا إلى اليبس ، ضعفت أيضا هذه التخيلات ، لأن اليابس بطيء الأخذ ، بطيء الترك. أما إذا كان معتدلا ، كان جيد التخيل ، سريع التعلم لما يسمعه ويقرؤه ، وتورده عليه حواسه. ولذلك صار التعليم في وقت الصبا أحسن من غيره ، لأن في وقت الصبا تكون الأرواح الدماغية رطبة فيسهل قبولها لتلك الصور. ثم كل ما ازداد السن ، ازداد اليبس المانع من زوال الصور. وأما الأرواح الحاصلة في التجويف الأوسط ، فيجب أن تكون مائلة إلى الحرارة ، لأن الفكر إنما يتأتى بإلحاق شيء بشيء وذلك نوع حركة. والحركة إنما تتم بالحرارة ، فالفكر لا يتم إلا بالحرارة.

ثم نقول : إن كانت هذه الحرارة كثيرة ، كان ذلك الروح شديد الالتهاب ، فكانت تلك الأفكار مشوشة [وإن كانت تلك الحرارة (٣)] ناقصة قليلة ، كان الفكر في النقصان أو البطلان ، وكان صاحبه بليدا ، غليظ الطبع. وأما إن كان معتدلا في الحرارة والبرودة ، كان صاحبه مستقيم الفكر ، سريع الجواب ، حسن الاستنباط. وأما الأرواح الحاصلة في التجويف المؤخر ، فيجب أن تكون مائلة إلى اليبس ، لأن الحفظ لا يتم إلا باليبس. فإن قلت هذه الصفة ضعف الحفظ ، وغلب النسيان.

والسبب الثاني : إنه قد يحصل في المجرى الذي بين التجويف المقدم ، إلى التجويف المتوسط : جسم شبيه بالدودة ، وله قوة أن يمتد تارة ويقصر

__________________

(١) سقط (طا).

(٢) سقط (م) ، (ط).

(٣) (م).

١٥٣

أخرى. فإذا امتد ودق ، انفتح المجرى الذي بين التجويف المقدم وبين التجويف المتوسط ، فنفذت الروح من التجويف المقدم إلى التجويف المتوسط ، وتأدت ، الصور المتخيلة إلى القوة الفكرية ، وأما إذا انقبض هذا الجسم الشبيه بالدودة ، فحينئذ يقصر. ويغلظ ويسد المجرى ، فلم تنفذ الروح من التجويف المقدم إلى التجويف المتوسط ، فحينئذ يمتنع وصول (١) الصور الخيالية إلى القوة المفكرة.

إذا عرفت هذا ، فنقول : حركة هذا الجسم الشبيه بالدودة في الامتداد والانقباض : مختلفة في الناس ، على قدر أمزجة الأدمغة. فإن كان جوهره غليظا باردا ، كانت حركته بطيئة فلم ينفتح المجرى بسرعة ، فلم تتأد الروح من التجويف المقدم إلى التجويف المتوسط بسرعة ، فيكون هذا الإنسان بطيء الفهم قليل الفطنة متأخر الجواب. وإن كان هذا الجسم سريع الحركة حادها ، كان هذا الإنسان سريع الفطنة ، سريع الجواب ، حاد الفهم.

السبب الثالث من الأسباب الدماغية : شكل قحف الرأس ، فإن الشكل الجيد أن يكون القحف شبيها بكرة غمز عليها من الجانبين ، حتى يظهر نتوء في القدام وفي الخلف ، ولطاء من الجانبين. فهذا الشكل موافق لحال الدماغ ، فأما إذا فقد نتوء القدام ، ضعف التخيل. وإن فقد نتوء الخلف ضعف التذكر ، وإن فقد النتوءان جميعا ، فقد التخيل والتذكر.

السبب الرابع : [الرأس والبدن. إما أن يكونا كبيرين أو صغيرين ، أو يكون الرأس صغيرا والبدن كبيرا ، أو بالعكس. أما الأول وهو (٢)] أن يكون الرأس والبدن كبيرين ، فحينئذ يكون القلب قويا والدماغ قويا. وهاهنا يحصل الكمال.

وأما إن كانا صغيرين فههنا يحصل النقصان ، وأما إن كان الرأس صغيرا والبدن كبيرا ، فحينئذ يكون القلب قويا حادا ويكون الدماغ صغيرا ، لا يقوى

__________________

(١) حصول (ل).

(٢) سقط (طا) ، (ل).

١٥٤

على مقاومة القلب. فحينئذ يكثر الطيش والغضب.

وأما إذا كانت الرأس كبيرة ، والبدن صغيرا ، فحينئذ يكون كبر تلك الرأس ، بسبب الرطوبات الفصلية ، وهذا الإنسان يكون قليل الفهم ضعيف القلب ، مختل الأفعال.

فهذه الوجوه الأربعة هي الأسباب المزاجية الموجبة لاختلاف حال النفوس في كيفية الإدراكات.

وأما القسم الثاني وهو القوة الحيوانية القلبية : فاعلم أنه كما حصل في الدماغ بطون ثلاثة [فكذلك حصل في القلب بطون ثلاثة (١)] فالبطن الأيسر منه يتولد فيه أجسام لطيفة روحانية ، تسري في الشريانات ، إلى أقاصي البدن ، وتلك الأرواح تفيد الأعضاء قوة الحياة ، والحرارة الغريزية. وبهذه القوة يحصل الفرح والغم والغضب.

وإذا عرفت هذا فنقول : هذه الحرارة. إن كانت قوية حصل التهور ، وإن كانت ناقصة حصل الجبن ، وإن كانت معتدلة حصلت الشجاعة التي هي الصفة المحمودة ، وهكذا القول في النشاط والكسل ، والسرعة والإبطاء في الأفعال والأقوال.

واعلم : أن هذه القوة حاصلة للسباع ، إلا أنها خالية عن القوة النطقية المانعة ، فلا جرم إذا حصلت هذه الأحوال للسباع ، أقدمت على الفعل بأقصى الوجوه. أما الإنسان فله العقل الوازع من مقتضيات الطبيعة.

وإذا عرفت هذا ، فنقول : إنه إذا كان القلب والدماغ معتدلين ، حصلت هذه الأفعال على أصوب الوجوه وأحسنها ، خالية عن الزيادة والنقصان. وإن كانا غير معتدلين. فإن كان ذلك لأجل استيلاء الحر عليهما : عظم الطيش والشطط ، وإن كان بسبب استيلاء البرد عليهما عظم الجبن والخوف وقلّت الحمية. وأما إن كان القلب قوي الحرارة ، وكان الدماغ

__________________

(١) سقط (م).

١٥٥

معتدلا ، فعند استيلاء الغضب على القلب قوي الحرارة ، وكان الدماغ معتدلا ، فعند استيلاء الغضب على القلب ، فإن الدماغ المعتدل يمنعه عن الإفراط في العمل ، وإما إن كان القلب ، ضعيف الحرارة ، فصاحبه يكون جبانا. إلا أنه إذا كان الدماغ معتدلا ، فالعقل قد يحمله على أفعال الشجاعة ، وإن كان الجبن حاصلا في القلب.

والقسم الثالث : وهو القوة الشهوانية الكبدية :

فاعلم أن الشهوة. إما في المأكول والمشروب ، أو في الفرج (١) أما الشهوة في المأكول والمشروب. فنقول : البدن ، إما أن يكون كبيرا ، وإما أن يكون صغيرا ، وكذلك المعدة إما أن تكون كبيرة أو صغيرة ، وأيضا : فإن الإحساس بالجوع إنما يحصل بسبب أن بين الطحال ، وبين فم المعدة مجرى ينصب فيه قسط من السوداء الطبيعية إلى فم المعدة ، فيحصل هناك لذع ودغدغة. وذلك هو الإحساس بالجوع.

إذا عرفت هذا فنقول : ذلك المجرى إما أن يكون واسعا أو ضيقا. وإذا عرفت هذا فنقول : إن كان البدن كبيرا ، والمعدة كبيرة ، وكان ذلك المجرى واسعا ، فإنه يكثر جوع هذا الإنسان ، لأن البدن الكبير يتحلل منه أجزاء كثيرة ، والمعدة الكبيرة متسعة للغذاء الكثير ، والسوداء الكثيرة المنصبة في ذلك المجرى الواسع توجب الإحساس العظيم بالجوع ، فلما اجتمعت هذه الأسباب ، عظم الجوع.

فهذا الإنسان يأكل مقدارا كبيرا في المرة الواحدة ، ويكفيه ذلك زمانا (٢) مديدا ، وإما إن كان البدن صغيرا ، والمعدة صغيرة ، والمجرى ضيقا. فههنا يقل الجوع. لأن البدن لما كان صغيرا ، كان المتحلل منه قليلا ، ولما كانت المعدة صغيرة لم تتسع للطعام الكثير ، ولما كان المجرى ضيقا لم ينصب إلى فم المعدة إلا القليل من السوداء ، فعند اجتماع هذه الأسباب يقل الجوع.

__________________

(١) الجماع (م).

(٢) أياما (م).

١٥٦

وإذا عرفت هذين الطرفين ، عرفت الحال في سائر الأقسام. وأيضا يجب اعتبار حال الكبد في الحرارة [والبرودة (١)] والرطوبة واليبوسة ، واعتبار حاله في الصغر والكبر ، واعتبار حاله في كون الأوردة الناشئة منه. واسعة أو ضيقة؟ وأيضا يجب اعتبار حال الأغذية والأشربة في كيفياتها البسيطة والمركبة.

وإذا اعتبرت مجموع هذه الأحوال البسيطة والمركبة : كثرت جدا ، وأما اختلاف الناس في الشهوات. فمن كانت البلاغم اللزجة غالبة على معدته ، كان ميله إلى الأشياء الحارة والحريفة والقابضة والعفصية ، ومن كان التيبس غالبا على معدته ، كان ميله إلى الدسم والحلو. وقس الباقي عليه.

وأما اختلاف الناس في شهوة الباه. فالمزاج الحار الرطب ، يناسبه (٢) من كل الوجوه ، والبارد [اليابس يضاده من كل الوجوه. وأما الحار اليابس والبارد (٣)] الرطب فكالمتوسط.

فهذا هو الضبط الكلي في بيان أن أحوال النفوس كيف تصير مختلفة ، بسبب اختلاف الأمزجة [والله أعلم (٤)]

__________________

(١) من (ل).

(٢) يناسب ذلك (م).

(٣) سقط (م ، ط).

(٤) من (ل ، طا).

١٥٧
١٥٨

الفصل الثالث

في

بيان أن النفس واحدة

ذهب «أرسطاطاليس (١)» أصحابه : إلى أن النفس واحدة وتنبعث منها قوى مختلفة كثيرة ، بحسب الأفعال المختلفة. وهذا هو الحق الذي لا شك فيه.

وقال «جالينوس» : النفوس الثلاثة :

النفس النطقية. ومتعلقها الدماغ. والنفس الغضبية. ومتعلقها القلب. والنفس الشهوانية. ومتعلقها الكبد.

والذي يدل على أن لكل إنسان نفسا واحدة وجوه :

الحجة الأولى : إن المراد بالنفس ما يشير إليه كل أحد بقوله «أنا» والعلم البديهي حاصل بأن ذلك الشيء واحد ، ليس فيه تعدد البتة. فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال (٢) : المشار إليه لكل أحد بقوله «أنا» وإن كان واحدا ، إلا أن ذلك الواحد يكون مركبا من أشياء كثيرة؟

قلنا : إنه لا حاجة بنا في هذا المقام إلى إبطال هذا السؤال. بل نقول : المشار إليه بقولي «أنا معلوم بالضرورة : أنه شيء واحد. فأما أن ذلك

__________________

(١) أرسطو (م).

(٢) يكون (م).

١٥٩

الواحد ، هل هو واحد متركب من أشياء كثيرة ، أو هو في نفسه واحد ، وحدة حقيقية ، فلا حاجة إليه في هذا المقام.

الحجة الثانية : إن الغضب حالة نفسانية تحدث عند محاولة دفع المنافي ، والشهوة حالة نفسانية تحدث عند طلب الملائم ، ثم من المعلوم بالضرورة [أن دفع المنافي ، وطلب الملائم مشروط بحصول الشعور بكون ذلك الشيء (١)] منافيا أو ملائما. فالقوة الغضبية التي هي قوة دافعة للمنافي إن لم يكن لها شعور ، بكون ذلك الشيء منافيا ، امتنع كونها دافعة لذلك المنافي على سبيل الاختيار والقصد. لأن القصد إلى الجلب تارة وإلى الدفع أخرى ، مشروط بالشعور بذلك الشيء. فثبت : أن الذي يغضب لا بد وأن يكون هو بعينه مدركا. والذي يشتهي لا بد وأن يكون هو بعينه مدركا. فثبت بهذا البرهان القاطع : أن الإدراك والغضب والشهوة : صفات ثلاثة لذات واحدة ، ويمتنع كونها صفات ثلاثة لذوات ثلاثة [متباينة (٢)].

الحجة الثالثة : إنا إذا فرضنا جوهرين مستقلين ، بكون كل واحد منهما مستقلا بفعله الخاص به ، امتنع أن يكون اشتغال أحدهما بفعله الخاص به مانعا للآخر من الاشتغال بفعله الخاص به. إذا ثبت هذا فنقول : لو كان محل الفكر جوهرا ، ومحل الغضب جوهرا ثانيا ، ومحل الشهوة جوهرا ثالثا ، وجب أن لا يكون اشتغال القوة الغضبية بفعلها مانعا للقوة الشهوانية [من الاشتغال (٣)] بفعلها ، ولا بالعكس. لكن التالي باطل. فإن اشتغال الإنسان بالشهوة ، وانصبابه إليها يمنعه من الاشتغال بالغضب والانصباب إليه ، فعلمنا : أن هذه الأمور الثلاثة ليست مبادي مستقلة ، بل هي صفات مختلفة لجوهر واحد ، فلا جرم كان اشتغال ذلك الجوهر بأحد هذه الأفعال مانعا له عن الاشتغال بالفعل الآخر.

الحجة الرابعة : إنا إذا أدركنا شيئا ، فقد يكون الإدراك سببا لحصول

__________________

(١) سقط (م).

(٢) من (ل ، طا).

(٣) سقط (ل).

١٦٠